إيطاليا قريبة جدًّا
يبدو أننا لم نكن وحدنا في مقاومة الجدار، نحن نقدِّم الدموع والصبر، وهناك من يقاوم معنا، يأتون من بعيد، من مناطق الأحلام في أوروبا، لقد جاءت مجموعة من نساءٍ ورجال، جاءُوا من بعيد. وقفوا بجانب مزرعتنا، يحملون لوحات، ويرتدون قمصانًا سوداء، ويحملون حقائب كاميرات، بعضهم يحمل صور «تشي جيفارا»، وبعضهم يلبس الكوفيَّة.
رغم أنهم غرباء، لكنك تشعر أنك تعرفهم، يتحدثون بلغة غريبة، منظمون جدًّا، يهتفون ضدَّ الجدار بكلمات موسيقية، ومنهم من انطلق يرسم على الجدار. وآخرون ينفخون في بوق بصوت جميل، جلسوا على الأرض، ورفعوا أيديهم إلى السماء ناحية الجدار.
حين ذهبنا إلى منزل مدرِّستنا ياسمين للتعزية، رأيت صورة سيدنا المسيح، له لحية بُنيَّة، أبيض الوجه، طويل، لا تملُّ من النظر إلى صورته.
ولكن بكل صراحة هزَّنا مشهد بعض الرجال الذين كانوا يرفعون أيديهم إلى السماء، كأنهم يتشبهون في صلب سيدنا المسيح. هذا المشهد لم أره أبدًا، جاء أحدهم إلى ناحيتي وأنا أجلس تحت شجرة اللوز، وقال بلغة غير مفهومة، كأنها لغة إنجليزية، بعض الكلمات.
رددتُ بكلمة: «نعم، نعم.»
أنا أعرف عشر كلمات من اللغة الإنجليزية، كلها تحيات، وكلمة حب، وكلمة مدرسة، وكلمة شكرًا.
يبدو أنه أدرك أني لا أفهم لغته، فقال: «أنتِ ساكنة هنا؟»
«أنتَ تتكلم عربي؟»
«بعض الكلمات، أنا أصولي من الجزائر، ومعي جنسيَّة إيطالية، جئنا في مسيرة لمناهضة الجدار، نحن ضد الفصل العنصري.»
قال مجموعة كلمات لم أفهمها، مناهضة، فصل عنصري.
لكن كنت مبتسمة في وجهه، فاستمرَّ في الحديث.
قلت له: «هل كنت تتحدث معي باللغة الإنجليزية؟»
قال: «لا، كنت أتكلم الإيطاليَّة.»
ضحكت، وقهقهت بصوت عالٍ، فضحك أيضًا.
جلس بالقرب مني، وجاء معظمُهم، وجلسوا على شكل دائرة، كانت شجرة اللوز في المنتصف، وضعوا أشياءهم، وحقائبهم في منتصفِ الدائرة، وصاروا يغنُّون.
كان أحدهم شجاعًا، فاقترب من الجدار، وكان يحمل ألوانًا، وبدأ يرسم طفلة تمسك بيدها بالونًا وتطير عاليًا. الفتاة التي رسمها كانت تُشْبهني جدًّا، كما أنه جعلها سوداء، كم كنت جميلة في الرسمة!
الشيء المدهش فتاة سوداء من بينهم، الكل كان يدور حولها، كأنها قائد المجموعة، اقتربتُ من الجزائري، وقلتُ له: «مَنْ هذه الفتاة؟ ولماذا يسألها الكلُّ؟»
قال: «هذه من أمريكا، وعائلتها عانتْ من العنصرية ضد اللون الأسود، جدُّها قُتِل على يدِ رجلٍ أبيض، وهي تعمل في حقوق الإنسان ضد العنصرية.»
هززتُ برأسي، «أمريكا فيها عنصرية، معقول أمريكا فيها سود؟»
ضحك الجزائري بصوت عالٍ، وتساءل الكل عن سبب الضحك، فوضَّح لهم ما قلتُ بلغة غريبة، فبدأ الكلُّ يضحك.
قال لي: «في كل العالم توجد عنصرية.»
لم نتحدث كثيرًا معًا، ولم أتأمَّل في ملامحهم كثيرًا، كل واحد منهم يحمل قصة لسبب مجيئِه إلى هنا.
بدأ صوت إطلاق عيارات من الجنود، قنابل مسيلة للدموع، فانطلقوا، وهم يرجمون حجارة ناحية الجدار، منهم من كان معه مِقلاع، ومنهم من اكتفى بالتصوير. الصراخ والهُتاف كان صاخبًا، فوضى كبيرة. لكنَّ دخان الغاز المسيل للدموع كان أكبر من المشهد. تفرَّقوا، وهربوا، جاء جدِّي بزجاجة كبيرة من الكالونيا، وصار يرش على وجوههم، وجاء رجال من الشرطة وأخذوهم بعيدًا، رجع الجزائري إليَّ، وقال: «سوف نعود لا تقلقي.»
رغم أنه كان يتكلم معي باللغة العربية، غير أني لم أفهم بعضها، لأنه كان يتكلم بالفصحى.