ظِلَّان جديدان
أربعة أشهر، ونحن نتقلَّب على أغصان الانتظار، يبدو أن القصة سوف تنتهي. أول تجربة لي مع الصبر مَضت، إن تصبر، أو تضجر، فلا بدَّ أن تمرَّ الأيام. نما الكرنب وصار جاهزًا للحصاد.
مرَّ الوقت كسلحفاة هرمة، قلقٌ ونومٌ وأحلامٌ ومعاركُ ودموعٌ، ورسائلُ ودعواتٌ إلى الله، وشعوذةٌ وتأمُّلٌ وحبٌّ وكرهٌ، مرَّ الوقت.
جدِّي، يطلُّ من طرف المزرعة. كان ظلُّه طويلًا، هذه بشرى لي، ظلُّه يرقص.
تأكدتُ حينئذ أن اليوم نهاية الماء، نهاية التراب، سنَقلعُ الكرنب من الأرض إلى السوق، جدِّي دائمًا دقيق في الميعاد.
لا يفوته أيُّ شيء في عائلتنا. كل مولود يُولَد في بيتنا يكون أول الحاضرين. هو من يوزِّع الأسماء علينا. قبل أن ينطق بالاسم كان ينظر في وجه جدَّتي، ثم يُسمِّي المولود. كل حجر في البيت هو وضعه، كأنه أول جندي في سرية الحرب، لا يموت هذا الجندي، يشارك في وضع إشارة النصر دائمًا. حلمك يا جدَّتي صار جاهزًا.
مدَّ يده يتحسس أوراق الكرنب، فقطع ورقة، ثم مضغها. بقيت في فمه دقيقة، ثم بلعها، وأشار بيده ناحيتي، فجئت أركض.
«ماسة، الكرنب جاهز للحصاد، لا بدَّ أن نجمعه الليلة بسرعة، أنا خائف من جنود الجدار، وغدًا لا بدَّ أن يكون في السوق. سمعت أن سعره مرتفع. ماسة، اجمعي كل مَن في البيت، الآن.»
وبعد لحظات، كانت كلُّ العائلة تقف وسط المزرعة. وضع مزيون على رأسه غطاءً أسود، وبيده سكِّين كبيرة، رفعها إلى السماء وقال: «هيا بنا لننهي المعركة.»
ضحك جدِّي، وضحكنا معه على حركات مزيون. انطلقنا نحضن الكرنب، ونحصده برفق.
كانت تصدُر أصواتٌ من الأرض كأنها أغانٍ، ورائحة الكرنب تفوحُ في المكان، كأنها رائحة الكالونيا.
روحك يا جواد في المكان، رُوحك يا جدَّتي ترفرف علينا.
توزَّعنا كجنودٍ بين ممرات المزرعة، يقطف جدِّي الكرنبة، ويرميها باتجاه أمي، فتعطيها أمي لمزيون، ومزيون يعطيني إياها.
بدأت الكومة تكبر، وعشرات من رءُوس الكرنب تتجمع. كان منظر ظلِّها جميلًا، كأنها جبل عظيم.
هذه فرصة رائعة أن يمارس مزيون مهارته في لعبة كرة القدم، حين كان يلقي جدِّي عليه الكرنبة، فيقفز في الهواء كحارسِ مرمًى، ويلتقطها ببراعة، ويبتسم الجميع.
كنا نتحرك بسرعة، كِدنا أن نُجهز على نصف المزرعة، فأشار جدِّي لنا بالتوقف، ونادى: «ماسة، كم عدد الكرنب في الكوم؟» قلت له: «ما يقارب خمسين رأسًا.»
فردَّ: «هذه آخر كرنبة اليوم، لا بد أن يمرَّ أسبوع ونجمع الباقي. مزيون سوف نختبر مهارتك في التقاط آخر حبة.»
ألقاها في الهواء ناحية مزيون، فقفز في الهواء، وحاول أن يلتقطها، ولكنه فشِل؛ لأنها سريعة. لم تسقط على الأرض؛ فهناك شخص آخر التقطها، إنه أبي وعمي خلفه.
أبي وعمي، لو نعلم أننا سوف نَراكُم يوم الحصاد، لقدَّمنا الحصاد. جاء جدِّي يركض نحوهما، بعضنا ظلَّ واقفًا في مكانه، وبعضنا صار يركض ناحيتَهما.
لحظةٌ ليس فيها بكاء ولا فرح، وبكل صدق، هل نبكي في هذه اللحظة أم نضحك؟
نعبِّر أحيانًا عن فرحنا بالبكاء، وعن حزننا كذلك، نستخدمه لهذه الحالة، أو تلك دون شعور، أو إرادة منَّا.
البكاء يكون بعض الأحيان لغة التعبير عن آلامنا، ونلجأ إليه لإظهار فرحنا أيضًا.
إنه إذًا وسيلتنا عندما يستبدُّ بنا هذا الجدار.
وجودك أيها اللعين، يُسكِن الحزن في قلوبنا، فلا نجد ما نعبِّر به وعنه إلَّا بالبكاء.
لا أعرف كيف نقاتلك، وليس عندنا مفاتيح أسرار القتال!
بعض الناس يفسِّر حالة البكاء عند الآخرين بأنها لحظات ضعف، وهذا صحيح، ولكن ليس على الإطلاق. بعضهم يرى في البكاء جانبًا عاطفيًّا طاغيًا، وأنه ليس بالضرورة أن يكون تشخيصًا لنقطة ضعف لمن يبكي.
مع أن حالة البكاء تختلف من شخصٍ إلى آخر، من حيث تواصله ودموعه والصوت الذي يصدر عنه.
وأجمل ما في البكاء صدقه، والتلقائيَّة التي تخيِّم على هذه المناسبة. بكى مزيون ودموعه كانت عزيزة، وضحك، وأضحكنا ثلاثة أشهر، أو أكثر.
قال جدِّي: «لا نريدُ أحزانًا، وكذلك لا نُرحِّب بالبكاء.» أخذ مزيون ورقة من الكرنب، وراح يأكلها، وهو يبكي، وحين رأينا هذا المشهد، ضحكنا؛ بل كاد صوت ضحكنا يحطِّم الجدار.
جاء صديق جدِّي، صاحب الحمار الذي جلب لنا شتلات الكرنب، جاء الآن ليحملها إلى السوق.
لا أعلم لماذا يأتي كبار السن في حارتنا دائمًا، في الوقت المناسب مثل الأنبياء؟
قال له جدِّي: «سوف نضع رءُوس الكرنب على حمارك، وغدًا في السادسة صباحًا سوف ننطلق إلى السوق.»