السوق
تعالت الأصوات، صوت جواد، صوت الجزائري، صوت الجامع، صوت ياسمين كالأجراس، ضحكة جدَّتي. كلها كانت منبِّهات وأجراسًا دقت في الساعة السادسة صباحًا.
الفكرة بسيطة جدًّا، نحمل الكرنب إلى السوق، ونبيعه فقط. لكن لماذا نحن مُتوتِّرون؟ جدِّي لم ينم، أبي يقف على الشباك، مزيون وعمي طوال الليل يأكلان، أما أنا فقد حاول النوم اجتياحي قبل ميعاد السوق بساعة، ولكنِّي قاومت، وانطلقتُ مع عائلتي إلى المزرعة.
وصلنا المزرعة، كان الضوء خجولًا، كأنه يحاور الظلام بالانصراف بعيدًا، البرد يلدغ أطرافنا، والصمت كان نشيطًا جدًّا في هذه اللحظة.
دخل جدِّي المزرعة، فوجد صاحب الحمار قد حضر قبل الجميع، فقال: «لا أحد يسألني لِمَ جئتُ قبلكم، اسألوا الحمار.»
تقدم مزيون إلى الحمار، وقال له: «لماذا جئت قبلنا يا حمار؟»
ربطنا الكرنب جيدًا، وركب صاحبه وجدِّي في الأمام. كنت أسير أنا ومزيون خلف «الكارة».
أبي وعمي ظلَّا في المزرعة، وقالا: «سوف نلحق بكم، بعد أن نرتب بعض الأشياء.»
قبل أن نصل إلى السوق، هناك حاجز وحيد صغير، عليه جنديٌّ، أو اثنان دائمًا، والجندي يكون متعاونًا مع أهل الحارة.
الجندي يعرف كل واحد باسمه، من الدهشة التي تصيبنا أنه كان يصرُخ بمكبر الصوت على كل واحد باسمه، وأين يسكن، وكم عدد أولاده، وما اسم أمه. لكنْ نحن، أهل الحارة، لا نعرف سوى أشكالهم. الحاجز مغلق، والكل مستبشر أن الإغلاق لن يطول نصف ساعة على الأكثر ويُفتَح، ونذهب إلى السوق. يبدو أن الأشياء لا تُقدَّر كما نحلم بها.
بدأ الناس يتجمعون واحدًا تلو الآخر، رأيت كل زميلاتي في المدرسة، ورأيت كل المدرسين، والناظر أيضًا قد حضر.
تحاورنا كثيرًا، والوقت طويل، وبدأ أحد المدرسين يقول للناظر: «تأخَّرنا عن المدرسة.»
فرد الناظر: «اصبر فقد يُفتَح الآن.»
انتبهتْ بعض زميلاتي أننا سوف نذهب إلى السوق، والكلُّ صار يهنِّئُ جدِّي بهذا العمل الرائع، والصبر على الجدار. هذا الكرنب هو أول انتصار على الجدار.
فجأة قال الجندي بالمكبر: «ممنوعٌ دخولُ أيِّ شيء كبير، الأشخاص فقط، أما السيارات والعربات والدراجات؛ فتعود إلى البيت.»
صُعق مَن سمع هذا، الكرنب سوف يذبل، كيف لنا أن نعيده؟ لا بدَّ من حلٍّ. أشار جدِّي إلى الجندي: «يا خواجة، معنا بضائع لا بدَّ أن نذهبَ بها إلى السوق قبل أن تذبل.»
أجاب الجندي: «ممنوع، ممنوع، ارجع، وإلا سأطلقُ الرصاص عليك.»
حاولت بعض السيارات أن تدخل، ولكن الجندي أطلق الرصاص في الهواء. الكلُّ خاف، وبدأ بالتراجع. المدرسون والناظر دخلوا، ولحقهم بعض الطلاب، وبعض المارَّة.
دارت في خلدي فكرة، فناديتُ على زميلاتي في الصف، أن يساعدْنَني في حمل الكرنب. كل واحدة تحمل كرنبة في ثيابها، وتنقلها إلى الجهة الأخرى من الحاجز.
بادَرْن في المساعدة، ووضعتْ كلُّ واحدة منهن كرنبة في ثيابها. كأن عشرات من الفتيات حوامل، وكان شيئًا مضحكًا.
حتى مزيون وضع كرنبة في ثيابه، وحمل كرنبة في يده.
رأى الجندي المنظر، وصرخ بصوت عالٍ: «لماذا بطونكم منتفخة؟ كأنكنَّ حوامل.»
دخلنا الحاجز، ونقلنا الكرنب إلى الناحية الأخرى، حتى صاحب الحمار دخل مع حماره بعد أن فكَّ «الكارة» عنه.
رُحْنا نركض ناحية السوق، والحمار يركض خلفنا، ومن يتعب يحمل الكرنبة على ظهره.
وصلنا السوق. فبسط جدِّي قطعة كبيرة من النايلون على الأرض، وصِرنا نضع رءُوس الكرنب عليها، ونرتِّبها بشكل هرمي. رواد السوق شمُّوا رائحة الكالونيا تفوح في كل مكان.
الكلُّ اقترب، وبعضهم اشترى دون نقاش على السعر. صديقة جدَّتي اليهودية المغربية تقدَّمت إلينا، فحاول جدِّي أن يبتعد، سألَتْ: «أين هي؟ لماذا زوجتك ليست معك يا رجل؟ أشم رائحتها، أي شيء تزرعه جدَّتُكِ يكون مميزًا.»
كانت توجه الحديث لي.
قلتُ لها: «جدَّتي ماتت قبل أربعة شهور، ونحن اليوم نبيع ما طلبتْ أن نزرعه في مزرعتنا.» فبكى جدِّي، وبكت صديقة جدَّتي اليهودية. نَفِدت كل الكرنبات خلال ساعتين، وجيوب جدِّي مليئة بالنقود، كأنها مغارة علي بابا. وضع يده في جيبه، وأخرج كومة من النقود، وأعطانا إيَّاها أنا ومزيون، وقال: «اشتريا ما ترغبان.»
اشترى مزيون بندقية سوداء بلاستكية كبيرة، تظنُّها حقيقيَّة. أما أنا فأُعجبت بدفتر ملون كبير به قفل صغير، وحين تَفتحه يُخْرج موسيقى لطيفة، اشتريته، وعُدنا إلى البيت.
مرت أربع سنوات، وكلُّ موسم نختار شيئًا نزرعه، كل موسم نقاوم، ونحارب قنابل الغاز. الصبر أصبح جزءًا من عائلتنا. أصبحنا مشهورين في الحارات، وكلما انتقل جدِّي من سوق إلى سوق، يصرُّ الناس أن يشتروا منه. بعضهم كان يقول: «جاء الرجل الأسود، هيا نَشْتر منه.»