محاولة

بعدما حملا جدِّي إلى ظلِّ الشجرة، كان قفصه الصدري يرتفع، ويهبط بصورة غريبة، تعبًا وغيظًا ممَّا حدث لمزرعتنا، وما أحدثه الجدار فيها.

قال أبي: «يا أبي خِفنا عليك.»

فقال جدي: «لو تركتموني أحطِّم الجدار، بفأسي، برأسي، هو من قتل مزرعتَنا، أمُّكم لم تمُتْ إلَّا منه، حين شعرتْ أنه سوف يبعدها عن أول أشجارِها التي زرعناها معًا، وسوف تختفي عن نظرها مرضتْ، وماتت.»

صمت الجميع، وتَعرَّق جدِّي بغزارة في مشهد أرعبني من فكرة الموت، الخسارة، القهر، الضعف.

التفتنا إلى الجدار في لحظة واحدة بغضب واشمئزاز، كأنَّ الجدار صَغُر وبدأ يتلاشى. تعلَّمتُ آنذاك أنك عندما ترفض شيئًا، أو تغضب عليه بحق، يبدأ بالتلاشي والاختفاء من داخلكَ، مهما كان عظيمًا ومخيفًا في نظر الآخرين. الرفض والغضب أول درجاتِ العقاب.

كل شيء يأتي خطوةً خطوةً، الصُّراخُ أولُ الأشياء، المطرُ أولُ الشتاء، ولكنَّ هذا الشيء الطويل الإسمنتيَّ جاء دون سابقِ إنذار.

ظلٌّ جديد يستمتع بأرض المزرعة لا يُفارقها، ظلٌّ ثقيل علينا، يركضُ ويلعب بين أشجارنا. نحن نكره هذا الظلَّ الجديد القاتم، الذي يمتصُّ معادن ومياه مزرعتنا، ويحبسها.

وقف جدِّي في ذاك الوقت، وصار يلوِّح في الهواء بيده، كأنه يقاتل الجدار، يحمله، يركله، يحطِّمه، ويبتسم، ويقول: «هل تشاهدين ذاك الزائر الرمادي الوقح؟ وهل تعرفين ذاك المجهول الذي ينقر بأصابعه النحيلة أبوابَنا كلما هبط الظلام؟ هل تريْنَ ذاك المدَى الشاسع الذي يبتلعه من فضاء هوائنا؟ هذا الجدار سيأتي لنا بالخفافيش. انظري إلى ذاك الرماديِّ، هل تعرفين مَنْ يكون؟ إنه الحزن حين يفرض نفسه علينا! لا تنظري إلى عينيه، ولا تُصغي إلى صوت ضعفك، وإلى أصوات الوهم من حولكِ.»

لم أسمع صوت جدِّي في هذه اللحظة، لم يقل شيئًا، لم ينطق كلمةً، لكني تعمَّدت الإصغاء إلى قلبه، وسمعت كل شيء.

خُيِّل إليَّ وهو واقف أمامي، أنه الدون كيشوت، الذي استمر زمنًا طويلًا يحارب طواحين الهواء بعد أن اختار لنفسه هيئة فارس، ولم يتمكَّن من الانسجام مع واقعه، وذهب في مغامراتٍ وهميَّة لمحاربة الشرِّ.

لكن جدِّي لن يذهب بعيدًا، وسيحارب معنا هذا النزيل ثقيلَ الدَّم.

سنحارب طواحين الهواء، عندما نقف أمامها، ونجعلها وَهْمًا، وستمضي، وستنمو في أعماقنا، وفي جلودنا أحلام رحيلها عنَّا، ولن نغفل عن رؤية الحقيقة حين تكسوها ألوان العتمة.

أيها الجدار! اليوم أخذتَ نصف مزرعتنا، وجدَّتي، لو غفَلْنا ستأخذ هُويَّتَنا وأحلامنا. سنصبر ونُشهر سيوفنا لنحميَ ذاك النقاءَ من الغِربان التي تفترس ضوء النهار، وتلبس أقنعة الخداع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤