بلوتو
جدَّتي كنز تحت الأرض، جَدَّتي كل الثروات، لو نقصت مساحة الزراعة لزرعنا مساحاتِ الذاكرة وسهولَ حُبِّها.
طَقْم الأسنان السفليُّ، الخاتم الذهبيُّ، كيس الحناء الكستنائيُّ، المنديل المطرَّز بخيوط الحرير الزرقاء، علبة الكُحل النُّحاسية، مُشط العاج، بقايا العطر في علبة الألمنيوم، المرآةُ الصغيرة المكسَّرة الأطراف، العِقد الفضيُّ الرفيع، والصورة القديمة لجدَّتي. هذه الصورة التُقطتْ لجدَّتي حين أُصدرت لها بطاقة شخصية، لم يُحدَّد عمر جدَّتي ولا جدِّي. كانا يقولان وُلِدْنا بعد الثلج، وجدَّتي تقول وُلدنا أيَّام الإنجليز في بلادنا. جدِّي يُصرُّ أنه كان يرى أباه، وهو جنديٌّ في عهد تركيا، ولكنْ حين أُصدرت بطاقات الهوية، وُضع لجدَّتي سنة الولادة ألف وتسع مائة وثلاثون.
كلُّ هذه الأشياء، آخر ما تبقَّى منها، متروكةٌ فوق كرسي قَشٍّ فاخر. هذا الكرسي لم يعرف صانعيه أيضًا، ويبدو أنه قديم جدًّا من ازدحام المسامير في أخشابه.
قبل أن يُغادر جدِّي غرفته، يقف أمام أشيائها، كأنه عابد هندوسي يصلِّي.
قرَّر أن يزرع الموسم القادم القريب بعد شهر تقريبًا، الكرنْب الذي لم يزرعه أبدًا خلال حياة جدَّتي. والسبب أنهما بينما كانا يبيعان الخضراوات في إحدى الأسواق، وقفت جدَّتي مع سيدة يهودية، وكانت تضحك معها، حينئذ غضِب جدِّي.
قالت له جدَّتي: «هي يهودية من المغرب، وعاداتهم مثل عاداتنا في الطعام واللبس والضحك والحب، هؤلاء جيراننا بالقرب من مزرعتنا، والجار يصبح قريبًا جدًّا في يوم من الأيام.»
لم يعجبه ما قالت، وفي نفس الوقت طلبت منه جدَّتي أن يزرع الكرنْب، فرفض بشدَّةٍ عقابًا لجدَّتي، ولم يزرعه أبدًا.
بعد وفاتها حرص أن يفعل كل شيء كانت تريدُه في حياتها، فقرر زراعة الكرنب.
الكلُّ يقف الآن وسط ما تبقى من المزرعة، المساحة صغيرة، ولكن لا بأس في زيادة الحب في العائلة، وقُرب بعضنا من بعض، وتحمُّل تعب الزراعة.
مساحة الأرض المتبقية مستديرة، ولونها بنيٌّ خفيف، كوجهِ جدَّتي، وتربتُها ناعمة وخشنة.
بدأنا أنا وأبي وعمي وأولاده نحرث المزرعة بالفئُوس، ونجهِّز ممرَّات في التراب. وكلَّما انتهينا من حرث جزء، أضحى يُشبه جديلة جدَّتي الكستنائية اللون، وكلما أنجزنا أكثر طرَّزْنا تراب المزرعة كنقشات ثوبها.
عَمِلنا، ضحكنا، مَسحْنا عرقَنا. جدِّي وحده كان ينظر خلف الجدار، كأنه يرسل إلى جدَّتي رسالةً في قبرها: «نحن سنزرع الكرنب كما أردتِ.»
كان ينكش التراب قبل أن يصل إلى الجدار بمترٍ، ويتوقف، ويرفع يديه للسماء، ويقول: «يا الله! اشتقت لباقي أرضي، ولها يا الله!»