تشبه الوردة
لا بدَّ أن يسافر جدِّي عشرين كيلومترًا لجلب شتلات الكرنب، والكلُّ يظن أن عشرين كيلو مسافة بسيطة، ولماذا سيسافر؟ في بلادنا الصغيرة، البلدات قريبٌ بعضُها من بعض، وكلُّ شيء حولك، ولكنك لا تضمَن الرجوع في الوقت المحدَّد؛ فالحواجز منتشرة بين كل قرية وقرية، بين كل مدينة ومدينة، بين كل جسد وجسد، وبين كل حاجز وحاجز هناك حاجز.
المشكلة الخطيرة في الحواجز أنك مرتبط بمزاج الجندي على الحاجز، إذا كان مزاجه جيِّدًا مع حبيبته شعرت بمرونة الحاجز، كأول قبلة في الحياة، كطعم الماء المثلَّج في يوم حارٍّ جدًّا، سهل الحركة، وأغلب الناس الذين يمرُّون على الحاجز يقولون: «والله إن الجنود اليوم أحسن ناس.»
بالمقابل تبكي مئاتُ الناس على الحواجز إن كانت أصول الجندي عربية. فلو كان من بلاد المغرب، أو من العرب الذين بَقُوا في بلادهم، لكان يوم الحاجز أسود طويلًا، يلعن الناس أنفسهم، ويندم الجميع على خروجهم من البيت في هذا اليوم.
الناس في العادة ينتظرون أوقاتًا طويلة للحصول على شيء جيِّد، من مال، وسفر، أو عودة حبيبة، ولكننا ننتظر على الحواجز؛ لنعود إلى بيوتنا فقط.
علَّمتنا الحياة أن نكون ماسوشيين، نكرِّر الذهاب إلى الحواجز، ليس للمتعة، ولكن لنُعَذَّب بالانتظار.
هَمَّ جدِّي بالسفر لجَلْب الشتلات، ولكنَّ وعكة أصابته، مما أجبر عمي وأبي على الذهاب بدلًا عنه. فجأة وقعت أغراض جدَّتي عن الكرسي، مصدرة صوتًا مزعجًا في الغرفة.
حاول جدِّي مَنعهما من السفر، لأنَّ رسالة من جدَّتي وصلت، حين تبعثرت، لكنه لم يستطع لسوء وضعه الصحي.
مرَّ يومان ونحن ننتظرهما، جدِّي يجلس على الشبَّاك مقابل الشارع الطويل، وأنا فوق شجرة اللوز، وأولاد عمي فوق سطح البيت، والرجال كلٌّ منهم يجلس أمام بيته، ويتحدث عن عودتهما.
نُغيِّر أماكن انتظارنا كلَّ ساعة، أنا أمسك زهرة صفراء صغيرة، وأخلع بَتلاتِها ورقةً ورقةً، وأكرِّر، سيحضرون، أو لا. كنت أنسى النتيجة النهائية في آخر ورقة، هل يحضرون أم لا؟
جَدِّي كان هادئًا، يفترش المكان باتِّزان، ويمارس قلقَه كما ينبغي له أن يكون من رجل كبير في نظرنا، كأنه يستطيع أن يحمل الأرض بكفِّه، جلس هادئًا يراقب عن كثَب تَفتُّحَ تباشير اللقاء.
جاء رجلٌ يسعى، يحمل بشارة، ويحمل شتلات الكرنب، فضحكنا، وحين تقدَّم بحماره على أطراف المزرعة، نادى جدِّي.
تقدَّم جدِّي بلطف وبطء، وقدماه تطرقان الأرض، هزَّ رأسه مرحِّبًا بالرجل، ولم يسأله أيَّ سؤال عن عمي وأبي.
اكتفى بأن ينظر، ويفتش في زهرات الكرنب. أنزل الحمل عن الحمار بمساعدة الرجل الذي حاول أن يتكلم، فأشار إليه جدِّي بالسكوت، خاف الرجل وسكت، ولم ينطق بحرف واحد، سوى أن صرخ على حماره: «هيا، هيا، هيا.»
يا الله كم كان هذا الموقف مرعبًا لنا! جلس جدِّي دون كلام، بعد أن غادر الرجل، وحاولنا أن نلومه على عدم سؤاله عن أبي وعمِّي، فأجابنا: «الغائب يعود، وإن لم يعُد، كفانا أن نستأنس بذكراه.»
وبحركة غير مقصودة، تحلَّقْنا حول شتلات الكرنب التي تضحك، ولكنَّا بدأنا بالبكاء من المجهول عن عمي وأبي.
القصة المزعجة تحتلُّ تفكيرك، فقد يكونان معتقلَيْن الآن من قبَل جنود الحاجز، وربَّما فرَّا من جنود الحاجز إلى مكان آمن، والقصص المزعجة احتمالات نهاياتها قليلة حين تربطها بأمرين؛ أولهما: الهروب، وأكبرهما: الموت.
لكننا جميعًا متفائلون حتى في الموت، ويكفي أن روحهما سوف تساعدنا في زراعة شتلات الكرنب، وتزيل الحصى والأوساخ من الأرض.
كنَّا ننتظر قرار جدِّي بالتعامل مع الشتلات لبدء الزراعة.