مسيل للدموع
أنا ماسة، سمراء اللون، ولكني جميلة، عمري سبع عشرة سنة، مرةً أخرى سمراء، مُميَّزة بلوني في الفصل، وحين كنت أرتدي المَريَلة الزرقاء، وأضع الطوق الأبيض على رأسي، وأحمل حقيبتي الحمراء، ترتفع القبَّعات لِتحيَّتي.
حقيبتي الحمراء، اشتراها أبي من سوق الأدوات المستعملة، صُنعت في إسرائيل، قوية جدًّا، زميلاتي في الفصل يُغيِّرن حقائبهنَّ كلَّ عام دراسي، ولكنَّ حقيبتي تظلُّ صامدة في كلِّ المواسم، لا يهمُّها فصل الصيف ولا الشتاء، بها عشرات الجيوب وما زلْتُ أكتشف جيوبًا جديدة، وأجدها مفيدةً لإخفاء بعض الأسرار. من حظِّ عائلتي أنها حقيبة قوية، فلن يستطيعوا شراء حقيبة كلَّ عام لسوء الحال. وحين أمسحها بقليل من الماء تعود جديدة، أحبُّها كثيرًا، لأنها حمتَنْي عدَّة مرات من ركلات الجنود، حين كانوا يركضون خلفنا وقت المظاهرات ضدَّ الحواجز، وزاد حبي لها حين منعتْ عني الرصاص المطاطيَّ في يوم ساخن، أمام مدرستنا.
نحن العائلةُ الوحيدة في البلدة، سُمرُ البَشرة، وهذا اللون له مليون قصة، كان جدِّي يتحدث عن أصول عائلتنا، حين يكون المساء مريحًا دون مشاكل، والكلُّ سعيد، فيصعد أخي سعد على أحد الكراسي في وسط البيت، وينشد أناشيدَ قد حفظها من كتاب اللغة العربية، ويسارع جدِّي بالقول: «نحن أحفاد عنترة بن شداد، كان أسمرَ مثلنا.»
وحين ينقص الدخل، والمزرعة لا تَفي بوعدها من المنتجات؛ إذ كانت الثمار تُصاب ببعض الأمراض أو الحشرات، ومعلومات عائلتنا بسيطة في المكافحة، يصبح المال والطعام قَليلَيْن، يقول جدِّي: «نحن من أصول أفريقية، وأفريقيا مشهورة بالصبر والجوع.»
كل مساء لنا أصلٌ، ولنا قصة، من أين جئنا؟
لكن أجمل مساء ضحِكنا فيه كثيرًا، حين كان من المتوقَّع للمرشح في الانتخابات الأمريكية «باراك أوباما» الفوز برئاسة أمريكا، والكل معجب بشخصه، قال جدِّي: «هذا الرجل ابن خالتي الموجودة في الصومال.»
ضحكنا كثيرًا، رغم أن جدَّتي كانت تصرُّ في ذلك الوقت أنها تسمع أصواتًا مزعجة تقتربُ من المزرعة.
لنا أقارب كُثُر، والأكثر قربًا منهم يسكنون منطقةَ بئر السبع، فلم يهاجروا مع باقي العائلات، وبقوا هناك.
جاءُوا لزيارتنا قبل أحداث انتفاضة الأقصى أكثر من مرة، وكنا نتجمَّع حولهم، ولكنَّ أشكالهم تختلف عن أشكالنا باللباس والعطور والجوَّالات، حتى أحذيتهم مثل أحذية المشاهير، كانوا يتكلمون لغة مثل لغة الجنود، ويفهمون لغتنا أيضًا.
لكن الذي يزعج جدِّي في زياراتهم، ويريدهم أن يغادروا بسرعة، أن بعضهم كانوا يعملون مع الجنود. وكلما رأينا جنديًّا أسود على أيِّ حاجز، ظننَّاه أحدَ أقاربنا، فنسرع بالعودة إلى البيت، ولا نشارك زملاءَنا في رَجْم الحجارة.
أنا البنت الوحيدة في المدرسة التي تجيد لعبة كرة السلة، ولا أعلم لماذا؟ كنت ماهرة، أقفز عاليًا، وأضع الكرة في الشباك بسهولة. لعبت مرة واحدة في منتخب المدارس لفريق البنات، وكنت الوحيدة السمراء، وتبارَيْنا مع فريق آخر لمدينة أخرى، فلم نفُز؛ لأن الفريق الآخر كان معه ثلاث لاعباتٍ لهنَّ نفس لوني.
إخوتي وأولاد عمِّي كانوا دائمًا يفوزون بألعاب القوى والجري لمسافات طويلة، وكنَّا في المدارس متميِّزين باللون والرياضة.
كنا كثيرًا ما نُدافع عن أبناء مدرستنا ضدَّ أبناء المدرسة المجاورة أثناء العودة إلى البيت، فإذا بهم يفرُّون جميعًا، ويقولون بصوت عالٍ: «جاء السود، اهربوا.» فيهربون، وأضحك أنا وأولاد عمِّي وإخوتي.
ابن عمِّي مزيون كان رغم صغر سنِّه قائد فريق الدبكة والأغاني في المدرسة، وكان يحيي حفلات المدرسة، ويلوِّح، ويقفز، ويطير في الهواء، ويفعل حركات مضحكة وشائقة. والجميل في هذا الأمر، أن جدَّتي وجدِّي حَضَرا إحدى الحفلات المدرسية مع أولياء الأمور، وشاركا مزيون الدبكة والغناء، مما شجع ناظر المدرسة والمدرسين على مشاركة جدِّي الرقص. كان يومًا حافلًا بالضحك والحب، وجدَّتي غنَّت بعض الأغاني. وفجأة سقطت قنبلة غاز مسيل للدموع وسط الحفل، فصار الجميع يبكي، ويركضُ خوفًا. جدِّي حمل مزيون وسعد على ظهره، وأنا أمسكت بيد جدَّتي، وركضنا إلى البيت. وصلنا قبل أن يهاجم الجنود المدرسة، ويعتقلوا ناظر المدرسة، ويشبعوه ضربًا؛ لأنه سمح أن تُغنى أغانٍ فلسطينية في الحفل.