ماسة
حين شرح أستاذ العلوم الفرق بين المعادن والعناصر الفيزيائية، علمت أنه لا فرقَ بين الكربون والماس إلا في تنظيم العناصر الداخلية، والضغط العالي المصحوب بالحرارة.
سرحتُ في كلام الأستاذ، فلو كنت سيِّئًا وهشًّا مثل الكربون، ونظَّمت حياتك، وتعلَّمت الصبر والجلَد لأصبحت ماسًا، والكلُّ يحترمك ويقدِّرك.
لولا موت جدَّتي، لأصبحت زوجةً، وعندي أولاد وبيت، ورجل يحلق ذقنه يومًا بعد يوم.
السمراوات في مثل عمري متهيِّئات للزواج، سبعة عشر عامًا أجيد الدفاع عن صغار العائلة، أحمل فأسًا، وأجرُّ أكياس السماد من رَوْث الحيوانات، أُدحرج أسطوانة الخراطيم الكبيرة لأوزِّعها على الأرض، والمياه تكون أسرع من قَنَوات المياه، كأني أركب الأمواج العالية، وأنظف المزرعة من الحصى بعد الحَرْث، كما يُنقَّى الرأس من القمل؛ حيث لا يجدي استخدام الفأس لإزالة الأعشاب، وبأصابعي السوداء أكون أسرع من الآلات الألمانية.
أُبْدع في تشكيل مجموعة من زهور الحقل العادية، البسيطة الرائحة والعطر، وآخذها إلى المدرسة، وأُهديها للأستاذ، حين لا أنجز الواجب المدرسي.
لكن الزهور كلها لم تفلح في رفع معدَّلي الدراسي عن المتوسط. كنت أُشتم وأُضرب كثيرًا في المدرسة في فصل الخريف. قلَّةُ الزهور تعني الكثير من الغضب في المدرسة.
أجيد ترتيب دفاتري وأسطِّرها، وأُسطِّر كل كراسات من يدرس بالبيت، وأُصلح الأحذية. في وقت البرد والمطر، كنت أنا الوحيدةَ التي تصعد سطح المنزل الهش لوضع النايلون الذي يمنع قطرات المطر من التسرُّب إلى البيت.
أَقودُ حمار جدِّي، بمهارة عالية. وأذكر أن إحدى الجمعيات الريفية، نظَّمت مسابقة أَجْملِ حمار، وأسْرعِ حمار. خسرنا مسابقة أجمل حمار، لأنَّ حمارنا يريدُ كل زينة الفنادق العالمية ليصبح لطيفًا، ولكن كسبْتُ وأولاد عمي مسابقةَ أسرع حمار؛ إذ كنتُ أنا أقوده، وقد وضعتُ على رأسي قبَّعة، وظهرتُ كَوَلَدٍ، ولم يميِّزني أحد من لجنة التحكيم.
أنا غيرُ قابلةٍ للكَسْر، لا أعترفُ بالأمراض العَرَضية، الزكام والأنفلونزا والسعال، شيء عادي جدًّا في عائلتنا، ومشروب البابونج، والأعشاب الغريبة الأسماء هي العلاج فقط.
زارنا الطبيب مرة واحدة، حين كان ابن عمي الصغير يشكو من وجَع في الصدر.
فلم تخفف الأعشاب من آلامه. ذهبنا جميعًا إلى الطبيب على حمار جدِّي، كأننا سنذهب إلى مكان جديد. اكتشف الطبيب أنه يعاني من ثقب في القلب، ولم يَعِش ابن عمي كثيرًا، مات وهو صغير جدًّا.
حين مات الصغير تحوَّل لونه إلى الأبيض، وألبسه جدِّي قماشًا أبيض، كم كان جميلًا في موته! أخذه الرجال إلى مكان بعيد جدًّا، لم نعرفه، فلم نَزُر قبره أبدًا.
كنت أمزح كثيرًا مع كل زملائي في المدرسة، ومع الناظر خصوصًا، وعرفتْ زميلاتي مرات كثيرة أني أقرأ الفنجان، وعندي سِحر، وأُفسِّر الأحلام.
كل يوم أسمع عشرات الأحلام من زميلاتي، يرغبن مني أن أفسِّر أحلامهن.
حين تقصُّ إحدى زميلاتي عليَّ الحلم، أقوم بحركات تَشنُّجية في يدي ورأسي، كأن العالم الآخر يدخل في جسَدي، فأُرْعِبُ من يجلس أمامي، وأقول ما أقول من التفسير للحلم، ويصدِّقون ما أقول من الخرافات. ببساطة من يخاف، يصدِّق كل شيء. نصيبي بعد كل تفسير، نصفُ «سندويش» زميلتي.
تمر أيام رائعة، أتذوق فيها أربعة أو خمسة أنواع من «السندويتشات»، وحين أرغب في جمع مصروف زميلاتي، كنتُ أُحضِر بيضة وأُفرغها من الصَّفار والبياض، وأضع داخلها خُنْفُساء، ثم أعيد البيضة لهيئتها بلاصق شفاف، وأذهبُ للمدرسة، وأقومُ بعمل دعاية كبيرة.
يوجد معي جنِّي صغير، مَن يُردْ أن يراه فلا بدَّ أن يدفع نصف شيكل.
زميلاتي والمدرسون والناظر، الكلُّ يدفع نصف شيكل، كنت أسامح المدرِّسين والناظر، ولا آخذ منهم، عسى أن ينفعوني في إحدى المواد.
أذهب بهم إلى مكان مُعتِم، وأُخرج البيضة من جيبي، وأقول لهم: «الجِنِّي يسكن في البيضة، مَنْ عنده أُمنية فليردِّدها في سِرِّه.»
وحين أضع البيضةَ على الأرض، تتدحرج بفعل حركة الخُنفساء، فيُدهش الجميع. منهم من يرتعب ويصرُخ حين تقترب البيضةُ منه، وبعض زميلاتي يفقدْن الوعي، والمدرِّسون يخافون أيضًا، وأما الناظر فيبقى صامتًا كتمثال من شمع.
بعد أن أجمع أنصاف الشواكل أخرجُ من الغرفة، ومن ثَمَّ أُلقي البيضة والخنفساء في سلَّة المهملات. الجميل بعد هذا اليوم أنَّ أخي وابن عمي ينتظراني على باب المدرسة، ويتقاسمان معي الشواكل، وأنا راضية؛ لأنهما كانا يشتريان الألعاب النارية التي ندعوها «القنابل»، ويُفجِّرانها في الشوارع، وكنَّا نضحك كثيرًا.