كلية صناعية
لم أَدْرِ أني سأصبح سارقةً. في يومٍ مدرسيٍّ حارٍّ جدًّا، وقعتْ معلمتُنا وسط الساحة، وانطلق الطلاب والمدرِّسون ناحيتها، وأسرع ناظر المدرسة لطلب سيارة الإسعاف.
حين دخلت سيارة الإسعاف بعد وقت طويل، نزل السائق والممرض، وحملا المعلمة إلى سيارة الإسعاف، وانطلق بوقُ السيارة في المدرسة. كلُّ من عايَنَ المشهد تأثر حزنًا عليها، لكنها كانت تردِّدُ كلمات تشبه الدعاء، دعاءً لم نسمعه من قبل في حياتنا، ولم نجربْه.
وقع من المعلمة كتابٌ صغيرٌ جدًّا، وميدالية فضية. الميدالية حَرْفٌ يشبه إشارة الزائد في الرياضيات، أُلصِقَ بها نَحْتٌ لرجُل عارٍ. لم يلاحظ أحد أني سرقتُ ما وقع منها، ووضعته في جيبي.
حين غابت سيارة الإسعاف، سألتُ أحد المدرسين: «ماذا كانت تقول المعلمة قبل أن تدخل سيارة الإسعاف؟ كأنه دعاء لكنه غريب!»
ردَّ المدرِّس: «إنها مسيحية، ولها أدعية خاصة غير أدعيتنا، ولكنها كلُّها يشبه بعضها بعضًا، لأنها تقربنا إلى الله.» كان هذا ردَّ مدرس مادة التربية الدينية في المدرسة.
قلتُ في نفسي: «لن أعطيَ ما سقَط منها لأحد، إلَّا لها حين أقوم بزيارتها.»
اقتربتُ من غُرفة الناظر، وقد استقبل مكالمة من بيت المعلمة، وكان يتحدث عن الوضع الصحي للمعلمة. كان أبوها يتكلَّم مع الناظر، وحين سمع الناظر كلمة «فشل كلوي» من الأب، كرَّرها: «فشل كلوي، فشل كلوي! الشفاء من الله!»
أنا أيضًا صرت أردِّد كلمة «فشل كلوي، فشل كلوي»، وفجأة ظهر أمامي مزيون، فقال بصوت عالٍ: «ما بك كأنك مجنونة، لماذا تردِّدين، كلمة «فشل كلوي» بصوت مسموع؟» أجبته: «إنه مرض صعبٌ، وشفاؤه نادر عندنا.»
كنت متأكدة أن مزيون لا بدَّ أن يُضحكني حين أكون حزينة. قال بصوتٍ منخفض: «لو درست الكِلية لَما فشلتِ في الدراسة.»
فضحكتُ بصوت أعلى من صوت ناظر المدرسة، وهربنا.
رغم أن مزيون أضحكني، ولكنِّي كنت حزينة على معلمتي، وقررت أن أزورها في المستشفى.
أخذت بعض الزهور التي جمعتها من مزرعتنا، وزيَّنتُها بورَق أحمر من كراسة الرسم، وكتبتُ عليها: «حمدًا لله على السلامة.»
ورسمت صليبًا كبيرًا، وكنت خائفة أن يراني أحدٌ حين كنت أرسم الصليب، ولا أعلم لماذا.
خرجتُ مسرعة من البيت، ولم أخبر أحدًا إلى أين أذهب.
وصلت المستشفى الحكومي، وسألت كاتب الاستقبال: «أين أَجد معلِّمتي؟»
أجابني: «في قسم الكِلية الصناعيَّة.»
صعدت درجات المشفى، ووصلت إلى غرفتها، فلم أجدها.
سألت أحد المرضى في المكان، وكان يجلس على كرسي، ويحمل عشرات الخراطيم الفضية، بعضها فيه دم، وبعضها فيه سائل شفاف، «أين هي؟»
أخبرني أنها خرجت من المستشفى، وستسافر إلى الأردن، لأنَّ حالتَها غير مستقرة، وهي الآن مع أبيها على الحاجز.
الحاجز ليس ببعيد عن المستشفى، والحاجز قريب من كل جزءٍ عندنا، تجده حتى في أحلامك، ركضتُ مسرعة، وقلتُ في نفسِي: «سوف ألحق بها على الحاجز.»
وصلت الحاجز، فرأيت مئات السيارات متوقفة في مساحة صغيرة، والناس حول سياراتهم، وكثير من الناس عند مقدمة الحاجز.
مشيْتُ بين السيارات أفتِّش عنها، وأنظر داخل كلِّ سيارة. الوجوه تتشابه، والمريض شبيه السليم، والسليم شبيه المريض، من مرارة الحاجز.
هناك سيارةٌ أعرفها، إنها سيارة والد المعلمة، كانت تأتي بها أحيانًا إلى المدرسة، لونها أزرق غامق، ويبدو عليها الترَف.
تقدَّمت منها، ونظرت من خلال نافذتها مُظلِّلةً وجهي بيدي، وجدت معلمتي في الكرسي الخلفي، معلَّقٌ في يدها كيسُ محلول كبير، ووجهُها أصفر، ويخرج خرطوم أبيض من خاصرتها، ملامحها كَبرت كثيرًا، وقد وقف والدها بالقرب من السيارة.
قلتُ: «حمدًا لله على سلامتك.»
ردَّت بصوت منخفض مع دمع في عينِها من الوجع: «شكرًا لك لماذا جئت؟ هذا تعب عليك!»
«لا، أنا سعيدة؛ لأني رأيتك قبل أن تسافري، وعلمت أنك ستسافرين إلى الأردن من المستشفى. عندي لك أمانة، حيث وقع منك كتاب صغير، وميدالية جميلة، جئتُ أعيدها إليك.»
ابتسمت المعلمة، وكأن الحياة تعود إليها.
«هذه بشرى خير، أن تعود ميداليتي العزيزة، شكرًا لك، أتمنى أن تكون البُشرى بفتح الحاجز بسرعة، لأنَّ الألم ينتشر في كل جسدي.»
«لا تقلقي، الآن سوف يُفتَح، والبشرى سوف تعمُّ المكان.»
فتحتْ باب السيارة وأزاحتْ لي مكانًا للجلوس، جلستُ بجوارها، وظلَّ والدها يراقب الحاجز، علَّهُ يُفتَح.
«معلمتي، عندي سؤال لك، ماذا كنت تقولين حين ركبتِ سيارة الإسعاف؟»
«كنت أقرأ آياتٍ من الكتاب الذي بيدكِ!»