المقدمة
تعوَّدْنا أن نمرَّ، ونحن نقرأ التاريخ القديم، على المرحلة الهيلنستية كذَيْل مُهمَل للحضارة الهيلينية الإغريقية الكلاسيكية المعروفة، بحكم ما اكتسبناه من ثقافات صَنَّفَت المراحل التاريخية والحضارات إلى مركز وهامش، وكانت تَهتمُّ بالمركز وتُهمِل الهامش، الأمر الذي ينطوي على مُغالَطة كُبْرى في نمط الثقافة التي تَبنَّيْناها دون فحص وعناية، وتحوَّلْنا إلى سجناء خلف قضبانها التي وضعها لنا مُؤرِّخون ومفكرون عقائديون من الطراز الأول، لم يكونوا أحرارًا ذات يوم، بل هم أدوات موجِّهات دينية وسياسية كبرى، ولا يُحبُّون قول الحقيقة مُطلقًا.
اليوم أحاول هنا في كتابي هذا أن أبحث في «الهامش» الهيلنستي لأكتشف أن أعظَم تحوُّل بشري في تاريخ الأديان قد حصل فيه، ألا وهو التوحيد. ولكي أُعيد عليكم سرْد الرواية الحقيقية التي طَمَرها عُتاة رجال الأديان التَّوحيدية المعروفة في كيفية نشوء هذه الأديان ونشوء التوحيد.
لقد رَوَوا لنا قصة أخرى تمامًا أحالوا نِصفها إلى الغيب، وأجبرونا على الصمت، ثم قَصُّوا وقطَّعوا ومَنتَجوا نصفها الثاني وأجبَرُونا على قَبولها كما هي، في حين أن الغُبار ما زال عالقًا على أيديهم التي دَفنَت الحقيقة تحت أرجلهم الواقفة على قبرها.
العصر الهيلنستي — من وجهة نظري — هو أهم عصور التاريخ الجديرة بالبحث؛ لفرط ما أُهْمِل وما جَرَت عليه من تشويهات، وما حصل فيه من أهوال تخصُّ حاضِرَنا ومُستقبَلنا البشري أكثر من أي عصر آخر من عصور التاريخ.
تاريخ الأديان لا يتوقف عند دين مُعيَّن؛ فهو مُتواصِل ومتدَرِّج ومتطوِّر، وكما ظهَرَت أديان في العصور القديمة والوسيطة والحديثة فستظهر أديان جديدة في المستقبل. عرف الإنسان الدين منذ العصور الحجرية القديمة، لكنه وضَع أول نظام ديني متماسك في العصر السومري؛ حيث مكونات الدين الرئيسية والثانوية تترابط مع بعضها لكي تصنع دينًا متماسكًا، الذي كان بذرة الأديان القديمة والتي كان أغلبها أديانًا متعدِّدة الآلهة تَفرَّعت، وتنوَّعت حسب البيئة الاجتماعية والحضارية التي كانت فيها، وفي التاريخ الوسيط ظهرت الأديان التوحيدية بقوة ووضوح، وما زالت هذه الأديان التوحيدية الوسيطة مع بعض الأديان القديمة المُتبقِّية تتطوَّر في التاريخ الحديث والتاريخ المعاصِر، فالدين مثل أي ظاهرة اجتماعية يَتَّسم بالتطور والتغيُّر حسب المعطيات التي تحيط به وتُسيِّره رغم الثَّبات النِّسبي في مبادئه.
لطالما شغلتني مرحلة الانتقال من الأديان مُتعدِّدة الآلهة إلى الأديان المُوحِّدة التي آمنَت بإله واحد، وكنتُ أبحث عن الظروف الاجتماعية والروحية والثقافية التي سبَّبتْ ذلك، وعن الخطوات التفصيلية التي تدرَّجَت ووصلَت إلى التوحيد.
ولأنني من المؤمنين بالمنهج العلمي في مُعالَجة الأديان وتاريخها؛ فقد استبعدتُ كل الخوارق والمُعجِزات اللاهوتية التي تحيط ظهور تلك الأديان، وتَمسَّكتُ بالأسباب العلمية الموضوعية، والتي رسمَتْها لنا مناهج البحث العلمي بدقَّة متناهية.
كنتُ وما زلت أنظر إلى المرحلة الهيلنستية في تاريخ البشرية (وهي المرحلة التي تلَت وفاة الإسكندر المقدوني، وانتهَت بقيام الدولة البيزنطية؛ أي ما بين ٣٢٣ق.م.–٣٢٣م) بأنها المرحلة الحاسمة التي تمَّ فيها التحوُّل الكبير من الأديان متعدِّدة الآلهة إلى الأديان الموحِّدة. لكن الأمر لم يحدث بالبساطة التي نتصوَّرها أو من خلال التاريخ الرسمي المُعلَن الذي نعرفه لهذه المرحلة كما تَعلَّمناه أو قرأناه أو فُرِض علينا.
لقد اكتشفتُ أن هناك حلقة مفقودة بين أديان التعدُّد وأديان التوحيد شغلَتْها تيارات دينية غُنُوصِية بشكل خاص، وكان معها تيارات مُسارِّيَّة وهِرْمِسية، هي التي بدأَتْ بالتوحيد الباطني العِرفاني (الغُنُوصي) السِّرِّي على طريقتها، فانبثقَتْ من حضورها المؤثِّر هذا التوحيدية اليهودية ثم المسيحية، وجاء الإسلام في أعقاب هذا التأثير في وقت متأخِّر نسبيًّا ولكنه كان ضمن دائرة التأثير المباشر وغير المباشر لها.
إن هذه الحلقة المفقودة التي تجمع المُسارِّيَّة والهِرْمِسية والغُنُوصِية هي البادئة بفكرة التوحيد العِرفاني الباطني الخالي من الوحي، والتي تحمَّلَت عناء الاصطدام مع كتلتين كبيرتين: الأولى هي كتلة الماضي الصَّلْد للأديان التَّعدُّدية المُشرِكة، والثانية هي كتلة الأديان ذات التوحيد الظاهري الناشئة حديثًا والمؤمِنة بالوحي والتي انتعَشَت بفضل المناخ الروحاني والفلسفي الذي أشاعته المرحلة الهيلنستية. وبعد صراع طويل تمكَّن التوحيد الباطني من الانتصار على الأديان المُشرِكة، ولكنه فشل أمام الأديان التوحيدية الظاهرية الجديدة (غير العِرفانية) التي أخذَت التوحيد وجعلَت منه شعارًا مميزًا وجعلَتْه ظاهريًّا لا باطنيًّا، وأسبغَت عليه صفة الوحي وهيَّئتْ له شرائع مُتزَمِّتة أصبحت — مع الزَّمن — موجِّهة لعقائده، وفازَت بالتوحيد النهائي، ولكنها دمَّرَت كل تلك الجذور الأولى التي بدأها التوحيد العِرفاني (الغُنُوصي)، ودمَّرَت كل ما يَمُت بِصِلة للتوحيد العِرفاني الباطني الذي تسلَّقَتْ عليه، وظهَرَتْ من خلاله.
هذا الكتاب محاوَلة لمعرفة ما جَرى، ولمعرفة كيفية ظهور التوحيد الباطني العِرفاني الذي سبق التوحيد السماوي أو الإلهي أو الوحييِّ.
لن أستعرضَ هنا مَضامين وفهرس الكِتاب في هذه المقدِّمة، بل سأحكيه — بإيجاز — مثل قصةٍ أو تاريخٍ قَصصي لمسيرة الأديان وهي تنتقل من التعدُّد إلى التوحيد.
كانت منطقة الشرق الأدنى غارقةً في الأديان متعدِّدة الآلهة التي نشأَتْ وتطوَّرَت منذ زمنٍ بعيد، فكل دين يتكوَّن من آلهة بعضها أكثر أهمية وتداولًا من الآخَر، وبعضها ارتقى إلى مرحلة التَّفرِيد، التي هي أقل من التوحيد؛ حيث يبرز إله رئيسي واحد يُصبِح مركز المنظومة الإلهية وتدور حوله بقية الآلهة … وقد ظهرَت محاولات توحيدية هنا وهناك؛ (مثل محاولة أخناتون في مصر، ونبونائيد في بابل، وزَرادُشْت في فارس)، لكنها لم تتحوَّل إلى نظام شامل أو عالمي أو حتى إقليمي.
عندما اجتاح الإسكندر المقدوني الشرق صنع — لأول البشرية — إمبراطورية عالمية تجمع الشرق والغرب، وكان قراره أن يُهيِّئ بيئة واحدة تختلط فيها الثقافات والحضارات والأديان الشرقية والغربية. ورغم وفاته السريعة لكنَّ المَمالك الهيلنستية التي نتَجتْ عن إمبراطوريته أكملَت المهمة؛ فقد بَقيت على مدى ثلاثة قرون في هذا المناخ العولمي، وحين حلَّ الرومان مكان الإغريق في الشرق استمرَّت مهمة هَيلَنة الشرق الأدنى شرقيه وغربيه، وكانت الإمبراطورية الشرقية البيزنطية ثمرة الهيلنستية بامتياز؛ فقد أصبحت المسيحية «التي هي ثمرة هيلنستية» هي ديانة هذه الإمبراطورية «وثمرة الإمبراطورية الهيلنستية»، وبثَّت الروح في منطقتها لألف عام قادِم، فيما ذَبُل القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية لخلُوِّه من الهيلنستية، وسقطت الإمبراطورية الرومانية بعد ما يقرُب من قرن.
نرى أن المرحلة الهيلنستية (بفترتيها الإغريقية والرومانية) والتي استمرَّت لحوالي ستة قرون فاعلة، (ثم استمرَّت بطريقة أو بأخرى لزمن أطول من خلال الحضارة البيزنطية)؛ كانت الرَّحِم أو الحاضنة التي أنجبَت الأديان التوحيدية، فبعد أن استقرَّت الهيمنة الحضارية للغرب على الشرق الأدنى، وأصبح هناك إمبراطورية عالمية واحدة وحاكِم واحد ظهَرت الحاجة إلى إله واحد، وهكذا استجابت الأديان القديمة، التي أصابَها الوَهن والشيخوخة، إلى مثل هذا التَّحدِّي؛ إذ لم يكن بالإمكان إنجاب حضارة جديدة شمولية فكان لا بُدَّ من إنجاب ديانةٍ أو عدة ديانات توحيدية شمولية (سماوية).
بدأت الأمور بإعادة صياغة الأديان الوثنية هيلنستيًّا (توفيقيًّا) من خلال دمج آلهة غربية مع آلهة شرقية.
ثم حَوَّرت الفلسفات الهيلنستية الجديدة — كالفيثاغورية الحديثة والأفلاطونية الحديثة — الإرث الفلسفي الهيليني الكلاسيكي وأعادت إنتاجه بصِيَغ جديدة. وكذلك فعَلَت الفلسفات العملية والأخلاقية (الأبيقورية والرواقية والشَّكِّية).
وفي مثل هذا الجو من الحرية الفكرية والروحية تحرَّكَت التيارات الباطنية التي كانت كامنة تحت رماد الشرق والغرب معًا، وظهرَت الحركات الهِرْمِسية والغُنُوصِية والمُسارِّيَّة في الشرق الأدنى؛ وصارت هي حلقة الوصل بين الشِّرك والتوحيد، بل صارت الرَّحم الحقيقي لولادة التوحيد.
حصل هذا — بشكلٍ أساسي — في مراكز الثقافة الهيلنستية الكبرى؛ وهي: الإسكندرية، وأنطاكيا، وأفاميا، والسامرة، والجليل، وسلوقيا، وميسان، وبابل، وترادفَت بين صناعة أكاديمية وبين تيارات روحية وباطنية شعبية.
وهكذا انتقلَت اليهودية من التَّفريد (وهو توحيد مُلتبِس) إلى التوحيد الصريح، ثم ظهرَت المسيحية وهي تَحمِل تفريدها الخاص (الأقنوم التثليثي)، ثم ظهر الإسلام بميله الشديد إلى التوحيد الخالص.
هذه الأديان الثلاثة ظهَرتْ مِن أصول ومؤثِّرات هِرْمِسية وغُنُوصِية ومُسارِّية ومن التأثُّر ببعضها، وكانت نقلة فريدة من العالَم القديم إلى العالَم الوسيط، وجوابًا منسجمًا مع إمبراطورية واحدة وإمبراطور واحد؛ إذ لا بُدَّ من إله واحد أيضًا. ثم نشأت لها إمبراطوريات واحدة وإمبراطور واحد «باستثناء اليهودية التي حاولت ذلك، ولكنها فشلت».
لكن الهاجس الباطني بَقِي في هذه الأديان الثلاثة رغم أنه أنجز مهمته وانتهى منها، ورغم أنها حاربَتهُ عندما وقفَت على أقدامها، وظهرَت الحركات الباطنية الغُنُوصِية والهيلنستية والمُسارِّيَّة الطابع في هذه الأديان على شكْل مذاهب ومِلل وفِرق في شَتَّى الأصعدة، وما زال الصراع بين هذه الأديان الظاهرية الثلاثة وبين باطنها الذي يَغلي مُستعِرًا حتى يومنا هذا.
هذه هي قضية التوحيد بعد أن كشَفْنا الحلقة المفقودة في ظهورها وهي الحلقة الباطنية (المُسارِّيَّة الهِرْمِسية الغُنُوصِية) والتي تعمَّدَت الأديان التوحيدية طَمْرَها وإخفاءها وقَطْعها.
الكِتاب يُلقِي الضوء على اللحظة التاريخية الحَرِجة التي تَرجْرجَت فيها عقائد الشرق والغرب القديمة، وتَمخَّضَت لينتج عنها التوحيد والديانات التوحيدية.
وهي وجهة نظر عِلمية وليست أيديولوجية؛ لأنها ترصد ما حدَث من الواقع، وليس من العقل، وتُحلِّل الطُّرق التي سَلكَتْها عقائد التوحيد الباطنية الأولى قبل أن تتحوَّل إلى أديان توحيدية ظاهرية.
الكتاب يحاول كشْف حُجُب هذه المرحلة، والحديث بصراحة عن الأصول الباطنية لأديان التوحيد، وهي أصول باطنية كانت تنام تحت الأديان الوثنيَّة أيضًا … ولكنها انفجرَت بقوة بثلاثة قرون قبل الميلاد وبثلاثة بعده، وهي الفترة الهيلنستية التي يعالجها أغلب المفكِّرين بعُجالة أو بأكاديمية باردة، ويَطمرها المُتديِّنون اليهود والمسيحيون بشكلٍ خاص.
ما نراه أن هذه المرحلة بحاجة لمزيد من البحث العلمي الدقيق والمُحايد والحديث — دون منهجية عقائدية — لمعرفة ما حَصَل بالضبط؛ فهو الطريق الأفضل لتَلمُّس التطور الروحي للإنسان والطريق الأفضل لفَهْم الحقيقة دون مُوجِّهات عقائدية دينية بوجه خاص.