المبحث الأول

نشوء وتقسيم الإمبراطورية الإغريقية المقدونية (الهيلنستية)

figure
الإسكندر.

كلما اقترب الغرب من الشرق، أو اقترب الشرق من الغرب عادَت بنا الذاكرة إلى «العصر الهيلنستي»، وكلما ارتفع هاجس العولمة أو الأممية أو الكوزموبوليتية تُذكِّرنا ذلك العصر باعتباره أول عصر حاوَل دَمْج الشرق بالغرب في بوتقة حضارية واحدة.

ولسْنَا من القائلين بفشل تلك المحاوَلة، أو بالتركيز على جوانبها السلبية باعتبارها نوعًا من الاستعمار الاستيطاني — رغم صحة ذلك — لكننا ننظر دائمًا إلى ثمارها ونتائجها المنظورة وغير المنظورة التي نرى أنها قدَّمت للحضارة البشرية الكثير، ولعل أهم مآثرها أنها كانت — دون قصد مُخطَّط منها — حاضِنَة الأديان الموحِّدة الكبرى التي ظهرت — أول ما ظهرت — في المشرق العربي بشكل خاص.

نرى — كما يرى الفريق الأكبر من المؤرِّخين — أن العصر الهيلنستي هو العصر الذي يبدأ بعد وفاة الإسكندر المقدوني عام ٣٢٣ق.م. وينتهي عام ٣٠ق.م. عندما سقَطت مملكة البطالمة على يد الرومان. ونُشدِّد على اعتبار الفترة التي احتلَّت روما فيها الشرق الهيلنستي مرحلة امتداد آخر للعصر الهيلنستي من ٣٠ق.م.–٣٢٣م.

لكننا في الوقت ذاته نرى امتداد التقاليد الهيلنستية بعد احتلال روما للعالَم الهيلنستي وظهور صيغة جديدة، لا على الشرق القديم قبل الهيلنستي، بل على الشرق الهيلنستي ذاته؛ فنحنُ نميل إلى اعتبار التاريخ الهيلنستي متوقِّفًا على المستوى الكرونولوجي، لكنه مستمر على المستوى الحضاري، وإنْ بثوب جديد غير غريب عليه.

ومن أجْل التوفيق بين التوقُّف الكرونولوجي والاستمرار الحضاري للعصر الهيلنستي اهتدَينا إلى وضْع حلٍّ وسط معقول لهذه المُعضِلة يَكمُن في تقسيمنا للحضارة الهيلنستية إلى مرحلتين هما:
  • (١)
    العصر الهيلنستي Hellenstic Age (٣٢٣–٣٠ق.م.).
  • (٢)
    العصر الرومانستي Romanstic Age (٣٠ق.م.–٣٢٣م).
figure
طريق غزوات الإسكندر الكبير.

وقد نَحَتْنا هذا المصطلح «الرومانستي» قياسًا على مصطلح «الهيلنستي» لِنربط بينهما ولِنعني ﺑ «الرومانستي» هو ذلك العصر الذي سَيطرَت فيه روما على الشرق الهيلنستي وخصوصًا غرب آسيا وشمال أفريقيا.

ورغم أننا ندرك الحرج في إطلاق مصطلح كهذا على هذه الفترة؛ لما يثيره من إشكالات، إلا أننا نرى ضرورة ذلك؛ لكي ندلَّ بمصطلح واحد على احتلال روما للشرق المتوسطي (الآسيوي والأفريقي)، ولكي نشير إلى استمرار الهيلنستية بثوب روماني ليس غريبًا عليها. فالحضارة الرومانية تأثَّرَت كثيرًا بالحضارة الهيلينية، ونَهلَت منها، وكانت مصدرها المباشر في الكثير من الجوانب؛ ولذلك فإنها عندما تتواصل معها في الشرق المتوسطي فإنها لا تُشكِّل قطعًا فاصلًا بين عصرين غريبين، بل هي امتداد لها.

العصر الرومانستي إذن هو عصر روما في الشرق، ومحاولتها تكوين إمبراطورية رومانية واحدة حول البحر المتوسط تسود فيه تقاليد متشابهة وينصهِر فيه الشرق مع الغرب، رغم أنها كانت إمبراطورية مركزية (عاصمتها روما) مختلفة عن الإغريق الذين كوَّنوا ممالك هيلنستية منفصلة حكَموها مباشَرة وليس من أثينا أو مقدونيا أو إسبرطة.

الفرق واضح بين الهيلنستية والرومانستية سياسيًّا وحضاريًّا، ولكن التشابه بينهما والامتداد بينهما واردٌ أيضًا، بل لعلَّه الغالب في ذلك.

ورغم أن المسيحية ودولتها البيزنطية هي ثمرة من ثمار العصر الهيلنستي- الرومانستي لكننا لا نُدخِل العصر البيزنطي في المرحلة الرومانستية، أو كمرحلة ثالثة رغم لغته وطابعه الهيليني الإغريقي؛ لسبب بسيط وهو الاختلاف الجذري الذي أظهرَتْه المسيحية في الحضارة البيزنطية قياسًا إلى التماثُل الحاصل في الديانة الوثنية والعقائد السِّرِّية والفلسفية الذي بين العصرين الهيلنستي والرومانستي، ثم إن الحضارة البيزنطية هي نتاج المرحلة الهيلنستية والرومانستية ولكن بصفة مسيحية إمبراطورية.

إذا نظرْنا إلى التاريخ الروماني لا يمكننا فصله إلى روماني ورومانستي، ولكن أليس غريبًا أن يكون العصر الإمبراطوري الروماني مترافقًا مع العصر الرومانستي؟ فما نطلق عليه بالرومانستي هو بدء المرحلة الإمبراطورية الرومانية وهو الجزء الأخير من تاريخها المعروف.

لكننا إذا نظرنا إلى تاريخ الشرق فيمكننا القول بأن الشرق المتوسطي مَرَّ — بعد سقوط الإمبراطورية الفارسية الأخمينية والظهور السريع للإمبراطورية المقدونية — بمرحلتين متجانستَيْن نسبيًّا؛ هما المرحلة الهيلنستية، والمرحلة الرومانستية. أما المرحلة البيزنطية فيمكن اعتبارها مرحلة ثالثة لكنها لا تتجانس حضاريًّا مع سابقتيها بسبب ديانتها وحضارتها المسيحية بشكل خاص.

سنتناول بالتحليل العصر الكلاسيكي بعامة (الإغريقي الروماني)، وسننظر، بصفة خاصة، إلى المرحلة الهيلنستية بِشقَّيْها الإغريقي والروماني تضامنًا مع حقيقة التجانس الذي عاشه الشرق الهيلنستي في المرحلتين، وما أفرزَته عقائد الأديان والفكر والفلسفة من ظواهر كان لها الأثر الأكبر في صياغة عقائد المنطقة، وخصوصًا عقائد التوحيد التي نرى أن ظهورها في الحاضنة الكلاسيكية كان يَحمِل معنى توحيد العالَم في إله، أو دِين عالمي واحد أيضًا، لقد أرادت الحضارة الكلاسيكية توحيد العالَم سياسيًّا وحضاريًّا، لكن الشرق ردَّ عليها بتوحيد العالَم دينيًّا … وهكذا سُرعان ما تَفتَّتت السياسة والحضارة، وانتصر الدين التوحيدي المسيحي، وتسلَّق إلى أوربا وغَزاها بأكملها.

بسقوط الفراعنة، وملوك بابل، وآشور المُؤلَّهِين، الذين ذاب الفرد في سطوتهم، وكذلك سقوط عرش الطاووس في فارس، تحرَّر الفرد في الشرق من الكَبْت، وذاق حلاوة الإبداع وحرية التفكير، ولم يَعُد يخاف لا من الكهنة — حراس العقائد — ولا من جبروت حكامه المُؤلَّهين؛ فتحرَّر لأول مرة من نزعات السيطرة والاستبداد. (الناصري، ١٩٩٢م، ١٠٣-١٠٤).

ويمكننا وصف العالَم الهيلنستي بأنه أول عالَم جمع الشرق والغرب في ساحةٍ واحدة، فانتشرَت مادة الغرب في نسيج الشرق، وانتشرَت روح الشرق في جسد الغرب، «ويُمثِّل هذا العصر من بعض النواحي مرحَلَتين من مراحل الحضارة، أثمرَتْ في أُولاهما العلوم، والفلسفة، والآداب وغيرها من مَظاهر النشاط الفكري، في ظل عالَم إغريقي-مقدوني مُستقِل. أما في المرحلة الثانية فقد نضَب مَعين الإنتاج العقلي وقام الشرق في وجْهِ الغرب. وحين كانت هذه الثورة تُهدِّد العالَم الإغريقي المقدوني انقضَّتْ روما على هذا العالَم واستولَت عليه، وآلَت إليها زعامة الحضارة الإغريقية» (نصحي، ١٩٦٧م، ٣٧-٣٨).

لقد تظافرَت ثلاثة تيارات باطنية في العصر الهيلنستي؛ هي: «المُسارِّيَّة؛ أي ديانات الأسرار، والهِرْمِسية، والغُنُوصِية» في تكوين «التوحيد الباطني» الذي سرعان ما هذَّب التَّفريد اليهودي وجعله توحيدًا، ثم أنتج المسيحية الأولى، لكن المسيحية تحوَّلت من كنيسة غُنُوصِية إلى كنيسة «قَوِيمة»، وهكذا انتصر التيار الظاهري في التوحيد «اليهودي والمسيحي»، وعمد أقطابه إلى تدمير الغُنُوصِية، والانتقام من دُعاتها بحُجَّة الهرطقة والخروج عن المسيحية القَويمة.

إن العصر الرومانستي والبيئة الرومانستية هما الأساس الذي مهَّد لظهور الإمبراطورية البيزنطية؛ لأن شرق إمبراطورية روما هذا قد ورث التقاليد الهيلنستية، ثم الرومانستية التي جعَلَت من هذا الجزء من الإمبراطورية رخوًا وقابلًا لاكتساب خصوصية دينية، وحضارة جديدة خارج الإرث الروماني العَتيد.

إن الرومانستية هي الجسر الذي سيربط بين الهيلنستية والبيزنطية، ودليلُنا على هذا أن لغة الإمبراطورية البيزنطية هي اليونانية، وأن إرثها الثقافي يوناني؛ أي إن النَّسْغ اليوناني امتدَّ داخل الشجرة الرومانية من الأرض الهيلنستية إلى الثمار البيزنطية.

ولنلاحظ كذلك أن الدِّين المسيحي الذي هو روح الإمبراطورية البيزنطية، هو دين خَلاصي ذو جذور هيلنستية غُنُوصِية، تَمكَّن أخيرًا من تفكيك السجون الوثنية الرومانية والصعود بالجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية (الرومانستي) إلى مناخ جديد هو المناخ البيزنطي الذي أعاد الاعتبار للهيلينية والهيلنستية واليونانية.

ربما كانت أجزاء الإمبراطورية الرومانية الشمالية والغربية أكثر تجانسًا مع روما المَركَز، أما الأجزاء الشرقية والجنوبية منها فقد كان ينبض فيها عرقٌ هيلنستي قوي يعطينا المسوِّغ لأن نطلق عليه اسم «الرومانستي» لكي نُميِّزه عن الإمبراطورية الرومانية من جهتها الشمالية والغربية، ولكي نجعله امتدادًا للهيلنستي من ناحيةٍ أخرى.

ولننظر إلى المفارَقة الأخرى، فقد بدأ التاريخ الهيلنستي في ٣٢٣ق.م. وهي سنة وفاة الإسكندر المقدوني، وانتهى في ٣٠ق.م. عندما سقط عرش كليوباترا آخر الهيلنستيين العظام وبداية الرومانستية، لكن التاريخ الرومانستي انتهى في ٣٢٣م عندما أعلن قُسطنطين مَسيحِيَّته وانفصل بالإمبراطورية البيزنطية، وبين ٣٢٣ق.م. و٣٢٣م سرٌّ غريب سيستمر لحوالي ستة قرون ونصف حدث فيها العَجَب العُجاب.

(١) العصر الهيلنستي (٣٢٣–٣٠ق.م.)

لم تَعُد الهيلينية وحْدَها في إطار اليونان وبحر إيجة؛ فقد دخلت إلى الشرق ولم يَعُد بالإمكان وصفها بالهيلينية التي تَعارَفْنا عليها؛ ولذلك ظهر اصطلاح جديد سرعان ما دلَّ على مزيج الإغريق والشرق، ونعني به مُصطلَح العصر الهيلنستي (Hellenistic).
والهيلنستية كلمةٌ نَحَتَها أحدُ العلماء الألمان (Hellenismus) من أصلها الإغريقي القديم، وتعني كلمة Hellen؛ أي (الهيليني)، أو (الإغريقي) نسبةً إلى هيلاس (Hellas)؛ أي بلاد اليونان أو الإغريق. أما هيلنستي فمنحوتة من الفعل Hellenizo؛ أي (هلينة) أو (هَلينَ)، أو كما هو شائع في اللغات الأوربية وأخذْنَاها عنهم «أغرقة»؛ أي خَلْع الطابع الهيليني أو الإغريقي على هذا أو ذاك من الأشياء والأحياء؛ ولذلك يُسمِّي بعض المؤرِّخين العرب المُحدَثين العصر الهيلنستي ﺑ «العصر المتأغرق»، ويتحدَّثون عن الشرق المُتأغْرِق (برنال، ١٩٩٧م، ٣٩).
figure
معركة إيسوس التي انتصر فيها الإسكندر المقدوني على الإمبراطور الفارسي دارا الثالث ٣٢٣ق.م. (مصوَّرة في موزائيك، رسمه فيلوكسنوس الإرتيري (Philoxenus of Eretria) وقد عُثِر عليه في مدينة بومبي الرومانية/القرن الأول ق.م.).

وهناك تَبايُن في تحديد زمن هذا العصر «ويختلف العلماء حول مُدَّته وطبيعته، فبعضهم يرى أنه يبدأ من وفاة الإسكندر المقدوني وينتهي بموقعة أكتيوم عام ٣١ق.م. حيث سقطَت آخر دولة هيلنستية وهي دولة البطالمة. في حين يرى البعض الآخر أنه يمتد ليشمل تاريخ الرومان في الشرق حتى نهاية احتلال الرومان للشرق. والرأي الأرجح هو الأول؛ لأن العصر الهيلنستي مَعنيٌّ بالإغريق، واختلاطه بالشعوب الشرقية لا بالرومان. أما طبيعته فيرى بعضهم أنه عصر حضارة جديدة تتكوَّن من عناصر إغريقية وشرقية، ويرى بعضهم أنه عصر انتشار الحضارة الإغريقية بين الشَّرقِيِّين، ويرى بعضهم أنه لا يتعدَّى استمرار الحضارة الهيلينية القديمة على أُسسها السالفة» (نصحي، ١٩٦٧م، ٣٧).

ما يهمنا هو الطبيعة المتجانِسة للعصر الهيلنستي سواء كان إغريقيًّا أو رومانيًّا؛ لأن القاسم المشترَك بين الثقافتين الإغريقية والرومانية هو الشرق الذي حكَموه وتراثه الزاخر في مختلف القطاعات. ولعل اختلاف طبعية الحكم من نظام دولة المدينة عند الإغريق إلى النظام المَلكي عند الهيلنستيين كان أيضًا عاملًا مهمًّا في اختلاف الحضارة الهيلينية عن الحضارة الهيلنستية.

ويرى الدكتور صبحي إبراهيم أنه استمرار للحضارة الهيلينية القديمة على أُسسِها السالفة في جوهرها، لكن داخلَتْها بعض العناصر الشرقية، وانتشرت هذه الحضارة بين ربوع الشرق، ولم تَعُد مراكزها الرئيسية في بلاد الإغريق القديمة، وإنما في عواصم الممالك الجديدة التي أنشأها خُلفاء الإسكندر الأكبر على أنقاض الإمبراطورية المقدونية، فلا عجب إنْ وُصفت الحضارة الهيلنستية بأنها حضارة مَلكية، والحضارة الهيلينية الكلاسيكية بأنها حضارة المُدن الحرة (نصحي، ١٩٦٧م، ٣٧).

ومن الأمور السياسية والدينية المُهمَّة التي بدأها الإسكندر، وظهرَت كفاتِحة لعصر عالَميٍّ هو تأثُّره بمركزية الفرعون في الحياة الاجتماعية، والسياسية، والدينية في مصر، وتَبنِّيه لفكرة كونه ابن الإله رع، وبكونه الإله حورس، وهذا يعني أنه يَجِب أن يُرسِّخ نفسه حاكمًا في الشرق عمومًا وفق التقاليد الشرقية وليس وفق التقاليد اليونانية، وقد تَحقَّق هذا فعلًا؛ حيث نَصَّب الإسكندر نفسه كفرعون لمصر «على أساس هذا الحق الإلهي؛ فالآثار التي تشير إلى هذا التنصيب تُظهِر لنا هذا العنصر الإلهي بشكل واضح، فهو «ابن رع»، وهو بصفته ملكًا للوجهين القِبْلي والبحري «حبيب آمون والمُقرَّب إلى رع»، وهو «حورس» الأمير القوي وحامِي مصر. حقيقةً إن كهنة آمون كانوا يُضفُون هذه الألقاب على كل مَن يصبح فرعونًا لمصر، ولم يختصُّوا بها الإسكندر لذاته، وكذلك ربما لم يُؤمِن الإسكندر إطلاقًا، أو لم يُؤمِن إيمانًا كاملًا بِصِلَته بالآلهة المذكورة بالشكل الذي ذُكِرَت به. ولكن هناك حقيقة لا يمكن إلا أن تظل ثابتة من خلال هذه الشكوك: وهي أن الإسكندر قد قَبِل هذه الألقاب بصفة رسمية، وأكثر من هذا أنه قَبِلها وهو يعرف أن جنوده من المَقدونيين واليونان لا بُدَّ أن يَعلَموا بذلك، وهذا أمْر له أهميته في مجال تحديد النظرية. كان الإسكندر يريد أن يقيم حُكمه على أساسها؛ إذ لا يمكن بحال أن نقول إن الإسكندر قَبِل ذلك لمجرد التَّماشي مع التقاليد السياسية في مصر فحسب» (يحيى، ١٩٧٨م، ٧٢-٧٣).

كان الإسكندر قد أسس لمركزية كوزموبوليتية جديدة اختلفت عن المركزيات الإمبراطورية الشرقية القديمة؛ لأنه جمع هذه المرة الشرق مع الغرب لأول مرة في التاريخ، وقد نقل هذا الهاجس لقُوَّاده وورَثة إمبراطوريته الذين كوَّنوا الممالِك الثلاثَ الكبرى، بل نزعم أنه كان أساس التوجُّه الإمبراطوري المركزي الروماني لقيادة العالَم القديم بعد قرون.

وكان زواج الإسكندر المقدوني مع ثمانين من ضباطه وقَادَته من نساء فارسيات وشرقيات دالَّةً رمزية على زواج الغرب والشرق؛ فقد «أقيم الاحتفال في سوسا عام ٣٣٤ق.م. وقد تزوَّج الإسكندر فيه من فتاتين فارسيتين بالإضافة إلى «روكسانا» التي كان قد سبق له الزواج بها؛ وهُما: بارسين ابنة داريوس الكبرى، بالإضافة إلى باريساتس (Parysatis) الابنة الصغرى لأخوس. وقد زوَّج هيفايستون ابنة أخرى لداريوس، أما كراتيرس فقد زوَّجه Amasrine ابنة عم بارسين زوجته. وتزوَّج برديكاس ابنة والي ميديا. كما زوَّج بطليموس حارسه الخاص ويومنينيس سكرتيره من ابنتي أرتابازوس: أرتكاما لواحد، وArtonis للآخَر. وقد بلغ عدد رفاقه الذين تزوَّجوا من فارسيات في هذا الحفل الذي أُقِيم طبقًا للتقاليد الفارسية ثمانين من القادة» (مكاوي، ١٩٩٩م، ٢٢).

كانت أهم مظاهر العصر الهيلنستي في التعليم والثقافة والمكتبات، وهذا يشير إلى نقلة حضارية كبيرة تصبح فيها الثقافة، بكل أنواعها، مركزًا لاستقطاب اجتماعي، وديني عريض، ومَحطَّ تنافُس بين المُدن والحواضر الهيلنستية.

شهد العصر الهيلنستي انتشار المكتبات، وربما عرف العالَم من قَبلُ مكتبات شهيرة، مثل تلك المكتبة التي أقامها أرسطو في أثينا. إلا أن العصر الهيلنستي شهد قيام مكتبات أخرى كثيرة؛ مثل: مكتبات أنطاكية، وبرجامة، ورودس، وأزمير، ولكن أعظم مكتبات العالَم القديم، هي تلك المكتبة التي أقامها بطليموس الأول في الإسكندرية، وما لبث البطالمة أن أقاموا مكتبة أخرى في سيرابيوم الإسكندرية ارتبطت بالمكتبة الأم. وساهمَت هذه المكتبة بالإضافة إلى نشاط علماء مدرسة الإسكندرية في جعْل هذه المدينة عاصمة للعِلم والثقافة في العالَم، وتفوَّقَت على مدينة أثينا العريقة. فيما عدا مجال الفلسفة؛ حيث احتفظَت أثينا بمكانتها المعروفة في هذا المجال (فرح، ٢٠٠٢م، ٤١).

ويمتاز العصر الهيلنستي بانتشار التسامح الديني والقومي بين الناس، وانتشار روح الإخاء بينهم، وصعود مركز المرأة في المجتمع والحكم، وظهور الأندية الاجتماعية رغم زيادة المسافة بين طبقتي الأثرياء والفقراء.

ويُمثِّل العالَم الهيلنستي أول ظهور لفكرة العولمة ووجود عالَم واحد هو الأيوكومين (Oikoumene) وهو عالَم يشترك فيه البشر المتحضِّرون، ومِن أجله وُجِدَت لغة مُشترَكة (Koine) ساعدَت على التقريب بين عناصر هذا العالَم؛ فقد أخذ المتعلِّمون في كل مكان يستعملون لهجة أتيكا التي نشأت منها تدريجيًّا اللغة الإغريقية الهيلنستية، تلك اللغة التي كُتِبَت بها التوراة الجديدة، وإذا كانت اللهجات المحلية بَقيَت مدة طويلة في بعض الأنحاء، فإنه لم يأتِ القرن الأول حتى كانت «اللغة المشترَكة مستعمَلة في كل مكان» (نصحي، ١٩٦٧م، ٣٨).

لقد تغيَّر الشرقي والإغريقي معًا؛ فالشرقي شَعَر بطَعم الحرية وسقط عن أُفقه الحاكم المستَبِد، وانفتحت أمامه آفاق الحرية والتفكير الحر.

أما بالنسبة للإغريقي المُهاجر إلى الشرق، فقد ترك وراءه عُقَد المدينة وصرامتها، والتي كانت تُقيِّد حرية الفرد، وتفرض عليه أفكاره ومعتقداته، فلم يَعُد سجينًا لفلسفة المدينة السياسية والأخلاقية، ووجَد نفسه في مُدن الشرق وحواضره الجديدة حرًّا ينعم بالحرية الشخصية، وحرية الإبداع والتعبير الذي لا يَعرِف حدودًا، ولم تَعُد هناك موانع تُحدِّد له حرية البحث العلمي، بعد أن هجر السياسة والتعصُّب، وتَعلَّم من مواطنيه الشرقيين أصول التسامُح والتعايش، ولم يَجِد مَن يمنعه أو يصدُّه من أن يَعبَّ من حضارة الشرق في كل جوانبها، ويتعلَّم مِن الَّذين كان يتعالى عليهم أجدادُه قديمًا، ويُلقِّبونهم بالبرابرة؛ فتطوَّرت الحضارة الجديدة الهيلنستية، كما أُطِلق عليها، وازدهرَت مدارس الفلسفة في الشرق. هكذا تغيَّر المُهاجِر الإغريقي عندما عاش في رحاب الشرق؛ فقَد نَسِي عُقَد المدينة (Polis) الكلاسيكية، والتي كانت طوال تاريخها أتونًا للحرب، استنفَذَت طاقاته، ونَسِي النَّزعة العُنصرية، والاستعلاء القومي، واستبدل ذلك بإحساس إنساني مُتدفِّق وحار، يدعو إلى مَحبة الإنسان والبشر، والأخوة بين الناس، وتقديس السلام؛ لأنه السلوك الطبيعي للإنسان المتحضِّر، ووجد في تراث الشرق الفلسفي ضالَّته المنشودة؛ فَراجَت فلسفات التبشير بالمحبة مِن أجْل تحقيق السعادة القصوى، والسلام، والاستكانة للنفس البشرية؛ فظهرت كلمة Anthropos (أي الإنسان) ومُشتقاتها، كما تردَّدت كلمة العالمية (Cosmopolitanisim)، وأصبح العالَم المسكون هو العالَم المتحضِّر، بل أصبح الإغريقي يتفاخَر بأن هذا العالَم المتحضِّر هو وطنه، وليس مدينة مُتعصِّبة ضَيِّقة الأفق، كما كان الحال قبل الإسكندر (الناصري، ١٩٩٢م، ١٠٣-١٠٤).
وتكاد هذه العَولَمة الأولى في التاريخ تُشبِه عصر العَوْلمة الحالي (Globalization) الذي يَستعمِل اللغة الإنجليزية لتوحيد العالَم معلوماتيًّا، وعَبْر وسائل الاتصال الحديثة.

(٢) حروب خلفاء الإسكندر وتقسيم الإمبراطورية المقدونية (٣٢٣–٢٨١ق.م.)

(٢-١) التقسيم الأول للإمبراطورية المقدونية (٣٢٣–٣٠١ق.م.)

figure
الإسكندر المقدوني (٣٥٦–٣٢٣ق.م.).

مات الإسكندر الأكبر في يونيو٣٢٣ق.م. بعد مرض مفاجئ قصير. وأدَّى اختفاء الإسكندر المفاجئ إلى إحداث اضطراب خطير في العالَم القديم ككل، وفي بابل عاصمته على وجه الخصوص. لقد أصبحَت إمبراطورية الإسكندر فجأة بغير حاكم يَسُوس أمورها، ولم يَدُرْ في خَلَد أكثر المتفائلِين إمكانية مواجهة الدولة لمثل هذه الكارثة وهي بعيدة عن الاستقرار؛ فالإسكندر ما زال شابًّا تملؤه الحيوية، لم يَتوقَّف عن القتال أو الاستعداد للقتال منذ غادر بلاده في حَمْلَته الأسطورية في عام ٣٣٤ق.م. وقد أدَّت هذه الوضعية بالطبع إلى عَدَم استقرار الإسكندر في أي مكان أكثر من شهور، ولم تَسمَح له ظروفه بأكثر من فتْح أغلب العالَم المعروف على عصره؛ فلم يضع دستورًا للدولة، ولم يكوِّن كوادر سياسية تَقود البلاد في ظروف السلام، بل ولم يعيِّن مَن يَخلفه (مكاوي، ١٩٩٩م، ٢٥).

figure
الإمبراطورية المقدونية بعد وفاة الإسكندر المقدوني/في حدود ٣٢٠ق.م.
مؤتمر بابل: غداة موت الإسكندر عَقَد القادة الخلفاء (Diadochi) مؤتمرًا في بابِل ليبحثوا مُشكلة ولاية العرش والحكم في الإمبراطورية المقدونية، وبعد صراعات مريرة قرَّرُوا أن يرتقي الأخ الأحمق للإسكندر «أرهيدايوس» العرش تحت اسم فيليب، والاعتراف بحق جَنِين زوجة الإسكندر إذا كان ذَكرًا في مُشاركة فيليب العرش بمثابة شَريك تحت الوصاية. ووُزِّعَت ولايات الإمبراطورية بين (١٤) قائدًا من قُوَّاد الإسكندر على أن يكون «برديكاس» وصيًّا على العرش والقائد الأعلى.

حصل «بطليموس» على مصر، وصار «أنتيباتروس» حاكِم مقدونيا وبلاد اليونان مُوحَّدَتين في عصبة كورنثة.

figure
التقسيم الأول للإمبراطورية على يد القادة الخلفاء للإسكندر بعد وفاته، في مؤتمر بابل.
الحلف المضاد لبرديكاس: كان بطليموس شخصًا طَموحًا؛ فقَرَّر مواجَهة برديكاس، ونَقَل رُفات الإسكندر إلى مَنف ثم الإسكندرية، وأخضع قورينا في ليبيا إلى سُلطانه، وعزَل رئيس خزائن مصر وأعدمه، «وكان مواليًا لبرديكاس».

أما العالَم الإغريقي فتحالَف ضد برديكاس حين اتَّحد أنتيباتروس (مقدونيا واليونان) مع أنتيجونس (فريجيا وآسيا الصغرى)، ولوسيماخوس (تراقيا)، ثم انضم إليهم بطليموس. فما كان من برديكاس إلَّا مواجَهة هذا الحِلف، فأرسل أحد قُوَّاده إلى آسيا الصغرى، بينما تَوجَّه هو إلى مصر ليواجِه بطليموس، ولكنه عجز عن عُبور النيل وتمرَّد عليه ضباطه بقيادة سلوقس؛ فقتلوه عام ٣٢٠ق.م. وبذلك فشلَت حمْلَته بأسْرِها، واجتمع القادة الخلفاء فأعطَوا سلوقس ولاية بابل.

مقتل عائلة الإسكندر: تُوفِّي أنتيباتروس وخَلَفه «أولمبياس» أحد قُوَّاد الإسكندر، لكن «كاسندروس» ابن أنتيباتروس انشق وبدأ يُحرِّض ضده، وانقسمَت عائلة الإسكندر بين هذين القائدين. فناصرَت أم الإسكندر أولمبياس، وناصَر أرهيداوس وزوجته كاسندروس، فقَتلَت أم الإسكندر أرهيداوس وزوجته، لكنَّ كاسندروس قام بعد ذلك بسجن أم الإسكندر، وروكسانا وطفلها ابن الإسكندر؛ ليُصبِح مَلِك مقدونيا رسميًّا ومعها بلاد اليونان، ثم قام أنتيجونس بقتلها مع ولدها.
حروب أنتيجونس: قضى أنتيجونس على يومنيس (قائد برديكاس) الذي احتل سوريا؛ فأصبحَت آسيا وبحر إيجة كلاهما لأنتيجونس.

واجتمع سلوقس، وبطليموس، وليسماخوس (تراقيا)، وكاسندروس في حِلف مُضاد للحَد من أطماع أنتيجونس الذي كان يريد السيطرة على كل الإمبراطورية، ودخلوا في حرب معه دامت (١٤) سنة.

توجَّه أنتيجونس نحو مصر وحارَب بطليموس، ولكنه فشل عسكريًّا؛ فَلجأ إلى حرب اقتصادية، وفرَض الحصار على مصر وفشل أيضًا. أما ابنه دمتيريوس فقد توجَّه نحو بابل وفشل أيضًا في محارَبة سلوقس؛ فقام أنتيجونس بعَقْد صُلح من أعضاء هذا الحلف «باستثناء سلوقس لينفرد به».

انفرط هذا الصلح بسب أطماع أنتيجونس وبطليموس، فأعيد التحالُف ضد أنتيجونس، وهكذا واجه الملوك الأربعة في «معركة الملوك» في أبسوس في فريجيا أنتيجونس وولده ديمتيروس عام ٣٠١ق.م. فقتل أنتيجونس، وهرب ابنه إلى أفسوس.

(٢-٢) التقسيم الثاني للإمبراطورية المقدونية (٣٠١–٢٨٥ق.م.)

يُعتبَر عام ٣٠١ق.م. بداية عهد جديد؛ فقد انحلَّت إمبراطورية الإسكندر ولم يَعُد هناك أمل يُرجَى في إحيائها ثانيةً، واجتمع القادة المنتصرون ليعيدوا تقسيم الإمبراطورية مرة ثانية؛ فاقتسمتها أربع شخصيات عظيمة هي: كاسندورس في مقدونيا، وليسماخوس في تراقيا وآسيا الصغرى، وسلوقس في فارس، وبابل وسوريا، وبطليموس في مصر.

لكن ديميتريوس (ابن أنتيجونس) ما زال حيًّا، وقد لعب في هذ المرحلة دورًا كبيرًا؛ فقد احتل عِدَّة مُدن، ثم احتل مقدونيا بعد وفاة كاسندورس لكنه وقع بعد ذلك أسيرًا بيد سلوقس، ومات وخلف ابنه «أنتيجونس الثاني» مكانه.

أما بطليموس فقد احتل سوريا للمرة الرابعة، فطالبه سلوقس بالانسحاب منها لكنه لم ينسحب.

figure
التقسيم الثاني للإمبراطورية.
مقتل سلوقس: طمع لوسيماخوس بعرش مقدونيا، لكنَّ سلوقس كان له بالمرصاد؛ فقتَله في معركة، وتقدَّم سلوقس نحو مقدونيا وحاوَل احتلالها، وفي هذه الأثناء قام بطليموس بتعيين ابنه الصغير (بطليموس الثاني) كَوَلي للعهد؛ فقام ابنه الأكبر «بطليموس الصاعقة» باللجوء إلى سلوقس ليساعده على أبيه وأخيه.

كان سلوقس على حافة نصْر كبير؛ لأنه سيدخل مقدونيا، وعنده ابن بطليموس، وتحت يده آسيا الصغرى وفارس وبابل، لكن بطليموس الصاعقة تَنكَّر فجأةً لسلوقس وقتلَه، وقَبِل الجنود بطليموس الصاعقة قائدًا ونصَّبوه مَلكًا على مقدونيا.

(٢-٣) التقسيم الثالث (الأخير) للإمبراطورية المقدونية (٢٨٥–٢٧٧ق.م.)

لم يَستتبَّ الأمر لبطليموس الصاعقة؛ فسرعان ما هاجمه البربر الكلت؛ فقتلوه وقتلوا عِدَّة ملوك بعده في محاوَلة لاحتلال مقدونيا، واليونان، وآسيا الصغرى، لكن «أنتيجونس الثاني» ابن ديمتيروس ظهَر فجأةً وعقَد تحالفًا مع «أنطيوخس الأول» ابن سلوقس في فارس وسوريا وبابل، وهزَم البرابرة بنصر حاسِم، واتَّجه إلى مقدونيا ونصَّب نفسه ملكًا عليها عام ٢٧٧ق.م. وهكذا انقسمت الإمبراطورية المقدونية انقسامها الكبير الأخير على يد أبناء قُوَّادها من خلفاء الإسكندر إلى ثلاثة أقسام، استقرَّت في كلٍّ منها مملكة ورثها أبناء هؤلاء وهم:
  • (١)

    الأسرة البطلمية في مصر – بطليموس الثاني.

  • (٢)

    الأسرة السلوقية في آسيا – أنطيوخس الأول.

  • (٣)

    الأسرة الأنتجونية في مقدونيا – أنتيجونس الثاني.

وكان ملوك هذه الممالك الثلاث في مُقتبَل العُمر، وفي ظروف متشابهة.

figure
التقسيم الثالث للإمبراطورية، حوالي ٢٧٧ق.م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥