المبحث الثالث

العصر الرومانستي (٣٠ق.م.–٣٢٣م)

انتهى التاريخ الرسمي للممالك الهيلنستية في ٣٠ق.م. بعد معركة أكثيوم، عندما انتحر أنطونيو ثم كليوباترا، ودخل أوكتافيوس إلى مصر، وأنهى آخِر مملكة هيلنستية باقية.

لكن الهيلنستية كروح وكطريقة في الشكل الحضاري استمرَّت تحت الخيمة الرومانية الرسمية، بل لعلَّ الرومان أنفسهم ساهموا في إدامة هذه الروح من خلال الصُّلْب اليوناني الذي يُعَشعِش في شخصية الرومان الحضارية والثقافية والدينية.

ولذلك نُسمِّي هذه الهيلنستية المُتخفِّية باسم «الرومانستية» تيمنًا باسم الهيلنستية، والنحت الخاص بهذه التسمية؛ أي إنَّنا لا نعني بالرومانستية رَومَنة العالَم كله؛ فهذا حصل في مجمل أصقاع الإمبراطورية الرومانية، لكن المناطق الهيلنستية السابقة ظلَّت تنبض بهذه الهيلنستية في شكل روماني أسميناه «الرومانستية»، وقد يغضب منا المؤرِّخون والمختصون بسبب هذا النحت الجديد لهذه التسمية، ولأننا نعرف أسباب الغضب ودوافعه العلمية لذلك نحاول إثبات مصداقية تسميتنا هذه.

كان ضمُّ مصر للجمهورية الرومانية بداية ظهور الإمبراطورية الرومانية على يد أوكتافيوس الذي سُمِّي ﺑ «أغسطس» غازي مصر ومُسقِط المملكة البطلمية، كان هذا كله يحمل معاني كثيرة، منها أن نشاطًا جديدًا سَيدُب في الهيلنستية المُتخفِّية تحت الأَدَمة الرومانية يشبه لحظة نشوء الهيلنستية أيام الإسكندر وبعد وفاته، وكان هذا الضمُّ الإمبراطوري المقدوني أولًا، ثم القيصري – الأغسطسي ضروريًّا لتهيئة مِخْلاط كبير لعناصر الحضارات الغربية والشرقية. إذن، كان ضروريًّا ظهور إمبراطورية ليتم الخلط على مَهَل وفي دعةٍ، ولتكون هناك هلينة أو رومنة، المهم ظهور خليط جديد … ربما كان في أدق تسمياته «هيلنستي».

كان لروما في تلك الفترة وظيفة قيادية في تاريخ العالَم تحدَّدتْ خطوطها، ففي الغرب أخذَت على عاتقها توطيد دعائم القانون والمدنية بين شعوب الغرب البرابرة، على حين اقتصرت رسالتها في الشرق على المحافَظة على بنيان المدنية الهيلنستية التي تفوق مدنيتها، والتي أقامها الإسكندر وخلفاؤه في بلاد الشرق الأوسط (علَّام، ١٩٨٠م، ١٧).

ويمكننا تقسيم الجغرافيا الرومانستية على ضوء ما خلفته الهيلنستية اليونانية، فهناك:
  • (١)

    مصر الرومانية التي وَرثت مصر البطلمية.

  • (٢)

    الشام الروماني الذي ورث الشام السلوقي.

  • (٣)

    آسيا الصغرى الرومانية التي ورثت آسيا الصغرى الهيلنستية.

  • (٤)

    شمال أفريقيا الروماني.

(١) مصر الرومانية

فتح أوكتافيوس مصر عام ٣٠ق.م. بعد انتحار أنطونيو وكليوباترا، وانتهى بذلك الحكم الإغريقي لمصر، لكن الهيلنستية استمرت في مصر كولاية رومانية، وقد استغل الرومان ثروة مصر، وسَلبوها، وقسموها إلى أكثر من ولاية، وفرضوا اللغة اللاتينية عليها.

عندما قُسِّمَت الولايات الرومانية أصبح بعضها تابعًا للسناتو (مجلس الشيوخ الروماني)، وبعضها الآخر تابعًا لأغسطس نفسه، فكانت مصر من نصيب القيصر الجديد.

لم تدخل الفلسفة في الإسكندرية أثناء عصر البطالمة، لكنها مع الرومان دخلَت إلى مكتبتها وجامعتها (موسيون)، «وربما كان لبدء انتشار المسيحية دخْل في اتجاه السَّكندريين في هذا الوقت نحو الفلسفة، ومن أشهر فلاسفة الإسكندرية كان فيلون اليهودي، ثم أفلوطين والذي اعتُبِر مؤسِّس مذهب فلسفي جديد عُرِف باسم الأفلاطونية الحديثة» (الشيخ، ١٩٩٣م، ٦٩).

كانت مصر لقرن من الزمان بعد الاحتلال الروماني تنعم بالهدوء والسلام الذي كان ينقطع أحيانًا بسبب محاوَلات الغزو من جنوب مصر، أو بسبب الثورات الشعبية، أو الاحتكاك العنيف بين اليونانيين واليهود الذي كان ينشب كمعارك دامية حتى انتشر اليهود في دولة «يهوديا»، وبعد سقوط مملكة هيرودوس حيث حُرِم يهود الإسكندرية من الحماية ووقعوا تحت رحمة اليونانيين.

استمرَّت اللغة اليونانية في مصر كلغة رسمية، واحتفظَت الإدارات العليا بأسمائها اليونانية وتُدار من قِبل موظَّفين من اليونان أو المصريين الذين يتكلمون اللغة اليونانية.

أصبح كورنيليوس جالوس أول الولاة الرومان على مصر، وقد واجه ثورة المصريين في طِيبة ضد ظهور جُباة الضرائب الرومان، وتنامَى نفوذه في مصر حتى عزله أوكتافيوس فانتحر، وتولَّى إليوس جالوس الولاية الذي قاد حملة على بلاد العرب لتأمين تجارة روما الشرقية، ووصل إلى مأرب لكن الحملة فشلَت عسكريًّا، ثم نجحت حملة أخرى. ثم جاء جايوس بترونيوس الذي قاد حملة وهزم الإثيوبيين جنوب مصر.

وفي عهد الإمبراطور تبيريوس شهدت مصر حالة من الاستقرار، وقام ابنه جرمانيكوس بزيارة مصر والإسكندرية.

وفي عهد الإمبراطور جايوس (كاليجولا) وقَعَت في مصر فتنة اليهود مع الإسكندريين، واستمرت في عصر كلوديوس الذي قضى على هذه الفتنة، لكن الأمور لم تهدأ كليًّا في مصر مع الأباطرة الذين جاءوا بعده.

كان عصر العائلة الفلافِيَّة عصرًا شهد احترام الرومان للآلهة المصرية بعد تَحفُّظهم إزاءها؛ فقد أظهر الإمبراطور تيتوس (٧٩م) احترامًا لعبادة الإلهة إيزيس، التي سك والده «فسباسيان» صورتها على العملة الرومانية، وقدم تيتوس القرابين للعجل أبيس، ثم أُعيد بناء معبد إيزيس في ساحة الإله مارس في قلب روما، وأقيم في ٩٤م معبد الإله سرابيس.

وما بين (٩٦–١٨٠م) شهدت مصر عصر الازدهار تحت ظل الحكم الروماني رغم المجاعة واضطرابات اليهود في الإسكندرية. وكانت قد اندلعت حرب بين اليهود والإغريق في قورينائية، ثم تحوَّلت ثورة عارمة لليهود ضد الإغريق في مصر، وبرقة، وقبرص، والعراق، وقام اليهود خلالها بأعمال تخريب كثيرة خصوصًا في مصر حتى أخمد الرومان هذه الفتنة عام ١١٧م.

حين تولى هادريان الإمبراطورية الرومانية شهدت الهيلنستية انتعاشًا كبيرًا؛ لأنه كان محبًّا للحضارة الإغريقية؛ فقد اعتنى بمكتبة ودار العلم (الموسيون) بالإسكندرية وزارها. ثم حصلت ثورة الكاهن المصري «إيزيدور» ضد ماركوس أوربليوس الذي أخمدها، وزار مصر.

زار الإمبراطور هادريان مصر وكان محبًّا للثقافة الهيلينية (Philhellene)، وبعد زيارته انبعثت حركة إحياء لأسلوب الحياة الإغريقية؛ حيث أنشأ الإمبراطور مُستعمَرة إغريقية جديدة في صعيد مصر أسماها «أنطونيوس» تخليدًا لذكرى صديقه «أنطونين» فبعث فيها الروح والفن الإغريقيَّيْن.

شهد القرن الميلادي الثالث حالة اضطراب في أوضاع مصر، رغم أن سيفيريوس زار مصر وبقي فيها عامًا كاملًا وأصدر أوامره بالإصلاحات.

ومع كركلا حصلت الاضطرابات، وانتشرت الفوضى إلى عصر دقلديانوس. ظهرت ثورات واضطرابات كثيرة حتى زار الإمبراطور كركلا الإسكندرية، وأحدث بين شبابها مذبحة كبيرة وبعد سنوات ظهرت الحرب الأهلية لمدة عامين، وعندما احتلَّت جيوش زنوبيا (ملكة تدمر) مصر تصدَّى الإمبراطور أوريليان لها وطردها، لكن أعوان زنوبيا قاموا بثورة في وجه جيش أوريليان. واستمرت الاضطرابات بعد وفاة أوريليان، حتى تم تنصيب الإمبراطور دقلديانوس.

إن المائة سنة التي مرَّت بين وفاة سويرس وتنصيب دقلديانوس إمبراطورًا قد شهدت نوعًا من الاضمحلال في ثروة الإسكندرية ورخائها؛ لقد قَتل الطاعون عددًا كبيرًا من سكانها، وخرَّبتها الحروب الأهلية المتلاحقة، وأدَّت الغزوات من الشرق والغرب؛ فضلًا عن حالة مصر المضطربة عمومًا، إلى تقليص قيمة وحجم تجارة الشرق، فالقناة التي حفَرها تراجان سُدَّت بالطَّمْي، والطائفة الإغريقية المُثقَّفة من مواطني الإسكندرية ذوي الامتيازات، لم يَعُد لها وجود، ورغم أن السكندريين المُتحدِّثين باليونانية، قد نشروا الثقافة وعادات التقاليد اليونانية إلا أنهم لم يَعُد يُعْتَرف بهم كإغريق (مارلوا، ٢٠٠٢م، ٢٢٨).

وفي عصر الإمبراطور ديكيوس حصل اضطهاد المسيحيين في أرجاء الإمبراطورية ومنها مصر، وحاولت مصر الاستقلال عن روما وفشلت.

وفي عام ٢٦٩م تعرَّضَت مصر لغزو تدمر من قِبَل زنوبيا التي ثارت ضد الرومان، وتمكَّن جيش تدمر من احتلال مصر واضْطُر الإمبراطور الروماني جالينوس إلى الاعتراف ﺑ «وهب اللات» ابن زنوبيا شريكًا له في حُكم مصر. لكن الإمبراطور أوريليانوس انتصر على قوات تدمر، واستولى على مصر، وأخذ زنوبيا أسيرة إلى روما، وربما تكون انتحرت هي الأخرى مثل ما فعلَت كليوباترا.

قاد «فيرموس» ثورة ضد روما في مصر، واضطر الإمبراطور أوريليانوس إلى الحضور بنفسه لقمع ثورته. وحين جاء دقلديانوس (٢٨٤م) دخل العالَم كله في مرحلة جديدة؛ حيث انقسمَت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين، أصبح القسم الشرقي بواسطة المسيحية إمبراطورية جديدة سُمِّيت فيما بعد ﺑ «الإمبراطورية البيزنطية».

نصَّب المصريون إمبراطورًا آخر بدل دقلديانوس هو أخيل، وبعد أربع سنوات من القتال قام دقلديانوس فأخمد ثورته بنفسه، ونتج عن ذلك مذبحة كبيرة للمصريين.

وعندما قسَّم دقلديانوس الإمبراطورية الرومانية أربعة أقسام وقعَت مصر تحت نفوذ مكسميليان، وصدرت أوامر بمجابهة المسيحيين فيها بقسوة ودموية، حتى ظهر مرسوم ميلانو الذي أصدره الإمبراطور قسطنطين، وقرر فيه أن تكون المسيحية هي الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية.

(٢) الشام والعراق في ظل الحكم الروماني

كانت روما دائمة التدخل في شئون بلاد الشام، لكن القائد الروماني بومبي وحده هو الذي أسقط الدولة السلوقية الإغريقية، وكان قبلها قد سيطر على القدس وحلَّ مشكلة اليهود هناك، احتل بومبي سوريا عام ٦٤ق.م. وأسقط حكم آخر السلوقيين «أنطيوخس الثالث عشر» الآسيوي، وحوَّلها إلى ولاية رومانية. وتحولت أنطاكيا إلى أكبر قاعدة عسكرية للرومان في الشرق، ونافسَت روما والإسكندرية، واستمرت عاصمة لولاية سوريا الرومانية ومنحها بومبي الحكم الذاتي. وكذلك حصلت مدينة سلوقية بيريه على الحكم الذاتي، وما عرف بالمدن العشر Decapolis ومن أشهرها: مدينة فيلادلفيا (عمَّان)، وجرش (جراسيا).

أول حكام سوريا من الرومان هو أولوس جاينوس الذي كان مصلحًا، ثم جاء بعده كراسوس الذي أخطأ في تقديراته وغزا دولة بارثيا، لكنه قُتل هو وولده ووقع جيشه في الأسر، وهو ما جعل البارثيين يغزون ولاية سوريا الرومانية ويصلون إلى أنطاكية، لكن كاسيوس (الذي خلف كراسوس) صدَّهم وهزمهم، ثم زار قيصر سوريا وأكرم أهل أنطاكية لوقوفهم معه ضد بومبي، وحين قُتل قيصر تولَّى أنطونيو حُكم الممالك الشرقية ومنها سوريا، وفي أثناء ذلك احتل البارثيون سوريا، لكن أنطونيو أعادها، واستدعى كليوباترا إلى أنطاكية، وأعلن زواجه منها في هذه المدينة. وفشل أنطونيو بغزو بارثيا ثم هُزم على يد أوكتافيوس في معركة أكثيوم، وانتحر هو أولًا ثم كليوباترا.

عندما انتصر أوكتافيوس في معركة أكثيوم عام ٣٠م هرع الملك اليهودي «هيرود» نحوه والتقاه في جزيرة رودس، وأعلن خضوعه له بعد أن كان خاضعًا لأنطونيو، فأُعْلِن حاكمًا على اليهودية. وخضعت كل سوريا لإشراف مباشر من أوكتافيوس، وتوصَّل الرومان والبارثيون إلى نوع من التعايش السِّلمي.

وكانت هناك في ولاية سوريا الرومانية عدة ممالك (اليهودية، الأنباط، حمص، بالميرا أو تدمر، كوماجيني … إلخ).

اصطدم اليهود في عام ٩ق.م. مع الأنباط، ثم ثاروا بوجه الرومان لكن هؤلاء قمعوهم، وانتعشت مملكة الأنباط بعصرها الذهبي في عصر ملكها الحارث الرابع.

اشتد الخلاف بين جرماينكوس (ابن الإمبراطور تيبريوس بالتبني)، وبين حاكم سوريا «بيسو»، وأصدر جرماينكوس قراره بعزل هذا الحاكم لكنه توفي بعد ذلك مسمومًا، وقد أُشير إلى أن بيسو هو الذي فعل ذلك، وربما بتدبير مع الإمبراطور.

وقد توتَّرَت العلاقة بين بارثيا والرومان في سوريا عندما دعَّم الرومان أحد مُدَّعي العرش في بارثيا بجيش روماني وهو ما جعل البارثيين يستولون على مدنٍ رومانية؛ مثل «سلوقيا على نهر دجلة»، لكنهم طُردوا منها لاحقًا عام ٣٦م.

وحين خلع الحاكم الروماني الكاهن الأكبر لليهود وتعيين آخَر مكانه توجَّه إلى فلسطين. وقد أشار المؤرخ تاكيتوس (Tacitus) إلى أن الحاكم الروماني بيلاتوس (حاكم ولاية يهودا) أمر بإعدام شخص يدعى خريستوس Christos (المسيح) بسبب الاضطرابات التي أثارها اليهود (الناصري، ٢٠٠٢م، ٣٥٨).

ولا نعرف من يكون هذا المسيح، فهل يكون هو يسوع بن يوسف النجار أم غيره؟ لأن هناك الكثيرين مِمَّن يَدَّعون بأنهم المسيح بناءً على نبوءة ظهوره كمُخلِّص لليهود كما جاء في سفر أشعيا.

اضطرب اليهود فيما بينهم، وسادت أورشليم الفتن، وحصَلت مواجهات حادَّة في بلدة «بامينا» على ساحل فلسطين بين اليهود والإغريق.

وقام الإغريق «في بامينا» ببناء معبد الإمبراطور جايوس، الذي كان يؤمن بأنه إله، ولكن اليهود سارعوا لتدمير هذا المعبد، مما أدَّى إلى ثورة الإمبراطور، فأصدر قرارًا إلى بترونيوس حاكم سوريا بوضع تمثال الإمبراطور في قلب هيكل أورشليم، وقد حالت وفاة الإمبراطور دون إنزال المزيد من العقاب باليهود (الناصري، ٢٠٠٢م، ٣٥٩).

ضرب الزلزال مدينة أنطاكيا عام ٣٧م، وعَيَّن كلوديوس أحد الأمراء اليهود الذين عاشوا في روما واسمه «أجريبا» ملكًا على يهودا والسامرة عام ٤١م، وحين مات هذا بعدها بثلاث سنوات عادت إدارتها إلى موظَّف روماني.

وفي عام ٦٦م شهدت ولاية يهوذا ثورةً وانتصر اليهود في قلعة مسعدة عام ٧٤م، وتعيَّن فسباسبانوس لقمعهم، واستولى على اليهود ثم بُويع كإمبراطور، وترك ابنه «تيتيوس» لمتابعة حربه ضد اليهود وسانده العرب، وسقَطت أورشليم عام ٧٠م، وكانت أعنف صدمة لليهود؛ فقد دَمَّر الرومان أورشليم ومعبدها، ووضعوا فيها حامية قوية وحاكمًا من طبقة السناتو بلقب براتيور سابق.

وقد قام الرومان عام ٧٠م باحتلال أورشليم وتدميرها بعد اضطرابات دامت فيها مدة قرن كامل قادتها دولة يهوديا في فلسطين … وتغيَّرت السياسة الرومانية إزاء اليهود وأخَذ اليهود في جميع أنحاء الإمبراطورية يشعرون بسياط الرومان. وفي عام ١١٥م قامَت في مصر ثورة يهودية ضد الحكم الروماني وضد اليونانيين في الإسكندرية، وقد تمت هزيمة اليهود وذُبح كثير منهم، وفَقدوا حقوق المواطنة بالإسكندرية، ومنذ ذلك الحين كفوا كمجتمع من ممارسة؛ أي نفوذ سياسي، وخضعت حياة الإسكندرية لخصومات أخرى (مارلوا، ٢٠٠٢م، ٢١٧).

أصبح الصراع — بعد ذلك — بين المصريين واليونانيين في محاولة من هؤلاء اليونانيين التمسك بسيادتهم الاجتماعية وعاداتهم الإغريقية، ثم أصبح الصراع شرسًا بين الوثنيين وبين المسيحيين.

حاوَل ملك كوماجيني الاتصال بالفرثيين من أجل الانفصال عن روما، لكن الرومان استولَوا على المملكة، ثم ألغاها وألغى مملكة حمص. ثم أُلغِيت مملكة يهوذا واستُبْدِل اسمها ﺑ «سوريا الفلسطينية».

أُخضِعت بلاد العرب المحيطة بالبتراء إلى الرومان على يد «بالما» على إثر اضطرابات في مملكة الأنباط، ثم أُلغِيت هذه الأخيرة وأُطلِق عليها اسم ولاية «بلاد العرب»، وكانت هناك ولايات عربية أخرى تابعة لروما اسمها «قهر العرب»، وقد ضَموا لولاية بلاد العرب مدنًا مثل: فيلادلفيا وجرش.

كان بناء ولاية عربية قوية كهذه مقدمة لطريق تجاري اسمه طريق تراجان الجديد، ولإعادة حفر قناة تراجان التي تربط النيل والبحر الأحمر.

قام تراجان بحملة ضد بارثيا عام ١٠٠م، واجتاح العراق وصولًا إلى طيسفون (المدائن) عاصمة بارثيا، واستولى عليها عام ١١٦م وفَرَّ الملك البارثي. وتوجه تراجان إلى مملكة ميسان وضمها إلى روما، وأنشأ ولايتين جديدتين هما: «آشور» و«ما بين النهرين».

اندلعت ثورة اليهود في قورينا (ليبيا) عام ١١٥م ضد الرومان وشملت بلدانًا أخرى؛ مثل: فلسطين والعراق، فأخمدها تراجان، لكنها ظلت مشتعلة في مصر. وضرب زلزال عنيف مدينة أنطاكيا عام ١١٥م. وحين تُوفِّي تراجان أصبح حاكم سوريا «هادريان» هو الإمبراطور.

تخلَّى هادريان عن ولايتي آشور وما بين النهرين، ولم يكن مؤمنًا بالحروب والتوسُّع، ولكنه قمَع تمرُّد اليهود في أورشليم، وفرض عبادة جوبتر فيها.

وفي عصر ماركوس أوريليوس غزَت القوات الرومانية أراضي بارثيا، لكن الحملة فشلت بسبب تفشِّي مرض الطاعون بين الجنود والذي سرعان ما تفشَّى في الإمبراطورية كلها. لكن سيبتيموس سيفيريوس الإمبراطور أعاد غزو بارثيا وعاد إلى سوريا عام ١٩٧م.

ظل العراق بشكل عام مكانًا للفرثيين، ولكن الرومان كانوا يخترقون هذه السيادة في مرات كثيرة كما ذكرنا أعلاه، ومع حملة سيفيريوس حصل تَحوُّل نوعي (في القرن الثالث)؛ فقد امتدت السيادة الرومانية عَبْر دجلة ووضعت حدًّا طويلًا للفرثيين.

وحين منح كراكلا الجنسية الرومانية لأهل سوريا والرافدين طلَب الزواج من ابنة الملك الفرثي الذي رفضه وجيَّش حملة كبرى لغزو بارثيا وعَبَر دجلة، لكنه اغتيل على يد أحد أفراد حاشيته. وحين تولَّى «ماكرينوس» الإمبراطورية أكمل الحملة على بلاد الرافدين. انتهت بسلام مدفوع الثمن من قِبل روما. وقام ماكرينوس بإعادة شقيقة زوجة الإمبراطور سيفيريوس «جوليا مائسة» إلى موطنها الأصلي في حمص. فقامت جوليا بحملة ضده وادَّعت أن حفيدها هو ابن غير شرعي لكركلا وهو الأَوْلى بتولي العرش، وثارت ثورة ضد الإمبراطور انتهت بقتله مع ابنه، وتوَّجَ الجنود حفيدها إمبراطورًا وعُرِف اسمه «إيلاجابالوس Elagabalos» لأنه كان كاهنًا لمعبد إله الشمس الفينيقي Elagabal. حيث قام بالدعوة للتوحيد من خلال هذا الإله وخصوصًا في روما، وهو ما أدى به إلى ترْك شئون الحكم بيد ولده، ثم قُتل هو عام ٢٢٢م على يد الحرس الإمبراطوري.

سَقَطت الدولة البارثية، وحلَّ محلها الدولة الساسانية التي طمعت باستعادة أمجاد الفرس؛ فغزَت العراق لصالحها، لكن الإمبراطور الروماني سيفيريوس الإسكندر وقف بوجهها وأعاد العراق لروما عام ٢٣٣م وعاد لروما، وبعد عامين حصلت ثورة عسكرية ضِدَّه انتهَت بقتله، ودخلت الإمبراطورية الرومانية في اضطراب طويل لمدة نصف قرن.

عاد الفُرس لغزو وادي الرافدين وسوريا في عام ٢٤١م على يد شابور الكبير، لكن روما ردته، ثم عقد الإمبراطور فيليب العربي الصلح مع الفُرس، لكن شابور أعاد غزوه لوادي الرافدين وسوريا وانتصر هذه المرة. وحين حاول الإمبراطور فاليرايانوس رَدَّ الفُرس وقع في الأسْر ونُقِل إلى بلاد فارس حيث قضى باقي عمره، وخلَّد الفُرس هذا الانتصار بنقش على صخرة كبيرة حيث ظهر الإمبراطور جاثيًا على ركبته أمام الملك الفارسي الذي كان فوق حصانه.

وكانت مدنية «تدمر» قد وَرثَت الأنباط ومَثَّلت حلم العرب، وخصوصًا في عهد ملكها «أذينة» الذي هزم الجيش الفارسي عند نهر الفرات وطارَد الفُرس في عمق بلادهم وحاصَر طيسفون ٢٦٧م، لكنه لم يحتلها، فعينه الإمبراطور الروماني قائدًا لجيوشه في الشرق، لكنه قُتل فورثه ابنه «وهب اللات» الذي كان طفلًا وكانت أمه زنوبيا وصية عليه.

أعلنت زنوبيا أنها سليلة كليوباترا وبسطَت نفوذها على سوريا ومصر، وأعلنت تدمر مَمْلَكة مستقِلة عن الرومان والفُرس تقع بينهما، وحمل ابنها «وهب اللات» لقب أغسطس، وسكَّت باسمه عملات تدمرية في أنطاكية والإسكندرية.

وجَّه الإمبراطور أورليان جيوشه باتجاه مملكة تدمر، وهزم جيشها قرب أنطاكيا ثم قرب حمص ثم وصل إلى بالميرا عاصمتها وحاصرها، وحاولت زنوبيا الفرار لكنه ألقى القبض عليها وحاكمها، وحين غادر المنطقة ثارت تدمر مرة أخرى فعاد لها ودمَّرها وحوَّلها إلى قرية صغيرة. وظَل حال سوريا وبلاد النهرين كما هو حتى مجيء دقلديانوس الذي كان حكمه بداية لظهور الإمبراطورية البيزنطية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥