المبحث الثاني

أشكال العبادة الهيلنستية

لم تقتصر العبادة الهيلنستية على الآلهة؛ فقد ظهرت أشكال جديدة من العبادة لم يكن للإغريق عهدٌ بها في سالف عصورهم وهي عبادة الملوك، وعبادة النجوم، وهما عبادتان بجذور شرقية شهدتهما، سابقًا، أرضُ الشرق الهيلنستي.

(١) عبادة الملوك

عرف المصريون تأليه الملوك الفراعنة وعبدوهم، جنبًا إلى جنب، مع الآلهة المعروفِين في الدين المصري، فقد كان الفرعون المصري هو ابن الإله رع (وليس ممثلًا عن الإله رع)، وكان له شَكْل أرضي أثناء الحياة هو الملك حور (حورس) إله الشمس، وشَكْل أخروي بعد الموت هو أوزوريس إله الدوات (العالَم الأسفل) الذي يحكم الموتى.

وكلمة فرعون تصحيف عبري للكلمة المصرية القديمة «فير-أ» أو «بير-أ» (Per-a) التي تعني البيت العظيم، وهو المكان الذي يعيش فيه الرعية ويلجئون إليه. وكان المعنى العميق لهذه الكلمة هو «الذي يعيش فيه الناس»؛ أي «العالم» أو «الكون»، ويأتي هذا التفسير معززًا لفكرة الألوهية التي ارتبطت بالفرعون.

ويرى والس بدج أن الملك كان منحدرًا من إله حَكم على الأرض، فهو إله بالرغم من أن له جسمًا من لحم ودم. وكانت أعمال ومشيئة وأفكار الفرعون هي أعمال ومشيئة وأفكار الإله، وكان يحضر مراسيم تقديم القرابين كإله، بل وإن بعض الفراعنة مثل أمنحوتب الثالث بنَوا لنفسهم ولزوجاتهم معابد كانوا يَتعبَّدون أنفسهم فيها (بدج، ١٩٨٩م، ١٠٠).

(١-١) تأليه الإسكندر المقدوني

أما الإغريق فلم يعرفوا تأليه الملوك أو عبادتهم على الإطلاق، ولم تكن حادثة رفع الإسكندر إلى مصافِّ الآلهة من قِبل العُصبة الكورنثية إلا حادثة سياسية؛ حيث لم تتم عبادة الإسكندر رسميًّا ولم تُنصَب له المعابد، وكانت نوعًا من المركزية السياسية أكثر منها عبادة دينية.

بدأت عبادة الملوك الهيلنستية منذ الإسكندر المقدوني وهو في مصر، وقد اتخذت اتجاهين مختلفين، الأول: تأليه الملوك الإغريق على الطريقة المصرية وعبادتهم كفراعنة جُدد، وبطقوس مصرية قديمة معروفة، والثاني: تأليه الملوك الإغريق على أساس إغريقي وجعْلهم ينتسبون إلى الآلهة الإغريقية على أساس أن هناك بعض آلهة الإغريق المعروفة من أصل بشري؛ مثل: «هرقل، ديونسيوس، برسيوس» فلمَ لا يكون الملوك الإغريق من أصل إلهي؟

سَلك الإسكندر المقدوني المَسلكين معًا، فقد رسَّم نفسه فرعونًا في معبد «بتاح» في منف طبقًا للطقوس المصرية، وأدَّى القرابين فيها للآلهة المصرية؛ ومنها: بتاح وأبيس. وأصبح منذ ذلك الوقت «ابن آمون رع» وهو اللقب الذي كان الفراعنة يحملونه منذ عهد بعيد، ثم أصبح ابن الإله الإغريقي زوس، بل وجمع زيوس وآمون في إله واحد هو «زيوس آمون» الذي أصبح الأب الإغريقي والمصري للإسكندر.

حمل الإسكندر لقب ابن الإله (ابن آمون) فحرَّض على زيارة أبيه الإله «آمون» في واحة سيوة في الصحراء الغربية، فذهب إلى هناك ليتلقَّى من الإله آمون الوحي، وليكرِّس فكرة كونه ينحدر من أكبر الآلهة المصرية مباشرة، وكان قُرْبَ المعبد نبع يسمى «نبع لشمس» وهو الذي كرَّس أسطورة ذهاب الإسكندر إلى «عين حمئة». وفي معبد «آمون» في سيوة دخل إلى قدس الأقداس في المعبد، وعندما خرج قال إنه «سمع ما تمنَّى» ولكنه لم يَبُح بذلك مطلقًا. ومن ثم يتبين أن زيارة الإسكندر لمعبد الوحي في سيوة قد تَمخَّضَت على الأقل عن الاعتراف بأصله الإلهي، وبحقه في السيطرة على العالَم أجمع. ويقال إنه في عام ٣٣١ق.م. جاء منف رسلٌ من مليتوس؛ لينشروا في الناس ما أعلنه وحي برانخيدي من أن الإسكندر قد وُلِد من أبٍ سماوي، ومن أنه سيسيطر على العالَم أجمع، وهذا ما أكَّده أيضًا وحي أرتريا في أيونيا (نصحي؛ ١٩٦٧م، ٣٠).

figure
الإسكندر الكبير وزيوس آمون على قطعة نقد هيلنستية فضية.
ولذلك اعتبر المصريون الإسكندر مثل المخلِّص والمحرِّر، وبناء على اختيار الشعب له كوريث شرعي فقد تم منح الإسكندر التاج المزدوَج للإقليمين، مُتوَّجًا كفرعون في ممفيس في ١٤ نوفمبر ٣٣٢ق.م.؛ وكان ذروة تتويجه في اللحظة التي لقَّبَه فيها كبير الكهنة «ابن الآلهة» حسب تراث يرجع تاريخه غالبًا إلى ٣٠٠٠ سنة مضَت، هذا اللقب أثَّر فيه بعمق، والآلهة الأولمبية أشارت إليه على أنه ابن زيوس، لا بُدَّ أن هذا ملأ عقله حقًّا، وبجانب هذا كان هناك مَشاهد لملك الآلهة آمون «زيوس» يتزوَّج بملكات مختارة مع وريث للعرش! في عالَم حيث يتم تصوير الآلهة ككائنات حية وتُعتبَر جزءًا من الحياة اليومية؛ لا بُدَّ أن الإسكندر بدأ يعتقد في ألوهيته الخاصة حقيقة. (فيلدس، وجوان فليتشر، الإسكندر في مصر، موقع الإسكندرية http://www.alex4all.com/aboutAlex/articl.php?id=114).

وتأكيدًا لهذا سُكَّت العملات النقدية التي تَحمِل صورة الإسكندر بِقرنَي الكبش المقدَّس آمون (فهو كبش لأنه ابن آمون الكبش)، ويرجَّح أن هذه العملة وانتشارها كانت السبب في شيوع صفة «ذي القرنين» المرتبطة بالإسكندر وخصوصًا عند العرب.

وهو كرجل مؤمِن يبدأ كل يوم دائمًا بتقديم القرابين للآلهة؛ فإن الإسكندر لم يجد صعوبة في عبادة الآلهة المصرية، مساويًا آلهتهم بآلهته؛ فقد عبد آمونَ المصري كتجسيد لزيوس، وفي مدينة الموتى ممفايت في سقاره قام الفرعون الجديد بتقديم القرابين إلى الثور أبيس؛ حيوان معبود للإله الخالق بتاح، أعقبه بألعاب إغريقية الطراز، ومسابَقات أدبية، وكان المشاركون فيها من كل أنحاء العالَم الإغريقي يشاركون بروائع أدبية متعدِّدة الثقافات، هذا النوع من الأحداث كان بداية الحضارة الإغريقية؛ حيث مزجوا عادات الإغريق بالتراث المحلي، وامتزجت الثقافتان المصرية واليونانية معًا بنجاح للقرون الثلاثة التالية.

figure
تقديم القرابين إلى الثور أبيس.
حتى مع الاهتمام بمناقشة الفلسفة التي يعتقد الإغريق أنها بدأت في مصر؛ فإن الإسكندر حضر محاضرات ألقاها الفيلسوف المصري بسامون، وكان موافقًا بإخلاص على تعليمه أن «كل البشر خاضعون للإله؛ لأنه في حالة العنصر يفرض نفسه ويصل للهيمنة يكون إلهًا.»، كما أن الإسكندر أضاف من تجاربه الشخصية أنه بينما الإله هو حقًّا أبو كل الجنس البشري، «فإن الأنبل والأفضل هو الذي يختصه لنفسه» (بلوتارش)؛ (فيلدس، وجوان فليتشر، الإسكندر في مصر، موقع الإسكندرية http://www.alex4all.com/aboutAlex/articl.php?id=114).

وهكذا شاع عن الإسكندر في كل الإمبراطورية المقدونية بأنه إله ابن إله، ليس في مصر فحسب وليس كإله مصري بل كإله عالمي وفي جميع البلاد الإغريقية؛ ولهذا السبب قامت عصبة كورنثة برفع الإسكندر إلى مصافِّ الآلهة عام ٣٢٤ق.م. تصديقًا لِما حصل له في مصر، ولما شاع عنه كإله ابن إله. ويجب أن لا نهمل مَغزى هذه الحادثة العميق؛ فقد افتتح العصر الهيلنستي زمنه بظهور إله مُرسَل من أبيه الإله السماوي ليخلص البشري، وهو ما سيكون صَداه مدوِّيًا فيما بعد، وستتناسل هذه الفكرة بقوة حتى تصل إلى ذروتها في الديانة المسيحية، وحينها يكون الإسكندر المقدوني قد اختفى ونُسِي، ولا بُدَّ من مجيء مخلِّص جديد يكون أيضًا ابنًا لإله سماوي وهو ما حصل مع المسيحية بالضبط. ولذلك — فضلًا عن التخريجات الروحية والفلسفية — ظهر التوحيد بسبب تأليه الإسكندر واعتباره ابنًا للإله السماوي، وكانت الهيلنستية حاضنته.

في الشهرين اللذين قضاهما «كإله حي» في القصر الملكي في ممفيس؛ أخذ يدرس القوانين المصرية والعادات المصرية في المقام الأول؛ أعطى أوامره بإحياء مراكز العبادة المصرية، والتي شملت معابد الأقصر، والكرنك العظيمة بالجنوب، وكان يظهر في صحبة الآلهة المصرية مُرتديًا الرداء المصري التقليدي، ويشمل قرون الكباش لآمون كما ارتداه أسلافه الفراعنة ومِن ضمنهم أمنحوتب الثالث، وقد عبَّر المصريون عن حبهم وتقديرهم للإسكندر بعمل تماثيل تذكارية تُجسِّده في كل أنحاء مصر؛ مع اسمه الإغريقي المترجَم إلى الهيروغليفية مُحاطًا بالإطار الملكي: «حورس – الحاكم القوي – الذي يهيمن على أراضي الغرباء، المحبوب من آمون والمختار من رع» (فيلدس، وجوان فليتشر، الإسكندر في مصر، موقع الإسكندرية http://www.alex4all.com/aboutAlex/articl.php?id=114).
figure
تتويج «الإسكندر الأكبر» وتقديسه للإله «آمون».

وقد دعاه هذا إلى أن يكون إلهًا إغريقيًّا في بلاد الإغريق؛ ولذلك اعتُبر هناك كابن للإله زوس، أما في بلاد فارس فلا نملك دليلًا على كونه كان إلهًا أو ابن إله فيها، لكن الأساطير الإغريقية التي كانت تحتفظ بتقديس عالٍ لمعبد آمون سيوة، وتعتبره مكان نبوءة عظيم يقارع دلفي تحدثت عن أن اثنين من أبطال الإغريق «من أصل إلهي» هما برسيوس وهرقل قد سَلكَا السبيل إلى معبد آمون سيوة. وقد تَشبَّه الإسكندر بهما إغريقيًّا ومصريًّا … بطلًا وإلهًا في الوقت نفسه.

ولعلها كانت ترجع إلى الوقت الذي أقام أثناءه في مصر وقدم فيه الضحايا لآلهتها، وانتهى بزيارة معبد آمون في سيوة، حيث نال لقب ابن الإله آمون. وربما لاحت له عندئذ فكرة إله واحد، يحكم السماء والأرض، وجميع الناس على حد سواء، وفكرة دين واحد يجمع بين كافة شعوب الأرض. وبلوتارك، الذي يصف زيارة الإسكندر إلى معبد آمون في سيوة، ينقل خبرًا مُؤدَّاه أن الإسكندر كان قد اجتمع في مصر برجل من كبار مفكريها، وأعجب برأي لهذا المفكر، بأن الإله هو ملك الناس أجمعين، ما دامت الفئة الحاكمة فيهم صادرة عنه وحاملة لطبيعته. ويضيف بلوتارك لذلك «أن الإسكندر نفسه عبَّر عن هذا الرأي تعبيرًا فلسفيًّا، فقال إن الإله أب مشترَك لجميع الناس، وإن كان يَعتبِر الفاضلين من بينهم أبناءه الأخصاء» (بلدي، ١٩٦٢م، ٦٦).

إن فكرة الإله الأب ستجد صداها لاحقًا وستكون ركيزة غُنُوصِية ومسيحية مهمة، وبذلك يكون الإسكندر قد فتح ثغرة في السماء تصل الإله بالبشر من خلاله هو الذي نعتبره مُخلِّصًا بل نعتبره وحيًا مجسدًا … هذا ما سيمهد لفكرة الصلة الحية بين السماء والأرض.

ولهذا التحول أعراض ومراحل، نَبَّه إلى أهمها المؤرخ الإنجليزي المعاصِر وليم تارن William Tarn، في بحث قدَّمه إلى المجمع البريطاني في عام ١٩٣٣م. وكان رأي تارن أن كلمات الإسكندر عن إله هو أب لجميع الناس ولأفاضلهم بوجه خاص — إذا صحت نسبتها إليه في نصها أو في مضمونها على الأقل — لها صدًى واضح عند ثيوفراسطوس تلميذ أرسطو وخليفته في رياسة المدرسة، والذي قال: «إن اليونان والشعوب التي تُسمَّى بربرية هي جميعًا من عنصر واحد، وإن أهل هذه الشعوب أقارب يرجعون إلى أصل واحد وإله واحد هو إله الأرض والسماء معًا» (بلدي، ١٩٦٢م، ٦٧).

استحوذت فكرة المملكة السماوية الواحدة والإله الواحد الأب الذي له ابن إلهي واحد على أذهان الإغريق والشرقيين في العصر الهيلنستي.

ويستشهد تارن بعد ذلك بمشروع لأليكزارك (Alexarque)، شقيق كساندر (Cassander) المقدوني، وهو ابن أنتيباتير (Antipater)، نائب الإسكندر في مقدونيا. رأى أليكزارك أن يُنشِئ — في جزء من جزيرة أتوس التي منحها إياه شقيقه — مدينة صغيرة سماها أورانوبوليس؛ أي مدينة السماء، أرادها أن تكون مدينة عالمية مصغرة، وسمَّى سكانها الأورانِيِّين؛ أي أولاد السماء. ورأى أن يتخذ لتلك المدينة لغة عالمية. وكان يبدأ خطاباته إلى الملوك بالعبارة «سلامًا يا أيها الحكام الإخوان». ذلك ما دام جميع مواطِني العالَم أبناء السماء وبالتالي إخوة فيما بينهم (بلدي، ١٩٦٢م، ٦٨).

بل إن الأمر يتخطى ذلك حين نعرف أن هناك من الفلاسفة والمفكِّرِين مَن كان يرى أن أصل الآلهة جاء من البشر «وهي فكرة معاكسة لفكرة الإسكندر كابن للإله السماوي الأب»، وبذلك نَكون قد كسرْنَا الحواجز تمامًا بين أن يكون الإنسان إلهًا أو أن يكون الإله إنسانًا، وهذا يُقرِّب صورة المزاج الديني في العصر الهيلنستي.

يذكر تارن — أخيرًا — فكرة لإيفيرنيرس (Evehrners) من أتباع كاساندر المذكور، مُؤدَّاها أن للآلهة أصلًا واحدًا: كانوا بَشرًا، وأصبحوا آلهة لبطولتهم. وكان أقدم هؤلاء الأبطال رجلًا اسمه أورانوس، كان يعمل كل يوم على ارتقاء جبل من الجبال، لكي يتأمَّل من قمته السماء وأفلاكها. وعندما عرف هذه الأفلاك، وتبيَّن حركاتها، ونظام تلك الحركات، رأى أن يُقدِّم لها القرابين والضحايا. وهكذا بدأ الدِّين دِينًا فلكيًّا، وكان أول الآلهة ومثالهم الأعلى أورانوس؛ أي السماء والأفلاك مجتمعة. ويدل هذا الموقف في نظر تارن على أمرين: أولهما أن آلهة المدينة اليونانية كانوا في ذلك الوقت في تدهور مستمر، وإلا لَما صرَّح أحد المقرَّبِين من الحكم بهذا الرأي الذي يُقرِّر لآلهة اليونان أصلًا بشريًّا. والأمر الثاني هو أن فكرة إله للسماء، يكون أول الآلهة وأعظمها، كانت فكرة سائدة في هذا العصر، خارج محيط الفلاسفة والمفكرين المتخصصين أنفسهم (بلدي، ١٩٦٢م، ٦٨).

وهذه الفكرة تُعزِّز ما ذهبْنا إليه من أن الإله آنو وهو إله السماء في وادي الرافدين (وهو مرادف لأورانيوس عند الإغريق) أصبح يُعبَد بقوة تحت هاجس التأثيرات الهيلنستية الجديدة.

(١-٢) تأليه الملوك البطالمة

أعلن بطليموس الأول — بعد توليه حكم مصر ومُلوكِيَّتها عام ٣٠٥ق.م. — عبادة الإسكندر الأكبر عبادة رسمية في مصر.

هدف بطليموس منه إعطاء مدينة الإسكندرية عاصمة مملكته مهابة دينية؛ لأنها تحوي ضريح الإسكندر الأكبر مؤسِّس الإمبراطورية المقدونية. ولهذا بنى ضريحًا هو «السوما» وسمَّى الشارع الرأسي الرئيسي في الإسكندرية باسم شارع السوما (النبي دانيال)، وأعلن بطليموس عيدًا قوميًّا لتأسيس مدينة الإسكندرية، وهو الخامس والعشرين من شهر طوبة الموافق ٢٠ يناير عام ٣٣١ق.م. حيث تقام الاحتفالات والمآدب والمهرجانات، أما أساس عبادة الإسكندر فهي تقوم على أساس عبادة البطل، الذي عاد إلى آبائه الآلهة بعد موته، وهي انعكاس لعبادة وتقديس الموتى عند الإغريق من ناحية، ومن ناحية أخرى عرفت الديانة المصرية عبادة الفرعون الذي يُقدِّم نفسه قربانًا لافتداء شعبه، ودرْء الخطر عنه، ولهذا وصف الإسكندر بأنه الروح المباركة (Agathodaemon)، والروح الخيرة (Agathe-Tyche) التي كانت تُصوَّر في شكْل حية. وأغلب الظن أنها خصائص دينية مُترجَمة عن المصرية كان يُوصَف بها الفراعنة بعد موتهم (الناصري، ١٩٩٢م، ١٣٤-١٣٥).

وقد مهَّد بطليموس، بهذا الإجراء، لعبادته هو، وتأليه والديه، وكونه سليل الآلهة وليس البشر، وبمجموعة إجراءات غير مباشرة شملت الإسكندر وعائلته ليبدو وكأنه وريث الإسكندر.

فبنى في الكرْنَك مقصورة لفيليب أرهيدايوس وهو يتعبَّد إلى جحوتي أو «تحوت» رب المعرفة، وأقام في بهو الأعمدة تمثالًا للإسكندر مع روكسانا، وصوَّر نفسه على إحدى البوابات وهو يتعبد أمام «موت» ربة السماء، وزوجة آمون ووالدة خونسو، وكان هذا هو ثالوث طيبة. كما ظهرت معه زوجته وهي تَعزِف الهارب، وبناته وهن يَدقُقْنَ الطبول لطرد الأرواح الشريرة، بينما كان هو يهز السستروم (Sistrum) المقدَّس، كل هذا تم بالشكل المصري ومن أجل تَملُّق الكهنة، ومشاعر المصريين الدينية، كما حرص على حضور الاحتفالات الدينية مثل عيد «سيد» (عيد التتويج)، ورمَّم المعابد الشهيرة في صعيد مصر وفي الدلتا؛ والتي كانت تَعرَّضَت للنهب أو للدمار … ووصف بطليموس نفسه بأنه محبوب آمون، وحمَل الألقاب الملكية الخمسة، التي كان يَتلقَّب بها الفراعنة، وبوضع اسمه في «خرطوش» على طريقة الفراعنة، لكنه حرص على ممارسة حقوقه كاملة كفرعون مصر (الناصري، ١٩٩٢م، ١٣٥).
وفي عام ٣٠٨ق.م. حرَّر بطليموس جُزر الكيكليدس من حكم أنتيجونس، فقامت عُصبة الكيكليدس بمكافأة بطليموس على تحرير جُزرهم ورفعوه — لأول مرة — على مصافِّ الآلهة، لكنها لم تعبده إلا فيما بعد باسم «الإله المنقذ» Soter (إبراهيم نصحي، ١: ٧٨).

ويبدو أن ذلك حصل في عام ٢٠٥ق.م. عندما أطلق على نفسه لقب ملك وأصبح يسمى «الملك الإله ابن الإله».

وهكذا نشأت عبادة الملوك رسميًّا عندما أعلن بطليموس الثاني تأليه والديه بطليموس الأول وزوجته تحت لقب «الإلهين المنقذين»، وأصبحا يُعبدان مع الإسكندر الأكبر، ثم زاد بطليموس الثاني على ذلك عندما أعلن أخته وزوجته أرسينوي الثانية إلهة رسمية قبل وفاتها باسم «الإلهة المحبة لأخيها»، ثم رسَّم بطليموس الثاني نفسه إلهًا فعُبِدا معًا كما عُبِد هو وحده.

وكان زواج الأخ من أخته يعتبر فسقًا في نظر الإغريق، لكن هؤلاء بدَءوا يكتسبونه من مصر التي يُعتبَر فيها زواج الفرعون من أخته شرعيًّا حفاظًا على نقاوة الدم الملكي.

وبعد بطليموس الثاني قام الملوك البطالمة جميعهم بتأليه أنفسهم مع زوجاتهم تحت أسماء مختلفة؛ مثل: الآلهة الأخوة (Adephoi)، والآلهة الصالحون (Eurgetae)، والآلهة المحبون لأبيهم (Philopatres)، والآلهة المحبون لأمهم (Philomatres)، والآلهة المتجلُّون (Epiphanes)، والإسكندر (Alexander) … إلخ.

وكان لهؤلاء الملوك المؤلَّهِين كهنة متخصصون بعبادتهم، وربما كانت لبعضهم معابد خاصة يُعبَدون فيها.

لكن بطليموس الرابع خطا خطوة جديدة في عبادة الملوك فقد كان، على ما يبدو أحد مريدي إحدى العبادات السرية، وهي عبادة الإلهة سيبيل (كيبلي Cybele)، وقد سمَّى نفسه باسم «جالوس Gallos» وهو اسم كهنة هذه الإلهة الفريجية الأصل، وكانت تختلطُ بعبادة هذه الإلهة عبادة الإله ديونسيوس إله الخمر واللذة والشهوات، ولذلك جمع تَصوُّف بطليموس الرابع الزُّهد واللذة معًا في عقيدة واحدة … وكان بطليموس الرابع من أشد المتحمِّسين لعبادة الإله ديونسيوس وادَّعى أنه ينحدر في سلالته من هذا الإله، بل وذهب إلى أبعد من ذلك عندما ادَّعى أن شخصية هذا الإله تتمثَّل فيه؛ فاتخذ لقبًا رسميًّا آخر هو «ديونسيوس الجديد Neos Dionysos» كما فعل فيما بعد ذلك بطليموس الثاني عشر (الزمار) أب كليوباترا السابعة.
ويبدو أن البطالمة منذ بطليموس الثالث ادَّعَوا أنهم أبناء وأحفاد الإله «أدونيس Adonis» الذي هو الشكل الفينيقي للإله دويونسيوس، كما أنه إله إغريقي قريب من ديونسيوس ومن أفروديت … ويبدو أن نديمه أجاثوكلس كتب تعليقًا عليها، علمًا أن بطليموس الرابع اتخذ لقب المحب لأبيه، وكان تلميذًا للعالِم الكبير أراتوثينس والفيلسوف الرواقي سفايروس، وهو خليل عصبة اللذة المكونة من «إخوان الأنس» أجاثوكلس، ومحظية أجثاوكليا، وأمهما أوينانثي.

(١-٣) تأليه الملوك السلوقيين

لم يتردَّد الملوك السلوقيون في جعْل عبادة الملوك سُنَّة أساسية في نظامهم الديني والسياسي، لا على أساس ما نَهلوه من تراث الأمم القديمة التي استوطنوا أرضها؛ مثل: بابل وفارس وسوريا، بل على أساس العدوى التي دَبَّت فيهم مِمَّا فعله الإسكندر الأكبر والبطالمة بعدَه.

فنحن نعلم أن بابل وفارس وسوريا لم يكن لها إرث ديني يجعل من الملك إلهًا كما هو الحال عند المصريين؛ إذ ربما ظهر طغاةٌ في هذه البلدان ولكن لم يظهر ملوك متألِّهون.

ويبدو أن أنطيوخس الأول هو أول من أدخل عبادة الملوك إلى الدولة السلوقية فلَقَّب نفسه المخلِّص أسوةً بلقب بطليموس الأول في مصر، علمًا أن كلمة المخلِّص وفلسفة الخلاص ودياناتها ومذاهبها كانت سِمة العصر الهيلنستي.

ادَّعى الملوك السلوقيون أنهم انحدروا من الإله «أبولو»، واتخذوا لهم ألقابًا دينية إلهية تقترب من الألقاب البطلمية الدينية للملوك؛ مثل: يوباتر، أبينانس، ثيوس، ديونسيوس، بالاس … إلخ.

وفي برجام كان الملوك يُعبَدون أثناء حياتهم لكنهم لا يُؤلَّهون بطريقة رسمية إلا بعد موتهم؛ أي إن عبادة الملوك في حياتهم كانت ذات طابع سياسي، وبعد مماتهم ذات طابع ديني.

وفي مقدونيا لم يُعبَد الملوك كآلهة إلا في بعض المدن الإغريقية القليلة انطلاقًا من فكرة أن بعض آلهة الإغريق الكبرى؛ (مثل هرقل وديونسيوس وربما أبولو) كانوا من أمهات بشريات؛ ولذلك تألَّه الإسكندر، وبطليموس. وظهرت عبادة الملوك عند الإغريق الإيتليين بشكل واضح.

(٢) عبادة النجوم (القضاء والقدر)

إذا كانت مصر مصدر عبادة الملوك فإن بابل كانت مصدر عبادة النجوم؛ حيث ظهر عِلمَا الفلك والتنجيم في وقت مبكِّر جدًّا من حضارة وادي الرافدين؛ فقد شهدت عصور النيوليت، والكالكوليت بدايتهما، ولكن سومر أعطَت البعد العلمي للفلك وأصبح التنجيم معتنيًا بربط النجوم بمصائر الناس. وكان السومريون يرون أن العالَم الذي نحنُ فيه ما هو إلا صدًى أو تكرار لنموذج سماوي إلهي سبَق ظهور عالمنا الأرضي والإنسان.

وكان التنجيم السومري يَستمِد من فكرة العود الأبدي جوهر فلسفته؛ إذ طالما كانت السماء تحتفظ بالنموذج المثالي للأحداث، فإنه يمكن اعتبار أي حدَث يجري في السماء بمثابة إشارة من ذلك النموذج المثالي الذي يمكن تفسيره من قِبَل الإنسان، ولذلك اعتبرت حركة النجوم وتغيُّراتها مؤشِّرات على تَغيُّرات في حياة الناس ومصائرهم وبصفة خاصة الملوك والمدن والدول (الماجدي، ٢٠٠٣م، ٦١).

وقد طوَّر البابليون عِلْمَي الفلك والتنجيم وظهَرت الأبراج السماوية في بداية الأمر كخريطة لخطوط الطول والعرض السماوية، لكنها أصبحت بعد ذلك تنجيمية تَربِط حركة النجوم بمصائر الناس وأقدارهم. ورغم انتعاش الفلك في بابل الكلدانية بعد سقوطها على يد الفُرس إلا أن التنجيم كان يَتعاظم دوره شعبيًّا وكان الناس يَتعلَّقون به؛ حيث كانت ألواح الفلك والتنجيم مظهرًا مهمًّا من مظاهر الحضارة العلمية في بابل سَحر الإغريق لزمن طويل.

(٢-١) الفلكيون والمنجمون الكلدانيون

  • (١)
    كدينو (Kidinnu) الذي أصبح اسمه من بين أسماء الأعلام التي تسمَّى بها الإغريق تيمنًا به بعد أغرقة الاسم الشرقي إلى شكل إغريقي وهو كندينياس Kindenieas، Cidenas وقد عاش في حدود ٣٧٩ق.م. في بابل، وكان رئيسًا للمدرسة الفلكية في شيبرا.

    اكتشف تبادر الاعتدالين، ووصف بطريقة رياضية حركات كل من القمر والكواكب، وقد تم إطلاق اسم كيدينو على إحدى مناطق الجانب الآخر من سطح القمر.

    وضع جداول أكثر دقة من جداول الفلكي الكلداني الآخر نابو ريمانو، «فلم تزد أرقامه التي بيَّن بها الوقت اللازم لدورة الشمس والقمر السنوية عن ثانية واحدة من الوقت الحقيقي. بل إن بعض حساباته لدورة الأجرام السماوية تُعَد أكثر دقة وصدقًا من الأرقام التي كان يستخدمها الفلكيون المُحدَثون إلى عهد قريب، ويرجع الفضل في ذلك إلى أن الفلكي الكلداني كان تحت تصرُّفه سجلات عن الأرصاد القمرية خلال فترة ثلاثمائة وستين سنة، وهذا لم يتيسر لأي عالِم فلكي مُحدَث، وأثبت كدينو أيضًا أن هناك اختلافًا بين طول السنة الذي يقاس بين الاعتدالين وبين قياسها على أساس الوقت بين مرتين لاقتراب الأرض إلى أدنى بُعْد ممكن من الشمس» (برستد، د.ت، ٢٣٦).

  • (٢)
    نابوريمانو (Naburimannu، أو Nabu-ri-man-nu Nabu-rimanni) (نابو ريمانو) الذي تحوَّل بالإغريقية إلى اسم نابوريانوس (Naburianus)، وباللاتينية (Nabourianos).

    عاش حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، وقد استطاع أن يجمع الإرصادات التي سبقَتْه بحوالي ربع قرن ويستخدمها في وضع جداول لحركة الشمس والقمر اليومية والشهرية والسنوية، «كما أرَّخ وقت كسوف الشمس، وخسوف القمر، ولأوقات وقوع بعض الأحداث الفلكية الهامة. لقد حسب طول السنة بثلاثمائة وخمسة وستين يومًا وست ساعات وخمسين دقيقة وواحد وأربعين ثانية. وهذا الجدول الزمني الذي وضعه نابوريمانو كان أقدم بحث علمي ذي قيمة إنشائية في عِلم الفَلك، وحَوى عظمة لم يصل إليها العقل البشري من قبل» (برستد، د.ت، ٢٣٥).

(٢-٢) العلوم البابلية في العصر الهيلنستي

  • (١)
    الجغرافيان ديونيسيوس (Dionysios)، وزميله إيسيدوروس (Isidoros)؛ (أي عطية إيزيس)، اللذان كانَا من خندق سباء وسين (Charax Spaosinou) (مدينة المحمرة الحالية على الشاطئ الشرقي لشط العرب شمال الخليج العربي).

    ومن أعمال عالِم الجغرافيا الإغريقي الشهير بطليموس، يتَّضِح لنا أن الإغريق قد نَقلوا آخِر ما توصَّل إليه العلم البابلي في مجال الفلك ومُراقبة الكواكب والنجوم، وأضافوا ذلك إلى ما كانوا يُلمُّون به، لكي يُخرجوا علمًا جديدًا مكتملًا في العصر الهيلنستي، والفَرق الوحيد بين العِلم البابلي والعلم الإغريقي أن الأول كان يهدف للممارسة والتطبيق النافع، من أجل حاجاتهم إلى المعرفة القومية بالمواقيت والتواريخ في ضوء مسار القمر ومنازله ومواقع الأجرام السماوية وتحركاتها، بينما كان هدف الثاني هو التنظير المنطقي المجرَّد؛ أي وضْع نظريات وتفسيرات فيزيائية وديناميكية، تشرح تحرُّكات الأجرام السماوية من أجل غرض فلسفي واحد، وهو البحث عن مصدر القوة المحرِّكة التي تتحكم في الكون (الناصري، ١٩٩٢م، ٣٦٥).

  • (٢)
    المؤرخان: أجاثوكليس البابلي Agathocles Babylonios، أبولودوروس الأرتيميتي (Artemita).
  • (٣)

    الحساب والرياضيات في بابل:

    وفي مجال عِلم الرياضيات الحسابية أخذ الإغريق عن البابليين النظام السِّتيني والسداسي، ثم بَنَوا عليه حساب المثلثات الذي نعرفه الآن (Trigonometrical)، وعن البابليين أيضًا أخذ الإغريق علم الظواهر والعلامات الكونية (Brontologia)، وعلم رصد مسارات ومنازل القمر (Selenodromia)، وعلم الظواهر الكونية عبارة عن رصْد يقوم على الملاحَظة للظواهر الطبيعية؛ مثل: الرَّعد، البرق، الأعاصير، الكسوف، الخسوف وتحرُّكات القمر، كما أخذوا أيضًا عن البابليين معرفة الطالع عن طريق التنجيم، وأضافوا إليه ما توصَّلوا إليه عن طريق قدراتهم، بل حاوَلوا تنظيره ووضع قواعد ثابتة له، فالنص المتعلِّق بمستقبل الإنسان طبقًا لبروج السماء، والذي دُوِّن عام ٢٣٥ق.م. كتبه ونسَّقه إغريقي بعد أن استشار أحد كهنة المعابد في بابل (الناصري، ١٩٩٢م، ٣٦٥-٣٦٦).

    كل هذه العلوم البابلية أحدَثت تغييرات هامة في العلوم والفلسفة الإغريقية، لكن التنجيم فاز بمكانة شعبية استثنائية، وأثَّر في مَجرى تطوُّر الأديان الهيلنستية المختلطة.

وهكذا استقرت فلسفة التنجيم، التي وضَعَت لكل إله كبير نجمًا أو كوكبًا سيَّارًا، على أساس التقابُل والتوافُق، وأن السموات من فوق والأرض من تحت شقيقان متكاملان «فما كان يحدث في العالَم النجمي كان يُعاد إخراجه على الأرض، وهذا هو الأمر الحيوي في الموضوع. بيد أن حركات العالَم النجمي ثابتة، فإذا كان هناك إذن تقابلٌ، فكل ما يحدث على الأرض كان ثابتًا كذلك، والحال بالمِثل بالنسبة لأفعال الناس أيضًا فهي ثابتة؛ وذلك لأن الإنسان إنما هو «كون مصغر»، فهو الشقيق المُكمِّل للعالَم الكبير، وروحه شرارة من تلك النار السماوية التي تتوهج في صفحة النجوم.» (تارن، ١٩٦٦م، ٣٦٧).

من هذا المنطلق قام البابليون بتطوير فكرة «القضاء والقدر»؛ أي فكرة «الجبرية والقدرية»، وأن الإنسان محكوم بقدَر مُحكَم لا يستطيع الفِكاك منه وعليه أن يخضع، وهو المذهب البابلي المُسمَّى القدر المقدَّر أو القضاء المحتوم (Heimarmene) الذي يتحكم بالنجوم والأرض والناس، وهو المذهب الذي سبَّب للإنسان عذابًا كبيرًا بسبب خنوعه وتدمير حركته.

ربما عرف الإغريق مبادئ أولية بسيطة عن الفَلك وقياسات النجوم الرياضية قبل العصر الكلاسيكي لكنهم لم يسمعوا بالتنجيم إلا حوالي ٤٠٠ق.م. من خلال اتصالهم ببابل وعلومها. لكن بيروسوس (برعوشا) وهو الكاهن البابلي الهيلنستي هو الذي جَلب إلى الإغريق حوالي ٣٨٠ق.م. أصول هذا العلم وطرائقه.

إنه بالقدر الذي تأثَّر الفَلك اليوناني بالفَلك البابلي واعتنى به إلا أن التنجيم البابلي كان له، هو الآخر، سطوة كبيرة على الناس والملوك، بل إنه تفوَّق على الفلك وهزَمه عند نهاية القرن الثاني قبل الميلاد. واستمر التنجيم قويًّا في الشرق الروماني وفي روما نفسها.

وفي الإسكندرية أخذ التَّنجيم الهيلنستي شكله المتكامل عندما استنبَت علماء الإسكندرية له جذورًا مصرية نسبوها لملك مصري أسطوري هو «نخيبسو» وكاهنه «بيتوسيريس»، ومن الإسكندرية انتشر التنجيم إلى عالَم البحر المتوسط كله.

وزحفت مع التنجيم الأرقام السومرية والبابلية المقدَّسة الفلكية والتنجيمية ٣٦٠ يومًا، ٣٦ جزءًا في الجسم المحكومة من قِبَل الشياطين، والاثنا عشر برجًا وشهرًا وغيرها. والأرقام ٧ ومضاعفاتها، وكأن هذه الأرقام هي مسيِّرات القدَر، وكانت الكواكب السيارة السبعة (الشمس، والقمر، وعطارد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل) هي التي تشرف على مصائر الناس وتحكم عروش الملك، ونشأ من رقم «٧» السومري/البابلي سمواته السبع، وأرضه السبع، وأعماره السبعة، وأبواب الجحيم السبعة، وعجائب العالَم السبع (الهيلنسلوقية) (مكاوي، ١٩٩٩م، ١٧٤).

وكانت علامات البروج تحكم الأرض ومواقع المدن، فقد شَهدَت صور بعض العملات «بأن أنطاكية ونصيبين كانتَا تحت سيطرة بُرج الحمل، والرها تحت سيطرة بُرج الدلو، وأن سنجارا وريساينا تحت برج القوس، ولكن الذي كان يهم الناس هو أن مصائرهم كانت ثابتة منذ الولادة بفضل نجومهم، كما أن المنجِّم المُقتدِر كان يستطيع أن يتنبأ لهم بالمستقبَل عن طريق حساباته لطوالعهم» (تارن، ١٩٦٦م، ٣٦٩).

figure
الشمس (هيلوس) بعربته تتوسط علامات البروج الاثني عشر (قطعة موزائيك هيلنستية من بيت ألفا في شمال فلسطين من القرن السادس الميلادي).

كان التنجيم في جوهره يعني إنكار وجود الآلهة أو الإله الواحد؛ لأنه كان يُؤكِّد على أن العالَم يُسيِّر نفسه بنفسه بآلية ميكانيكية تعمل وفق قوانين منطقية لا يتدخل فيها أحد أو إله.

وهكذا تطوَّر التنجيم إلى القول بأن معرفتنا بجزء من الكون «مثل النجوم» يُعرِّفنا تلقائيًّا بأجزاء أخرى منه «مثل الأرض ومعها الإنسان»، فإذا صادَف ميلاد الإنسان في برج كوكب مُعيَّن فإن السائل الأثيري (الهواء) الذي يرسله الكوكب صوب الأرض يُؤثِّر في الطفل الوليد ساعة مولده وفي مستقبَل أيامه وليس هناك أي مكان لوساطة الآلهة أو للإرادة الحرة، وحظ الشخص محدَّد مثل حركة السموات نفسها (مكاوي، ١٩٩٩م، ١٧٤).

ومن الزودياك البابلي وضَع الإغريق الزودياك الإغريقي الهيلنستي الذي شاع وانتشر والذي نعرفه اليوم.

figure
الزودياك (دائرة البروج) الهيلنستي.

وهكذا كان لا بُدَّ من عبادة هذه الكواكب والنجوم سواء باعتبارها آلهةً أو باعتبارها أجرامًا سماوية تُشرِف على مصائر الناس، لم يَعُد هناك فرقٌ في أن تكون آلهة أو أجرامًا، المهم أن مَلَقها وعباداتها كانت مدعاة لولادة أديان جديدة مثل «دين حرَّان» الغريب الذي كان كوكبيًّا تمامًا وهو دِين هيلنستي بابلي الأصول.

وكان أقصى ما يستطيع المرء هو أن يتحاشى بعض النتائج المترتِّبة على قيمة القدَر، كأن يختار موعدًا مُعيَّنًا لعمل بعينه تكون فيه الأجرام السماوية تُرسِل تأثيرات طيبة مُؤاتِية إلى الأرض، أو أن يسعى للخلاص من الحظِّ وقيمة القدر بالبحث فيما وراء الطبيعة للهرب من العبودية إلى القدر. إن المعرفة كانت الحرية والاندماج في الخالِق، كانت تعني الهروب من ضَعف الصورة المادية للوجود البشري (مكاوي، ١٩٩٩م، ١٧٤).

كان الفلك والتنجيم فاعِلين في التأثير على الفكر القديم بعامة، والأديان والفلسفة بشكل خاص، وخصوصًا في العصر الهيلنستي؛ فقد أحدث انقلابًا في التصورات الكونية والقدرية للإنسان.

ولا بُدَّ من التنويه بأن التنجيم تسرَّب إلى الفلسفات الهيلنستية وخصوصًا الرواقية بسبب في تشابُه النظامين الفكريين لهما «إذ كان كل منها يرى أن العالَم وحدة متكاملة مؤلَّفة من كائنات عضوية، وتَحكُمها قوة واحدة قادرة على كلِّ شيء، ويربطه بعضه مع بعض شيء يُسمِّيه الرواقيون التعاطُف ويسميه البابليون التقابل، وكان كلٌّ منهما يرى أن الإنسان عالَم مُصغَّر وأن روحه شرارة من النار الأثيرية، وتدمير العالَم وتجديده بشكل متطابِق عند نهاية كل حقبة عالمية، كان شيئًا مشتركًا بين الطرفين على نحوٍ ما» (تارن، ١٩٦٦م، ٣٧٠).

وقد رأى زينون أن الفارق بين الرواقية والتنجيم هو أن الرواقية ترى أن القضاء والقدر عند الرواقيين هو نوع من العِناية الخلقية، وهذه العناية هي التي خلَقت النجوم، بينما كان التنجيم البابلي يرى أن القضاء والقدر أمرٌ مقدور ولا علاقة له بأي اعتبارات خلقية؛ أي بعبارة أدق أن القضاء والقدر عند الرواقيين إيماني أما عند التنجيميِّين فمُلحِد.

لكن التنجيم والعرافة وَجدَت صداها الأكبر عند آخِر المفكرين الهيلنستيين الكبار وهو «بوسيدونيوس Posidonus» من أباميا في سوريا (١٣٥–٥١ق.م.) الذي يُمثِّل العقل الهيلنستي الشامل والذي تجتمع فيه النقائض، وكان شيشرون الروماني تلميذًا له، وقد جمَع في فلسفته بين الأفلاطونية والرواقية، وظهر في «صورة صاحب العقل المزدَوج، الذي يقف بين الشرق والغرب وينتهل منها جميعًا، وفي صورة الفيلسوف والعالِم والمُنجِّم والمتصوف الشرقي إلى غير ذلك من نعوت، وأنه مستحدِث نظام فلسفي عظيم جمع بين جميع نزَعات الزمان المتداوَلة؛ العلم منها والخرافة، وعبادة النجوم والعبادة الشعبية، والسماء والأرض، والناس والآلهة والشياطين» (تارن، ١٩٦٦م، ٣٧٢).

(٣) عبادة الحظ

كان أقوى رد على عقيدة القضاء والقدر هو عبادة الحَظ، والصُّدفة، والفُرصة المواتية المنفلتة من صَرامة الأقدار. وإن كان القضاء والقدر يُشكِّل مع الحظ كلًّا واحدًا إلا أن القضاء والقدر يُمثِّل الجانب السلبي الاستسلامي، بينما يُمثِّل الحظ الجانب الإيجابي المُقتَحم.

figure
تخطيط الإلهة تايكي.
وكان الحظ يُؤمِن أمام جبروت القدرية، بأن هناك إلهًا مساعدًا للإنسان يُمكِن أن يعينه لانتهاز الفرصة، بل ويُوفِّر له هذه الفرصة. وكان هذا الإله عامًّا تَجسَّد بصورة أنثوية لكل إنسان على شكل الإلهة «تايكي Tyche».
figure

تَطلَّع الإنسان إلى السماء فوجَد أن ظهور المُذنَّبات فيها لم يكن يخضع لحركة النجوم والكواكب وهو شكْل من أشكال الصُّدفة أو الانخطاف «فكأنه وجَد أشياء أخرى تعمل عملها بجانب الدوران الثابت للأجرام السماوية، وفي مقابِل ذلك أدْخَل التَّنجيم نفسه عناصر كثيرة غير منطقية تمامًا، وقد استطاع أن يضمَّ الحظ إليهن، وما لبث أن أخرج من جعبته مذهب «الفرص»؛ أي الاقترابات المحظوظة للكواكب التي قد ينتهزها الجَسور» (تارن، ١٩٦٦م، ٣٧٤).

figure
أترغاتس تايكي النبطية مُحاطة برموز البروج (زودياك) من الأردن/القرن الأول الميلادي.

وتهاوَت قِيم الاعتدال وبزغَت صورة الإسكندر المقدوني وهو يختطفُ فرصة سطوعه إمبراطورًا وإلهًا متوَّجًا … ثم سطعَت صورة قُواده وهم يَتناهَبون إمبراطورية مثل الذئاب … لم يَعُد هناك قانون إلهي يحكم الناس بالعدل، ولم يَعُد هناك اعتقاد صارم بالقدَرية، بل برزَت وَمْضة الحظ مثل أمَل بارِق للبعض وسط العالَم القديم المنهزم.

والآلهة التي حكَمَت في الماضي، سواء بَعَدل أو بغير عدل، أصبحَت لا شيء إذا قُورِنت بالحظ «تايكي» وباللاتينية «فورتونا» الذي يلعب بأقدار الرجال كالأطفال، ويقلب الأشياء رأسًا على عَقِب دون توقُّف، والتايكي (الحظ) ماكر كما أنه غير منطقي، فكان الرجال تَمحوهم الأحداث بدون أن يجدوا مساعَدة من العقائد القديمة، ولم يكن في مقدور المُدن الدول القديمة إلا أن تدعو من أجْل خلاصهم، ومِن هذا توجَّه الناس بصلواتهم إلى الحظ (تايكي) وجَعلوا منه إلهتهم الحامية في عديد من المدن الجديدة في الشرق (مكاوي، ١٩٩٩م، ١٧٢).

وإذا كان التنجيم قد نشَّط العرافة العملية التي كان يقيمها الإنسان كمادة مختبرية لإجراء عمليات العرافة والتنبؤ بالغيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥