العقائد الدينية الفلسفية
مثلما تهاوَت آلهة الأولمب الإغريقية، وغزَت الهيلنستية آلهة جديدة ومركَّبة من الشرق والغرب، كذلك تهاوَت الصروح الكبرى للفلسفة الإغريقية ولم تعد هناك فائدة تُرجَى من أفلاطون وأرسطو — كما هما — لحل المشكلات العقلية والروحية والأخلاقية التي ظهرَت في المرحلة الهيلنستية.
لم تظهر فلسفات كبرى جديدة تُقارِع أساطين الفلسفة الإغريقية أو تحل محلها، بل ظهرت أنماط فلسفية كان يمكن أن تُعدَّ هامشية لو أنها ظهرت في العصر الكلاسيكي.
ونستطيع أن نميِّز حقلين كبيرين ظهرت فيهما هذه الأنماط الفلسفية: الأول احتوى الفلسفات العملية الأخلاقية النزعة والمُشتَقة مباشرة من الفلسفة اليونانية، ويمثلها تياران متعارضان هما: «الأبيقورية» ذات النزعة الحسِّية و«الرواقية» ذات النزعة التصوفية والشَّكِّية لبيرون. أما الحقل الثاني فقد احتوى الفلسفات الدينية التي حاولت التوفيق بين الدين والفلسفة، والمُشتقَّة مباشرة من فيثاغورس وأفلاطون، وهي: الفيثاغورية الجديدة، والتأويلية لفيلون، والأفلاطونية الجديدة لأفلوطين.
داخل هذه التدرجات اللونية لصلة العقل بالروح، والمادة بالمثال، والحس بالذهن، ظهرَت العقائد الفلسفية الهيلنستية، وأثَّرت كثيرًا على المعتقدات الدينية في عصرها، بل إننا نزعم أن انعطافة شاملة في تاريخ الأديان قد حصلت أثناء وبعد المرحلة الهيلنستية، فقد ضمرت عبادة التعدد الإلهي، واكتنز حجم اللاهوت قياسًا إلى الميثولوجيا، واتَّجهَت الأديان نحو التَّفريد والتوحيد بدلًا من التعدُّدية.
(١) أولًا: الفلسفات العملية الأخلاقية
(١-١) الأبيقورية Epicureanism
مثلما ظهر شوبنهاور بفلسفة الإرادة العملية أمام الهرم الفلسفي الذي اجتهد هيغل في بنائه ليشمل تاريخ الفلسفة كلها، ظهر أبيقور بفلسفة اللذة العملية أمام الهرم الفلسفي الذي اجتهد أفلاطون في بنائه ليشمل تاريخ الفلسفة الإغريقية الذي سبقه.
كان شوبنهاور ينافح بكلام بسيط مسلات الهرم الهيغلي في القرن التاسع عشر، وكان أبيقور قد فعل مثله أمام مسلات المُثل الأفلاطونية في القرن الثالث قبل الميلاد.
وُلِد أبيقور في ساموس (٣٤١-٢٧٠ق.م.) من أب أثيني، وأنشأ مذهبه الفلسفي المعروف ووضع له حوالي ثلاثمائة مؤلَّفٍ، وعددًا من الرسائل، لكن هذه المؤلَّفات فُقِدَت جميعها ووصلتْنَا بعض مُقتطَفات من كتابه «حول الطبيعة» ولخَّص لنا الشاعر «لوكريس» مذهبه في كتابه «طبيعة الأشياء».
أنشأ أبيقور مدرسته في أثينا حوالي عام ٣٠٦ق.م. وكانت تُسمَّى «حديقة أبيقور» وكان طلابه من الرجال والنساء المتعلمين يدرسون فيها تعاليمه وممارسة حياة اللَّذة حسب المذهب الأبيقوري.

بدأ أبيقور متأثرًا بفلسفة ديمقريطس، ونمَت عنده فلسفة الشك بالأديان والفلسفات السابقة، وقد أدرك أن العقبة التي تعترض سعادة الإنسان هي خوفه من الآلهة ومن الحياة الآخرة، وأن الفلسفة يمكنها أن تُخلِّصنا من هذا الاعتقاد ومن الخوف، وهكذا أدرك أبيقور بحس بسيط أن الفلسفة يمكنها أن تتصدَّى للأديان القديمة وتُوقِف تأثيرها، وهذا ما حصل بالفعل.
قام أبيقور بتطوير مبدأ اللَّذة هذا، وتجاوز المعنى الحسي إلى المعنى العقلي والوجداني؛ فقد رأى أن اللذات قصيرة العمر وأن بعضها يُفضي إلى الألم والأذى ولذلك نادى الأبيقوريون أخيرًا بالابتعاد عن اللذات المادية وعدم السعي وراءها حتى لا يكون هناك قلَق وتوتُّر واضطراب. وهكذا أصبح الخير عندهم يتمثل في الطمأنينة وهدوء البال، وأن اللذة يجب أن تؤدي إلى هذا الأمر لا إلى إشاعة البلبلة في الحواس، وهو ما أدى بالأبيقورية إلى الانقلاب ضد مبادئها في نهاية الأمر؛ فقد وجدَت أن الشعور باللامبالاة والزهد والعزلة هي الأمور الواجب اتباعها لنشدان السعادة الروحية والعقلية.
تنقسم الفلسفة عند أبيقور إلى ثلاثة أقسام؛ هي: المنطق أو العلم القانوني، والطبيعة، والأخلاق. وغاية الفلسفة تحرير الإنسان من الأوهام الميتافيزيقية والأخذ بيده إلى حياة الهدوء والسلام والسكينة عَبْر اللذة العقلية أولًا، والحسية غير المصحوبة بألم.
في حقل المنطق (العلم القانوني) يميل أبيقور إلى نقد المعرفة الأرسطية، ويرى أن هناك أربعة أنواع من المعرفة؛ وهي: «الإحساس، التصوُّر، الانفعال، التخمين». ويرى أن الإحساس هو اصطدام ذرَّات مادية صادرة من الجسم المادي الواحد أو من مكوناته بأعضاء حواسنا. وهذه الذرات الصادرة من الأجسام هي قشور رقيقة تنفصل من سطوح الأجسام وتتحرَّك بسرعة في الخلاء محتفظة بصور الأشياء المنبعثة منها ومن ثَمَّ فهي «أشباه» لها. حتى إذا ما صادَفت الحواس وبلغت القلب أحدثت الإحساس، ويمتلئ الهواء بأشباه لا تُحصى عددًا، ماضية وحاضرة، وهذه هي مصدر خيالات اليقظة والمنام. (أبو ريان، وعطيتو، ١٩٩٩م، ٢١٣-٢١٤).
أما التصورات فتنشأ من تكرار الإحساس الذي تنفذ منه إلينا صور خيالية تتحول إلى أفكار أو تصورات نوعية بفعل الذاكرة. ثم يحصل انفعال اللذة والألم. ويرى أن الأمور التي نعجز عن الإحساس المباشر بها يمكن معرفتها عن طريق التخمين (أو الحدس)، مثل الذرات كأساس للوجود الطبيعي، والخلاء كشرط للحركة، ولا نهائية المادة.
وإذا كان الإنسان يرى أن مشكلته الأساسية هي العمل على تحرير نفسه من القلق والاضطراب فعليه أن يتجنب الخوض في البحث عن وجود عقل في الكون يكون سندًا للإنسان ويصبح الإنسان خاضعًا لقوانينه، ومن ثَم يبذل جهده لمعرفة هذه القوانين لتكون أساسًا نظريًّا لسلوكه (أبو ريان، وعطيتو، ١٩٩٩م، ٢١٥-٢١٦).
قام أبيقور بتحرير الإنسان من خوفه الوهمي من الآلهة، بأنه لم ينكر وجودهم، بل دورهم في الأمور التي تهم الإنسان، وجعلهم يعيشون في بطالة دائمة أبعدت صفة ما فوق الطبيعة، وأناط كلَّ شيء بالمصادفة، واعتبر الأجساد والأرواح مجرَّد كتل وذرات، ويستلزم الموت في نظره انحلال الكتل. فليس بالتالي من حياةٍ ثانية ويجب أن يزول الرعب الذي توحيه، كما يجب أن يزول الرعب الذي يوحيه الآلهة (إيمار، ١٩٨١م، ٥٣٣).
كانت إلهيات أبيقور ضعيفة؛ فهو ليس ملحدًا، ولكنه يرى أن الآلهة كائنات سعيدة مغتبطة، تحيا في طمأنينة، ولا يعكر صفوها معكِّر، لكننا نعتقد خطأً أن هذه الآلهة تهتم بشئون البشر، وتعلن عن مشيئتها بالنُّذُر فتمتلئ حياتنا مِن ثَم بالخرافات والأباطيل، فنقدِّم لها الأضاحي والقرابين — وقد تكون أحيانًا من البشر — لنسألها مَدَدها أو رضاها، والحال أن هذه المعتقدات باطلة (برهييه، ١٩٨٢م، ج٢، ١١٨).
وهكذا يسلك أبيقور مسلك أرسطو عندما يقطع الصلة بين العالَم الإلهي والعالم المادي والبشري، فكذلك أرسطو لا ينكر وجود الآلهة لكنه يرى أنها لا تتدخل في عالمنا. وهكذا يتوغل أبيقور في فَهْم عالَم المادة أولًا في حقول الطبيعيات والأشياء، ثم يتوغَّل في فَهم عالَم الإنسان في حقل الأخلاق. ويرى لوقراسيوس بأنه من التجديف على الآلهة أن نعزو إلى إرادة هذه الكائنات الكاملة عالمًا زاخرًا بضروب النقص وألوان البؤس، وينبغي الامتناع عن الإقرار بأي دور للآلهة كما للنفس — إن في مجال الكونيات وإن في مجال الطبيعيات — فالآلهة مجبولة من مادة نقية خالصة، تحيا في ملاذٍ من الصدمات في الفواصل بين الأكوان، لا يتطرق إليها الفساد؛ لأنها مصونة من عِلَل الهدم، تزجي حياتها في طمأنينة وغبطة كاملتين، والتأمل في حياتها هذه هو التقوى الوحيدة التي تليق بالحكيم (برهييه، ١٩٨٢م، ج٢، ١١٨-١١٩).
يرى أبيقور أن الإنسان، في بداية حياته وقبل أن تفسد ميوله، يطلب اللذة متَى ساوره ألَم أو حاجة، جوع أو عطش، وحالما يزول الألم، لا يعود يطلبُ شيئًا. يترتب على ذلك أن أعلى درجات اللذة كما تَتعيَّن بالطبيعة، إن هي إلا حذف الألم. ومتى حُذف الألم أمكن للذة أن تتنوع، لكن ليس أن تزيد؛ لأن اللذة الحقة هي لذة ساكنة (برهييه، ١٩٨٢م، ج٢، ١٢١-١٢٢).
وقد قسم أبيقور اللذات إلى ثلاث فئات: (أبو ريان، وعطيتو، ١٩٩٩م، ٢٢٤).
-
(١)
لذات صادرة عن نزعات طبيعية ضرورية كلذَّة الطعام والشراب، وعلى الحكيم أن يُرضي هذه النزعات فهي التي تحفظ حياته.
-
(٢)
لذات صادرة عن نزعات طبيعية غير ضرورية كلذة الأكل الدسم المُترَف، وعلى الحكيم أن يُوازِن بين هذه اللذات الوسطى ويتحاشى الانزلاق مع بعضها؛ فيصبح عبدًا لها.
-
(٣)
لذات صادرة عن نزعات غير طبيعية وغير ضرورية، وتنشأ في النفس بتأثير ظن مزعوم كَلذَّة المال والمناصب، والحكيم يقهر هذا النوع من اللذات ويرفضها برغم أن غالبية الناس يقبلون عليها.
واللذة ليست في حقيقتها شيئًا غير زوال الألم؛ فهي حالة استمتاع بالتوازن فإذا زال الألم مطلقًا حصلَت النفس على لذَّتها العظمى.
عاصرت الأبيقورية الفلسفة الرواقية التي تقف بالضد من تعاليمها، والتي حدَّت من انتشارها والأخذ بتعاليمها … كما وقفَت المسيحية — لاحقًا — بالضد من الأبيقورية لنكرانها القدرة الإلهية، واعتمادها على اللذة الحسية أساسًا في تعاليمها، في حين كانت المسيحية تدعو إلى الزهد في الدنيا وعدم الانغماس في اللذات المادية. كان مبدأ اللذة ذا جذور في الفلسفة الإغريقية عند «أرستبوس القورينائي» وهو فيلسوف إغريقي عاش في ليبيا في مدينة قورينة (تسمى حاليًّا شحات)؛ فهي ذات أصول إغريقية مشرقية سبقت الهيلنستية وكان يرى أن اللذة غاية الحياة وجوهرها وهي الخير الأسمى في الحياة؛ ولذلك أصبح الألم شرًّا يجب الابتعاد عنه. وتبدأ اللذة عنده من أدنى صورها الإشباعية الحيوانية حتى صورها العقلية الراقية.
وهكذا طوَّر المشرقيون في العصر الهيلنستي الأبيقورية، وأصبحَت مرتبطة بهم «وكما ابتكر فلاسفة الشرق الفلسفة الرواقية الإنسانية العالمية للإغريق، فقد ساهموا أيضًا في تطوير الفلسفة الأبيقورية، فنسمع عن أعلام الأبيقورية الجديدة؛ مثل: زينون الصيداوي الأبيقوري في القرن الثاني ق.م. وعن ديوجين الطرطوسي الأبيقوري. هذه الفلسفات التي ابتدعها أو طوَّرها الشرقيون كانت العلاج الروحي والفكري للقلق النفسي، والظلم الاجتماعي، الذي ساد بلاد الإغريق في الغرب، فقدَّم فلاسفة صور، وصيدا، وطرسوس، وسلوقية دجلة؛ العلاجَ الشافي لأزمات الغرب. فقد دعَت الرواقية إلى المساواة بين البشر، والزهد في متاع الدنيا، وحب الواجب، وبشَّرَت بالتصوف، وكبح جماح النفس، كعلاج للجشع المادي، والتكالب على الثروة، واستبدال ذلك بإمتاع النفس بالمعرفة؛ لأنه الإمتاع الذي لا يتبعه ألم، بينما نادَت الأبيقورية بالتحرُّر من الخوف، والاستمتاع بقدر الإمكان بحياة الدنيا، قبل الرحيل إلى عالَم غير معروف (الناصري، ١٩٩٢م، ١٠٦).
(١-٢) الرواقية Stoicism
الرواقية معاصرة للأبيقورية ومعارضة لها، أسَّسها زينون القبرصي الذي وُلد في بلدة كيتوم في قبرص (٣٢٢–٢٦٤ق.م.) وكانت أسرته من التجار المنحدِرين من أصل فينيقي، درس الفلسفة في أثينا على يد الأرسطيين، والميغاريين، والكلبيين، ثم تعلَّم الفلسفة في رواق في أثينا؛ ولذلك سُمِّي أتباعه بالرواقيين نسبة إلى مكان اجتماعهم.

نظرَت الرواقية إلى العالَم منظَّمًا من قِبَل فِعل إلهي، أما الإنسان فهو عالَم صغير مُنسجِم مع الكون، مركَّب من جسد تغلغلَت فيه روح هي نفثة نارية مُتجملة بالذكاء. فتطابق تأكيد الكائنات هذا والتفاؤل المُطلَق؛ إذ كل شيء فيه يناسب تسلسلًا عقليًّا؛ ولذلك فهي لم تُوصِ باللامبالاة حيال الشئون السياسية (إيمار، ١٩٨١م، ٥٣٤).
إن منهج الرواقية يقوم أساسًا على أن العلوم تُدرس من ناحية منفعتها العملية وحسب، وتكون الحكمة العملية فضيلة الفضائل حيث يحيا الحكيم ويعمل وفقًا للعقل، والعقل بدوره مطابق للطبيعة. فالفضيلة مطابقة للحكمة والفلسفة، والعلم هو الخير الأسمى وهو الغاية القصوى للحياة.

(أ) الطبيعة والله
يفسر الرواقيون الطبيعة، والنفس، والمكان، والزمان، والفكر تفسيرًا ماديًّا؛ فهم يرون أن الجسيمات هي الحقائق وحْدَها، فالأجسام والإنسان بل والألوهية ذاتها مؤلَّفة من مادة، وحتى الصِّفات التي نقول نحنُ إنها غير حِسيَّة، هذه الصفات مؤلَّفة من الجسيمات، ومن تيارات هوائية تنفذُ خلالها وتمنحها التوتُّر والتماسك. وحالات النفس، والخلاء، والمكان، والزمان، والفكر هي الأخرى أجسام أيضًا (أبو ريان، وعطيتو، ١٩٩٩م، ٢٣٨).
ورأى الرواقيون أن المادة وحْدَها تكون بلا صفات، أما الصفات والأشياء المُشتقَّة من القوة المعقولة المسماة باللوجوس فهي التي تنفذ خلال المادة.
الله يَنفذ خلال جميع الأشياء كالنفس أو كالنار الصناعية التي تُحْيِي الأشياء. وكما أن النفس تنتشر في جميع أجزاء الجسم، ومع ذلك يكون لها مركز مُعيَّن تُشرِف منه على سائر أنحاء الجسم كالقلب، مثلًا، كذلك فالله على الرغم من أنه موجود في كلِّ جزء من العالَم إلا أنه يحتل مكانًا يسيطر منه على الوجود بأكمله، وفي رأي زينون أن هذا المركز هو الشمس، وعلى رأي آخَر هو عند الدائرة الأخيرة الخارجية للعالَم، ومن مركزه يبدأ انتشاره في سائر أنحاء الوجود (أبو ريان، وعطيتو، ١٩٩٩م، ٢٣٩).
ليس الكون تحقيقًا ناقصًا واحتماليًّا ومتقلقلًا لنسق رياضي ما، وإنما هو نتيجة عِلَّة فاعلة بموجب قانون حتمي. بحيث يستحيل أن يقع أي حدث من الأحداث إلا كما وقع فعليًّا. فالله، ونفس زوس، والعقل، وضرورة الأشياء أو حتميتها، والناموس الإلهي، وأخيرًا القدر؛ كل ذلك عند زينون واحد. (برهييه، ١٩٨٢م، ج٢، ٦٩).
يبدو لنا الله، عند الأفلاطونيين، بعيدًا، وعند الأرسطيين منقطعًا عن العالَم، أما عند الرواقيين فيظهر حالًّا في كل شيء، فهو لوغوس الأشياء المادية وهو النار التي تعمل على توليد الأشياء.
إن يكن إله أرسطو والأفلاطونيين هو الإله المتسامي لثيولوجيا ذات طابع علمي، فإن إله الرواقيين هو موضوع تقوى ذات طابع إنساني. ويرون أن الأدلة كثيرة تقول بوجود مهندس معمار للعالَم، بوجود عقل غير مماثل لعقل البشر، وإنما أعلى منه. وكل هذه الثيولوجيا الشعبية تفترض علاقات مباشرة وخاصة بين الله والبشر، بينما لا تتناول الثيولوجيا لأرسطور — طاليسية أو الأفلاطونية — سوى علاقة الله العامَّة بنظام العالَم، لا العلاقة الخاصة بالإنسان. (برهييه، ١٩٨٢م، ج٢، ٧٣).
(ب) أدوار الخليقة الرواقية
يرى الرواقيون أن الإله خلَق العالَم في أدوار متعاقبة أوَّلُها دور العناصر الأربعة؛ حيث حوَّل جزءًا من البخار الناري، الذي تتكون منه ذاته، إلى هواء ثم إلى ماء، ودفع بجزءٍ من الماء ليتحوَّل إلى أرض، وجزء رفعه إلى أعلى ليتحول إلى نار.
وبعد الدور الأول يأتي الاحتراق العامُّ بالنار حيث تنصهر العناصر الأربعة في كتلة ضخمة من البخار الناري التي تُضاف على ذات الإله «زوس» كما نعتقد.
ويأتي الدور الثاني لينفصل من هذه الذات الجديدة عناصر أشد تركيبًا ذات طبيعة نارية، وهوائية، وترابية، ومائية، ثم تحترق هذه الأشياء في النار الكلية لتعود إلى ذات الإله … وهكذا.
وتخضع حركة العالَم في كل الأدوار لقانون واحد، وتَحدُث في كل دَوْر الأحداث والأشخاص كما حدثَت في الأدوار السابقة بتفاصيلها. فهناك ضرورة مُطلَقة وارتباط ضروري بين العِلل والمعلولات يَفرِض نفسه على الحوادث، وهذا هو مضمون ما يسمونه «القدر» والعناية الإلهية، فتضع الإرادة الإنسانية لهذه الحتمية المُطلقة، فالفرد حُر في أفعاله؛ لأن رغباته هي التي تُحدِّد فعله، وهو حُر في أن يفعل ما رسمه له القدر، ولكنه سيفعل حتمًا ما رسمه له القدر رغم كل الظروف. (أبو ريان، وعطيتو، ١٩٩٩م، ٢٤٠).
ولا بُدَّ من التنبيه إلى أن الرواقية كانت إحدى أهم مصادر الغُنُوصِية بالإضافة للأفلاطونية، لكننا لا نرى أن الأفلاطونية الحديثة كانت مصدرًا للغُنُوصِية بل العكس هو الصحيح؛ لأن الأفلاطونية الحديثة ظهرت متأخِّرة بالنسبة للغُنُوصِية وحملت أفكار الغُنُوصِية وهياكلها في نشوء العالَم ونزول وصعود الروح.
(١-٣) الشَّكِّية Scepticism
قدم الشكاك من جذور هيلينية تكمن عند بارمنيدس، وهيراقليطس، والسُّفِسطائيين الذين أوضحوا بأسئلتهم العنيدة تبايُن المذاهب والأخلاق، وفتحوا الأبواب أمام الشك والشكَّاك، «ولم يكن الشاكُّ نافيًا متهكمًا كالسُّفِسطائي، ولكنه رجل مغلوب على أمره، فَقَد الإيمان بالحق والخير في بيئة تَبلبَلت فيها الأفكار، وفسدت الأخلاق إلى حدٍّ بعيد، فانعزل في نفسه لا يُوجِب ولا ينفي، وإنما يقول: لا أدري. ولم يكن كالسُّفِسطائي مزهوًّا بِفَنِّه طالبًا للمال، ولكنه كان جادًّا، مُعرِضًا عن متاع الدنيا، أقرب في أخلاقه إلى الرواقية منه إلى الأبيقورية» (كرم، د.ت، ٣٤).
وظهرت تيارات للشكية: الأول قاده بيرون ويُسمَّى الشك الخُلقي، والثاني قاده أركسيلاوس ويُسمَّى الشك الاحتمالي، والثالث هو الشك الجَدَلي، والرابع هو الشك التجريبي.
(أ) الشك الخُلقي: بيرون

ومثلما اتخذنا من أعلام الأبيقورية «أبيقورس» والرواقية «زينون» مادةً للحديث عن مذهبيهما، كذلك نتخذ من بيرون الذي عاصرَهما مادةً للحديث عن مذهب الشَّكِّية أو الشكاك.
رأى بيرون أن معرفتنا للأشياء قائمة على الحس أولًا، وشكَّك في إمكانية الحواس في نقْل الأشياء كما هي؛ لأنها تُظهر الأشياء كما تبدو لها لا كما هي في الواقع. أما معرفتنا العقلية فتعتمد على هذه الحواس وهي بالتالي غير يقينية. وفي مجال الأخلاق رأى أنها نِسبِية، وأن الناس يأخذونها من الأعراف والتقاليد التي كوَّنوها هم لا غيرهم؛ ولذلك فهي مقبولة هنا ومرفوضة هناك.
والحقيقة أن الحقل الأخلاقي للشكِّية كان هو الأوفر حظًّا رغم أن حقلها الديني كان معروفًا، ويؤكد على الشك في وجود الآلهة وقُدرَتها على التدخل في حياة الإنسان. وقد استمرت المدرسة الشكِّية في مهاجمة الأديان الهيلنستية، وهاجمت المسيحية في بداية ظهورها حتى تمكَّنت المسيحية من هزيمتها. كان الشُّكَّاك يؤدون شعائر الوثنية وهم لا يؤمنون بصدقها، بل وكانوا أحيانًا يقومون بوظائف الكهنة دون أن يكون لديهم برهان على بطلان مسلكهم إزاءها!

فيما يَروِي عنهم سكستون أمبريكوس نفسه، فيعترف بأنهم لم يصادفوا الله في خبرتهم ولا يعرفون عن طبيعته شيئًا، ومع هذا يؤمنون به على طريقة غيرهم من الناس، من غير أن يكابدوا عَناء البحث عن حقيقته، وذلك التماسًا لراحة البال وطمأنينة النفس (الطويل، ١٩٨٥م، ١٤٢).
وشرعت المدرسة الارتِيابِيَّة، مع بيرون الذي تتبع الإسكندر في حملته على آسيان، في الحثِّ على دستور حياتي، فشدَّدَت على اتزان الروح في الأخطاء، والخضوع للعادات، وعدم الاضطراب، وهناءة الحياة. وأعلن الارتِيابِيُّون (الشُّكَّاك) أن الحُكم يخطئ كما تخطئ الحواس. لذلك يجدر إرجاء الحُكم والاعتصام بالصمت أمام منازعات الفلاسفة (إيمار، ١٩٨١م، ٥٢٣).
(ب) الشك الاحتمالي: أركسيلاوس (٣١٦–٢٤١ق.م.)
قاده في الأكاديمية الجديدة في أثينا وكان يرى بأن العقل محدود وأن التصورات التي نمتلكها متغيرة «فليست لدينا وسيلة للتمييز بين الفكرة الحقيقية وغير الحقيقية، وليس هناك علامة للحقيقة. وإذا كانت التصورات سواءً، كانت الحكمة في تعليق الحكم على الشيء في ذاته. غير أن من الآراء ما يبدو معقولًا، ومن الأفعال ما يبدو مستقيمًا، هي تلك التي يمكن الدفاع برهانًا على مطابقتها لحقيقة ممتنعة الإدراك» (كرم، ب. ت، ٢٣٦).
(ﺟ) الشك الجدلي: أناسيداموس وأغريبا

أقام أناسيداموس — بين أوائل القرن الأول قبل الميلاد وأواخر القرن الأول بعده — الشك على أساس علمي، وأسند بالحجج ووقف ضد الشك الاحتمالي الذي رأى أنه متناقض، فبينما يرى عدم تحقُّق الأشياء كان يُفرِّق بين الاحتمال وعدم الاحتمال، والخير والشر وغير ذلك، ورأى أن الشُّكَّاك لا يوجبون ولا يسلبون أصلًا. وضع أناسيداموس عشر حجج علَّق فيها الحكم على المحسوسات، ووضع ثلاث حجج علَّق فيها صواب العلم.
أما أغريبا فوضع خمس حجج علَّق فيها الحكم على المعرفة واليقين. وهكذا وضعَنَا الشك الجدلي في دوَّامة سُفِسطائية لا نهاية لها.
(د) الشك التجريبي: سكستوس
كان سكستوس الأمبريقي موسوعة في الشك، ولكنه حوَّل الشك من عِلم إلى فَن، وتحديدًا إلى فَن سلوكي في الحياة، ويرى أن الشَّاكَّ يجب أن يهجر الفلسفة ويعود إلى الحياة، ورأى أن عليه «أن يتعلم القراءة والكتابة دون التفات إلى فقه اللغة، ويتعلم الكلام دون التعرض لعلم البيان، ويستخدم العدد دون الخوض في علم الحساب، وينبئ بالمطر والصحو والزلازل بناءً على الملاحظة الصِّرفة دون نظر إلى علم الفَلك أو علم التنجيم، ويُطبِّب دون ادعاء معرفة ماهيات الأمراض وتعيين عللها» (كرم، ب.ت، ٢٤١).
وما يهمنا في الموضوع أن المدرسة الشَّكية وضعَت المعتقدات الدينية في إرباك الشك، وساهمت في زعزعة اليقين بوجود وفاعلية الآلهة القديمة، ولكنها من ناحية أخرى قدَّمَت خدمة جليَّة للعلم في إنعاشها الجدل حول الثوابت التي كانت مسيطرة عليه.