الفلسفات الدينية الهيلينية المنشأ
(١) التوحيد الفلسفي الأفلاطوني

نرى أن الفلسفة اليونانية الكلاسيكية كانت قد أرْسَت نوعًا من التوحيد الفلسفي الذي كان مصدر التوحيد الغُنُوصي والتوحيد الهيلنستي بشكل عام والذي نَتج عنه، في نهاية الأمر، التوحيد الإلهي الظاهري الذي هذَّب اليهودية وصنع المسيحية وكان الإسلام آخر ثمراته. ورغم أن جميع فلاسفة الإغريق ساهموا في بناء التوحيد الفلسفي، لكن أفلاطون ينفرد في وضع هيكلٍ تَراتُبي مُقنِع نشأت عنه كل حركات التوحيد اللاحقة والغُنُوصِية بشكل خاص.
كان أفلاطون مصدر الأفكار المثالية والروحية لفلاسفة العصر الهيلنستي، فهو سبب نشوء التوجهات التي اعتنت بالنفس والروح وخلودهما. لكن الشرق كان التربة الخصبة للعودة إلى هذه الأفكار الروحية، وإعادة إنتاجها بنُسْغ ديني شرقي.
لن نُخالِف الحقيقة إذا قلنا إن أفلاطون كان توفيقيًّا في منهجه فهو يُوفِّق وينسق مناهج مَن سبقوه ولا يَجِد فيها تعارضًا، بل يراها مجموعة من الحقائق الجزئية التي تحتاج إلى جمْع، وتنسيق، ووضْع هيكل شامل لها، وهذا ما فعله أفلاطون حين جمع موضوعات الفلاسفة الإغريق الذين سبقوه وعاصروه في هيكل فلسفي واحد أصبح هو الهيكل الأفلاطوني في الفلسفة، والذي يحتوي على رياضيات فيثاغورية، وتغيُّر هيراقليطي، ووجود بارمنيدي، وجوهر ديموقريطي، وعناصر أنبيديقلية، وعقل أنكسوراسي، وجدلية سقراطية. ولذلك نرى أن أفلاطون كان شخصية نموذجية بالنسبة للعصر الهيلنستي الذي امتاز بالتوفيقية في منهجه.
ويمكننا القول إن أفلاطون لعب أكبر الأدوار في تطوير الأديان القديمة وتهذيبها؛ فقد كان فيلسوفًا يميل إلى الجوهر الديني، ولعله كان المُحفِّز على التوحيد بصورة غير مباشرة؛ فقد كان له أكبر الأثر في إعادة هيكلة العقائد الدينية المتعدِّدة الآلهة باتجاه العقائد العِرفانية كالهِرْمِسية والغُنُوصِية بشكل خاص.
يضع لنا أفلاطون (٤٢٧–٣٤٧ق.م.) ما يشبه الميثولوجيا الفلسفية في مُحاورة «تيماوس» بشكل خاص ينظر فيها على طريقة الفلسفة للخليقة والتكوين؛ ولذلك سنسعى هنا إلى محاولة الكشف عن هيكل أفلاطون التكويني لمعرفة فكره الديني العميق الذي تحتويه فلسفته المثالية. يتكون هيكل أفلاطون التكويني من ثلاث طبقات هي: «الله، الطبيعة، النفس».
(١-١) الله
نستطيع، بشيء من الحذر، أن نقول بأن أفلاطون كان موحِّدًا، ولكن توحيده كان مشوبًا ببعض أفكار التعدُّد. لكنه نزَّه الخالق الواحد تنزيهًا عظيمًا؛ فهو يرى أن الله، واحد، عاقِل، مُحرِّك، يُمثِّل الخير والجمال والحق بأقصى صورها كمالًا، وهو بسيط لا تَنوُّع فيه، كله في حاضر مستمر.
يمكننا القول إن أفلاطون هو مؤسِّس التوحيد الفلسفي الذي كان له أكبر الأثر في نشوء التوحيد الغُنُوصي والذي أثَّر في أجيال الفلاسفة الهيلنستيين، كان لتصور بارمنيدس عن الله أثرُه الكبير في رسم صورة الله عند أفلاطون، كان أفلاطون مؤمنًا بوجود إله متعالٍ بعيد غير قابل للوصف أسماه «الواحد»، و«الخير»، و«الحق». وكان يراه وحدَه لا شريك له، ولا بداية له ولا نهاية ولا وسط؛ ولذلك فهو غير محدود، وهو ممتنِع عن الوجود في مكان أو زمان، وهو ليس بساكن أو مُتحرِّك.
«نفس عالمية» تحرك العالم، نفس تتأمل المثل، عقل إذن ينظم العالم. إن هذه النفس هي إله العالَم وقانونه ومبدأ الحياة فيه. أما النفس في حياتها الإنسانية، فوظيفتها مرسومة أمامها وكذلك مصيرها. عليها تأمُّل الأفلاك، ومعرفة حركتها ونظامها وقوانينها. ومصيرها — تبعًا لهذا التأمل — هو محاكاة النفس العالمية، ومحاكاة العقل المُدبِّر للعالَم والمنظِّم له. تعرف الإله، فتتشبَّه به وتحيا حياة الآلهة.
وفي كتاب النواميس (القوانين) يرى أفلاطون أن للإلحاد مصدرين أساسيين: الأول يأتي من الفلسفة الطبيعية حيث يرى الماديون أن العالَم والنفس هما من حركة المادة غير العاقلة، والثاني يأتي من السُّفِسطائيين الذين يرون أن الإنسان هو الذي وضَع مبادئ الأخلاق وليس هناك خير بذاته وشر بذاته (أي إنها نسبية)، وبذلك لا يرجعونها إلى الله ولا يرون أن الشر هو خير أقل. السؤال الأهم في مبحثنا هو هل عَبَّر أفلاطون عن الله باعتباره فكرة أم باعتباره وجودًا؟ وهل كان يقصد بذلك التوحيد أم كان يعنى الآلهة المتعدِّدة؟
هذا السؤال في رأينا هو الأهم، ونرى أنه لم يكن موحدًا بالمعنى المتداوَل والمعروف ولكنه كان موحدًا بالمعنى الفلسفي؛ فهو قد وضع الله في قمة هيكله المثالي، باعتبار أن العقول تتطلع إليه، وأنه لا بُدَّ لهرمه المثالي من قمة يقع عليها واحد مُنزَّه، وهو نموذج أو عِلة نموذجية تُحتذى، وهو الجمال والخير من حيث هو علة غائية تُحَب وتُطلَب. وعنده أن آلهة الميثولوجيا (التي يسخر منها في الخفاء) مدينة للصانع الواحد الذي خلَقها، وجعلها خالدة وكذلك آلهة الكواكب.
وهكذا فإن صِفات الواحد مَيَّزها أفلاطون بحسب المناسبات، وكان همه موجَّهًا لوضع المذهب الروحي (المثالي) ضد الطبيعيين والسُّفِسطائيين، ولم يكن لمسالة التوحيد في أيامه مثل ما صار لها من الأهمية فيما بعد، فلما أحل الأعداد محل المثل في دروسه الأخيرة عبَّر عن الله بالواحد أي بالعدَّد واحد «الواحد بالذات».
يرى أفلاطون أن العالَم تولَّد من انتقال من الفوضى إلى النظام بتدخُّل من إله فاطر، وقبل هذا التدخل كانت حالة الفوضى السابقة هي من المقام الأول مسرح «الضرورة»، وهي ضرورة غاشمة، وعلة تائهة، وغير خاضعة لأي اعتبار غائي، والخالق أو الفاطر هو في المقام الأول خالق نفس العالم، والنفس هي مبدأ الحركة. ويرى أن نفس العالَم سابقة على الجسم الذي يقيم فيه، والذي قُدر لها أن تُنفخ فيه الحركة والحياة.
(١-٢) الإله الصانع (الديميورج)
الله إذن عند أفلاطون أزلي أبدي، وهو منزَّه عن الحركة تنزيهًا مطلقًا، وكان مع الله صورته منذ الأزل وهو كائن يدعى «الديميورج»؛ أي الصانع، هو «صورة الخير»، أو صورة الله، وكان الديميورج النموذج الحي بذاته وهو الحاوي لجميع المُثل التي كانت الصور النموذجية لأشياء لم توجد بعد فهي أشبه بمخططات نموذجية لها.
وكان من الطبيعي أن يتأمل الله في ذاته؛ لأنه تعالى خيِّر. وكان من الطبيعي أن يريد بعد ذلك صنع عالمٍ خَيِّرٍ على مثاله. فأوكل هذه المهمة للديميورج الذي هو الإله الصانع أو الخالق، فقام الديميورج وصنع من المادة ورتب في عالَم الحس ترتيبًا متوافقًا مع الخير الأعلى، وحوَّله إلى النظام الذي تسمح به طبيعته. وأول ما ظهر من تأثير الديميورج، هو نفس العالم، ثم ظهر بعد ذلك جسمه والمُثل في نظر أفلاطون هي ماهيات الكائنات والوجود الحقيقي لها.
وهناك من يرى أن أفلاطون اعتقد أن الله كان يتأمل في ذاته وصنع العالَم بواسطة الديميورج. ويقول البعض الآخر إنه اعتقد أن الله كان يتأمل في صورة الخير.
هناك آراء مختلفة حول الديميورج وطبيعته ودوره؛ فقد كان غامضًا عند أفلاطون. فهناك من رأى أن أفلاطون وضع الله فوق الديميورج، وهناك من اعتبر الديميورج والله شيئًا واحدًا، وآخرون اعتبروا الديميورج صورة الله، أو أنه الله خارجًا من عزلته … إلخ.
لكن أفلوطين كان يرى أن الله لم يخلق العالَم مباشرة؛ لأن هذا يتعارض مع طبيعته؛ لأن الخلْق عمل، والعمل يستدعي التغيُّر، والله لا يتغيَّر. ولذلك رأى أن تفكير الله في ذاته نشأ عنه فيض، وتكوَّن العالَم من الفيض. وأول شيء انبثق من الله هو العقل، ثم نفس العالَم (النفس الأولى)، ومن هذه النفس انبثقت النفوس الجزئية؛ أي النفوس البشرية، ثم نفوس الحيوان والنبات.
(١-٣) العالم
صوَّر أفلاطون العالَم كائنًا حيًّا عاقلًا لا على شيء حادث، بل على مثال الله؛ لأنه يُمثِّل الخير والحق والجمال والعالم، لا بُدَّ من أن يكون كذلك؛ لأنه يتمثل بهذه الصفات وهي التي تضبط وجوده، ولذلك كان العالَم واحدًا لأن صانعه واحد، ونموذجه واحد، ولا يوجد خارجه ما يُؤثِّر عليه ويفسده، وهو أبدي لا تصيبه شيخوخة أو مرض؛ ولذلك أنكر أدوار العالَم وانحلاله ثم عودته، ورأى أنه كُروي؛ لأن الدائرة هي أكمل الأشياء، وهو متجانِس يدور على نفسه في مكانه.

أما نفس العالَم فهي سابقة على جسمه، صنعها الله من الجوهر الإلهي البسيط والجوهر الطبيعي المنقسم ومزاج من الاثنين، فكان غلافًا مستديرًا للعالم تحويه من كل جانب، وتتحرك حركة دائرية وتُحرِّك الباقي، وتُدرِك المحسوس المنقسم والمعقول البسيط، وتنفعل بالسرور، والحزن، والخوف، والرجاء، والمحبة، والكراهية، وتملك أن تُخالف قانون العقل فتصير شريرة حمقاء، وتضطرب حركتها فتنزل النكبات بالعالم. وأما جسم العالَم فلما شرع الله يُركِّبه أخذ نارًا ليجعله مرئيًّا وترابًا ليجعله ملموسًا ووضع الماء والهواء في الوسط.
- (أ)
المُثل: هي الماهية المشترَكة للموجودات التي ستخلق في العالم وهي نقطة ثابته فوق التغير وهي صور الموجودات الأولى.
- (ب)
الزمان: وهو صورة متحرِّكة للأبدية الثابتة، وكان الزمان يتقدم على حسب قانون الأعداد، وكانت الأيام والليالي والشهور والفصول ولم تكن من قبل.
- (جـ)
العناصر الأربعة: التي هي «الهواء، والماء، والتراب، والنار»، وقد كان العالَم قبلها «مادة رخوة» غير متعينة غامضة، لا تُدرَك في ذاتها بل بالاستدلال. والعناصر ليست مبادئ الأشياء؛ لأنها مُعيَّنة، ولأنها تتحول بعضها إلى بعض. ويشير هذا إلى صور مختلفة تتعاقب على موضوع واحد غير معيَّن في ذاته. فالماء إذا تكاثف صار ترابًا، وإذا تغلغل صار هواء وريحًا، والهواء إذا اشتعل تحول نارًا، والنار إذا تقلَّصت وانطفأت عادت هواء، والهواء إذا تكاثَف صار سحابًا … إلخ، وهكذا خُلِقت العناصر الأربعة متجاورة دون أن تُركَّب منها الأشياء.
- (د)
الأجرام السماوية: من النار صُنِعَت الشمس، والقمر، والكواكب مشتعلة مستديرة، وجُعِل لكل منها نفسٌ تُحرِّكه وتدبِّره؛ ولذلك فإن هذه النفس إلهية عاقلة يأتيها الخلود من صانعها.
إن الشكل الكروي للعالَم وكون العالَم فريدًا ونسيجًا لوحدته نابعان من مجهود رمى إلى محاكاة نموذج الكمال والزمن المُقسَّم إلى آماد منتظمة من أيام وأشهر وأعوام، والمرتبط بطواف الأجرام السماوية يحاكي بقدر المستطاع أزلية النموذج بارتداده اللامنقطع إلى ذاته.
كانت المُثل أهم ما أورده أفلاطون في هذا العالَم، بل كانت هي الصلة بين الله والعالم.
(١-٤) النفس
- (١) النفس الصالحة: تصعد إلى الكواكب وتقضي هناك حياة تشبه حياة إله الكوكب الذي نزلت منه. ونلاحظ هنا تأثير التنجيم البابلي على أفكار أفلاطون، ويتم صعود النفس بتخلصها من المادة المحبوسة فيها؛ أي الجسد.
يقول أفلاطون على لسان سقراط: «إن هناك مذهبا قديمًا يقول: إن النفوس التي تعيش في هذا العالَم تذهب إلى العالَم الآخر، ولكنها من جديد سوف تعود إلى عالمنا وتولد من جديد»، وبناء على ذلك فالأحياء تأتي نفوسهم أو أرواحهم من الموتى، وهذا دليل على خلود النفس في العالَم الآخر؛ لأنها لا يمكن أن تكون من جديد إلا إذا كانت موجودة. وهذا الدليل من جانب أفلاطون يمكن الرجوع به إلى الفلسفات القديمة خاصة في فكرتين أساسيتين: الأولى: اعتماد أفلاطون في إقامة هذا الدليل على فكرة تعاقُب الأضداد، وتلك الفكرة كانت سائدة في الفلسفة الطبيعية قبل سقراط فكان الحار، والبارد، والرطب، واليابس، وتنتقل الموجودات من ضد إلى آخر بالتكاثف والتخلخل، فالنار تصبح هواء، ثم ماء ثم أرضًا، وتعود الأرض وتصبح ماء، وهكذا فهناك حركة دائرية متنقلة بين الأضداد (إبراهيم، ١٩٩٩م، ١٧٨).
- (٢) النفس الشريرة: تلد امرأة فإن بقيت شريرة تلد حيوانًا شبيهًا بخطيئتها، وهكذا حتى تتخلص من آلامها ولا تعود إلى حالتها الأولى حتى يتغلب العقل على الشهوة وتصعد السلم، فهي: المرأة، الطير، الدواب، الزحافات، الديدان، الأحياء المائية؛ أي إنها تنزل إلى الأسفل أكثر، وبذلك يكون أفلاطون قد آمن بالتناسخ، ويستمر بالتناسخ حتى النباتات والجذور.
والحقيقة أن هذا الموضوع كان موجودًا في الميثولوجيا اليونانية بصورة قصة رمزية عن بسوخي (النفس) التي يجذبها الحب فتسقط من العالَم الإلهي نحو إيروس/كيوبيد، وتنسجن في قصرها الجسدي، وهي من الموضوعات التي شاعت في الفن الهيلنستي لاحقًا.
وهكذا يُقرِّر أفلاطون «خلود النفس» من طريق التناسخ، وكأنه يأخذ ببعض العقائد الأورفية والفيثاغورية؛ حيث يقول: إذا كان صحيحًا أن النفس التي تُولد في هذه الدنيا تأتي من عالَم آخر كانت قد ذهبت إليه بعد موت سابق وأن الأحياء يُبعثون من الأموات ينتج لنا أن النفس لا تموت بموت الجسم، وهكذا تُبعث الحياة من الموت، ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت الأشياء قد انتهت إلى السكون المُطلَق، وإذن فقد كانت النفس قبل الولادة، وستبقى بعد الموت.
وهكذا رأى أفلاطون أن النفس خالدة؛ لأنها إلهية، «ثم إنها تدرك المُثل العقلية الخالدة، ومن ثَم فهي تُشابِه طبيعية المُثل من حيث بساطة تكوينها؛ فلا تتعرض للفساد أو للانحلال الذي يصيب الأجسام المركبة، ومن هذه الأدلة أيضًا أن النفس تشارك في مثال الحياة، وما شارك في مثال الحياة فلا يقبل ضدها وبالتالي لا يدركه الموت.» (مرحبا، ١٩٨٣م، ١٣٧).
يذهب أفلاطون في محاولة فيدون، شأنه في ذلك شأن غيره من الفيثاغوريين، إلى أن النفس الإنسانية كان لها وجود سابق على البدن بجوار الآلهة، لكنها سقطت إلى البدن وسُجِنَت فيه بسبب ضعف أجنحتها، وعدم قدرتها، وعجزها على مسايرة الرَّكْب الإلهي. هذا ويصرح أفلاطون أن النفوس قبل هبوطها إلى البدن اجتمعت لمشاهدة المثل في عالَم ما وراء الحياة، وأن حظ كل نفس في الجسم الذي شغلته قد توقَّف على مقدار ما شاهدَتْه من هذه المُثل، وبالإضافة إلى هذا يؤكد أفلاطون في محاوَرة فايدورس على أسبقية النفس، وأنها كانت موجودة منذ الأزل تعيش مع الآلهة في العالَم العقلي؛ حيث كانت تشاهد المُثل الخالدة للجمال في ذاته، والخير في ذاته، وكانت تتبع موكب الآلهة في دورات معيَّنة غير أنه نظرًا لفقدانها توازنها تسقط في أجسام البشر، وما تنفكُّ تسعى بعد ذلك إلى العودة إلى حياتها الأولى (إبراهيم، ١٩٩٩م، ١٧٥).
والمُطالِع لمحاورة جورجياس وفيدون، والكتاب العاشر من مُحاوَرة الجمهورية، يمكن أن يتعرف على رحلة النفس في العالَم الآخر كما تخيلها أفلاطون، ومَصير النفس الخيِّرة أو الصالحة، الذي يختلف بالتأكيد عن مصير النفس الشريرة، طبقًا للقانون الذي أذاعته الآلهة إزاء الناس منذ عهد كرونوس، وهو أن من يموت بعد حياة عادلة طاهرة بأكملها يذهب بعد موته إلى جزيرة السُّعداء؛ حيث يقيم بمأمن من جميع الشرور وفي سعادة كاملة، بينما تمضي النفوس الظالمة إلى مكان التكفير والعذاب، وهو ما يسمونه هاديس (إبراهيم، ١٩٩٩م، ١٨١-١٨٢).
(٢) الأفلاطونية الحديثة وإعادة إنتاج أفلاطون
كان أفلاطون هو المرجعية الكبرى للفلاسفة الهيلنستيين، فقد عادوا إليه ووجدوا ضالتهم فيه في هذا المناخ الذي جمع الفلسفة اليونانية والأديان الشرقية، ولا ريب أن إيقاع أفلاطون الديني كان متناغمًا في فلسفته مع الجذور الدينية الشرقية التي انطلق منها لبناء فلسفته فضلًا عن المادة الأولية التي وفَّرها الفلاسفة الإغريق الذين سبقوه.

ولكن الأهم هو أن أفلاطون كان المرجعية الكبرى للغُنُوصِية، وقد عملت فلسفته التي شرحناها أعلاه في تشكيل الهيكل الهِرْمِسي ثم الغُنُوصي الذي يعود له الفضل الأكبر في نشوء التوحيد الباطني الذي كان أصل التوحيد الذي أخذَت به الأديان الثلاثة بعد أن ربطَتْه بالوحي.
- (١)
الجمع بين أفلاطون وزينون الذي جاء على يد العقل الرواقي الموسوعي الكبير لبوزيدونس.
- (٢)
الجمع بين أفلاطون وفيثاغورس الذي قام به نيومينوس الأفامي.
- (٣)
الجمع بين أفلاطون وأرسطو على يد أمونيو ساكاس، وهو أستاذ أفلوطين ومبتكر الثيوصوفيا.
- (٤)
الجمع بين أفلاطون وكل هذه التيارات الثلاثة السابقة على يد أفلوطين في نظام متماسك هو الأفلوطينية الذي هو أكبر وأهم تيارات الأفلاطونية الحديثة.
وهكذا أينعت الزهرة الصوفية البيضاء للأفلاطونية المُحدثة، والمتطوِّرة عن تعاليم أفلاطون، الذي كان يقوم بالتعليم في أثينا قبل ذلك بستمائة عام، وكان يقول: إن العالَم الذي نعيش فيه يُمثِّل نسخة ناقصة لعالَم مثالي، وكان يقوم بتعليم أشياء أخرى أيضًا، ولكن كان هذا هو المعتقَد الذي آمن به الأفلاطونيون المحدثون في الإسكندرية، وسعَوا إلى التسامي به، والوصول به إلى نهايات صوفية (الناصري، ١٩٩٢م، ٣٠٣).
ولا شك أن الأفلاطونية المحدثة كان تيارًا مضادًّا للحياة، فهي تهتم بالعالَم الروحاني، شأنُها شأن الغُنُوصِية، وتُهمل العالَم الأرضي اليومي وحياة الناس، وتلتقي في هذا مع مُجمل ما تفعله الأديان في اهتمامها إما بعالَم قبلي سماوي أسطوري، أو بعالَم بعدي أخروي إسكاتولوجي، أو بالاثنين معًا.
(٢-١) الأفلوطينية

تعتبر الأفلاطونية الجديدة نموذجًا للفلسفة الهيلنستية التي انتعشت في الشرق الروماني (الرومانستي)، وأثَّرت في الحياة الفكرية لكل من الإغريق، والرومان، والأمم الشرقية بعامة. فهي بلا شك أعظم قمة فلسفية هيلنستية تُناظر قمم أفلاطون وأرسطو في المرحلة الهيلينية.
ترك أفلوطين فلسفته في «٥٤» رسالة موزعة على ستة أجزاء يحتوي كل جزء على تسعة رسائل؛ ولذلك سُمِّيت ﺑ «التاسوعات» وقد جمعها بعده تلميذه «فورفوريوس».
أصبحَت الأفلاطونية الحديثة على يد سكاس مذهبًا فلسفيًّا وروحيًّا جديدًا، ولكن أفلوطين هو الذي جعل منه مذهبًا شاملًا ذا نظام معرفي خصب جعل من الأفلوطينيين نِحلة دينية مُؤثِّرة.
كانوا إنسانيين، وليس هذا فحسب، بل كانوا إسكندريين مثاليين، وجدت فيهم المدينة — في زمانها الأخير — تجليهم الأسمى. لقد تم تأسيس هذه المدرسة على يد «أمونيوس ساكاس» الذي بدأ حياته مسيحيًّا، يعمل حمَّالًا على أرصفة الميناء، ولكنه تخلَّى عن كلا المهنتين لدراسة أفلاطون، وتعاليمه لا نعرف عنها شيئًا، ولكنه أنجب تلاميذ عظماء؛ أمثال: لونجينوس، وأوريجين، وعلى رأسهم جميعًا أفلوطين.
- (أ)
طريق الصعود: وهو الطريق الصاعد الذي تحاوله بعض النفوس من الجسد المكبلة به إلى النفس الكلية، ثم العقل المُطلَق، ثم الواحد، وهو طريق ميتافيزيقي عقلي يتم عن طريق التجربة أو الجذب الصوفي والتأمل، «وعلينا أن نحذر من وصفه بالمعرفة؛ لأن النفس لا تصعد إلى أعلى بفعل المعرفة بل بفعل التأمُّل والفضيلة، ولأن الصعود بالمعرفة يكون في الغُنُوصِية وليس في الأفلاطونية المحدثة.»
ولنشرح بشكل مختصر جدًّا أقسام الهيكل الأفلوطيني:
(أ) طريق الفيض (الهبوط)
-
(١)
الأقنوم الأول (الله، الواحد): كان أفلاطون أول من أشار إلى فكرة الله الواحد عند اليونان، وبخاصة في الباب السادس من الجمهورية، وجاء أرسطو وتناول فكرة الألوهية في الميتافيزيقيا، وتكلَّم عن المُحرِّك الأول الذي يُحرِّك ولا يتحرَّك على الإطلاق. (أبو ريان، وعطيتو، ١٩٩٩م، ٢٧٩).
وفي عصر أفلوطين، وبسبب من الديانات الشرقية قام أفلوطين بصياغة فكرة فلسفية عن الله أبعد قليلًا عن إله الخير عند أفلاطون، وأكثر سموًّا من إله أرسطو الساكن. فالله عنده هو المصدر الأسمى للوجود، ويسميه «الواحد، الخير، الأب، اللامتناهي، المعقول»، «ولم يَنعَت أفلوطين الواحد بتحديدات إيجابية، بل حاول أن يصفه بأوصاف سلبية، فالواحد أو الله هو الشيء الذي لا صفة له، ولا يمكن وصفه ولا يمكن إدراكه؛ لأنه متعالٍ، وهو الغني بذاته، والمكتفي بذاته، الغني كما أنه البسيط، ومعنى البساطة أنه لا يتحلل إلى أجزاء ولا يتركَّب من أي أجزاء، وهو يفوق العقل ويسمو عليه كليةً؛ فالجوهر والوجود والحياة لا يمكن إسنادها إلى الواحد؛ لأنها كثرة وتعدُّد، وأن هذا يتنافى مع طبيعة الواحد غير القابلة للانقسام والتعدد» (أبو ريان، وعطيتو، ١٩٩٩م، ٢٨٠).
هكذا يرى أفلوطين أن الله عقْل، ووجود، وفعل، وأقنوم، ولما كان الله أو الواحد لا يمكن إدراكه مباشرًا، وأعني أن تقال أو تطلق عليه صفة إيجابية؛ فإننا لا نستطيع في هذه الحالة أن نصفه إلا بالصفات السلبية، وهذا ما يُسمَّى باللاهوت السلبي Negative theology، ويكمن في اللاهوت السلبي النفي النقدي لكل أنواع الإيجاب المختصة بالله التي يليها نفي آخر لنفينا (أبو ريان، وعطيتو، ١٩٩٩م، ٢٨٣).أما كيف خلق الله العالَم والأشياء، فيلجأ أفلوطين إلى صور واستعارات رمزية توضِّح ذلك، مثل نمو النبات من البذور، وصدور الأشعة من الشمس، وظهور الماء من الينبوع؛ حيث يرى أن الموجودات تَصدُر عن الواحد بضرب من الإشعاع تمامًا كما تفيض الأشعة عن الشمس، مع ثبات الشمس، وهنا نجد استعارة الضوء، فالواحد عندما يتعقَّل ذاته يلد مولودًا أقل منه في الكمال والنضج، وهو العقل الذي يضمُّ ضوء الواحد في طياته، والعقل هو صورة الواحد.
-
(٢)
الأقنوم الثاني (العقل): ويسميه أيضًا (اللوغوس Logose) أو الروح عندما يفيض نور الواحد يظهر العقل الكلي (المُطلق) في الكون، وينتشر فيه ويتَّصِف العقل الكلي بأنه وجود، وعقل، وعالَم معقول أو روح. ويحتوي العقل على المثل الأفلاطونية: «الحق، والخير، والجمال»، وفيه تماسك كلي. ويحتوي أيضًا على العناصر الأربعة: «الماء، والهواء، والنار، والتراب»، ولا صورة لها؛ لأن النفس هي التي ستمنحها الصورة المتعارف عليها؛ أي إنها في هَيُولَى أُولَى ضمن العقل، وعندما تظهر النفس كصورة للعقل تظهر هذه العناصر الأربعة واضحة وذات كيان خاص.
والعقل عند أفلوطين هو كلمة ولوغوس الواحد؛ أي مبدأ وقوة ممثِّلة لهذا الواحد ومعبِّرة عنه في مستوًى أدنى من الوجود. ويرى أن النفس هي لوغوس وكلمة العقل. وهذا يؤكد الاستمرار والوحدة بين مستويات الوجود المختلفة في المذهب الأفلوطيني (أبو ريان، وعطيتو، ١٩٩٩م، ٢٩٣).
(٢-٢) الهيكل الفلسفي لأفلوطين

إن العقل الكلي يحوي في ذاته جميع الموجودات الخالدة في سكون سرمدي. ولِمَ يُحاول التغير ما دام خيرًا؟ إلى أين يذهب ما دام حاصلًا على كل شيء؟ ولِمَ يحاول الاستكبار ما دام كاملًا؟ ولكن وحدته ليست كوحدة الواحد الأول (كرم، د.ت، ٢٩٢).
وكما احتوى العقل على المُثل (الصور) التي عرفها أفلاطون، وعلى الموضوع الذي تُمثِّله العناصر الأربعة فإنه احتوى على مقولات الفكر والوجود، مَقولات الفكر التي هي «السكون والذاتية»، ومقولات الوجود التي هي «الحركة والتغاير»، وكلها في وحدة منسجمة.
لا يوجد تَعقُّل دون تغايُر، وذاتية، وحركة، وسكون. الحركة من حيث إن هناك تعقُّلًا، والسكون لأجل أن يبقى التعقُّل هو. والتغاير لكي يكون هناك عاقِل ومعقولات متمايِزة فيما بينها. أما إذا حذفْنَا التغاير كانت الوحدة اللامتمايزة والسكون، وأخيرًا الذاتية من حيث إنَّ الأشياء المعقولة وحدة بالذات، وإن فيها جميعًا شيئًا مشتركًا، وفصلها النوعي هو التغاير. من كثرة هذه الحدود يُولَد العَدَد والكَم، وخاصة كل موجود الكيف. ومن هذه الحدود معتبرة مبادئ تأتي سائر الأشياء. (كرم، د.ت: ٢٩٢).
-
(٣)
الأقنوم الثالث (النفس): عندما يَتعقَّل العقل ذاته يَلد، أو يفيض، أو تصدر عنه النفس. يُقسِّم أفلوطين النفس الكلية (غير المنقسمة) إلى قسمين؛ هما النفس الكلية العليا التي تصل بالعقل، والنفس الكلية السفلى التي تتصل بالنفوس الجزئية الموجودة في العالَم المادي أو المحسوس.
أما النفس أو النفوس الجزئية (المنقسمة)، فهي التي تتوزَّع على مُكوِّنات العالَم المادي، بل وتكون مصدر هذا العالَم المادي حيث تُحبَس فيه أملًا في التَّحرُّر منه، والعودة إلى مكانها، أو صعودها إلى الأعلى.
هكذا تُعتَبر النفس الكلية في أحد جانبيها مصدرًا للعالَم المحسوس في كلياته وجزئياته، كما تكون في جانبها الآخر مصدرًا لإفراد البشر. وبذلك فإنها تُشارِك عالَم العقل في طبيعته، وشرف مقامه من جهة، وتُشارِك عالَم الأبدان في خِسَّته ودناءته من جهة أخرى. وبذلك تتحقق الصلة، بل وتتوثَّق بين العالَم المحسوس والعالَم المعقول (أبو ريان وعطيتو ١٩٩٩: ٢٩٧).
إن النفس الكلية هي التي خَلقت جميع الحيوانات بأن نفحت فيها، الحيوانات التي تغذيها الأرض والبحر، والتي في الهواء والكواكب الإلهية في السماء، خلقت الشمس والسماء الواسعة ووضعَت فيها النظام، وأعطتها حركة دائرية. (كرم، د.ت، ٢٩٢).
أما كيف تفيض النفس الكلية موجودات العالَم المحسوس فيحصل كما يلي:- (١)
تفيض النفس الكلية الهَيُولَى والأصول البذرية التي تعمل في الهَيُولَى وتصورها دون علم، كما يطبع الخاتم صورته في الشمع.
- (٢)
تتحد الأصول البذرية مع الهَيُولَى وينتج عن ذلك الأشياء التي في المكان والزمان.
إن النفس الكلية تدبر الكون وفق العقل بأن تشرق عليه هذه الأصول البذرية. إن ما له قيمة في البذرة ليس هو الرؤية، بل ما لا يُرى فيها، أعْنِي عددًا وأصلًا بذريًّا، والعدد صورة. فالأصول البذرية تدفع بالكائن إلى تحقيق ماهيته وكماله، فإذا قصر كانت المادة هي السبب بعدم مطاوعتها للمثال والنموذج، وحين يحل الأصل البذري في الهَيُولَى يحدث الجسم، فإن الجسمية صورة، أو بذرة ثم ينضاف إلى الجسم صور العناصر، وإلى هذه الصور صور أخرى، حتى ليتعزز استكشاف الهَيُولَى وهي مخبوءة تحت هذا القدر من الصور. فكل شيء هو صورة؛ إذ إن نموذجه صورة، وهو جملة صور (كرم، د.ت، ٢٩٣-٢٩٤).
- (١)
(أ) عملية الفيض
-
(١)
عن طريق تعقُّل الذات يفيض الواحد العقل، ويفيض العقل النفس، وتفيض النفس المادة؛ لكيلا تَنْسى الواحد فتقارنه بالأسفل وتتذكَّره.
-
(٢)
الأشياء كلها متطابقة والأحداث متناسقة ويدلُّ بعضها على البعض الآخَر؛ لذلك يمكن التنبؤ بهذه تبعًا لتلك. وإن بين الأشياء المتشابهة توافقًا، وبين الأشياء المتضادة تنافرًا؛ المحبة والكراهية؛ أي التجاذب والتدافع يعملان في الكون (كرم، د.ت، ٩٤).
-
(٣)
الحرية الإنسانية لا تتأثر بحركة السماء؛ لأن حركة السماء تؤثِّر في الكيفيات الجسمية من حرارة وبرودة والأمزجة الناتجة عن ذلك، أما الخُلق والفضيلة والعلم والاختراع، فأمور مباينة للجسمية، فكيف تُحدِثها الكواكب؟
ولذلك يقف أفلوطين ضد التنجيم والقضاء والقدَر.
-
(٤)
إن الجسم أخلاط وكيفيات محسوسة، فكيف يأتي منه الجهل، وتأتي الرغبات الرديئة؟ وإذا كانت النفس هي التي تصنع الشر بطبيعتها وأصلها البذري، كان الشر جزءًا من الوجود راجعًا إلى المبدأ الأول. حاشَا أن يكون الأمر كذلك، الغُنُوصيون والمانويون هم الذين رجعوا بالشر على إله أعلى أو أدنى (كرم، د.ت، ٢٩٤).
-
(٥)
الأقانيم الكبرى «الواحد، العقل، النفس» هي الخير، وهي الموجودة، أما المادة فهي الشَّر وهي اللاوجود، فالشَّر عدم الصورة، وعدم الحَد أو الاعتدال، والمادة عَيْن جوهر الشر، وليست النفس شريرة بذاتها. وإذن فالنفس الكاملة هي دائمًا مُفارِقة لا تُقارِب المادة، فلِلشَّر وجود ذاتي ولكنه ليس إلهًا أو نفسًا، وإنما هو المادة، والشر الذي في النفس يأتي من اتصالها بهذا الشر بالذات، «وفي هذه النقطة كان أفلوطين متأثرًا بالأورفية».
-
(٦)
ولما كانت المادة عنصرًا ضروريًّا في نظام العالَم؛ لأنها آخر الصدورات وليس بعدها إلا اللاوجود المطلق، كان الشرُّ ضروريًّا في العالَم كذلك.
(ب) عملية الصعود
-
(١)
على النفس الجزئية للإنسان أن تنفصل عن الشر الذي هو المادة أولًا، وأن تتفرغ لتأمل الواحد (الله)، وعليها أن تكون خِلوًا من كل صورة؛ لكيلا يمنعها مانع من أن تمتلئ، وتستنير بالموجود الأول. يقول أفلوطين: لنعتزل العالَم الخارجي ولْنتوجَّه بكُلِّيَّتنا نحو الداخل، ولْنَجهل كل شيء حتى كوننا نحن الذين نتأمل.
-
(٢)
على النفس الجزئية للإنسان أن ترتفع فوق الجسم بجزئها الذي لا يسبح فيه، وترتبط بواسطة مَركَزها هناك بالمَركَز الكلي الذي سيؤدِّي بنا إلى النفس الكلية السفلى أولًا ثم العليا.
-
(٣)
النفس الكلية التي أصبحْنَا فيها هي الآن موجود واحد تصعد إلى موجود أكثر وحدة هو العقل الحاوي في ذاته جميع الموجودات، وأن المعقولات مترابطة متضامِنة، وتقتضي عقلًا كليًّا يحويها ويدرك ترابطها.
-
(٤)
العقل الكلي يدفعنا — إذا تأمَّلْنا وحدته — إلى وحدة أشد مركزية منه وهي التي تدفعُنا إلى الوصول إلى الله الواحد الذي هو بريء من كل صورة تصورناها «ونحن نصعد».
•••
رغم أن أفلوطين كان وثنيًّا فقد كان أثره كبيرًا على الديانة المسيحية؛ فقد أخذ عنه القديس أوغسطين، ووضع على ضوئه الأفلاطونية المسيحية. أما على الديانة المسيحية بذاتها فكان أكبر؛ حيث كان أساس ظهور عقيدة «الثالوث المقدَّس» حيث ظهرت الأقانيم الثلاثة «الأب والابن والرُّوح القُدُس» متكافئة مع أقانيم أفلوطين «الواحد والعاقل والنفس»، وجعل المسيحيون من هذه الأقانيم متكافئة في إله واحد. ثم إن فكرة اللوغوس أخذوها عنه وهي كلمة الله. وفي عصر النهضة تُرجِمَت رسائله إلى اللاتينية فشاعَت آراؤه ونراها في فلاسفة كُثر.
رغم ميلنا إلى أن الثالوث المسيحي ظهر مبكرًا على يد الآشوري طاطيان (تاتيان) ويُسمَّى أيضًا ططيانس (١١٠–١٨٠م) حيث تأثَّر به أوريجين، وثبَّتَته الكنيسة لاحقًا.
وأثَّر أفلوطين على الفلسفة الإسلامية عندما نقل المسلمون بعض تاسوعاته عن السريان وصار عنوانها خطأً «أوثولوجيا أرسطو طاليس»، فتأثَّر بها الكِنْدي، والفارابي، وابن سينا، وإخوان الصفا.
(٢-٣) التصوف الأفلوطيني
مَهَّدت عملية الصعود الأفلوطيني — من المادة إلى الله — الطريقَ نحو وضْع أُسس نظرية وفلسفية للتصوف الهيلنستي الذي كان أساس التصوف النظري في الأديان الموحِّدة الثلاثة «اليهودية والمسيحية والإسلامية»، خصوصيات وإضافات لها في كل دين بالإضافة إلى التأثير الغُنُوصي في نشوء التصوف، وهذا لا يعني أن التصوف ظهر مع أفلوطين، بل سبقه بكثير سواء في الشرق أو الغرب، ولكن أفلوطين وضع الأساس النظري الفلسفي له. والتصوف الأفلوطيني ليس عِرفانيًّا بل هو تأمُّلي.
إن جوهر التصوف هو التجربة الصوفية التي قوامها الجَذْب، أو الاتصال، أو الاتحاد بالله، والاتحاد أو الجذب فكرة صوفية مَحْضة تقوم على تجربة الصعود، والطبيعة السائلة للنفس كما أنها تتعارض مع الميتافيزيقيا الشكلية أو الصورية (أبو ريان، وعطيتو، ١٩٩٩م، ٣٢٣).
يرى أفلوطين أن التصوف يتم عن طريق عملية الصعود عمليًّا، وأن هذا يتم أولًا بتخليص النفس من حاجات الجسد المادية والإبقاء على الحاجات التقليدية البسيطة فقط؛ فنصل بعدها إلى النفس الكلية التي تُشكِّل الجسد، ثم تتوجَّه النفس نحو الأعمق بالتخلُّص من مَلَذات النفس وحاجاتها، وعلى النفس أن تعثر على الضوء الذي يُوجَد فيها ليقودها إلى العقل، وذلك عن طريق استبعاد كل شيء. وعندما نصل إلى العقل لا يعود هناك شيء محسوس، بل كل الأشياء تبدو معقولة في العقل، ثم نبدأ داخل العقل بالتحرُّر من التفكير المنطقي، ثم نصل إلى حالة أشبه ما تكون بالجنون في العشق، أو حالة النشوة في السُّكر، ويصبح كلُّ شيء في عَماء، وهو ما أسماه متصوِّفة الإسلام بحالة «الغراب الأسود»، أو ما أسماه المتصوفة المسيحيون ﺑ «الليلة الظلماء»، وهنا نصل إلى الواحد، ونَتَّحد به أو نذوب فيه. وهذه غاية كل التصوف. وعن هذا الاتحاد يقول أفلوطين: «إننا نَكُون ما نرغب فيه، أو ما نشتهيه، أو ما ننظر إليه.»
لقد حدث مراتٍ عديدة أن ارتفعْتُ عن جسدي على ذاتي، وأصبحتُ بعيدًا عن كافَّة الأشياء الخارجية الأخرى، وارتكزْتُ في ذاتي ورأيتُ جمالًا رائعًا، وبعد ذلك — وأكثر من أي وقت آخر — تأكدتُ من الصِّلة مع أسْمَى نظام، فعِشتُ أنبل حياة، وحُزتُ على المطابَقة مع القُدس؛ أي (صرت أنا الله، كلٌّ لا يتجزأ) (أبو ريان، وعطيتو، ١٩٩٩م، ١٢٥).
هكذا يصف هذا الرجل الذي لم يكن يهوديًّا أو مسيحيًّا أو مسلمًا هذا الفعل الذي يُثبِت أنه كان مؤمنًا بالله الواحد، وأنه يسعى إليه، بل سعى إليه واتحد معه، لكن هذا الاتحاد لم يكن مُطلقًا بين النفس والله، وبذلك تكون الوحدة أو الرؤية الصوفية عنده تأمُّلية؛ أي وحدة تأمُّل أو تماثُل أو محبة؛ أي شيء بعيد عن الامتصاص أو الاستغراق.
لقد آمن أفلوطين بالله مثل فيلو، ومثل المسيحيين؛ ونظرًا لأن إلهه كان يمتلك ثلاث مراتب فإنه كان يقول: إنه يُؤمِن بالثالوث، ولكنه مختلف تمامًا عن الثالوث المسيحي وأكثر صعوبة في الفهم؛ فالمرتبة الأولى والأسمى في هذا الثالوث كان يسميها «الواحد» هذا الواحد يعني الوحدة، ولا يمكننا التنبؤ بأي شيء آخَر عنه، ولا حتى كونه موجودًا. إنه أكثر إبهامًا من «يهوه» فيلو؛ فهو ليس له صفات أو قوة مبدِعة، وهو صالِح فقط لأن يكون هدفًا لطموحاتنا، وبالرغم من أنه لا يخلق ولا يبدع (فورستر، ٢٠٠٠م، ١٠٨).
وهذا الإله هو الذي يناظر الإله الأسمى في الغُنُوصِية، أو الله الواحد الخيِّر عند أفلاطون.
وهنا يكون الاختلاف الكبير بين الأفلاطونية والمسيحية، فالمسيحية تَعِد الإنسان بأنه سيرى الله، بينما الأفلاطونية المحدثة شأنها شأن الفلسفة الهندية تَعِد الإنسان بأنه سيكون الله، ربما وعلى أحد أرصفة الإسكندرية، تحدَّث أفلوطين مع تاجِر هندي أتى إلى المدينة. وعلى كلٍّ فإن نظام أفلوطين يمكن أن يتوازَى مع الكتابات الدينية الهندية … لقد أصبح أقرب من أي فيلسوف إغريقي لفكر الشرق. كان بورفيري — وهو المريد الورع لأفلوطين — فيلسوفًا ذائع الصيت … واستمرت المدرسة الأفلاطونية المحدثة في الازدهار على امتداد القرن الرابع الميلادي وظل اتجاهها الرئيسيي كما هو … لقد كان تشاؤميًّا فيما يتعلق بالعالَم الواقعي والإنسان الحالي، ولكنه كان متفائلًا بالنظر إلى المستقبل؛ لأنه اعتقد أن العالَم بكل ما فيه فيض من الله، وأن الله قد منحَنا سُبل العودة إليه، وأن هذا العالَم أدرك وجود الشر، ولكن ليس هذا الوجود أبديًّا، وبالتالي فقد كان هذا الفكر دعمًا عمليًّا لمعتنقيه، وآخرهم هيباتيا التي دعَّمها أثناء استشهادها.
هكذا كتب أحد المعجبين المجهولين في بداية القرن الخامس الميلادي. وأبدًا لم يتم حفظ أي من محاضرات هيباتيا … ولكننا نعرف أن بها وبأبيها الروحي … انتهت كل تعاليم أفلوطين العظيمة في الإسكندرية (فورستر، ٢٠٠٠م، ١١١).