المبحث الأول

الباطنية الهيلنستية ونزعتها التوحيدية

figure
Esoterism رمز الباطنية.

كان لا بُدَّ للاستبداد الديني الشرقي أن ينكمش بسبب أجواء الحرية التي سادت في العصر الهيلنستي، وكان لا بُدَّ للتيارات والتجمُّعات الدينية السِّرِّية والباطنية أن تظهر، وقد نشأت في المرحلة الهيلنستية مجموعة من التيارات الباطنية استطاعَت أن تعيد صياغة الأديان الوثنية القديمة والفلسفات دينية شرقية الأصل في إطار فلسفي هيلنستي جديد ظهر كما لو أنه كان جديدًا لكنه — في حقيقة الأمر — يمتد بجذوره إلى أعمق ديانات الشرق القديم.

ومن خلال قراءتنا الواسعة لثقافة العصر الهيلنستي لاحظْنَا أن هناك ثلاثة تيارات باطنية لعبت دورًا رئيسيًّا في الانتقال من الشِّرْك وعبادة الآلهة المتعدِّدة إلى التوحيد. وهذه التيارات هي: المُسارِّيَّة والهِرْمِسية والغُنُوصِية.

هذه التيارات الدينية السِّرِّية الباطنية كانت تَسْري تحت القشرة المعلَنة للأديان التعددية والتَّفريدية، وكانت قد ابتكرت نوعًا من التوحيد الباطني الذي كان حكرًا على جماعات سريةٍ صغيرة كانت تمارِس طقوسها وتعاليمها بحذر شديد.

لا بُدَّ — أولًا — من عرضها وشرح مبادئها ثم التطرُّق إلى دَورها في صناعة التوحيد وتحويل الأديان المُشرِكة إلى أديان توحيدية، لا بُدَّ من التطرق إلى الفروق بينها رغم ما يجمعها من عوامل مشتركة؛ فلطالما تداخلت الهِرْمِسية والغُنُوصِية وأصبحَا شيئًا واحدًا، لكنهما في حقيقة الأمر يتمتَّعان باستقلالية تضمن لكلٍّ منهما حقلًا منفصلًا ومشتركًا بينهما في الوقت نفسه.

الهِرْمِسية هي تعاليم هِرْمِس (الإله أو النبي أو الحكيم) وهذه التعاليم مُدوَّنة في مجموعة من النصوص المصرية القديمة، واليونانية، واللاتينية.

أما الغُنُوصِية؛ فسلوك وتيار أشمل يعود في أصوله على ديانات وادي الرافدين القديمة وديانات شرقية أخرى، وتُشكِّل الهِرْمِسية إحدى روافده، وقد أُعيدت صياغة الغُنُوصِية فلسفيًّا قبل القرون الميلادية الأولى كفلسفة هيلنستية، وكانت الغُنُوصِية رَحِم التوحيد النهائي في العصر الهيلنستي، وكانت المسيحية هي الوليد النموذجي لها.

أما المُسارِّيَّة أو (ديانات الأسرار)، فقد لعبَت دورًا مهمًّا هي الأخرى في تكوين الجانب الطقسي للتوحيد، وعملت على تجسيد فكرة القربان والذبيحة الإلهية.

ومما له دلالته أن مثل هذه الشمولية «التوحيدية» تُمجِّد بخاصة الآلهة المثيرة للشفقة بامتياز؛ أمثال: ديونيزوس، وأوزوريس. وفيما يتعلق بإيزيس وأوزوريس، فإن تفسيراتهما الأخيرة وإعادة تقييمهما من قِبَل لاهوتي الأسرار ومن قِبل الفلاسفة الأفلاطونيين الجُدد، الذين كانوا مُعتبَرِين — خلال قرون من الزمن — كمُنيرِين للحقيقة ولأعمق عبقرية دينية مصرية (إلياد، ج٢، ٢٠٠٦م، ٣٢٢).

ويمكننا جمع تطوُّر التيارات الثلاثة وهي تنحدِر من ماضيها البعيد لتُكوِّن نسقًا واحدًا مؤثِّرًا في العصر الهيلنستي كما يلي:
  • (١)

    في العصر السومري كانت طقوس تموز تجمع التيارات الثلاثة في شكلها العفوي البذري الذي لم يُفصِح بعدُ عن هويته الكاملة والاصطلاحية، فقد كان الإله «دموزي» السومري أصل المُسارِّيَّة التي تَقضِي بنزوله إلى العالَم السفلي وموته الفَجائِعي في أسطورته الشهيرة مع «إنانا»، وكان أصل طقوس المَناحات والنَّدب والأسرار. كما أنه كان يُعبِّر عن الشخصية الأولى ﻟ «هِرْمِس» التي ظهرت فيما بعد عند كل الشعوب القديمة تقريبًا من خلال كونه الوجه الآخر للإله «ننكشزيدا» صاحب الكادكيوس الأفعواني والذي ظهر مُلازمًا له في العالَم الأسفل وفي السماء. وهذا يشير إلى دورته في هذه المستوَيات الثلاثة «السماء، الأرض، العالَم الأسفل» في دورة تشبه دورة النفس أو الروح في الغُنُوصِية، فضلًا عن كونه إله الخَلاص، والمُنقِذ، والمُنتَظر كل عام.

  • (٢)

    أَخذَت فكرة «دموزي» بالتناسل بين الشعوب حتى وجدناها في فارس بصيغة إله الضوء والخير الفارسي «أهورامزدا» الذي تحوَّر عند اللإغريق بصيغة «هِرْمِس» وكانت الزَّرادُشْتية التي ضمَّته قد تَبنَّت تقسيم العالَم إلى نظام ثنائي للخير والشر، والنور والظلام، ومعالجة موضوع الشر، وكان أفلاطون قد اطلع على الدِّين الزَّرادُشْتي في مصر التي احتلها الفُرس قبل الإسكندر المقدوني وتأثَّر به، ونظن أن فكرته عن الله الواحد الأسمى الواحد، وعن الإله الصانع، وشرِّ المادة، ونزول الروح فيها قد أخذها من الزَّرادُشْتية.

    وفي بلاد الإغريق نشأت أولى ديانات الأسرار (المُسارِّيَّة) في اليوزيس، ثم نشأت الأورفية، التي تأثَّر بها فيثاغورس، وأنشأ فلسفته المُسارِّيَّة كنظام فلسفي.

  • (٣)

    اختلطت فلسفة أفلاطون عن الله وخلْق العالَم مع أفكار التنجيم والخيمياء الشرقية، فنشأ عن ذلك الهِرْمِسية التي كان أحد أهم نصوصها هو نص «هِرْمِس طوط» المصري، ثم نص المُدوَّنة الهِرْمِسية اليوناني «بوامندريس»، وكان هناك اتجاهان رئيسيان في الهِرْمِسية؛ الأول: روحاني يؤكد على إهمال الجسد لتجنب الخطيئة، والثاني: كان حسيًّا يرى في الجسد مصدر تحقير يجب أن يُنْهَك بالحسية والجنسية.

  • (٤)

    اختلطت فلسفة فيثاغورس مع ديانات الأسرار والتطهير في العصر الهيلنستي، ونشأت المُسارِّيَّة كتيار ديني واضح شمل عدة آلهة مسارييين في العالَم الهيلنستي، واتخذت المُسارِّيَّة طابعًا جسديًّا حسيًّا وطابعًا روحانيًّا.

  • (٥)

    نشأت الغُنُوصِية من التقاء التيار الروحي للهِرْمِسية والمُسارِّيَّة، ففضلًا عن فكرة دورة النفس الهِرْمِسية ظهرت فكرة الخلاص القربانية أو المبعوث السماوي الذي يفتدي البشرية. وكان للغُنُوصِية التي نرى فيها لمسات أفلاطون وفيثاغورس التأثير الأكبر في ديانات العصر الهيلنستي، ونرى أنها هي التي أعادت صياغة اليهودية، وابتكرت المسيحية الأولى، وصنعت التوحيد بوضوح، وكانت هناك أديان غُنُوصِية؛ مثل «المندائية والمانوية والحرانية»، بل وتعدَّت هذا لتظهر في الفلسفة والعلم والأدب والفنون.

وبذلك تكون الغُنُوصِية هي الرَّحم الذي ولد التوحيد ودفع به إلى العالم، لكنه — وكما يخبرنا التاريخ — كان يجب قتل الأم ورحمها الذي ولد التوحيد وسرقة الطفل (التوحيد) والقول بأنه نزَل من السماء.

أما جغرافيا انتشار الحركات الباطنية الثلاث في العالَم الهيلنستي فيوضحها الجدول الآتي:

جغرافيا الباطنية في العصر الهيلنستي
الباطنية فارسي وادي الرافدين الشام مصر الأناضول اليونان روما
المُسارِّيَّة المِثْرائية

تموز وعشتار

نبو

أدونيس

وعشتروت

بعل وعناة

إيزيس

وأوزوريس

آتيس

وسيبيل

ديونسيوس

أورفيوس

باخوس

إيزيس

الهِرْمِسية الزَّرادُشْتية

هِرْمِس نبو

هِرْمِس البابلي الكلداني

(كلواذا)

الحرَّانية

أخنوخ

هِرْمِس

تحوت

هِرْمِس

هِرْمِس

شفيع

المسافرين

والبحار

مركوري

(عطارد)

الغُنُوصِية

الزَّرادُشْتية

المانوية

الشيثية

المندائية

المانوية

الصابئون (سامبيسيون)

البارديصانيون

أورفانية

شيثية

ساتورينوليون

هيراقليطيون

بوتلميون

باسليديوس

فالنتينيون

مَرقِيُونيون

قوقيون

الغُنُوصِية

المسيحية

الغُنُوصِية

المسيحية

figure
تطوُّر المُسارِّيَّة والهِرْمِسية والباطنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥