المبحث الثاني

المُسارِّيَّة (المستيريا)

Mysteria
(ديانات الأسرار، الديانات الغامضة)
figure
رمز المُسارِّيَّة.
المُسارِّيَّة هي عقائد وديانات الأسرار (Mystery)، والغموض (Mystere) وكانت — في أغلبها — ديانات خلاص، فضلًا عن كونها كانت تضع أحد الآلهة موضوع الاهتمام وتجعله مُخلِّصًا.

وكانت هذه الأديان تعتمد فكريًّا على معتقَدات دينية بجعل إله معيَّن مِحوَر الخلاص، وكان هذا الإله ينحدِر في أغلب الديانات المُسارِّيَّة من الآلهة الزراعية والديانات الزراعية القديمة، وهو يحمل عادة ذِكْرى الإلهة الأم التي دحرتها التقاليد الذكورية في الدين.

تحمل المُسارِّيَّة الهيلنستية ذِكْرى ديانات الخصب القديمة، وتعمل على إعادة إنتاجها وفق الفكرة الخَلاصية التي أصبَحتْ هاجس الهيلنستية كلها.

الديانات المُسارِّيَّة كلها من أصلٍ شرقي، وقد تبنَّاها الإغريق الهيلنستيون وأعادوا إنتاجها وفق ما يمكن أن نسميه بروح العصر (زتكشت Zeitgeist)، التي سادت العصر الهيلنستي الرومانستي والتي تَسلَّقت إلى بلاد اليونان وروما بمنتهى السرعة والقوة.

كل الأديان المُسارِّيَّة خَلاصية وزراعية الأصل ومُعاد تركيبها، وهي ديانات أسرار غامضة لها طقوسها ومعتقَداتها وآلهتها الخاصة، وتميل — نوعًا ما — نحو التوحيد بحكم تركيزها على إله، أو إلهة معيَّنة، أو على كليهما كزوجين مُتَّحدَين.

إن الأسرار الهيلنستية تُذكِّر بتصرفات طقوسية قديمة جدًّا؛ موسيقى متوحِّشة، رقصات هيجانية، أنواع الوَشْم، امتصاص نباتات للهلوسة، بهدف إجبار قُرب الألوهية، لا بل الحصول على التوحُّد الروحي في أسرار آتيس، وإن الصيام المفروض على التلامذة يتألَّف أساسًا في الامتناع عن الخبز؛ لأن الإله هو «السُّنبلة المحصودة خضراء»، وإن الوجبة المُسارِّيَّة الأولى تُرَد في مُجْمَلها لتجربة القيمة القدسية للخبز وللخمر، تجربة قَلَّما تكون مقبولة لدى السكان المدينيين» (إلياد، ج٢، ٢٠٠٦م، ٣١٦).

ويمكننا تصنيفها حسب أصولها القديمة كما يلي:
  • المُسارِّيَّة الرافدينية: تموز.

  • المُسارِّيَّة المصرية: إيزيس.

  • المُسارِّيَّة الفريجية: سيبيل وآتيس.

  • المُسارِّيَّة الفينيقية: أدونيس.

  • المُسارِّيَّة الإيرانية: مثرا.

  • المُسارِّيَّة الإغريقية: ديونسيوس.

  • المُسارِّيَّة الرومانية: باخوس.

  • المُسارِّيَّة الليبية: حامون وتانيت.

  • المُسارِّيَّة النبطية: أترغاتس وحدد.

(١) الطقوس المُسارِّيَّة (المُسارَّة)

طقوس التلقين: كانت طقوس التلقين تُجْرَى في احتفالات دينية سِرِّية تَقتصِر على المؤمنين بهذا الدين ومن رجال الدين بشكل خاص، حين يُراد تلقين المُرشَّح الديني الجديد الذي يجب أن يتلقَّى التاريخ السِّريَّ للأسطورة الأساسية للإله.

ورغم أن هذه الأسطورة معروفة للجميع، ومنهم المُرشَّح، لكنْ على هذا المُرشَّح أن يعيشها بنفسه، وأن يصل إلى تفسير باطني خاص بها يتم فيها كَشْف المعنى الحقيقي لتراجيديا الإله/الإلهة.

وكان على المُرشَّح أو المجموعة المُرشَّحة أن تقوم قبل طقس التلقين بإكمال الصيام الخاص بهذا الإله والتضحية التي تجري خلال الطقس؛ مثل ذبح الحيوانات. وكان طقس الموت والبعث ضروريًّا لاكتمال حكاية أو طقس التلقين. حيث إن المريد أو المرشَّح يمر بهذا الموت وبِنَوع من الولادة أو البعث الروحي الجديد الذي هو بمثابة نوع من الخلود؛ لأنه كان يَتضمَّن التحامًا بالجسد الذَّبِيح أو الميت للأضحية «التي ترمز للإله»، والانبعاث من دمها أو دخانها أو رائحتها. وخلال الحفلات كان التلميذ الجديد يتأمَّل أو يمسك بعض الأشياء المُقدَّسة. وكان يصل إليه في ذات الوقت تفسير رمزيتها، وعلى الأرجح كان يَتعلَّق بتفسير باطني يُوضِّح ويُبرِّر قِيمَتها الإنقاذية، وخلال فترة من مساراته، كان المُتلقِّي يشارِك في مأدبة طقوسية. وفي الفترة التي نبحثها، كان لهذه الممارَسة التي لا يمكن تَذكُّرها — بصورة خاصة — دلالة أخروية. وفي أسرار ميثرا، كان يُقدَّم الخبز والخمر للمتلقي ليعطياه القوة والحِكمة في هذه الحياة، والخلود السامي في الآخِرة، وبفَضْل المُسارَّة كان المُتلقِّي يصبح المُماثِل للآلهة. فالتعظيم لدرجة التأليه وعدم الموت … تلك هي المفاهيم المألوفة في كل ديانات الأسرار (إلياد، ج٢، ٢٠٠٦م، ٣٠٩).

وتُسمَّى طقوس العبور (Initiation) بطقوس التلقين، ولكن قد تُلتَقي طقوس التلقين مع طقوس العبور وقد تَفتَرق قليلًا في كونها تذهب بعيدًا في نَقْل المُرشَّح من حال إلى حال، وفي طقوس العبور يتم مَنْح المُرشَّح أسرارًا خاصة.
يجب أن يَمنَح السرَّ مُعلِّمٌ مُؤهَّل، يسميه الهندوس «غورو» (الطاعن في السن)، ويسميه الأورثوذوكس «جيرون Geron» وله نفس المعنى، والمسلمون يسمونه «الشيخ»، ويقوم تجاه التلميذ بدور أبٍ روحي، من حيث إن البداءة أو المُسارَّة ولادة ثانية، يرافق تلميذه في الصعوبات التي تَعترِضه في تطبيق النهج المرسوم له. أما المَعارف النظرية فلكل تنظيم (طريقة) أسلوبه فيما يسمح بتدريسه منها (بنوا، ١٩٩٨م، ٣١).

وربما كانت طقوس المُسارَّة، منذ القدم، هي السبب الرئيس في ظواهر دينية مهمة ما زالت سائدة حتى يومنا هذا في الأديان التوحيدية بصفة خاصة؛ مثل الختان الذي يدل على نوع من التَّضحية الدموية، ويمكن أن يكون قَطْع الأعضاء الجنسية مَصدَر فكرة التَّبتُّل والرَّهبنة والامتناع عن الزواج، مع أن الغُنُوصِية غَذَّت هذه الفكرة باعتقادها بعدم فائدة النَّسل والزواج.

أما بالنسبة لختان الكهنة ذاتيًّا وبعض المؤمنين أثناء ارتعاشاتهم الوَجْدِية، فتؤكد طهارتهم المُطلَقة، وبعبارة أخرى عطاءهم الشامل للإلوهة. إن مثل هذه التجربة هي بصعوبة غير ممكنة التحليل، وبأكثر من غرائز جنسية قَلَّ أو كَثُر عدَم الشعور بها التي تحكم المُتلقِّي؛ فيجب أن يُؤخَذ في الحسبان الحنين إلى خُنْثوِية (Androgynie) طقوسية، أو رغبة في مضاعفة احتياط من «قوى مُقدَّسة» برهبانية صارمة أو مَشهدية، أو حتى من الإرادة بأن يَشعُر بنفسه مطروحًا خارج … التقليدية للمجتمع باحتذاء ألوهية كُلِّية. وفي آخِر المَطاف، فإن عبادة آتيس وسيبيل جَعلَت من المُمكن إعادة اكتشاف القِيَم الدينية للجنسية والألم الطبيعي والدم. إن الرعدات (Transes) كانت تُحرِّر المؤمِنِين من سُلطة المعايير والاتفاقات؛ وفي معنًى آخَر، كانت الاكتشاف للحرية (إلياد، ج٢، ٢٠٠٦م، ٣١٦).

(٢) مراحل المُسارَّة

هناك ثلاث مَراحل للمُسارَّة هي:
  • (١)

    المساتير (الأسرار) الصُّغرى:

    الأهداف: أهم أهدافها هو التعرُّف على قوانين الصيرورة في الكون وتَلمُّسها، والعودة بالمُرشَّح إلى حالة الطفولة لكي يَستعِد لاستلام الأسرار الكبرى؛ فهي تُهيِّئُه لاستلام المساتير الكبرى الموجودة في مجاله الميتافيزيقي.

    المواهب والوسائط: أهم مَوهِبة يجب أن يمتلكها المُرشَّح أو المُستَلِم هي استعداده النفسي وتَقبُّله لما سيكون عليه، وقُدْرته على التَّخلِّي عن المشاغل والأمور الثانوية في حياته.

    الطقوس: يَتعرَّض المُرشَّح إلى امتحانات طقسية قاسية؛ كالنار، والماء، والعصف، والقسوة، وهي تساعده على اجتياز عوائق الدخول إلى العالَم القادم.

  • (٢)

    المساتير (الأسرار) الكبرى:

    الأهداف: الخروج من العالَم المادِّي والوصول إلى العالَم الروحي أو الميتافيزيقي، وقد تُسمَّى هذه الغاية ﺑ «الرؤيا المُبهِجة، النور العظيم، الهوية العليا».

    المواهب والوسائط: الكَنْز الداخلي (النفسي والروحي) هو أهم هذه المواهب، وعلى المُرشَّح أن يَعثُر على كَنْزه الروحي والداخلي. وأن يُنشِّط في داخله موهبة الكشف وتَلقِّي الوحي.

    الطقوس: وتُسمَّى بطقوس الولادة الثانية حيث ينزل فيها المُرشَّح إلى العوالِم السُّفلى، ويَصعد إلى العوالِم العليا؛ أي إنه يُمارِس قوَّتَي «المبدأ والميعاد» روحيًّا «وهو حيٌّ»؛ حيث يتحول إلى شكل من أشكال ما يُعرَف عمومًا ﺑ «الإنسان الكامل» المهيَّأ لدخول عالَم الآلهة.

  • (٣)
    مساتير الاندماج أو الالتماس (Adaptation):

    وهي طقوس الولادة الثالثة وتُسمَّى ﺑ «الخروج من الكهف»؛ حيث يَتحرَّر المُرشَّح من العالَم المادي ويَحل في عالَم الآلهة، حيث يَتَّحِد هناك بالإله أو الإلهة.

    المواهب والوسائط: تُعِينه موهبة الكشف والتجريد على الالتحام مع العالَم الإلهي، وهذا يعني أنه قد كشَف الإله الذي في داخله واتَّحَد به نهائيًّا.

    الطقوس: كانت الطقوس الباطنية في هذه الدرجة تصل إلى التَّماهي مع الإله المَعنِي، أو زواج المُرشَّح من الإلهة، وهذا ما نراه في طقوس الإغريق الإليوسية والأورفية ثم في الباخوسية، ونجده أيضًا في الطقوس الأوزيرية، وطقوس آتيس وسيبيل ومثرا … إلخ، ويُسمَّى هذا الزواج بالزواج المختلط (Hieros gamos)، والذي سُيمثِّله رمزيًّا عضو التذكير المخبوء في مكان سِرِّي يظهر في نهاية المُسارَّة.

    تميل هذه الطقوس لاتخاذ آلهة فيها ميول بشرية وليست سماوية مُطلَقة؛ مثل: ديونسيزوس (أُمُّه امرأة ضاجَعها زوس)، وغيرها لكي يضمن إمكانية التَّحوُّل لها بسبب التكوين البشري للمرشَّح أو المريد.

    كانت هذه الطقوس تَجْرِي في جمعيات يمكن أن نُسمِّيها الأخويات (Confréries)، وهي أماكن تلقين الأسرار، وبعكس ما نَتصوَّره عن حفلات القَصف، والإباحية الديونسيوسية (الباخوسية)، يمكننا إدراك البُعد الديني والروحي لهذه الأماكن.

    ومع ذلك يبقى المركز الجنسي للمُسارَّات هو الأساس، ولكنه يأخذ طابعًا مقدَّسًا وروحانيًّا وذا أبعاد دينية.

    وقد استخلص فريدرياك ماتز (Fredrick Matz) في بَحثِه حول المشاهد التصويرية — مُتَّبعًا في هذا مثال علماء آخرين — أنَّ العمل المركزي للمُسارَّة كان يَتكوَّن في الكشف عن عضو التذكير المُخبَّأ في سلة (ليكنون Liknon). ومن المُرجَّح أن هذا المشهد — الذي اشتهر على نطاق واسع — كان له أهمية طقوسية، غير أن بويانسيه (Boyance) قد بَرْهَن بشكل ملائم على أن النصوص تَذكُر الليكنون بأنه ذو علاقة مع كل أنواع المُسارَّات، وليس مع مُسارَّة ديونيزيوس وحْدَها (إلياد، ج٢، ٢٠٠٦م، ٣١١).

(٣) ديونسيوس/باخوس

figure
ديونسيوس (Dionysus)، «ويُسمَّى عند الرومان باخوس» هو إله النبيذ (خمرة العنب)، ومعنى ديونسيوس في الإغريقية هو «مَن يَعبد زيوس». وهو إله أصْلُه من تراقيا، ووَفَد متأخِّرًا على بلاد اليونان، ويبدو من شخصيته وصفاته بأنه إله مَشرقِي وَفَد من فينيقيا وهو من المُرجَّح الإله «أدونيس»، ثم تَحوَّر لَفظُه إلى ديونسيوس، رغم أن هناك إلهًا منفصلًا عند الإغريق اسمه «أدونيس» وهو عشيق أفروديت … لكن أدونيس وهو يَتحوَّل إلى ديونسيوس اكتسب صفات جديدة له؛ فقد أصبح إلهًا للخمر، والتَّهتُّك، والمُتعة، والقَصْف في صورته الدنيوية، وأصبح أيضًا إلهًا في العالَم الأسفل يشفع لمريديه في صورته الأُخْرَوية، وهو ما يُؤكِّد ما ذهبْنَا إليه؛ لأن أدونيس أصله من تموز وأوزوريس اللَّذين لهما صورتان دنيوية، وأخروية قريبة من ديونسيوس.

لقد تَراجَع دور الإله «زوس» باعتباره إلهًا تفريديًّا مهمًّا في الحياة الهيلينية ولم تَعُد له تلك الأهمية، وبرَز دور الإله ديونسيوس إله الخمرة واللَّذَّة وهو إله ذو أصول شرقية نزح إلى الإغريق في عصور مُبكِّرة حتى اكتسب صفات الآلهة الإغريقية، كان أهم الآلهة الإغريق طُرًّا في ذلك العصر، خارج بلاد الإغريق هو ديونسيوس الذي قام الفنانون الديونيسيون بنقل عبادته إلى كل أرجاء العالم، وكأني بالفن والأدب قد مَنَحاه مَوكِب نَصْر تَقدَّم به عَبْر آسيا على غرار مَوكِب نَصْر الإسكندر (تارن، ١٩٦٦م، ٣٦٠).

قفز الإله ديونسيوس إلى مُقدِّمة الآلهة عن طريقين؛ الأول: هو طريق اللَّذة والسعادة التي كانت هدَف العصر الهيلنستي أخلاقيًّا، وكان هذا الإله يمثل أعلى أشكالهما، أما الطريق الثاني: فكان عن طريق النِّحَل أو المِلَل السِّرِّية التي كانت تُمثِّل باطن الديانة الإغريقية … فقد كان الإله ديونسيوس العامِل المشترَك بين هذه المِلَل والنِّحَل على اختلاف أسمائها؛ مثل: «الإليوزيسية، والديونسيوسية، والأورفية … إلخ»، وسرعان ما تَحوَّل ديونسيوس إلى إله مُسارِّي واحد تُقام له طقوس الأسرار، ويَبتَغي منه العابِد خلاصًا وأَملًا.

ولْنُحاوِل إلقاء الضوء على هذه النقطة بالذات؛ إذ كيف يَتحوَّل إله يَترافَق مع الطقوس السِّرِّية الرامية للتَّوسُّل، أو للاتِّحاد مع آلهة المُدن لضمان الخَلاص الأُخْرَوي إلى إله للذة والسعادة، وإلى إله شامِل يَطغى على بقية الآلهة؟

كان الإله ديونسيوس يُمثِّل عقائد الآخِرَة، فهو الإله المَدفُون في الأرض والذي له علاقة بحكم الموتى هناك؛ ولذلك كان الأحياء يَتوسَّلونه في طقوس سِرِّية وغامضة لضمان رِضاه عنهم بعد الموت … لكنه كان إله الحياة، والعنب، والخَمرة، والمَرح في الوقت نفسه. أي إنه جمَع الحياة والموت في آنٍ واحد؛ ولذلك كان مُرشَّحًا لأن يكون الإله الأكثر شمولًا والأكثر تَفريدًا في العصر الهيلنستي.

ثم إن ديونسيوس بمجيء الإغريق إلى الشرق لاقَى جذوره التي خرج منها، ذات يوم، وذهَب إلى اليونان. فهو شكْل من أشكال أعظم آلهة الشرق الأدنى القديم؛ مثل: دموزي السومري، وتموز البابلي، وأدونيس الفينيقي، وأوزوريس المصري. وكانت هذه الآلهة ما زالت تَمضِي بشعبية كبيرة بين الناس، بل إنَّ الديانات الرسمية لشعوب الشرق كانت قد ذَوَت بينما ظَلَّ تَوهُّج هذه الآلهة الشعبية قائمًا.

وهكذا أنعش ظهور ديونسيوس هذه الآلهة، كما أنها أعْطَته غطاءً جماهيريًّا واضحًا ليكون أكثر الآلهة انتشارًا. إن هذا الإله لم يكن بحاجة إلى عرش أو زعامة أولمبية أو قمة هرم إلهي لِيتربَّع على ظهور الآلهة الآخَرِين؛ فهو إله طافِح بالحيوية، ويَكفِيه أنه يُمثِّل قوة الحياة لا قهرها، ويُمثِّل الشَّغف بالحاضر عَبْر المجون، والجنس واللذة، ولا يُمثِّل الزِّعامة السياسية الصاعقة الكاسحة التي كان يُمثِّلها «زوس» مثلًا. وهو ما كان عليه إيقاع الحياة الهيلنستية الطافحة بنشدان ينابيع الحياة والسعادة واللذة. وقد ارتفع مَقامه التَّفريدي منذ ولاية بطليموس الرابع.

ويُؤكِّد هيرودت أن هناك إلهًا آخَر اسمه «زلموكيس Zalmoxis» كان يعرفه لفيثاغورس، هو صورة أُخرى من صور ديونسيوس ليتم الربط بين العقائد الفيثاغورية، والديونسيوسية، والأروفية.

وحين رحل ديونسيوس من تراقيا إلى بلاد اليونان حلَّ في دِلفي قرب أبولون، ونافَسه، وأخذ بعض صفاته كما سنرى.

(٣-١) أسطورة ولادته

أحبَّ زُوسُ سميلا (سيميليه) ابنة قدموس مَلك طِيبة، وأقسَم لها بأن يُحقِّق لها كل ما تريد فعرَفَت زوجتُه هيرا بذلك، واستدرَجَت سميلا، وطلبت منها أن تقول لزوس بأن يتجلَّى بكل عظمته الإلهية لها.

وافق زوس وجاء إلى قصر قدموس محفوفًا بعظمته فاهتزَّت الصواعق في يده، واضطرب القصر وترنَّحَت أركانه، وولدت سميلا وهي في نزعها الأخير طفلًا هزيلًا عاجزًا عن الحياة هو ديونسيوس، لكن شجرة لبلاب خرجَت من الأرض واحتضَنَت الوليد وحَمَته من النيران، ثم قام زوس بشق فَخِذه ووضَعَه فيه وخاط فخده حيث اشتَد ووُلِد ثانية من فَخِذ زوس، ثم أعطاه زوس إلى إينو وزوجها أتامانت مَلك أورخومين (في بيوتيا على شاطئ بحيرة كاباييد) ليرعياه، فعاقبَتْهما هيرا فأرسلت الجنون إلى المَلك وهرَبَت الزوجة عن ولدها ورَمَت نفسها من صخرة على البحر لتتحوَّل هي وولدها إلى إلهين بحريين ما زالَا في البحر.

وقام هِرْمِس برعاية ديونسيوس وأعطاه للجِنِّيَّات، فبَذَلن جهدًا في تربيته، فكافأهن زوس بأن رفَعَهن إلى السماء ثوابًا لما قُمْنَ به، وعُرِفْن في السماء باسم «هياد»، وهن نجوم بين مجموعة أوريون التي تُعَد واحدة من أكثر المجموعات تألُّقًا في السماء.

(٣-٢) صِباه وشبابه

أَتقَن ديونسيوس في صباه الزِّراعة، وخصوصًا زراعة الكروم، وتقطير النبيذ من عصير العنب؛ فأصبح إله الخَمْر وإله خِصْب الطبيعة معًا.

figure
ديونيسيوس/باخوس الروماني إله الخَمر واللَّذَّة في روما.
لاحقَتْه هيرا بِغضَبِها وجعَلَته لا يستقر في بلد؛ فطاف بلدان العالَم على مَركبة تَجرُّها النمور ويُرافقه الساتير العجوز السِّكِّير «سيلينوس» راكبًا جَحْشًا، ومحوطًا بمجموعة من الخَدم، والمايناديس، والمُعربِدين الذين لهم قرون الماعز، والمُعربِدين الذين يحملون أغصان الكروم المُتوَّجة بثمار الصنوبر، وحصلَت له مجموعة من المغامَرات والأساطير التي نذكرها هنا مُوجَزة:
  • (١)

    في فريجيا: استقبَله ميداس مَلك فريجيا وطَلب منه أن يَمنحه القُدرة على تحويل كل شيء إلى ذهَب حالَ لمسه؛ فاستجاب له لكنه لَمس طعامه وشَرابه فلم يَستطِع الأكل والشُّرب لتحوُّلِهما إلى ذَهَب، وكاد يموت من الجوع والعطش، فأسرع إلى ديونسيوس لِيُعطِّل هذه القُدْرة عنده فأرسله إلى نهر باكتولوس لِيستَحِم به وتذهب عنه هذه القُدرة.

  • (٢)

    في تراسيا: لم يَستقبِلْه المَلك ليسورغ وأراد أَسْرَه؛ فَهرب ديونسيوس إلى الإلهة البحرية «تيتيس» فأسرع ليسورغ موكب حراسته من إناث الشياطين فَهرَبْن بقوة سحرية فأصاب المَلك الجنون، فتناول فأسًا وتوَهَّم أنه يقطع دوالي الكرم، ولكِنَّه في الواقع يَضرب فَخذه ويَبتر عضوه الذَّكَري. ولدى صَحْوَته من جنونه اكتشف أن البلاد أُصِيبَت بالعقم؛ فأَمَر العَرَّافُ بقتْلِ الملك وتقطيعه إِربًا.

  • (٣)

    في الهند: مُغامَراته تُشبِه فتوحات الإسكندر في الهند.

  • (٤)

    في طيبة: تضايق منه «بينتيه» إله طيبة ومِن مَنظَر العابدات الصارخات المَذعورات فمَنع عبادته، وبينما كان يُراقِب على قمة سيثرون تَحرُّكات إناث الشياطين تناوَلَته أُمُّه وقَطعَتْه إربًا مُعتقِدة أنه أسَد … وازدادت عبادة ديونسيوس.

  • (٥)

    في أرغوس: اتَّهَمتْ بنات الملك بروتيوس، ديونسيوسَ بالهذَيان فَرُحْن يَتُهْن في الجَبل مُعتقِدات أنهن تَحوَّلْن إلى عجلات حتَّى الْتَهمْن أطفالهن.

  • (٦)

    في أرخومين: رَفضَت بنات الملك مينوس في أرخومين الاعتراف بعبادة ديونسيوس، فدخَلْن المنزل وانْصرَفْن للغَزْل والحياكة. وما إن بَدأت احتفالات ديونسيوس ليلًا حتى استحالَت خيوط الغَزْل في أيديهن أغصانًا من الكروم وتدلَّت منها العناقيد، وظَهرَت في البيت أضواء المَشاعل، ودَبَّ الرعب، وضَمرَت أجساد الفتيات، واكتسَتْ بالوَبَر الأسود، ونَمَتْ فوقها أجنحة لَزِجَة الجِلد بدلًا من الذراعين، واستحالَت الفتيات إلى وَطاويط تَختفِي في المَغاور والكهوف الرَّطبة منذ ذلك اليوم.

  • (٧)

    في تيرينا: شاهَد قراصنةُ تيرينا (الأتروسكيون في إيطاليا) ديونسيوسَ واقفًا على الشاطئ فاختطفوه كي يبيعوه دون أن يَعرفوا بأنَّه إله، فصَفَّدوه بالسلاسل لكن السلاسل سَقطَت من يده؛ فَطلب منهم مُوجِّه السفينة أن يتركوه وشأْنَه، لكن القراصنة أصَرُّوا على ذلك فتدفَّقَت الخمور في السفينة فذُعر القراصنة، وتَحوَّل ديونسيوس إلى أَسَد ومزَّقَهم ورماهم إلى البحر؛ فَتحوَّلوا إلى دلافين، وأكْرَم مُوجِّه السفينة بعد أن كشَف له شخصيته.

  • (٨)

    في أتيكا: رحَّبَ إيكاريوس بديونسيوس في أتيكا؛ فأكرَمه بكرمة ليصنع من عِنَبها الخَمر، فصنع وأطعمها لرجاله فتصوَّرُوها سُمًّا؛ فقتلوه ورمَوا جُثَّته بين الجبال، فقامَت ابنته «بريغونا» وكَلبَتُها بالبحث عنه، ولما وجدَتْه شَنَقتْ نفسها مع كلبها؛ فرفَعَهم ديونسيوس إلى السماء، وهم نجوم: فولوباس، والعذراء، والكلب الأكبر.

(٣-٣) أسطورة زواجه

لم يكن ديونسيوس كَثير المغامَرات مع النساء مثل أبولون، وهِرْمِس، ولكنه أحب «أريادني» ابنة مينوس ملك كِريت عندما وجَدَها نائمة على شواطئ ناكسوس؛ فتزوَّجها وقدَّم لها هدية العُرس تاجًا يضم سبعة أحجار كريمة، ورفَعها إلى السماء بعد موتها، وصارت الكوكبة المعروفة باسم «الإكليل». أما وَالدَتُه سيميلية فقد هبط إلى العالَم الأسفل ورفَعَها إلى الأولمب؛ فَغدَت إلهة تُعبد باسم «ثووني».

(٣-٤) ديونسيوس وأبولو

وفَدَت عبادة ديونسيوس إلى دلفي ونافَست عبادة أبولو من طريق كهانة النبوءة التي كانت تُمارَس مِن قِبَل المُتعبِّدات اللائي يَغِبْن عن الوعي بعد شراب النبيذ، ويَتصوَّرْن كأن روح الإله تَملَّكَتهن أو أنَّهُن اتَّحدْن بها تمامًا فَيَصِرْن «مجذوبات»، أو «مجنونات». وكانت كاهنات أبولو يَفْعَلْن الشيء ذاتَه تقريبًا … وهكذا كان لا بُدَّ مِن تَصالُح العِبادَتين، وتَعايُش الإلهين سلميًّا في دلفي، «وقد ساعَد ذلك على نَشْر عبادة ديونسيوس، وعلى الأخص بين النساء والعبيد والفقراء، هكذا لقى ديونسيوس ترحيبًا في حَرَم دلفي المُقدَّس، بل أصبح شريكًا لأبولون في معبده، حتى لقد قيل فيما بعد إن السرة أو الحجر الموجود في قُدس أقداس المعبد كان يضم رفات ديونسيوس.»

figure
ديونسيوس مع الساتير.

في كتاب نيتشه «مولد المأساة من روح الموسيقى» يَتحدَّث عن الإلهين ديونسيوس وأبولو، ويرى أن الفن والروح اليونانية يتجسدان في اتحاد المِثالَين الأعليين … اتحاد القوة الرجولية القَلِقَة المُتبرِّمة قوة ديونسيوس، والجمال الأنثوي الهادئ جمال أبولو؛ فهو يرى أن ديونسيوس إله الخَمرة، والعَرْبَدة، والمَرح، والحياة المُتصاعِدة، والغبطة في الفعل، إله الانفعال الانذهالي، والوحي، إله الغريزة، والمُغامَرة، والمعاناة الجسور، إله الغناء، والموسيقى، والرقص، والدراما، أما أبولو فهو إله السلام، والفراغ، والطمأنينة، والهجوع، والانفعال الجمالي، والتأمُّل الفكري، إله النظام المنطقي والهدوء الفلسفي، إله التصوير، والنحت، والشِّعر الملحمي. وكان ديونسيوس مُلهِم الجوقة في الدراما، وأبولو مُلهِم الحوار، وقد نَمَت الجوقة مباشرة من مَوكِب المُتعبِّدين لديونسيوس ذوي الألبسة الساتيرية، أما الحوار فكان رأيًا دَبرِيًّا ذَيلِيًّا تأمُّليًّا لخبرة انفعالية.

(٣-٥) ألقابه

  • (١)
    المولود مرتين (ديترامبوس Dithyrambose)، ومنه اشْتُقَّت أغاني الديثرامب التراجيدية.
  • (٢)
    إله البهجة (Polygethes).
  • (٣)
    إله السرور (Charma).
  • (٤)
    إله الشعب (Demotikos).
  • (٥)
    الإله المُحرِّر (Lusios).

(٣-٦) أتباعه

  • (١)

    الساتير: وهو كائِن خرافي، نِصفُه الأعلى بَشَر له قرون، ونِصفُه الأسفل يُشبِه الماعز، ويَدلُّ على المُجون والرَّغبَة الجنسية العارمة، ويُسمَّى عند الرومان ﺑ «فارتوس»؛ أي «جان الغاب».

  • (٢)

    السيلينوي: وهو ساتير هَرِم عَلَّم ديونسيوس الموسيقى والغناء.

  • (٣)

    مايناديس: الراقصات، وهن حَظِيَّات (رفيقات) ديونسيوس.

  • (٤)
    الثياديات (Thyiades): وهن النسوة المتفانيات في عبادته، واللائي كن يَطُفن بمرتفعات جبل برناسوس، وهن في حالة جذب من فرط السُّكْر والعربدة خلال الاحتفالات التي كانت تُجْرَى «مرة كل سنتين» خلال ثلاثة أشهر الشتاء، حيث يَتغيَّب أبولو عن معبده في دلفي ليقضي هذه الفترة مع شَعْبه الغريب المختار المُسمَّى بالهيبربوريين، وكان يحل محله ديونسيوس.
figure
مينادة تتوسَّط ساتِيرَيْن.

كان زيوس قد أنجَبَه من المرأة «سيميلي» ابنة قدموس الملك الفينيقي الأصل الذي هو الآن ملك طيبة ومؤسِّسها في بلاد الإغريق، وبسبب من أصله البشري والإلهي معًا فإن اللعنة حلَّت عليه خصوصًا أنه أكْمَل مدة نُموِّه الجنيني — بعد وفاة أمه التي أبْهَرَها مَنْظَر زوس فماتت — في فَخِذ والِده.

ويُعتَبر ديونسيوس (باخوس) كإله للخَمْر مصدرًا للشهوة، واللذة الجسدية، وهو يُعبِّر عن النشوة التي تظهر في أعماق الإنسان وتَصعد به إلى الأعالي وكأنه إله، وهذا ما يُفسِّر الطبيعة البشرية الإلهية المزدَوجة لديونسيوس (باخوس).

figure
الاحتفالات الباخوسية (الديانة المُسارِّيَّة).

وكانت البَاخُوسِيَّات مجموعة من النساء المُتوحِّشات اللائي يُقْمِن احتفالات ماجنة وغريبة في الغابات مع مريديه من الشعراء الذين ينظمون مرثيات «ديثورامبوس»، والخمريات المُستوْحَاة من جلساته.

هذه الطقوس الديونسيوسية هي مصدر نشوء المسرح عن الإغريق والتراجيديا بِشكْل خاص.

أما مأساته الخاصة فقد نشأت عن تَمزيق التيتان له عندما كان على هيئة ثَوْر بَعْد أن حوَّل نفسه له هربًا منهم. وأصبَحَت مأساة موته موضوعًا لمرثيات الديثورامبوس. بل إن الدين الإغريقي تَطوَّر كثيرًا من خلال طقوس موته التي كانت تُقام في أعياد ديونسيوس في شهر آذار من كل عام؛ حيث تَخصَّص ثلاثة أيام في أَثِينَا وغيرها لعروض مسرحية ولطقوس تَقوم بها أخويات باخوس.

وتُظهر بعض الآثار ديونسيوس وثلاث شخصيات أُخرى مع سَلة تحمل أربعة ألعاب روحية؛ هي: «الدوَّامة، المعيَّن، الكعوب، المرآة» وهي الألعاب التي جذب بها التيتيان الطفل ديونسيوس زاغروس وذبحوه وقطعوه إلى أجزاء.

ويبدو أن التباهي بالقضيب كان يُشكِّل جزءًا من هذه الشعائر الرهيبة التي تَسبِق المرور للحضرة الإلهية. ويظن بويانسيه (Boyance) أن مَن كان يستطيع أن يُوجِد الإيمان في المُتلقِّي، واليقين بدعم إلهي؛ قادرٌ بأن يَضمَن له في الآخرة مصيرًا مُتميِّزًا، لم يكن يستطيع أن يحصل على رؤية شيء كهذا، فالعمل المركزي للمُسارَّة كان الحضور الإلهي الذي يَغدو محسوسًا بالموسيقى والرقص، التجربة التي تُولد «العقيدة برابطة صميمية تقام مع الإله». (إلياد، ج٢، ٢٠٠٦م، ٣١٢).

كان ديونسيوس إلهًا للقَمْح والكَرْم والأشجار المُثمرة، وعَبَّرَت عنه رموز؛ مثل: القمر، والثورة، والماعز ذي القَرنين، وكان يظهر أحيانًا ككائن حامِل للذكورة والأنوثة معًا، أما طقوس الاحتفال به فكانت تَتضمَّن إحضار ثَور يقوم المُحتفِلون بتمزيقه وهو حيٌّ، ثم يُؤكَل لحمه نيئًا ويُشرَب دمه، وكانت تُستعاد أسطورته وهو يَتحوَّل إلى ثَور وينزل للعالَم الأسفل للبحث عن أمه واستعادتها (لاحظ التشابه مع أورفيوس الذي يُحاوِل استعادة حبيبته من العالَم الأسفل ويتم تمزيقه من قِبَل النساء). وفي كل هذه الطقوس كان يَجْرِي اقتناء الخَمْر من براميل خَمْر مُعَتَّقة قَبْل عام. وكان المُحتفِلون يسيرون في مَواكب وهم يَحملون تماثِيلَه، ومُتَتوِّجون بِحِلْية مَخروطية تُحِيط بها أوراق الكَرْم وحَبَّات العنب.

ولعل ما يلفت الانتباه أن شخصية ديونسيوس (باخوس) ومُسارَّته تحمل في رَحِمها شخصية المسيح ومُسارَّته أيضًا؛ فالاثنان وُلِدا في يوم ٢٥ من شهر ديسمبر (ك١)، والاثنان وُلِدا في مكان مُتشابِه، وكان يُطْلق عليهما اسم «الطفل المُقدَّس»، وتُنْسَب لكليهما معجزة تحويل الماء إلى خَمْر، وكذلك النهاية الدموية لكليهما وقيامتهما بعد الموت في تاريخ واحد تقريبًا.

إن ولادة ديونسيوس مُحاطةٌ هي الأخرى بألغاز كثيرة؛ فَولادته غير الكاملة من سيميلي أو من غيرها؛ مثل: «برسفوني أو ليثي» تشير إلى غرابة ولادة السيد المسيح من مريم العذراء. كما أن ديونسيوس ظهر كثيرًا وهو يَركَب الحمار كما دخل المسيح أورشليم، وحولهما الجموع تُلوِّح بالأغصان، وهناك مَن يُقارِن أتباع ديونسيوس من الشعراء والديونيسيات بأتباع المسيح.

إن هذا التشابه لم يكن وليد مُصادَفةٍ، بل هو يُطابِق ما ذهبْنَا إليه من أن المُسارِّيَّة كانت واحدة من ثلاثة أمور صاغت البدايات التوحيدية للمسيحية بِشكْل خاص.

وكان بطليموس الرابع من أشد المُتحمِّسين لعبادة الإله ديونسيوس، وادَّعى أنه ينحدر في سلالته من هذا الإله، بل وذهب إلى أبعد من ذلك عندما ادَّعَى أن شخصية هذا الإله تَتمثَّل فيه؛ فاتخذ لقبًا رسميًّا آخَر هو «ديونسيوس الجديد Neos Dionysos»، كما فعل فيما بعد ذلك بطليموس الثاني عشر (الزمَّار) أب كليوباترا السابعة.
figure
نيوس ديونسيوس الزمار.

(٤) آتيس وسيبيل

figure

كانت سيبيل أو سيبيلي بمثابة الإلهة الأم والإلهة العذراء في الوقت نفسه؛ لأنها تُلقَّب ﺑ «الإلهة الكبرى» و«الإلهة العذراء» و«سيدتنا»، وقد ظهر في هذا الوقت ما يُسمَّى ﺑ «كتاب تنبؤات سيبيل» الذي كان يضم ما يشبه الأبوكريفا أو الأبوكلبسيا الوثنية، التي بدت وكأنها مُقدِّمات ظهور التنبؤات الخاصة باليهود أولًا ثم المسيحيين.

وهناك مَن يرى أن مُؤلِّف تنبؤات سيبيل هي كاهنة بهذا الاسم تَسمَّت على اسم الإلهة، وهي مكتوبة بلغة يونانية وبشِعر سداسي الوزن بقي منها حوالي ١٢ كتابًا، كانت متداوَلة بين القرنين الثاني والخامس الميلاديين، وهي كُتب تُقدِّم معلومات مُهمَّة في الغُنُوصِية والميثولوجيا والأدب الرؤيوي (أبوكلبسيا) وغيرها.

لكن سيبيل وآتيس شكَّلَا ما يمكن أن نسميه ﺑ «الديانة المُسارِّيَّة» التي تعتمد على طقوس التَّنشِئة والعبور والأسرار، وكانت ديانة شعبية زراعية الجذور تختصر الآلهة بإلهة كبرى أو إله واحد. وهناك مَن يجد أن طقوس الختان هي واحدة من بقايا عبادة سيبيل.

استحوذت عبادة سيبيل على عقول الناس باعتبارها الأم الكبرى.

كانت عبادةُ الإلهة «سيبيل» [كيبيلي] (Cybele) منتشرةً في سورية. كانوا يقيمون أسرارَها المأساوية في الربيع. كان الطوافُ بالأواني الجنائزية [خوابي الأموات] (Cannophores) يجري على ذكرى الإله آتيس (Attis) الذي وُجِدَ طافيًا على المياه وسط قَصَب نهر «السنغاريوس Sangarius». كان هذا الإله الشاب يُمثَّل على هيئة فتًى وسيم كان يعيش في جبال فريجيا، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بدورة الفصول من خلال تجسيده لطاقات الطبيعة. كان الخيال الشعبي يراه على هيئة راعٍ صالح مُنهمِك في رعي ماشيته. حدثَتْ في ذلك الحين مأساةٌ دفعَتْ آتيس للتضحية برجولته ومن ثم للموت. يقوم فيما بعد من بين الأموات حتى لا ينفصلَ عن «سيبيل» أمِّ الآلهة التي أشركَتْه في مجدها (سمير عنحوري، بلاد الشام ولاية رومانية، موقع معابر http://www.maaber.org/issue_july08/lookout2_a.htm).
figure
سيبيلي فرجيا في آسيا الصغرى.
كان قطعُ أعضاء آتيس وجنازته وقيامته هي المَظاهر الاحتفالية الثلاثة الكبرى للعبادة؛ إذْ كانت تُقام بفاصلِ عدة أيام فيما بينها، وتقوم بإحياء آلام الإله وانتصاره فصلًا فصلًا. كان تصوُّفُ المُؤمِنين يَجِد فيها مادةً تَشفي غَليلَهم وتُحمِّسُهم. ونظرًا لاستحالة تقديم حفلة المأتم إلى جسد الإله، فإنهم كانوا يَتوجَّهون بها إلى شجرة الصنوبر، الشجرة التي ضحَّى تحتها آتيسُ برجولته. كانوا يأخذون الخشبَ المقدَّس ويَلفُّونه بشرائط صغيرة ويُزيِّنُونه بالبنفسج. ونظرًا لرغبتهم وإرادتهم في الاتحاد بالألوهة، يقوم «الغالوسيون» (Les galles)، وهم كهنة عبادة سيبيل، بضرب وتشطيب أنفسهم، وحتى غالبًا ما يقومون بِقطْع بعض أعضائهم. شيئًا فشيئًا حصل هناك مَذْهَب توفيقي. فقد تم دمج عِدَّة مَذاهب ومُعتقَدات. لقد تحوَّلَت احتفالاتُ أعياد الآلهة المُتعلِّقة بالإله «بعل» في بلاد الشام Baalath إلى عيد أمِّ الآلهة؛ نظرًا لشعبية «سيبيل» الكبيرة. واتَّخذَت الإلاهاتُ المحلياتُ هيئاتِ رحيَّا (Rhea) «سيبيل»؛ فلبسَتْ تاجًا وأحاطت عرْشَها بأُسُود. (سمير عنحوري، بلاد الشام ولاية رومانية، موقع معابر http://www.maaber.org/issue_july08/lookout2_a.htm).

والغالوسيون هم كهنة سيبيل المَخصيُّون؛ ربما تَسمَّوا بنهر «غالوس» في غالاسيا والذي كان يجري قُرْب معبد سيبيل الأصلي والذي يقال إنه يجعل كلَّ مَن يشرب منه مجنونًا، وبما هم بقايا كهنة الكالا السومري المنشأ. ويعمل هؤلاء على إخصاء أنفسهم بدموية، اقتداءً ﺑ «آتيس»، شريك سيبيل.

وهذا يعني أن الخِتان هو ترميز لِعَهْد مع هذه الإلهة أصبح يقتصر على قَطْع قطعة جِلْد صغيرة في العضو الذكري بدلًا من قطع الخصيتين.

figure
سبيلي وديونسيوس.

هناك من قارن آتيس بالسيد المسيح أيضًا، وعَقَد المقارَنات بينهما من حيث الشخصية، والسيرة، وتاريخ الولادة، والولادة من عذراء، والنهاية الدموية، والقيامة بعد الموت بثلاثة أيام … وغير ذلك مما سنذكره في سيرته.

إن هذه الميثولوجيا المُوغِلة في القِدَم، والشعائر الدموية التي سنشير إليها تُشكِّل الأرومة لدين إنقاذِي أصبح شعبيًّا لدرجة كبرى في العصور المسيحية الأولى في كل الإمبراطورية الرومانية. ومن المُؤكَّد أن السيناريو الأسطوري الطقوسي كان قد أَوضَح «السر» للنبات. إن الدم والأعضاء الجنسية المُقدَّمة لسيبيل كانت تَضمَن الخصوبة للأرض الأم. ولكن هذه العقيدة القديمة قد غُذِّيَت مع الزمن بدلالات دينية جديدة، وهذه الطقوس الدموية غَدَت وسائل للغفران (إلياد، ج٢، ٢٠٠٦م، ٣١٤).

الإله آتيس هو إله فريجي ليدي (وهي إغريقية شرقية في بلاد الأناضول) يُوصَف بأنه نِصْف إله مَحلِّي وأنه كان ابنًا للملك كروسيوس ملك ليديا، وأنه كان راعيًا في فريجيا، وقد حَلَم والده بحُلْم حيث رأى ابنه «آتيس» وهو يُقتل برمح حديدي بينما كان يصطاد خنزيرًا بريًّا، وحين طلب «آتيس» أن يصطاد الخنزير رفض والده ذلك بسبب حُلمه السَّيِّئ، لكن آتيس أقنعه بعد ذلك فذهب للصيد، لكن الأب ظل قلِقًا؛ فقام بتأجير شخص اسمه «أدرياستوس» وطلب منه أن يتبع آتيس ويحميه من الخنزير البري … فتبع «أدرياستوس» آتيس، وحين لمح الخنزير البري وجَّه الرمح نحوه وبدلًا من أن يصيبه أصاب آتيس وقتله. هذه الأسطورة رواها «هيرودوت».

ولا شك أن هذه الأسطورة تُذكِّرنا بأسطورة قَتْل تموز البابلي الذي هو أصل هذا النوع من الشخصيات والأساطير.

وفي أسطورة أخرى: كان آتيس ابن «نانا» الفريجية العذراء، وقد أحبَّتْه الإلهة «سيبيل»، وجعلَتْه أحد أتباعها واشترَطَت عليه أن لا يخونها وإلا فإنها ستجعل منه مجنونًا، وذات يوم التقى بالإلهة ابنة نهر «سنجاريوس» وضاجَعها، فجعلته سيبيل مجنونًا، وحين أراد أن ينتحر حوَّلَته إلى شجرةٍ ناريةٍ، وأخذت تبكي عليه، وأمَرَت كهنتها أن يُخْصُوا أنفسهم كل عام.

أما الأسطورة الثالثة فتروي أنه كان أحد كهنة سيبيل وكانت تحبه، لكنه هرب منها والتجأ إلى ملك فريجيا الذي قام بتوجيه ضربة له أرْدَته قتيلًا، وحاوَل أتباع سيبيل أن يُنقِذوه وهو تحت شجرة النار لكنهم لم يستطيعوا، وحين مات أَمرَت بَحَمْل مواكب حزن مهيبة له، وأن يقوم كهنتها بإخصاء أنفسهم سنويًّا له. ويُذْكَر أن آتيس قام من قبره بعد ثلاثة أيام. وهناك روايات أخرى لا تخرج في محتواها عمَّا ذكرناه.

وبطبيعة الحال هناك مَن رأى تماثلًا بين آتيس والمسيح في النقاط الآتية:
  • (١)

    ولادة آتيس في ٢٥ كانون الأول، وكذلك المسيح.

  • (٢)

    ولادة آتيس من نانا العذراء، وكذلك المسيح من مريم العذراء.

  • (٣)

    جرْح آتيس وموته، وكذلك صَلْب المسيح وموته.

  • (٤)

    قيامة آتيس بعد موته بعد ثلاثة أيام، وكذلك السيد المسيح.

  • (٥)

    أتباع آتيس يأكلون جسده كالخبز، ومُقارَنة ذلك بالعشاء الرباني.

  • (٦)

    إخصاء أتباعه لأنفسهم، يُقارَن بِتبَتُّل رجال ونساء الدين المسيحي.

  • (٧)

    تَقْدِمة الثَّور أو الجَدْي الذي كان يَستَحِم في دمها آتيس تُشْبِه الاغتسال في دم الحَمَل وبعض الطقوس المسيحية.

تتحدث الأساطير عن أن الكائن المزدوج الجنسي «هرمافروديت» والذي اسمه «أجديتيس» جاء إلى الوجود من حَجَر مُلقَّح من قبل زوس (وهذا الحجر هو رمز قديم للإلهة الأم الأرض)، وقد اتخذت الآلهة قرارًا بتحويل أجديتيس إلى أنثى فعملت على زوال ذُكورَته عن طريق إخصائه وتحويله إلى سيبيل. وهكذا تحتوي سيبيل أصلها الذكوري آتيس في داخلها. وكان آتيس يُعْتَبر تجلِّيًا للإلهة الأم الكبرى الخُنْثَى، وهو ابن وحبيب وضَحِيَّة للإلهة سيبيل.

ومن الراجح أن الوظيفة المُتعلِّقة بوجود فادٍ في العبادة كانت معروفة منذ وقت سابق. ففي بسيونونت (Pessiononte) كان يوجد «كونفريرية» مُغلَقة من نموذج ديانة الأَسْرار. وقبل إدخالها لروما بزمن طويل، كانت عبادة آتيس وسيبيل قد انتشرت في اليونان؛ حيث إنها تَحمَّلَت على ما يرجح العديد من التَّغيُّرات. وفي اليونان كما في روما فإن نُفور الكهنة الخِصْيَان تجاه الشعائر الدموية جعل اعتماد آتيس في وضْع تابع مرءوس. وخلال زمن طويل، لم يَستَفِد هذا الإله في روما من أية عبادة عامة، مع أن عددًا من التماثيل الصغيرة من الطين المشوي التي ترجع للقرن الثاني ق.م. تُؤكِّد وجوده. ولم يرتفع آتيس وطقوسه إلى المستوى الأول إلا تحت سُلطة كلوديوس وخلفائه، وسنشير إلى أهمية هذا الحدث. (إلياد، ج٢، ٢٠٠٦م، ٣١٤).

كانت الاحتفالات السيبيلية تُقام في حدود «١٥–٢٣» آذار في روما بعد أن دَخلَت عبادة سبييل إليها في حدود ٢٠٤ق.م. من أجل إنقاذ روما من قرطاج … وأُقِيم لها نُصب حجري أَسْوَد.

وكانت هذه الأعياد تُسمَّى أعياد القَصَب حيث تُحْمَل جثة رمزية من القَصَب المُقَطَّع إلى معبد سيبيل وفي ٢٤ آذار الذي هو يوم الدم كان كَهنَتُها يُمارِسون رَقصات وَحْشِية على صوت الطبول، ويَصِلُون إلى ذروة النشوة الروحية؛ فَيجلِدون أنفسهم حتى تَسيل دماؤهم، وأحيانًا يقطعون لحم أطرافهم بالسكاكين ويُقدِّمونها هدية للإلهة، وبعضهم كان يقطع أعضاءه الذَّكَرِية. وفي نهاية يوم الدَّم يُعْلَن الفرح ويَقوم الإله صباح اليوم التالي، وكان يُسمَّى هذا الفرح بهيراليا.

ثم يكون يومٌ للاستراحة وبعدها يَجْرِي طواف المُحتفِلِين عند ضفاف النهر وتُغرق تماثيل سيبيل فيها، ومن ثَمَّ يَمْسَح الكهنة المُرشَّحون الجُدد أجسادهم بدم الثَّور أو الكبش حيث يكونون مِثل أزواجٍ لسيبيل، وهو نوع من الختان الرمزي.

كانت هذه الطقوس تُعطِي وعدًا بالخلود «وهو منتهى الخلاص»، وخصوصًا عندما يلتحم المُرِيد بالرَّبَّة سيبيل عندما يغتسل بدم الضحية.

وهناك ما يدل على أن بعض الأباطرة الأنطونيين شَجَّعوا عبادة سيبيل الفريجية للوقوف بوجه انتشار المسيحية، وبسبب ما تحمله من شعائر الخلاص والقيامة والبعث كتلك الموجودة في المسيحية.

(٥) أدونيس

figure

أدونيس إله فينيقي له جذور سامية عميقة فهو دموزي السومري، وتموز البابلي، أوزويريس المصري، وهو قريب جدًّا من جاءوس القبرصي (أوس)، ومن بَعْل حدد الآرامي، ومن الإله التوسكاني «أتونيس»، والفريجي «آتيس».

figure
أدونيس وأفروديت للفنان تيتيان.

أصبحت أسطورته الإغريقية هي الأكثر شهرة؛ فقد قيل إنه وُلِد من عذراء، وإنه صُلِب أو مات مذبوحًا وسال دمه، وإنه يَرمُز للشمس أيضًا، وإنه يُبْعَث في شقائق النعمان الحمراء.

وُلد أدونيس من العذراء مورا ابنة الملك سينيراس ملك قبرص الذي كان مخمورًا فضاجعها وهي في فِراش أمها، وحين عَلِم والدها أراد قَتْلَها؛ فهربت وهي حامل بأدونيس، ثم تحوَّلَت إلى شجرة المُرِّ التي خرج الطفل منها. وكان أدونيس جميلًا فأحبَّتْه أفروديت وخبَّأَته عند برسفوني (ملكة العالَم الأسفل)، وحين كبر أحبَّتْه برسفوني، وتنازَعَت عليه، وحكَمَت الحورية «كاليوبي» بأن يعيش ثُلُث السَّنَة الأول مع برسفوني تحت الأرض، والثُّلث الثاني مع أفروديت فوق الأرض، والثُّلث الثالث كما يشاء هو. لكن برسفوني حرَّضَت «أريس» إله الحرب لكي يبعث خنزيرًا بريًّا فيقتل أدونيس، وتكون أفروديت له، وخرج الخنزير لأدونيس فقَتَله أدونيس لكن الخنزير جرح أدونيس جرحًا مميتًا، فمات وسال دَمُه وفي كل مكان سال الدم نَبتَت زهرة شقائق النعمان، ورفض «هادس» رب العالَم الأسفل عَودَته إلى الحياة. ولكن أفروديت هدَّدَت بجدب الحياة، فوافق «هادس» على عودته روحًا بلا جسد ليقضي نِصف السنة الأول على الأرض، ونصفها الثاني تحت الأرض.

ويبدو أن البطالمة منذ بطليموس الثالث ادَّعَوا أنهم أبناء وأحفاد الإله «أدونيس Adonis» الذي هو الشكل الفينيقي للإله دويونسيوس، كما أنه إله إغريقي قريب من ديونسيوس ومن أفروديت.

(٦) إيزيس

figure

إيزيس غنية عن التعريف؛ فهي إلهة الحب والأمومة والخصب عند المصريين القدماء، وقد حافظَت على مَكانتها في العصر الهيلنستي رفيقة لأوزوريس الهيلنستي الذي هو سرابيس. ولهما حكاية مُشابهة لبقية الآلهة المُسارِّيَّة. لكن ولادة حورس كإله ابن منهما هو الأمر الذي مَيَّز أسطورتهما لِيكوِّنا ثالوثًا عَكَس أثره على العقائد الروحية في العصر الهيلنستي.

كانت طقوس العيدين الهيلنستيين لإيزيس (المسمى قارب إيزس) وكان في الربيع، ولأوزوريس (المسمى بعيد أوزوريس قبيل بداية نوفمبر)، هذه الطقوس تُؤكِّد على الالتحام بالإله، وخصوصًا طقوس إيزيس؛ حيث يقوم المُريد بالهبوط إلى العالَم الأسفل ليرى الشمس مُشِعَّة في ظلام ما تحت الأرض، وهو مكان مُهيَّأ سَلفًا له للوصول إلى غرفة مضاءة بشدة، ثم يُبْعَث المُريد بعد امتحانات مُسارِّية، ويكون مُرتَديًا في الصباح ١٢ ثوبًا شعائريًّا تَرمُز للأبراج الاثني عشر، ويصل إلى تمثال إيزيس ورأْسُه مُحاط بتاج من سَعَف النخيل، ويكون هذا اليوم هو يوم لإعادة ولادته في حِضْن الأسرار. وكذلك طقوس التَّمثُّل بأوزويرس والالتحام معه والظهور كابن له (حورس) يعكس الأمر ذاته.

إن الشعبية الكبرى للأسرار المصرية في القرون الأولى من العصر المسيحي، وواقعة أن بعض ملامح الأيقونات وميثولوجيا العذراء مريم قد استُعيرت من إيزيس، تَدلُّ على تَعلُّق ذلك بإبداع ديني رسمي، وليس بانبعاث مصنع ومستهلك. ويجب اعتبار آلهة الأسرار كتجلِّيات جديدة لإيزيس وأوزوريس. وما هو أكثر من ذلك، تلك التفسيرات الهيلنستية التي ستتطور من قِبَل اللاهوتيين الأرفيين الجُدد، والأفلاطونيين الجدد. إن أوزوريس المُمثَّل بديونيزوس (الذي هو أيضًا قد قُتِل وقُطِّع وبُعِث) أوضحَت بإعجاب الثيولوجيا الأورفية الجديدة: النَّشكَونِية المُدركة كتضحية ذاتية للألوهة، مثل تُبعْثُر الواحد في التَّعدُّد، المَتبوع «بالبعث»؛ أي بتجمُّع المُتعدِّد في الواحد الأوَّلِي. إن التطابُق المتبادَل لكافَّة الآلهة يصل إلى «وحدانية» من نوع توفيقي، أثَّر لدى أصحاب النزعة الصوفية التي ترمي للاتحاد بالرب في العصر القديم (إلياد، ج٢، ٢٠٠٦م، ٣٢١).

figure
مشهد من فُسَيفساء جداري في معبد بومبي حيث «أيو» تُرحِّب بالإلهة المصرية «إيزيس».

(٧) مِثرا

figure

ينحدر الإله الإيراني «مثرا» من الإله الفيدي «مترا» الذي يعني «المعاهدة، الرباط»، وكلاهما من أصل هندو إيراني أصيل.

في بلاد فارس عُبِد مثرا باسم «مثراس»، وعُرف بأسماء كثيرة منها «ميثرا، ميترا، ميهرا، مهر، ميهير، مهرا» وهو إله قديم، ويُعتبر ابن الإلهة العذراء أناهيتا «إلهة الماء والخصوبة»، وتسمى ﺑ «أم الآلهة»، وكان يُعْتَبر ابنًا للإله أهورا مزدا إله النور والخير؛ ولذلك فهو إله الشمس والصدق والعدالة والذي يتوسط بين البشر والإله الأعلى أهورا مزدا. وهو يقف حاجزًا بين النور والظلام «بين الإلهين أهورا مزدا وأهريمان»، ويراقب عدالة العالَم وهو قاضي الموتى يحاسب الأرواح بعد الموت ويحكم عليها، فهي إما للفردوس أو للنار، وكان يرمز للتاج الفارجي الذي يلبسه الملوك الفُرس وهو يمثل قرص الشمس المُقدَّس.

ورغم أن مثرا هو الإله القومي للفرثيين بشكل خاص ولملوكهم، لكنه انتشر في عبادته حتى عند الرومان الذين عبدوه أثناء احتكاكهم بالفرثيين، وتعدَّى ذلك فانتشر في كل أنحاء العالَم القديم في زمن مُقارِب لظهور المسيحية وما بعدها. وقد كان زمن انتشار عبادته بين الرومان في حدود القرن الأول قبل الميلاد.

تُظهِر الميثولوجيا الفارسية ولادة مثرا من حجر — كما في أجديتي الفريجي — في مغارة وكانت طقوس المَلكية الإيرانية تُظهِر المَلك على أنه «مثرا» جديد مُعاد تجسيده، ونَجِد أصداء مَغارة مثرا في مَغارة بيت لحم المنوَّرة التي وُلد فيها السيد المسيح. ولا يمكننا نسيان المُسارَّة الشمسية لمثرا وكيف أنه يُمثِّلها حين وُلد في ٢٥ من كانون الأول (ديسمبر)، وكانت طقوس ولادته في هذا التاريخ تجري مع ذبح ثور تتولد من دمه النباتات، ومن نُخاعِه القمح ثم الخبز، ومن دَمه العنب الذي يُنتِج الشراب المُقدَّس.

كان الفُرس يُسمُّونه أيضًا باسم «يازور»؛ أي «المُخلِّص»، أو «الفادي»، وكان له اثنا عشر بُرجًا تدور حوله باعتباره الشمس.

كان قسطنطين يَعْبد مثرا قبل اعتناقه المسيحية، وكان مثرا إله الجنود الرومان المُفضَّل، وحين اعتنق قسطنطين المسيحية ادَّعى أنه رأى صليبًا تحت قرص الشمس (ليجمع بين الديانتين ويُرضِي المسيحيين والرومان المثرائيين).

وكانت المِثْرائية واسعة الانتشار بين حُكَّام آسيا الصغرى الذين عُرفوا باسم مثريدتس (Mithirdase)، وحمل هذا اللقب اسم مثرا وأشهرهم مثريدتس الرابع (١١١–٦٣ق.م.) المُعارِض للجمهورية الرومانية والذي كان مِثرائي الديانة. ويتجلَّى الطابع الشمسي لمثرا في الطقوس التي كانت تُقام له.

إن ذبح الثور كان يتم في المغارة، بحضور الشمس والقمر. وإن البنية الكونية للأضحية مُشار إليها بالاثنتي عشرة إشارة من الأبراج، والكواكب السبعة السَّيارة، ورموز الرياح والفصول الأربعة، وشخصيتان: كوتس وكوتوباتس، تَلبسان كَمِيثرا، وكل منهما يحمل مصباحًا متوقدًا في يده، وهما ينظران بانتباه لعمل الإله الباهر، إنهما يُمثِّلان تَجلِّيَين آخَرَين لميثرا بصفته إلهًا شمسيًّا. (إلياد، ٢٠٠٦م، ٣٥٣).

وتُفصِح رسالة القديس جيروم عن سيناريو المُسارَّة المِثْرائية ودَرجاتها السَّبع، وهي:

(١) الغراب. (٢) العذراء. (٣) الجندي. (٤) الأسد. (٥) الفرس. (٦) ساعي المشي. (٧) الأب.

وكان قبول المؤمنين بها يبدأ من سبع سنوات للأطفال، ثم يَتدرَّجون، وكان التَّعميد أساسيًّا في الطقوس، ولكل درجة طقوس خاصة، وإن كل واحدة من هذه الدرجات كانت محمية بكوكب من الكواكب السبعة. وهي حسب التسلسل السابق: (عطارد، الزهرة، مارس، المشتري، القمر، الشمس، زُحل). وترتبط أيضًا بسبعة أنواع من المعادن هي: (الرصاص، القصدير، البرونز، الحديد، الخلطة، الفضة، الذهب) وبسبعة أنواع من الآلهة وهكذا …

وحسب كاتِب مسيحي من القرن الرابع، كانت تُعصب أعين المُرشَّحِين، أثناء الإحاطة بهم من قِبَل جمْع مُتهيِّج من الناس، بعضهم يُقلِّد نَعيق غراب مُحرِّك جناحيه، وبعضهم يُزمْجِر كالأسد. وكان على بعض المُرشَّحِين المربوطة أيديهم بمصارين الدجاج أن يَقفِزوا فوق حفرة مملوءة بالماء. ثم كان أحدُهم يَحضُر بعدئذٍ ويقطع المصارين ويُعلن محرَّرًا. إن مَشاهد المُسارَّة المُصوَّرة في رسوم الميثروم (Mithraeum) لكابو تجعل بعض هذه التجارب المُسارِّيَّة مُحتملة. إن واحدًا من المَشاهد المُحافَظ عليها جيدًا مَوصوفة من قِبَل كومنت كما يلي: «التلميذ جالِس وهو عارٍ من الثياب، وعيناه مَعصوبتان، ويَداه مكتوفتان خلْف ظهْرِه. والمُلقِّن (Mystagogue) يَقترِب منه من الخَلْف، كما لو أنه يَوَد دفْعَه إلى الأمام. وفي مواجهته، يتقدَّم كاهِن بثوب شَرقِي، مُعمَّم بطربوش عالٍ فريجي، ومادًّا حرْبَة صَوْب التلميذ. وفي مَشاهد أخرى، يَكُون التلميذ عاريًا راكعًا أو حتى مُمددًا على التبار.» ومن المعروف أيضًا أنه كان على التلميذ حضور موت صوري، ويُعْرَض عليه حَرْبة مُلوَّثة بدم الضحية. ومن الراجح جدًّا أن بعض الشعائر المُسارِّيَّة كانت تقتضي مَعارك ضد فزاعة (إلياد، ٢٠٠٦م، ٣٥٥).
figure
مثرا يذبح الثور في المثريوم.

كانت المِثْرائية مُوفَّقة جدًّا في كونها أكبر ديانة مُسارِّية توفيقية في العصر الرومانستي؛ فقد جَمعَت الديانات الفارسية، والإغريقية، والرومانية، وهي أكبر شعوب العصر الهيلنستي حضورًا وتأثيرًا. وكان مُقدَّرًا لها أن تغزو العالَم الهيلنستي كله وتتحوَّل إلى ديانة عالمية كليًّا، ولنتذكَّر قول أرنست رينان الذي قال: «لو أن المسيحية تَوقَّفَت في نُموِّها بأحد الأمراض القاتلة، لكان العالَم أصبح مِثْريًّا»؛ فقد كانت المِثْرائية أكبر ديانة مُنافِسة للمسيحية حتى القرن الرابع الميلادي، وقد أصبحَت هكذا؛ لأنها ديانة شمسية ناسَبَت إيقاع العصر الهيلنستي الشمسي الإيقاع والفلسفة والروح، ولأنها خَلَت من الطقوس التَّهتُّكية والمُنفِّرة، ولأنها كانت ديانة الجنود، لكن مَقْتلها كان بِعَدم السماح للنساء بالانتساب إليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥