المبحث الثالث

الهِرْمِسية

figure
رمز الهِرْمِسية.

يُعرِّف مرسيا إلياد الهِرْمِسية بأنها مجموعة المعتقَدات والأفكار والتطبيقات المُنتقلة في الأدب الهِرْمِسي، والمقصود بذلك مجموعة من النصوص ذات القيمة غير المتساوية المُحرَّرة بين القرن الثالث قبل ميلاد المسيح والقرن الثالث بعده. ويُمَيز عادةً بين صِنفين منها: الكتابات العائدة للهِرْمِسية الشعبية (تنجيم، سحر، علوم خفية، كيمياء … إلخ)، والأدب الهِرْمِسي العلمي، وبالدرجة الأولى منه السبع عشرة أطروحة باللغة اليونانية للمُدوَّنة الهِرْمِسية. ورغم اختلاف القصد والمحتوى والإنشاء، فإنه يُوجَد بين المجموعتين نصوص فيها وِحدة قصد. (إلياد، ٢٠٠٦م، ج٢، ٢٠٩).

كانت النصوص الشعبية تاريخيًّا هي الأقدم، ويرجع بعضها إلى القرن الثالث ق.م. أما الأدب الهِرْمِسي والفلسفة الهِرْمِسية فقد تَفتَّحَت بصورة خاصة في القرن الثاني بعد المسيح في الأجواء الهيلنستية. ويقول مرسيا إلياد: إن الأدب الهِرْمِسي بِممثِّليه وديكوره وأساطيره يبدو مصريًّا؛ خاصة بالنسبة للنصوص القديمة، وقد عزَّز ذلك اكتشافات الكتابات المصرية في قِنا عام ١٩٣٠م في منطقة نجع حمادي.

وقبل التَّعرُّف على هذه النصوص لا بُدَّ لنا من التَّعرُّف أو البحث في الشخصية التي تُنسب لها هذه النصوص وهو هِرْمِس، فمن هو هِرْمِس؟

figure
هِرْمِس مثلث العظمة ومدونته.

(١) هِرْمِس (الإله، النبي، الحكيم)

يُعتَبر هِرْمِس واحدًا من أكثر الشخصيات غموضًا في التاريخ، وقد تَنازَعت نَسبَه أُممٌ كثيرة في روايات ومَراجع مختلفة، وسنقوم بتلخيص شديد الإيجاز لأصوله المتعدِّدة هذه:
  • (١)

    الأصل البابلي: حيث يُروى أنه كان بابليًّا، ويُقْرَن ببناء بابل بعد الطوفان، ويَتعزَّز أصْلُه هذا بارتباطه بعلوم الفَلك والتنجيم البابلية، وببناء الهياكل أو المعابد الخاصة بالكواكب والنجوم في بابل.

  • (٢)

    الأصل المصري: ويُروَى أنه كان مصريًّا بعد الطوفان وأنه بَنَى الأهرام ويرتبط بشخصية «أمحتب» الحكيم والمهندس المصري الذي هَنْدَس بناء الهرم المُدرَّج، وكان وزير الملك المصري (الفرعون) زوسر من الأسرة الثالثة في مصر.

  • (٣)

    الأصل الحَرَّاني: حيث يَروِي الصابئة الحَرَّانيون (وهم ليسوا بصابئة، بل عبدة كواكب مِن بقايا الدِّين البابلي) أن هِرْمِس هو «بوذا سف» الذي بَنى هياكل الكواكب في بلادهم.

  • (٤)

    الأصل الْعرَبي: الذي نادَت به المَراجع اليمانية؛ حيث رأت في هِرْمِس أخنوخ أو إدريس وهو قَحطاني، وأب ﻟ «صابي» الذي تَختلط شخصيته بشخصية إدريس.

  • (٥)

    الأصل الفارسي: اسمه عند الفُرس «أبجهد» وكان جده «جيومرث»؛ أي آدم في التراث الفارسي القديم. لكن الإله «أهورامزدا» الذي يلفظه الإغريق ﺑ «هرمز أو هرمس»، وهو إله الشمس وعلم الضوء والخير في الزَّرادُشْتية هو الأقرب كجذر من جذور هِرْمِس.

  • (٦)

    الأصل الإغريقي: الإله هِرْمِس (رسول الآلهة)، وإله اللصوص والمُسافرين والتُّجَّار، وهو ابن الإله زوس من الإلهة مايا. وكذلك اختلطت شخصيته بالإله «أسكلابيوس» إله الطِّب عند الإغريق. ويرتبط بكوكب عطارد (ميركوري) عند الرومان.

  • (٧)

    الأصل الهندي: بوذا

figure
تحوت إله الكتابة المصري.
figure
أهورامزدا إله النور والخير والشمس الفارسي.
figure
هِرْمِس الإغريقي.
والحقيقة أن هناك جدلًا واسعًا حول أصل هِرْمِس وشخصيته المُتراوِحة بين الألوهية والنبوة والحكمة والمُلوكية، ويُعتَقد أن تسمية هِرْمِس مُثلَّث العظمة أو المُعظَّم ثلاثًا، أو مُثلَّث النِّعَم، أو مُثلَّث الرحمة هي ألقاب يجمعها مصطلح Hermes Trismegistus، وقد أُطلقت عليه لأنه جَمَع بين «النُّبوة والحِكمة والمُلوكية».
figure
هِرْمِس مثلث العظمة.

كما ذَكَره سفر التكوين في التوراة باسم أخنوخ، وذَكَره الإنجيل بنفس الاسم، وذكره القرآن باسم «إدريس».

وتُجْمِع المرويات على أنه أول مَن اخترع الكتابة، وأول مَن كَتب الصُّحف، وأول مَن خاط الثِّياب ولَبِسها، وفي صِفاته ما يَدلُّ على اهتمامه بالحكمة والكيمياء والفلك والتنجيم والطب … إلخ، وأنه أوَّل مَن حصل على الخلود وأول من صعد إلى السماء وغير ذلك كثير.

والحقيقة أننا لا يُمكِنُنا التَّوسع — في هذا الكتاب — في البحث عن شخصية هِرْمِس الحقيقية رغم أن الأمر يستحق ذلك، لكننا تَوصَّلْنا في كتابنا «موسوعة الفَلك عَبْر التاريخ» إلى أن هِرْمِس هو أحد ملوك قبل الطوفان، خلافًا لكلِّ الآراء المطروحة، وقادَتْنا المقارَنات اللغوية والآثارية إلى الإله السومري «إنكي»، أو «إيا» إله الماء والحِكمة والسحر في سومر، والذي كان يُرمز له بإنسان يَلبَس ملابس سَميكة ظَهَر في زمن أحد ملوك ما قَبْل الطوفان وهو الملك «أمينون»، وأعطى له معارفه وشرائعه، ثم أعطى هذا الملك تلك المَعارف والشَّرائع إلى مَلك آخر هو أيفيدوراكوس الذي سبق «أوبار توتو» والذي يشكل بأنه نفسه «زيو سورا»؛ أي نوح السومري … ولذلك ينحصر بحثنا عن هِرْمِس السومري بين «أمينون»، و«أيفيدوراكوس» وهما يقابلان الملكين الثالث والسادس من ملوك سومر قبل الطوفان (الماجدي، ٢٠٠٣م، ٦٩-٧٠).

ويبدو أن هذه الشخصية انتشرت شرقًا وغربًا؛ ففي مصر ارتبطَت باسم الإله «تحوت»، وباسم الوزير «أمحوتب» وباسم الفرعون خوفو (حيث كان هِرْمِس يُسمَّى خنوفيس الذي يتطابق مع خوفو)، ويُنسَب لهؤلاء بناء الأهرام (لاحِظ كلمة هرم لها علاقة بهِرْمِس)، وفي بلاد فارس طوبق مع «أبجهد» حفيد آدم الفارسي، وكذلك مع «أهورا مزدا» إله النور الذي يقترب من لفظ «هرمز».

وفي اليونان ظهر هِرْمِس بمثابة الرسول المَلكي … وهكذا.

ويَتَّضِح من اطِّلاعِنا على المَراجع التي ذَكرَت هِرْمِس وأهميته أن هذه الشخصية تَتمتَّع بأهمية كبيرة في علوم الأقدمين، وتُعْزَى لها الكثير من المُنجَزات. لكننا نشك في أن تَعاليمه كانت مُدوَّنة منه مُباشَرة، بل تمَّ تدوينها في القرون الثلاثة قبل الميلاد في العصر الهيلنستي، في مصر وتحديدًا في الإسكندرية، وظهرَت هذه المُدوَّنات كمَرجِع أساسي لمُدوَّنات أخرى باللغة اليونانية، ثم اللاتينية، ثم السريانية، ثم العربية، والعبرية! وكُلُّها نصوص موضوعة على لسان هِرْمِس أو إدريس أو أخنوخ، ولكنها ليست بالنصوص الأصلية أبدًا … فقد طَوَى الدهر هِرْمِس ما قبل الطوفان في حدود ٣٠٠٠ق.م. وما النصوص التي كُتِبَت منذ القرن الثالث قبل الميلاد إلا نصوص موضوعة على لسانه ومَنسوبة إليه.

ولكنها مع ذلك تُشير إلى بعض الأُسس التي يمكن اعتمادُها كمُنطَلقات أُولَى للمبادئ الهِرْمِسية التي كانت أشبه بالعلوم، أو التعاليم الخفية، ثم أصبحَتْ في العصر الهيلنستي أساس الفلسفة الهيلنسية الأفلاطونية الجديدة، وأساس الغُنُوصِية.

(٢) الهِرْمِسية الهيلنستية

لعلَّ أفضل من دَرَس الهرمسية الهيلنستية هو فيستوجير André-Jean Festugière (١٨٩٨–١٩٨٢م) الذي حقَّق النصوص الهِرْمِسية وترجَمها إلى الفرنسية في أربعة مُجلدات.
ثم درس الهِرْمِسية في أربعة مجلدات أخرى، وهو أوْسَع مَن قام بالبحث في الهِرْمِسية وكَشف نصوصها. وقد ظهرَت دراسته على الشَّكل الآتي:
  • (١)

    المجلد الأول ١٩٤٤م: مُقدِّمة حول المناخ الفكري لظهور الهِرْمِسية وعلم التنجيم والعلوم السرية.

  • (٢)

    المجلد الثاني ١٩٤٩م: النظرية الهِرْمِسية حول الإله الكوني والإله الخالق.

  • (٣)

    المجلد الثالث ١٩٥٢م: النَّفس وأصلها وطبيعتها ومصيرها.

  • (٤)

    المجلد الرابع ١٩٥٣م: الإله المتعالي والغُنُوص.

figure
كتاب فيستوجير عن هِرْمِس مثلث العظمة.

وبطبيعة الحال لا يمكننا تَلخيص أو شرح هذه المجلدات الأربعة، لكن فيستوجير رأى أن جذور الغُنُوصِية تَكْمُن في فلسفة أفلاطون، وأنها ظهرت كَتيَّار فلسفي ديني داخل الإمبراطورية الرومانية بعد أفول العقلانية اليونانية في أثينا وظهورها كتيَّار لا عقلاني في الإسكندرية الهيلنستية الرومانية بعد مرورها بأفاميا.

نهَلَت الهِرْمِسية الهيلنستية من مَنبعَين أساسيين: هما هِرْمِسية بابل وفارس، وهِرْمِسية الإسكندرية. فأما هِرْمِسية بابل وفارس فقد عرَفْنا كيف انحدَرَت من سومر إلى بابل وفارس، ودَور المِنْدائيين في حَمْلها وإيصالها إلى الإغريق السلوقيين بشكل خاص. وأما هِرْمِسية الإسكندرية فسنستعرض أهم أفكارها.

والأدب الهِرْمِسي العلمي، وبالدرجة الأولى منه، السبع عشرة أطروحة باللغة اليونانية للمُدوَّنة الهِرْمِسية (Corpus Hermeticum). ورغم اختلاف القصد والمحتوى والإنشاء، فإنه يُوجَد بين المجموعتين نصوص فيها بعض الوحدة في القَصد، وهذا ما يُعِيد إلى الذاكرة العلاقات بين التاوية الفلسفية والتاوية الشعبية، أو الاستمرارية بين العبارات «الكلاسيكية» و«الشاذة» (Baroques) لليوجا. وحسب التسلسل التاريخي فإن النصوص الهِرْمِسية الشعبية هي الأكثر قِدمًا، وبعضُها يَرجِع حتى القرن الثالث ق.م. أما بالنِّسبة للهِرْمِسية الفلسفية، فقد تَفتَّحَت بخاصة في القرن الثاني بعد المسيح. وكما كان مُتوقَّعًا فإن هذا الأدب، يعكس قليلًا أو كثيرًا التوفيقية اليهودية- المصرية (إذن بعض العناصر الإيرانية كذلك) وكان يعرف إضافة لذلك تأثير الأفلاطونية، إلا أنه بدءًا من القرن الثاني ق.م. أصبحَت الثنائية الغُنُوصِية هي السائدة (إلياد، ج٢، ٢٠٠٦م، ٣٢٢).

لقد حَرَّكَت النصوص الهِرْمِسية الهيلنستية الحياة الفكرية والروحية في الشرق الهيلنستي والتي يرى فيستوجير أنها من تأليفات القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد في دائرة الثقافة الهيلنستية، نافيًا إرجاعها إلى هِرْمِس المعروف عند اليهود بأخنوج وعند المسلمين بإدريس. ولعل من الأسماء المُبكِّرة التي مُهَّدت لهذا التراث الهِرْمِسي الهيلنستي؛ هي: نومينيوس الأفامي، ويامبليخوس، وسيردون السوري، والسيبياد زعيم طائفة الْكِيسيين أو الخاصيين، ثم ظَهر كِبار المُؤلِّفين الهِرْمِسيين لهذه الأدبيات والنصوص؛ وهم: بولوس ديمقريط (٢٠٠ق.م.)، ومانيطون المنحول (القرن الأول والثاني ق.م.)، ثم أبولونيوس الذي أسماه العرب — فيما بعد — باسم بلينياس.

تُنْسَب الهِرْمِسية إلى هِرْمِس «المُثلَّث العَظَمة»؛ لأنه كان «نبيًّا، وحكيمًا، وملكًا»، وربما كان لكل أمةٍ قديمةٍ هِرْمِسها، فهو عند المصريين الإله «تحوت أو طوط»، وهو عند السومريين «أنميدار أنَّا»، وعند الفُرس الإله أهورامزدا (هرمز)، وعند الإغريق الإله «هِرْمِس»، وعند اليهود «أخنوج»، وعند المسلمين «إدريس».

لكن النصوص الهِرْمِسية لا تنتمي لأيٍّ من هؤلاء، بل هي نصوص كثيرة مكتوبة باللغة الإغريقية أُلِّفَت في القرنين الثاني والثالث للميلاد، وقد كُتبت في الإسكندرية من قِبَل الإغريق، أو الأقباط الذين يُجيدون الإغريقية، ويرى فيستوجير أن هذه النصوص خليطٌ من الفلسفة والتنجيم والكيمياء والفلاحة، وهي ذات جذور شرقية، مُوضِّحًا أن هذه الجذور هي كما يلي:

  • (١)

    جذور النصوص الفلسفية الدينية الهِرْمِسية هي من الفلسفة الفيثاغورية الحديثة، والأفلاطونية الحديثة بشكل خاص.

  • (٢)

    جذور النصوص التنجيمية هي من علوم الفلك والتنجيم، والفلاحة البابلية الكلدانية.

  • (٣)

    جذور النصوص الكيميائية هي من الكيمياء النظرية اليونانية، ومن صناعة الذهب المصرية، وكيمياء أستانس الزَّرادُشْتية.

  • (٤)

    جذور النصوص الفلاحية هي من نصوص سالومون، والإسكندر، وبطليموس، وأبولونيوس.

وهذا يعني أن الهِرْمِسية مُركَّبٌ فلسفي ديني عِلمي قائم على أساس سِحْري، فهي نظرةٌ سِحْرية كاملة للعالَم وضَعَت نظامًا نظريًّا شاملًا للسِّحر بعد أن كان ممارَسة عملية مَحضَة عند الأقوام القديمة. ويبدو أن مَتنَها الفلسفي والديني هو الذي شكَّل أساس الغُنُوصِية. ولذلك يكون الفَرْق بين الهِرْمِسية والغُنُوصِية هو شمول الهِرْمِسية على الفَلسفة والدِّين والعِلم، بينما الغُنُوصِية هي اقتصارٌ على الفلسفة الدينية حصرًا، وكون الهِرْمِسية ذات طابَع نظري، أما الغُنُوصِية فَستتحوَّل إلى ديانات وفِرَق لها طُقوسها الخاصة.

ولعل أهم ما عالَجَته الهِرْمِسية هو هُبوط الروح أو النفس وصعودها إلى السماء، ومصيرها المُتنوِّع.

عَرْض واحد إذَنْ للشَّمائل الخاصة بالنفس عند الهَرامِسة وعند سابقيهم المُباشِرين، ومعاصريهم ولاحقيهم من الأفلاطونيين، بل حل واحد في فحواه لتلك المسائل. ثم اختلاف في أسلوب المُعالَجة وغايتها. بين جميع هذه المؤلَّفَات الأفلاطونية، والمؤلَّفات الهِرْمِسية، اتَّفاق في تقسيم المسائل الرئيسية المُتعلِّقة بالنَّفْس، وفي ترتيب تلك المسائل وهي أربع: طبيعة النَّفْس وأصْلُها، حُلول النَّفْس في الجسم، مَصير النَّفْس في حياتها البدنية، عَودة النَّفْس إلى أصلها واتحادها بالإله (بلدي، ١٩٦٢م، ١٠٠).

الهِرْمِسية تبدو وكأنها مرحلة بين الأسطورة والفلسفة، فهي تَرصُد نزول وصعود النَّفْس في أدبياتها القديمة من خلال الأساطير والكائنات الأسطورية، بينما الفلسفة — وخصوصًا عند أفلاطون — تُعْرَض بواسطة المفاهيم والمُجرَّدات، ويبدو أن هذه هي وظيفة الفلسفة أساسًا في بدايتها.

وفي الكلام عن طبيعة النفس في أصْلِها، الموقف واحد من الناحية الموضوعية. ولكنَّ الجو الروحي مُختَلِف، وكذلك أسلوب العرض ذاته. فعند الأفلاطونيين نَجِد الحجة المعروفة — من وقت أفلاطون — على الأصل الإلهي للنَّفْس: فالنفس مُخالِفة للبدن في أفعالها وطبيعتها، مُستقِلَّة عنه. إنها غَيْر مُعرَّضة مثله للانحلال والموت. إنها إذَنْ مِن أصْل إلهي، بدلًا من هذا العَرْض الذي يَتَّخِذ عند الأفلاطونيين صيغة القياس، ويعتمد على المُقدِّمات؛ نجد الهَرامِسة يَعتمدون على الأساطير، فيَصِفون ميلاد إنسان سماوي كامل، مُشابِه من جميع الوجوه لأبيه السماوي، ومُتمتِّع بجميع مزايا الإله. ثم نَجِد تلميذ الهَرامِسة يُؤمِن بتلك الأسطورة، ويَتعرَّف عندئذٍ عَدَم تَعرُّض النَّفْس للانحلال وخلودها (بلدي، ١٩٦٢م، ١٠١).

ويبدو أن أصْلَ النَّفْس ومصيرها هو جوهر الهِرْمِسية في جانِبها الفلسفي، ونَرى أن هذا الأمر قد تحوَّل في الهِرْمِسية من تلك الأساطير القديمة التي كانت تجعل الآلهة يَرحلُون إلى العالَم السفلي، ويصعدون من الأرض إلى السماء، أو يهبطون من السماء إلى الأرض، هي أصل هذه الفكرة، لكن التَّماسَّ مع الفلسفة الأفلاطونية هو الذي جعَلَها تَتحدَّث عن هذا الأمْر بلغة اقترَبَت من لغة الفلسفة.

وعي النَّفْس بحلولها في الجسم، هو الذي يُنبِّهها إلى أصْلِها الإلهي، وهو الذي يَدفع بها — بعد معرفتها لأصلها — إلى البحث عن مصيرها في هذه الدنيا، وعن مآلها بعد الموت، وهو الذي يُوجِّهها نحو الأساطير الخاصة بالتجسد، نحو تصديق بعضها دون البعض الآخر. ولعل التَّعبِير الهِرْمِسي عن وَعْي النَّفْس هذا، كان أقوى التعبيرات الأفلاطونية عن مسألة النَّفْس، إذا استثنينا أفلاطون نفسه وأفلوطين. فبينما يَصِف الأفلاطونيون المعاصرون للهرامسة حالَ النَّفْس في تأثُّرها بالأجسام بِوجْه عام، وبالجسم الذي حَلَّت فيه بوجْه خاص، مُكرِّرِين أقوال أفلاطون في مُحاوَرتَي «فايدروس»، و«فيدون»، بصدد سقوط النَّفس من العالم العُلوي، وفُقدانها الصفة الملائكية في هذا السقوط، واعتمادها أثناء هذه الحياة على التَّذكُّر، لغاية الاتصال الجديد بالعالَم العلوي، وبينما يَعرِض هؤلاء الأفلاطونيون المواقف الفلسفية المُختلفة، من سقوط الجسم وأسبابه، عرضًا موضوعيًّا بحتًا، نجد الهَرامِسة يَضَعون مُشكلة التَّجسُّد في أسلوب رائع، وينتقلون بعد ذلك إلى عَرْض أسطورة سقوط النَّفس، مُحاوِلين في هذا العرض التوفيق بين مواقف مختلفة مُتنافِرة، ومُتَّجِهين في نهاية الأمر إلى مَوقف يقترب في فحواه أشد الاقتراب من موقف أفلوطين (بلدي، ١٩٦٢م، ١٠١).

نَفْس الإنسان في الهِرْمِسية تَتشبَّه بالآلهة القديمة وتهبط من الأعالي ثم تصعد، هذا هو التحوُّل الحاسم.

وقد رأينا الفلسفة اليونانية — والأفلاطونية بنوع خاص — تتحوَّل تحت تأثير عدة عوامل إلى فكر ديني، تَغلَّبَت فيه صفة الإيمان على صفة البحث والمناقَشة، وصِفة الوحي على تعاليم العقل، والصيغة الأسطورية على «القول» الفلسفي. وقد كان التأليف الهِرْمِسي في نهاية التحوُّل الذي اختفى عنده التَّفلسُف وحلَّ مَحلَّه التَّصوُّف. وكانت غاية التصوف — كما رأينا — أن يخرج الإنسان من نفسه لِيُحقِّق مُساواته بالإله. وتتم تلك المساواة عندما يُصبِح الوجود الإنساني وجودًا فكريًّا إلهيًّا (بلدي، ١٩٦٢م، ١٢٣).

ولا نشك اليوم أن التصوف الهِرْمِسي يلتقي مع التصوف البوذي، والاثنان يَسعيان إلى الوصول للإله الذي في الإنسان، وليس للإله الذي خارجه.

التصوف الهِرْمِسي — وخاصة هذه الناحية منه التي يتحول الإنسان عندها إلى وجود فكري إلهي — وراء فلسفة أفلوطين، ووراء العناصر التي أَعدَّت مباشَرة فلسفة أفلوطين، سواء أكانت هذه العناصر قائمة في تعليم أمونيوس بالإسكندرية، أم كانت موجودة عند أفلوطين قبل أن يبدأ الاستماع إلى أمونيوس، أم كانت مُتضمَّنة في المُطالَعات التي عملها بعد تَرْك مدينة الإسكندرية. فهذا «الفكر» الذي قالت به الهَرامِسة، والذي يندمج فيه الوجود الإنساني، ويصبح فيه وبفضله مقارِنًا للوجود كله، هو «العقل» الذي تَكلَّم عنه أفلوطين. ولم يَكُن العقل عند هذا الأخير قُدرة على التحليل والتركيب والاستدلال، ولم يكن أيضًا قُدرة على تحقيق الفضيلة والحِكمة الفردية. إنه كان قبل كل شيء «العالَم المعقول» كله، أو بعبارة أدق المعالِم المعقولة للوجود، لوجود لا تنفصل فيه الأشياء بعضها عن بعض ولا تتجزأ، لا تَتغيَّر ليختفي بعضها ويحل محلَّه البعض الآخَر، كما هو الأمر في عالمنا هذا، بل وُجود يَخرج فيه الجزء من الكل ليعود إليه، وجود تَكُون فيه المَظاهر الجزئية أصداء ومرايا بعضها لبعض، وأصداء ومرايا للكل. هذا ما لا بُدَّ من توضيحه فيما بعد، وهذا في نظرنا الثَّمَرة الفلسفية الأولى للتعليم الهِرْمِسي (بلدي، ١٩٦٢م، ١٢٣).

(٣) الفلسفة الدينية للهِرْمِسية

(٣-١) الثيولوجيا (اللاهوت)

تُقدِّم الهِرْمِسية الفلسفية الدينية نظرية كَونية تقولُ إن هناك إلهين في هذا الكون، هما:
  • (١)

    الإله المتعالي: الذي لا يَقبَل الوصف، والمُنَزَّه الذي لا تُدرِكه العقولُ والأبصار، والموجود فوق النجوم الثابتة مُتربِّعًا على قمة الكون، وهو لا يُعرف إلا بالسَّلْب، ولا يُشبِه أيَّ شيء في العالَم، كما أنه لا يهتم بشئون الكون (وهو نظرية أرسطية معروفة)، وهو لا يعلم أو يتدخَّل بهذا الكون؛ لأنه لا يملك علاقةً مع كونٍ ماديٍّ ناقصٍ. ويتبع كل هذا أن التَّعرُّف على هذا الإله مُستحيل عن طريق التأمُّل، أو الفكر، أو الحواس؛ أي إن المعرفة الفلسفية والدينية والعلمية لا تُوصِّل إليه، ولأن الكون كله لا يدلُّ ولا يُرشِد إليه؛ لأنه لا علاقة له به.

  • (٢)

    الإله الخالِق: وهو الإله الذي تولَّى صُنع العالَم السماوي أولًا، فوضَع فيه الكواكب السبعة وأفلاك البروج، وخلق العالَم الأرضي الذي جعَله تحت سيطرة العالَم السماوي، ثم خلق الإنسان على الأرض على وفق الكواكب السبعة؛ ولذلك يُصنَّف البشر إلى سبعة أنواع، كلُّ نوع يتبع كوكبًا في السماء. وقد خلق الإله الخالق الإنسان من جسمٍ مادي شرير ميت ومن نفس (أو روح) تنحدر من العقل الكلي (الكوني)، وهي جُزءٌ خيِّر سماوي حي حيث تعيش النفس صراعًا مع أهواء ورغبات الجسد.

  • (٣)

    الإله الوسيط «هِرْمِس»: وهو الذي يتوسط بين الإله المتعالي والإنسان بتوسُّط العقل الكلي ليحاول تخليص النفس من الجسد، فهو إله الخلاص وموضِّح طريق النجاة.

ولكن الخلاص لن يكون للجميع، بل لقلَّة من العارفين الذين أشرقت في نفوسهم معرفةٌ لأصلها وتصعد إلى السماء، بينما تندمج أجسامهم — بعد الموت — مع جسم الكوكب الذي انحدرت منه، وحين تصعد النفس تشاهد ملائكة كثيرين؛ مثل: مَلاك الحياة، المادة، الفرح، الراحة، الخوف، والإله المُنزَّه عن الرغبات، والإله الأورفي (أورفيوس)، وتُشاهِد البَرْزَخ الفاصل بين عالَمَي السماء والأرض. وقد تسقط بعض النفوس غير الطاهرة بزوابع جوية تنزل بها إلى سحيق جهنم، لكن النفوس الناجية تخترق السموات السبع «يقودها الإله هِرْمِس»، ثم تَصِل إلى السماء الثامنة (العليا)، محفوفة بجوقة من الملائكة حُرَّاس الأجواء العليا.

وحين نقرأ أسطورة الخليقة الهِرْمِسية في «المُدوَّنة الهِرْمِسية» سنجد هذا النظام الإلهي كاملًا؛ حيث يُمثل الإله المتعالي «بوامندريس»، وهناك الإله الخالق أو الصانع، أما الإله الوسيط «هِرْمِس» فربما تشير له الكلمة الإلهية المُقدَّسة «اللوغوس». وقد يَتوحَّد (يتطابق) الإله الخالق مع الإله الوسيط في شخصيةٍ واحدة، وبذلك يكون هِرْمِس هو الوسيط الغُنُوصي فيما بَعدُ، والمَسيح الغُنُوصي الذي يكون رسولًا من الإله المتعالي إلى العالَم المادي أو الأرض؛ لكي يُنقِذ الإنسان ويفديه.

(٣-٢) الكوزمولوجيا (علم الكون)

إن علم الكون الهِرْمِسي يَقضِي بوجود عالَمين أساسيين هما: عالَم النور وعالَم الظُّلْمة، حيث يحتضن عالَم النور عناصر الخير والألوهية وهو عالَم لا مادي، بل هو عالَم أثيري. ويحتضن عالَمُ الظلام عناصرَ الشَّر والشيطانية وهو عالَم مادي حِسِّي. ويرى بعض الهِرْمِسيِّين أن عالَم النور أقدم من عالَم الظَّلَام، بينما يرى البعض الآخر أنهما أزَلِيَّان في قِدَمهما. ويَسود عالَم النور والظلام صراع أبدي خلاصته كيفية حلول النور في الظلام، وكيفية انتزاع النور من الظلام. وخلال ذلك الصراع نشهد انتصارات مُتناوِبة للعالَمَين على بعضهما.

وتوضح لنا أسطورة الخليقة الهِرْمِسية كيفية خَلْق الكون وهذين العالَمَين في المُدوَّنة الهِرْمِسية؛ حيث يروي هِرْمِس مُشاهداته الإشراقية في إحْدَى رُؤاه أو أحد أحلامه، والحوار الذي جرى بينه وبين الإله المتعالي «بوامندريس» الذي سُمِّي النص باسمه. ويُسمَّى القسم الأول من المُدوَّنة ﺑ «المبدأ»؛ أي «الخليقة الهِرْمِسية»، وهي المراحل التي تشتمل — كالعادة — على خليقة الكون، وخليقة الآلهة، وخليقة الإنسان. وما يهمنا هنا هو خليقة الكون، أما خليقة الآلهة فقد شرحناها في الفقرة الأُولى، وخليقة الإنسان سنشرحها في الفقرة الثالثة.

ويمكننا أن نُلَخِّص خليقة الكون بالمراحل الآتية:
  • (١)

    خَلْق عالَم النور والكلمة، والعناصر الأربعة «البذور الأولى للنور والظلام»: حيث يرى هِرْمِس في بداية رُؤْيَاه نورًا يَغْمر كل شيء ثم يبدأ بالصعود إلى أعلى؛ فتظهَر الظُّلمة في الأسفل. ثم يَظْهر من النور الكلمة الإلهية المقدسة (اللوغوس)، بينما تَظْهر الرطوبة (الماء) من الظلام، وبعد ذلك يَظْهر من عالَم النور النارُ والهواءُ، بينما يَظْهر من عالَم الظلام الماءُ والترابُ (الأرض) مُمْتَزجَين مُتحرِّكَين بفعل الكلمة المُقدَّسة.

    أما تأويل هذه الأحاديث فهو أن النور هو العقل (الإله المتعالي: الأب)، أما الكلمة فهو ابن العقل، والعقل والكلمة غير مُنفصِلَين؛ لأن اتِّحادَهما هو الحياة.

  • (٢)

    خَلْق كائنات عالَمَي النور والظلام: تظهر كائنات النور على شكل قُوًى لا تُحْصى من المُثل، وينفصل النور عن النار التي تنزل إلى الأسفل وتُشكِّل عالَم السماء. أما الكلمة الإلهية (اللوغوس) فَتنزِل إلى الأرض (عالَم الظلام) وتتوَزَّع إلى نفوسٍ على الكائنات الأرضية مُقلِّدَة بذلك عالَم المُثل البَهِي.

  • (٣)

    أنجب العقلُ الأول عقلًا ثانيًا صانعًا هو إله النار والنفس، فصنع المُدبِّرات (الكواكب السبع) التي تُغلِّف بدوائرها العالَم الحِسِّي، ويُسمَّى تدبيرها القدر. أما الكلمة الإلهية فَصعدَت من الأرض واتَّحدَت بالعقل الصانع؛ «لأنهما من جوهر واحد»، وبذلك نزلَت العناصر إلى أسفل الطبيعة متروكةً لنفسها محرومةً من العقل؛ فَبقِيَت مُجرَّد مادَّة.

  • (٤)

    أحاط «العقل الصانع المُتَّحد بالكلمة» المحيط بالدوائر الفَلكِية والذي يُدوِّرها، ومِن حركة الدوائر الفلكية خُلِقت حيوانات بدون عَقْل مُكوَّنة من العناصر السُّفلى: «الهواء، والماء، والأرض»، فأنتج الهواءُ ذواتِ الأجنحة، والماءُ الحيواناتِ السابقة، والأرضُ الحيواناتِ البَرِّيَّة.

ثم تأتي مرحلة خلْق الإنسان (النفس)، أو السايكولوجيا.

إن أهم مبادئ الكوزمولوجيا الهِرْمِسية هو وحدة الكون والتأثير المُتبادَل بين أجزائه، فالكون عبارة عن دوائر بعضها داخِل البعض الآخَر وذات مَرْكز واحد هو الأرض، وتُشكِّل كواكبُ الدوائر السبعة وأفلاك بروجها أهم هذه الدوائر، والأرضُ خاضعة لتأثير هذه الكواكب ومَداراتها، بل إن الإنسان نفسه يخضع لتأثير الكواكب ومَداراتها. أما طريقة التأثير فتَكمُن في عملية «التجاذب والتنافر»، فكل شيء في الكون يخضع لهذه القاعدة؛ حيث تسري رُوح واحدة في الكون تَتناوب على هذا التجاذب والتنافر.

(٣-٣) السايكولوجيا (النفس)

كان هناك مَن يرى «من الهِرْمِسيين» أنَّ العالَم — رغم الفوضى والشَّر — إلا أنه محكوم بإرادة خَيِّرة شاملة تَحكُمه مِن الداخل بقوة، وكان هناك مَن يَرى أن العالَم شِريرٌ، وأنه بحكم طبيعته المادية مَكمَن الشَّر والفوضى، لكنهم يَروْن أن النفس هي الجوهر الخيِّر الإلهي الساكن في الجسد المادي الشرير، وهذا ما يُكَوِّن طَرَفَي الصراع الدائم بين الجسد والنَّفس؛ ولذلك ينسبون صُنْع العالَم الشرير إلى الإله الخالِق ويُنَزِّهون الإله المُتعالي عن ذلك.

وقد صَوَّر الهِرْمِسيون اتصال النَّفْس بأصْلِها الإلهي المُتمثِّل بالإله الخالِق على طريقين:
  • الأول: هو الاتصال الخارجي Extra Version: حيث تسعى النَّفْس لِتَتَّحِد بالله «الإله الخالق»؛ حيث يذوب الإنسان في الله، ويَنشأ عن هذا السعي والاتصال بالله ما يُعْرَف بالأيون الذي هو مُشَكِّل هذا الاتصال. وقد اصطلح المتصوفة (الإسلاميون بشكل خاص) على هذا الاتصال بمُصطلَحَي «الفناء»، أو «وحدة الشهود».
  • الثاني: هو الاتصال الداخلي (Intro Version): حيث تَعِي النَّفْس حقيقة أَصلِها وطبيعتها الإلهية بوصفها جزءًا من الإله الخالق؛ حيث يشعر الإنسان بأن الله حالٌّ فيه، وهذا الشعور مهم جدًّا؛ إذ لولاه لَسكن الشيطان في نَفْسه. ولذلك يشعر الإنسان بأن نَفْسه هي مِحْراب أو مَسْكن الله. وقد اصطلح المتصوفة على هذا النوع من الاتصال بمُصطلَح «الحلول»؛ حيث يَصِل الإنسان في نهايته إلى مرحلة الكشف والإشراق Illumination؛ أي إشراق الله في نفسه.

    ويَرْسم الهِرْمِسيون طريقًا لاتصال النَّفْس بالله أثناء الحياة أو بعد الموت يُسمَّى طريق المعاد حيث تَعرُج النَّفْس إلى الله. في حين يُسمَّى حلول النَّفْس في الجسد بطريق المبدأ حيث تَنزِل النَّفْس من الله إلى الجسد.

«ومن أجل هذا، فالإنسان وحده بين الكائنات الأرضية هو في آنٍ واحد فانٍ وخالد، مع ذلك بمساعَدة المعرفة، يستطيع الإنسان أن «يصبح إلهًا» وهذه الثنائية «التي تبخس العالَم والجسد» تشير إلى الهوية بين الإلهي والعنصر الرُّوحي للإنسان، وتمامًا كالألوهية، تتميز النَّفْس الإنسانية (نوس Nous) بالحياة وبالنور. وبما أن العامِل هو «كلية الشر» فإنه يجب أن يعود «غريبًا» للعالَم بهدف إكمال «ولادة الألوهية». وعلى ذلك، فإن الإنسان المُجدِّد يحوز جسدًا خالدًا؛ لأنه «ابن الله، الكل في الكل»» (إلياد، ج٢، ٢٠٠٦م، ٣٢٥).

وهناك مَن رأى أنَّ النفس لا يمكن لها أن تسعى «في الحياة» إلى الله وتَتَّحِد به قبل أن تَتعَرَّف، وهي في العالم، على أصْلِها الإلهي؛ ولذلك وضعوا شرط المعرفة قبل العروج.

النَّفْس إذن تبدأ بالتعَرُّف على الجوهر الإلهي الكامن فيها عن طريق التطهير والصلاة والصوم والتَّقشُّف والزُّهد والأدعية؛ فَتنكشِف لها حقيقَتها الإلهية، وبذلك يُمكِنها العُروج إلى الله عَبْر مراحل تَشرَحها المُدوَّنة الهِرْمِسية.

(٣-٤) الإبستمولوجيا (علم المعرفة: العِرْفان الهِرْمِسي)

يَتطلبُ الاتصال بالله أن تَعرِف النَّفْس أصْلَها الإلهي، ويُسمَّى هذا النوع من المعرفة ﺑ «العِرفان» أو «الغُنُوص»، وهو نوع خاص من المعرفة فهي معرفة إلهية وليست معرفة عِلْمية أو أدبية؛ ولذلك فإن تحصيلها يختلف عن تحصيل الفلسفة أو العلم أو الأدب. فالمؤمن يَحصُل عليها بالكشْف الذَّوقي أو بالإشراق المفاجئ في القلب؛ أي إنها ليست مَعرفة عقلية، بل شعورية — وربما شعرية — ولكي يَحصُل المرء على هذا النوع من المعرفة (العِرفان) عليه أن يَتطهَّر ويَتخلَّى عن مَلذَّاته، ولا يُلبِّي حاجات جسده كما يجب، وأن ينصرف للتأمُّل في ذات الله.

إن هذا النوع من المعرفة لا يتطابق مع المعرفة التي نألَفُها؛ فهي معرفة وجدانية تعتمد على الإشراق والكشْف لا على تَراكُم المعلومات وتحليلها.

ثم إن هذا النوع من المعرفة يقتضي النظر إلى النصوص الدينية (بشكل خاص)، على أن لها مستويين؛ الأول: «ظاهر» وهو ما يدركه العامة وهو البَيِّن الواضح من هذه النصوص، والثاني: «باطن» وهو ما يدركه الخاصة والمُحمَّل بالرموز والذي نصل إليه بالتأويل.

وتتحدث «المُدوَّنة الهِرْمِسية» عن المعرفة باعتبارها صِنْو العقل والخلود؛ بحيث إن الذين يَبقَون في الجهل يُحْرمون من الخلود، حيث يُخاطِب اللهُ هِرْمِسَ ويقول له: إذا كنت قد انتبهتَ فقل لي لماذا استحق الموت أولئك الذين فارَقوا الحياة؟ فيرد هِرْمِس: لأن الأصل الذي منه الجسم البَشري هو الظُّلْمة القاتمة التي خرجَت منها الطبيعة الرَّطبة، هذه التي منها تكوَّن الجسمُ في العالَم الحِسِّي، الجسم الذي يرتوي منه الموت. ثم يسأله الله: لماذا كان من عرف نفسه يعود إلى نفسه كما قال الله؟ فيرد هِرْمِس: لأنه من النور والحياة، رب كل شيء، الرَّب الذي أنجب الإنسان، قال: أنت تقول النور والحياة … ذلك هو الله الأب الذي منه كان الإنسان، فإذا تَعلَّمْت أن تَعرِف نَفسَك بوصْفِك مصنوعًا من الحياة والنور ومكوَّنًا من هذين العنصرين، فإنك ستعود إلى الحياة (الجابري، ٢٠١٠م، ٢٦٦-٢٦٧).

وتؤكد الإبستمولوجيا الهِرْمِسية على أنه ليس هناك فَصْل بين العلم والدِّين، وبذلك تكون الهِرْمِسية قد أعادت الوحدة بينهما (مثلما كان في الحضارات القديمة)، وعادت بالأمور إلى ما قبل ظهور الفلسفة الإغريقية عندما انفصلت الفلسفة — بوصفها إنجازًا علميًّا — عَن الدِّين؛ أي إن الهِرْمِسية عادت إلى دائرة الدِّين، بل وإلى دائرة السِّحْر تحديدًا.

(٤) المتون الهِرْمِسية (الهِرْمِسيات) Hermetica

تعرف مجموعة النصوص الهِرْمِسية الشعبية والأدبية «الفلسفية» بالمُدوَّنات الهِرْمِسية التي يبلغ عددها حوالي ١٧ نصًّا مكتوبًا باللغة الإغريقية، وهناك نَص مكتوب باللغة المصرية والكتابة الهيروغليفية يُعْتَبر هو أصل تلك النصوص.

أما الكتب الإسلامية فقد ذكرت عِدَّة نصوص منها ما ذَكرها القِفطي في كتاب تاريخ الحكماء وغيرها.

المُدوَّنة الهِرْمِسية المصرية منسوبة للإله «تحوت» إله المعرفة والحكمة المصري القديم، وهي تَجْعَل من الإله أتوم بمثابة الله الواحد الخالد الخالق الذي يُسمَّى أيضًا العقل الأول، وهو الذي خَلق عَقْل الكون الذي خَلق الكون وهذا خَلَق الشمس والإنسان على صورة الشمس:

«الخالق الذي ندعوه أتوم — لِعَجْزنا عن تسمية أفضل — عندما خَلق المَلاك الثاني (الذي هو الكون) كان مبتهجًا، لقد كان خُلْقه جميلًا مُتْرعًا بالإحساس فأحبَّه كابن له، ولرحمته أراد أتوم أن يكون هناك مَخلوق قادر على الإعجاب بجمال خَلْقِه فخلق بمشيئته الإنسان كي يُقَلِّد حِكمته الربانية وحُبَّه الإلهي، وسأل أتوم كل ملاك في السماء: ماذا يمكنك أن تُقدِّم للإنسان الذي سوف أخلقه؟

فقالت الشمس إنها سوف تَسْطع طول النهار تُغذِّي بالضحكة والفرحة عقول الفانِين والعالَم أجمع (فريك، وغاندي، ٢٠٠٢م، ٥٧-٥٨).

ويَصِف هذا النص فيض الخليقة من أتوم على الإنسان، ثم يعود ليرفع هذا الإنسان من كينونته المادية عن طريق ارتفاع رُوحه عن الجسد المُتحلِّل الفاني (وهذا يخالف اللاهوت المصري القديم بخلود الرُّوح والجسد معًا)، ثم ترتفع إلى الفضاء وتَرتقِي السموات السبع حيث تَتطَّهر في كل واحدة من صِفاتها المادية، وحين تصل إلى الطبقة الثامنة، وتَتَّحد بالإله أتوم وتصير من ملائكته وتفوز بالخلود، فيهلل الملائكة لها ويُسَبِّحون بانتصار الروح. وتوصي التعاليم المصرية أن يُدرِّب الإنسان رُوحه على هذا الصعود ما دام حيًّا حتى لا يَضِل طريقه إذا دخل الحياة الأخرى، وبذلك يكمن الأمل في حياة الخلود.

أما المُدوَّنات الإغريقية فأشهرها رؤيا هِرْمِس المسماة ﺑ «المُدوَّنة الهِرْمِسية Corpus Hermeticum» والتي تُعرف عادة ﺑ «نص بوامندريس». وتكاد تُشكِّل هذه المُدوَّنة الأساس النظري للهِرْمِسية الهيلنستية التي ألْقَت بظلالها الواضحة على التصوف المسيحي والإسلامي.

وتصف هذه المُدوَّنة رؤيا هِرْمِس في (٣٢) مقطعًا تتبع عَبْر طريقين؛ الأول: نازِل يُسمَّى «المَبْدَأ» الفلسفة الهِرْمِسية النَّشكَونِية حيث يَلِد العقل (النور والأب) ابنه الأول الذي هو الكلمة أو الإله الصانع، ثم يلد هذا العالَم وهكذا، أما الطريق الثاني: فهو الصاعد ويُسمَّى «المعاد» حيث تَعود النَّفْس إلى خالِقها عَبْر طريقٍ تَتخلَّص فيه مما عَلِق فيها من الجسد.

ويتَّضِح لنا من هذين الطريقين أنهما أَصْل الأفلاطونية الجديدة التي وضَعها أفلوطين.

والحقيقة أن الفلسفة الهِرْمِسية النَّشكَونِية هي صورة ميثولوجية كانت موجودةً ضمنًا في شجرة أنساب الآلهة الشرقية ثم الهيلينية. وقد تحوَّلت بدلًا من أسماء الآلهة إلى مفاهيم فلسفية؛ مثل: العقل والكلمة والنفس، وقد جَرى هذا كله بسبب تأثير الفلسفة الإغريقية على العالَم الهيلنستي.

ولننظر في هذا المقطع العاشر من المُدوَّنة:

«وفي حين انطلقت كلمة الله، واتَّحدَت مع العقل الصانع «لأنها جوهر واحد» تاركةً العناصر تَنزِل إلى أسفل صَوْب الناحية التي صارت خاصَّة بالطبيعة التي صنعت الآن. ولذلك صَارَت العناصر السُّفلى من الطبيعة متروكة لنفسها، مَحرُومة من العقل، فبَقِيت مُجرَّد مادة» (الجابري، ٢٠١٠م، ٢٦٥).

(٥) الفلسفة الهِرْمِسية

تُشكِّل الهِرْمِسية أو الفلسفة الهِرْمِسية أساس الأفلوطينية والغُنُوصِية وجَوهرهما؛ فقد سبقت ظهور الأفلوطينية عندما كانت في صورتها المصرية الأولى المُنحَدِرة من تعاليم هِرْمِس القديم، بل ومن أسطورته تحديدًا حيث صعد إلى السماء ونزل إلى الجحيم كما تروي الأساطير.

والفلسفة الهِرْمِسية ذات هيكل ميثولوجي خَفِي تَسَتَّر بالمفاهيم الأفلوطينية وأحيانًا الأرسطية، فهو خليط فلسفي أسطوري يبدو وكأنه يروي قصة هبوط إله وصعوده، حيث ينشأ عن هبوطه خلْق العالَم والإنسان والرُّوح، وينشأ عن صعوده نهاية الإنسان والعالَم وعودة الروح إلى هذا الإله.

(٥-١) طريق المبدأ أو الخليقة

  • (١)
    العقل الأب: تبدأ حركة العقل الأول من حركة «النور» الذي يُناظر العقل الأول؛ حيث يرتفع النور إلى أعلى وتظهر ظلمة داكنة رطبة مُرعِبة إلى الأسفل كأنها أفعى (وهذا تشبيه أسطوري يُذكِّر بالأفعى الأُولى في الأساطير السومرية، وهي نمُّو ونون المصرية والكاءوس الإغريقية … إلخ) يَنتُج عنها ظهور النار، أما من النور فينتج عنها الكلمة التي تحتضن الطبيعة (وتمثل الإله الابن الصادر من الإله الأب الذي هو العقل الأول أو النور)، ثم تصعد النار إلى الأعلى ويتبعها الهواء بينما يَتكوَّن في الأسفل الأرض والماء.
  • (٢)
    العقل الابن: بما أن العقل الأب ذكَر وأنثى في الوقت نفسه فقد أوجد:
    • (أ)
      العقل الصانع: وهو إله النار والنَّفْس الذي صَنَع المُدبِّرات (الكواكب) السبع التي تُغلِّف بدوائرها العالَم الحسي، ويُسمَّى تدبيرها: القَدَر، ثم اتحدت كلمة الله مع العقل الصانع «لأنها من جوهر واحد» تاركة العناصر تنزل إلى أسفل صَوْب الناحية الخاصة بالطبيعة والتي تُرِكَت لوحدها محرومة من العقل فبقِيَت مُجرَّد مادة.

      وعندما دارت دوائر الأفلاك ظهرت حيوانات في الطبيعة بدون عقل؛ أي إنها مكوَّنة من العناصر التي كانت تَتجِه إلى أسفل (الهواء والماء والتراب) فأنتج الهواءُ ذوات الأجنحة، وأنتج الماءُ الحيواناتِ السابحة، وأنتج الترابُ أو الأرض الحيواناتِ البريةَ والأليفةَ.

    • (ب)
      الإنسان السماوي: أنجبه العقل الأب (وهو أخ الإله الصانع) وكان شبيهًا بالأب فأُعجب الأب بابنه؛ لأن الله أحب صورته في ابنه وسَخَّر له جميع مخلوقاته.

      دخل الإنسان السماوي كُرَة عالَم الخَلْق؛ فَرأى مصنوعات أخيه من الكواكب السبعة، فأشركته معها في تدبيرها ورُتْبَتها، فاطَّلع على ماهيتها وشارَكها في طبيعتها؛ أي اكتسب منها نُورها ثم اختَرَق مداراتها. وإذا به وجهًا لوجه مع الطبيعة، فلما رأت الطبيعة (عالَم المادة والكائنات الفانِية والمحرومة من العقل) لمَّا رأت هذا الكائن السماوي المضيء وقد تَحلَّى بالجمال الخالد ابتسَمَت له حبًّا وعشقًا، ورأى هو صُورته المنعكسة على الماء؛ فأحبَّها وأراد أن يسكن هناك، فلما فعل ذلك وسَكن الطبيعة المحرومة من العقل واحتضنته الطبيعة فاتَّحَدا؛ لأنهما كانَا يحترقان عِشقًا أحدهما إلى الآخر وهكذا حصَلَت الخطيئة بالحب.

  • (٣)
    الإنسان الأرضي: أنجَبَت الطبيعة من الإنسان السماوي سبع كائنات آدمية، تُناظِر بعَددها طبائع المُدبِّرات السبع، كان كلٌّ منها ذكرًا وأنثى في آنٍ واحد، وقد وَلَّت وجهها جميعًا نحو السماء.

    انفصلَت الحيوانات والكائنات الآدمية السبعة، التي كانت كلها ذكرًا وأنثى في الوقت نفسه، انفَصَلت إلى صِنفَين: صنف الذُّكور وصنف الإناث، وأمَرَها الله بالتزاوج، فتزاوَجت وتكاثرَت بمساعَدة العناية الإلهية وبِتوسُّط مجموع الكُرات السماوية.

    وهكذا تَكوَّن الجسد البشري الذي هو الظُّلمة القاتمة التي منها خَرجَت الطبيعة الرَّطبة، ولكن داخل هذا الجسد هناك نور (ولا تسميها النصوص نفسًا أو عقلًا)، وهذا النور الذي يحملُ طبيعة الإنسان السماوي والعقل الأب محبوسٌ داخِل الجسدِ وعليه أن يعود إلى أصله.

(٥-٢) طريق المعاد أو المعراج السماوي

figure
  • (١)

    إذا كان الإنسان مُتوجِّهًا نحو الشهوات غارقًا فيها؛ فإنه عندما يموت لا تَتحرَّر رُوحه إلى الأعلى؛ فيقوم الشيطان برشقه بسهام من جهنم، وبذلك يستمر هذا الإنسان في تَوجيه رغباته نحو الشهوات بدون حدود، يُقتل في الظلام دون أن يُشبعه شيء، وهذا ما يُعذِّبه، ويُلهب باستمرار النار التي تُحْرِقه.

    أما الإنسان الذي عَرف نفْسَه وابتعد عن الشهوات فإنه عندما يموت يفسد جسده وتَختفي صورته؛ فَيترُك للشيطان أناه العادية التي تَتعطَّل عن الشعور وتَعود قُواه الغضبية والشهوانية إلى الطبيعة المَحرومة من العقل، أما هو فيصعد بحواسه الجسمانية إلى السماء ليصادف الكواكب.

  • (٢)
    في عالَم الكواكب وهياكلها يَترك الإنسان حواسَّه في كل كُرة كوكبية وكما يلي:
    • (أ)

      القمر: يترك فيه قُوَّة النَّماء والنقصان.

    • (ب)

      عطارد: يترك فيه قوة الخُبث والاحتيال.

    • (جـ)

      الزهرة: يترك فيها وَهْم الرغبة.

    • (د)

      الشمس: يترك فيها كبرياء الحكم.

    • (هـ)

      المريخ: يترك فيه التَّهور الكافر، والادعاء الكاذب.

    • (و)

      المشتري: يترك فيه الشهوات المُحرَّمة التي يُولِّدها الغنى.

    • (ز)

      زُحَل: يترك فيها الكذب الذي يكيد كيدًا.

  • (٣)

    يصل إلى السماء الثامنة مُتحرِّرًا مما خلقته فيه طبائع الكُرات الفلكية، لا يملك غير قُوَّته الذاتية فيسبِّح للأب مع القُوى التي يَسمَعها تُسبِّح، ويَتوَجه مع الحضور ويَصعدون — في نظام بديع — نحو الأب مُسلِّمِين أمْرَهم للقُوى فيصيرون مثلها ويَتَّحدِون بالله؛ لأن ذلك هو النهاية السعيدة لمن يملكون العِرفان، نهاية أن يصيروا هم الله.

    هذا هو شرح خُلاصة النص الهِرْمِسي «بوامندريس» الذي كان على ما يبدو أساس الأفلوطينية والغُنُوصِية معًا.

(٦) العلوم الهِرْمِسية

لم تكن الهِرْمِسية نَزْعة فلسفية فقط، بل كانت منذ بدايتها، مع هِرْمِس، مركبًا للحكمة التي تحتوي الفلسفة والدِّين والعلوم … ولعل أكثر العلوم ارتباطًا بها؛ هي: السِّحر، والكيمياء، والتنجيم، والطب، والرياضيات، وكل مؤلَّفات هِرْمِس مَنحولة ومنسوبة لهِرْمِس وهي تُمثِّل الهِرْمِسية لا هِرْمِس بذاته.

أثَّرَت الفلسفة الهِرْمِسية على العصر الهيلنستي بأكمله، وصَبَغته بِلَونها؛ فقد كانت الأساس القوي الذي بُنِيَت عليه الغُنُوصِية والأفلاطونية الجديدة خصوصًا الأفلوطينية منها، إضافة إلى الفِيثاغُورِية الجديدة.

كما أثَّرَت الهِرْمِسية في نَمَط الحكمة وأنواعها، واشتَهَرت أقوال هِرْمِس في الموعظة وزَجْر النَّفْس والحِكْمة؛ فقد كان هناك مؤلَّفَ مُهِم له اسمه «معادلات النفس»، أو «زجر النفس» ترجمه من اليونانية إلى الفارسية أفضل الدين كاشاني بعنوان «ينبوع الحياة» ونَشَره بترجمة عربية «فليمون P. Philemon» في بيروت سنة ١٩٠٣م، وأعاد نَشْره الدكتور عبد الرحمن بدوي في القاهرة ١٩٥٥م في مجموع «الأفلاطونية المُحْدَثة عند العرب».

ومن كُتُبه في السِّحر كتاب «الاستماجينس» و«الفلكيات الكبرى» وشرح هِرْمِس على كتابه «العلم المخزون في أسرار العالَم المكتوم».

أما الكتاب المُقدَّس لهِرْمِس — ولا شك أنه كتاب منحول — فقد ظَهر في «صحائف إدريس» التي أوردها المجلسي في كتابه الموسوعي «بحار الأنوار».

وهناك أيضًا كتاب العظة الكاملة (Perfect Sermon)، أو أسكلابيوس (Asclepius) التي فُقِد أصله اليوناني وعُثِر على الترجمة اللاتينية له. وهناك كتاب خلاصات ستوبايوس (Stobaeus) السبع والعشرون، وهو الفيلسوف الذي عاش بين أواخر القرن الخامس وأوائل السادس.
أما في الكيمياء فيُعَد هِرْمِس مؤسِّس الكيمياء القديمة (الخيمياء أو السيمياء)؛ فقد ذكر برثلوت (Berthelot) جدولًا بمؤلَّفات في الكيمياء القديمة نَسبها إلى هِرْمِس (١٨٩٣م Berthelot).
وكذلك قام شتين شنايدر (Steinschneider) بوضع جدول موسَّع يشمل ستة عشر كتابًا كيميائيًّا لهِرْمِس مُترجَمة للعربية.
(Steinschneider 1897: 187–194).

ويمكننا العثور على آثاره السيميائية في كتاب «سر الخليقة» لجابر بن حيان، والذي نقله إلى الفرنسية المستشرق الفرنسي سلنستر دي ساسي عام ١٧٩٨م.

أما مؤلَّفات هِرْمِس في التنجيم، فكثيرة منها «كتاب السبعة كواكب السيارة». وذُكِرَت مؤلَّفات هِرْمِس في الطب والرياضيات وغيرها في المكتبة الإغريقية (Biblotheca Graeca 1791).

وهكذا تكون الهِرْمِسية دينًا وعلمًا وحكمة وفلسفة منظومة شاملة تُمثِّل المعرفة القديمة انتشرَت من سومر إلى مصر، ثم إلى العالَم كله، وضاعَت أصولها القديمة، حتى إذا ما جاء العصر الهيلنستي، واختلطت ثقافات الغرب بتراث الشَّرق ظهَرت الهِرْمِسية من جديد، وأصبحَت مصل المعرفة الهيلنستية، وأُعيدت صياغتها من جديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥