المبحث الرابع

الغُنُوصِية

figure
رمز الغُنُوصِية.

الغُنُوصِية طريقة نَظَر وفَهْم خاصَّة للعالَم والمعرفة والدِّين. والغُنُوصِية كظاهرة تَمْتَد إلى أديان الشرق القديم، أما كجهاز معرفِيٍّ وكفلسفة ورؤيا متكامِلَة فهي من نتاج العصر الهيلنستي، وقد ظهرت قبْل المسيحية، وأثَّرَت على الأديان السماوية الكبرى «اليهودية والمسيحية والإسلام»، وكذلك على الفلسفات والعلوم منذ العصر الهيلنستي، ثم العصر الوسيط.

الغُنُوصِية (Gnosticisme)، أي العِرفانية مُشتَقَّة من الغُنُوص (Gnose) وهي كلمة يونانية الأصل (Gnosis) معناها المعرفة، وقد استُعْمِلت أيضًا بمعنى العلم والحِكْمة، وتُتَرْجم إلى العربية بصيغة «العِرفان». الفرق بين العِرفان (Gnose)، والعِرفانية (Gnosticism) هو أن العِرْفان حالة خاصة بصفوة مُعيَّنة من الناس؛ تَعنِي مَعرِفة الأسرار الإلهية، أما العِرْفانية (الغُنُوصِية) فهي المذاهب الدينية التي ظهَرت في القرن الثاني للميلاد تحديدًا والتي تَدَّعِي أنها مُشيَّدة على نوع من المعرفة فوق المعرفة العقلية وأسْمَى منها، معرفة باطنية، ليس بأمور الدين وحسب، بل أيضًا بكل ما هو سِرِّي وخَفي، كالسِّحر والتنجيم والكيمياء … إلخ (الجابري، ٢٠١٠م، ٣٥٤).
والغُنُوصِية مفهوم دِيني، ترتَكز على أسطورة الخَلاص من الخطيئة، وذلك من خلال المعرفة (Gnosis)، وكان لها أصولها قبل المسيحية، ولكنها انتشرت في القرن الثاني الميلادي واتَّخذَت صورًا مسيحية ووثنية. المهم في هذه النظرية (من حيث اشتقاقها اللغوي) أن الخَلاص فيها يتم عن طريق المعرفة أو اﻟ Gnosis التي اشتُقَّت منها الغُنُوصِية. وبالتالي فالغُنُوصي هو ذلك اﻟ Gnostikos، أي «العارف أو العالم»، و«الغُنُوصِية» هي اﻟ Gnostike أي تلك المَلَكة (وهي الاسم المُقَدَّر Dynamis التي تصفها هذه الصفة) المعرفية، فهذه المَلَكة المعرفية أو الطاقة المعرفية هي — كما يرى أتباعها — طريق الوصول للخلاص من الخطيئة (عبد الغني، ١٩٩٩م، ٢٣١).

(١) الغُنُوص وأصوله

ينحدر الغُنُوص (العِرفان) من أصول شرقية بعيدة تصل إلى الديانة السومرية التي كان «دموزي» يُشكِّل أحد أهم رموزها الروحية، وتُمثِّل حالة اختفاء «دموزي» ونزوله إلى باطن الأرض أو العالَم الأسفل (في أسطورته الشهيرة مع إنانا)، أوَّل إشارة لنزول إله أو رجل مُتألِّه مثل دموزي (الذي أصبح تموز عند الأكديين والبابليين) إلى العالَم الآخَر الباطني العميق والخَفِي، كذلك تمثل أسطورة صعوده إلى العالَم السماوي أول إشارة إلى العالَم السماوي والرحيل إليه.

figure
دموزي الإله الراعي في سومر.

والعِرفان أو الغُنُوص هو عَدَم الإيمان بالعالَم الظاهر، وعَدَم المشارَكة في العالم المنظور، والإحساس بالغربة عنه، حيث يجد «العارف» نفسه غريبًا عن العالَم ككل، عن الكون الذي يجد نفسه داخله ومُطوَّقًا به، هو غريب عنه؛ لأنه يشعر بأنه ليس منه، بأنه يختلف عنه جوهرًا وطبيعة، وبالتالي فالوصف «غريب» ينسحب أيضًا على العالَم، وعلى القُوى التي صنعته وتحكمه (الجابري، ٢٠١٠م، ٢٥٦).

ونرى أن العِرفان نشأ مِن رفْض العالَم المنظور، والتَّعلُّق بعالَمين غير منظورين؛ أحدهما باطني حيث الأسرار والخفايا، والثاني سماوي؛ حيث الإله الواحد الذي يجب اللحاق به والاتِّحاد معه.

كان الإله السومري «دموزي» إله الحظائر والمراعي، ثم تحوَّل إلى إله الخِصب عندما تَزوَّج إلهة السماء «إنانا»، ثم تَحوَّل إلى أحد آلهة العالَم الأسفل عندما نزل فيه، وهناك ما يشير إلى صعوده إلى السماء.

ونرى أن «عبادة دموزي» كانت أصْل العِرفان والغُنُوص كحالة قائمة في الشرق القديم. ومعروف أن عبادة دموزي انتشرت في الأمم المجاوِرة بأسماء أخرى (تموز البابلي، أدونيس الفينيقي، أوزوريس المصري، آتيس الفريجي، زيونسيوس الإغريقي … إلخ)، وقد حَمَلت عبادة هؤلاء الآلهة العِرفان سِريًّا معهم في العبادات السِّرِّية والخاصة.

ويقينًا إن الكهنة طوَّروا مفهوم العِرفان على مستوى الطقوس والشعائر التي ظهَرت في تلك التراجيديات، والكوميديات الشعائرية بمناسبة النزول إلى الأعماق، أو الصعود إلى الأعالي.

ونرى أن العِرفان الذي ظهر في سومر في العقيدة الديموزية بلَغ ذروته وأخَذَ شَكْل الديانة والعقيدة العِرفانية في عَهد آخِر ملك بابلي وهو نبونائيد (٥٥٦–٥٣٩ق.م.)، ويُسمَّى أيضًا نبونيد أو نبوناهيت الذي ترك ديانة بابل الرسمية القديمة (ديانة مردوخ)، وحاول إرساء ديانة أخرى بديلة عنها كان الإله سين إله القمر أساسًا لها، بل كان إلهَهَا الوحيد، ونرى أنه كان نبيًّا مُوحِّدًا وَرِث العلوم الدينية عن أمه أدد- كبي كاهنة إله القمر في حَرَّان.

figure
نبونائيد (آخر ملك بابلي).

وقام نبونائيد بصياغة عقيدته الجديدة بعد تأمُّل طويل في عقائد سومر وبابل القديمة، وتوصَّل إلى أن الخلاص لا يتم إلا بتنقية النفوس والإيمان العميق بالروح الإلهي داخل الإنسان، وتَتَبُّع مسراه حتى العودة به إلى خالقه الأعلى، والابتعاد عن الطقوس الشَّكلية لجمهرات الآلهة المتعدِّدة. وكانت عقيدة دموزي (تموز) قد نَضجَت على يده في صيغة هبوط وصعود للنفس البشرية من أجْل الخلاص، وربما اقتبس من عقائد عبادة أوزوريس المقابل لتموز، فأدخل العقاب، والثواب، والجنة، والنار، والحساب في ديانته. وهكذا اكتملَت على يديه عقيدة تموز/البعل/أوزوريس … في هيكل قَمَري يَنبضُ بالأنوثة ويذكر بالديانة الأمومية وجعلها بسيطة خاليةً من الآلهة المتناسِلة؛ حيث الإله الأب (القمر) الذي يُرسِل ابنه الإله المُخلِّص (تموز) أو (الابن) لينذر البشر ويقُصَّ عليهم قصة الخَلْق والميعاد، أو الهبوط والصعود، ويُخلِّص أرواحهم من أجسادهم الفانية … أي إنه طَرَح مفهوم خلود الجسد المصري جانبًا، وأخذ بمفهوم خلود الروح الرافديني، ولكن في بناء إسكاتولوجي مصري.

لكن هذا المَلِك النبي لاقى مُقاوَمة شديدة من قِبَل كهنة مردوخ والديانة البابلية الرسمية، ولكنه وجَد صدًى لعقيدته عند أسرى يهوذا في بابل، ونرى أن العقيدة اليهوذية تحَوَّلت إلى عقيدة يهودية بفعل تلاقُحها مع تعاليم نبونائيد العِرفانية … أما نبونائيد نفسه، فقد قام بالتبشير بديانته خارَج وادي الرافدين فذهب إلى حرَّان «التي كانت معقل الهِرْمِسية»، ثم ذهب إلى سوريا الشمالية والجنوبية، ووصل إلى شِبه جزيرة سيناء في مصر، ثم تَوجَّه باتجاه جزيرة العرب نحو وَاحَة تيماء، وجعلها عاصمة دينية له وكلَّف ولده «بلثازار» بحكم بابل نيابة عنه. كانت تيماء قريبة من الحجاز وتَلقَّت دعوته، وأصبَحَت مع بلاد فلسطين مركزًا لنشر دعوته العِرفانية.

انتشرت دعوته في جزيرة العرب عند ترحاله إلى مُدن يثرب، وخيبر، وددان، وتُخبِرنا الآثار عن وجود عِدة معابد أنشأها هناك.

وعندما سَقطَت بابل على يد كورش الفارسي الأخميني (٥٣٩ق.م.) أُسر نبونائيد ورُحِّل إلى بلاد فارس، لكنه استطاع أن يَفرَّ من الأسر ويعود إلى جزيرة العرب ليواصل دعوته هناك.

ونَرَى أن الدعوة العِرفانية التي قام بها نبونائيد استمَرَّت بعد وفاته وظهَرَت في نَزعات ومذاهب التوحيد في جزيرة العرب، وفي العراق والشام. وستَكشِف الآثار والبحوث التاريخية عن أهمية هذا الرجل ودعوته ذات يوم.

لقد عَبَّر العِرفان عن نفسه في محاولة الخلاص التي شَبَّعت العقائد والمذاهب الشرقية القديمة السِّرِّية منها بشكل خاص عن طريق تلك الطقوس الغامضة التي كان يخضع لها المتعبدون ويمارسونها.

(٢) الغُنُوصِية وأصولها

العِرفانية (الغُنُوصِية) رؤية خاصَّة للعالَم مُبنِيَّة على أساس معرفي مُحْكَم، حيث ترى العِرفانية أن العِرفان الحق لا يتم من خلال العِلْم الظاهري أو الفلسفة حيث الاستدلال والمعاني المُجرَّدة، وإنما من خلال معرفة النفس لذاتها ولأصلها السماوي ولطريق تخلُّصها من المادة والجسد وطريق عودتها على الله والاتحاد معه؛ لأنها جزءٌ إلهي في الإنسان.

إذَن هي معرفة النَّفْس لأصْلِها وخَلْقها ومَبدَئِها ومَعادها، وهذا النوع من المعرفة خاصٌ جدًّا لا يَعرِفه أو لا يَحصُل عليه إلا أولئك الذين اختارهم الله وهم صَفوة من الرُّوحانِيِّين الذين يَختلِفون عن النفسانيين أصحاب النفوس الفقيرة، والجِسمانيين أصحاب الشهوات الجسدية.

ولا تحصل هذه المعرفة عَبْر تدَرُّج معرفي، وتَعلُّم مُتسلسِل، وإنما تحصل في النفس عن طريق الكشف والإلهام.

ويكون مَطلب «العارف» هو توظيف الدِّين والمَعارف الدينية للدفع بالموقف العِرفاني إلى أقصى مَداه إلى طلَب الخلود، إلى الرجوع إلى موطنه الأصلي. ويرى بأن هذا السقوط، الذي أصابه، والذي يَتمثَّل في مُغادرته عالَم الخلود والارتماء في هذا العالَم المملوء شرًّا، لا بُدَّ أن يكون نتيجة لذنبٍ، نتيجة لخطيئة؛ ولذلك لا بُدَّ من العمل من أجْل الخلاص. وهكذا يَزداد شوقًا وحَنينًا إلى العودة إلى حاله الأصلية. إنه يتصور «البعث والنشور» على أنه رجوع إلى حال سابقة سامية، حال من الحرية الكاملة، حال ينزع فيها عنه ثيابه وكل ما يَشدُّه إلى هذا العالَم ليعود إلى الحال التي كان عليها قبل ميلاده، لا قبل تَكوُّنه الجسماني. إنها النشأة الأخرى (Regeneration)، أو الميلاد الجديد (Renaissance) إنه المعاد (الجابري، ٢٠١٠م، ٢٥٧).

ونرى أن نبونائيد اعتمد في عقيدته العِرفانية على الهيكل الهِرْمِسي الذي يُمثِّل القمرُ أساسًا له «وليس الشمس كما الهِرْمِسية اليونانية»، وهو ما تركه في أهمية هذا الإله في مصر وكيف شَكَّل تحُوت (إله القمر المصري وهو إله المعرفة والحكمة) أساس البرديات الهِرْمِسية قبل العصر الهيلنستي، حتى إذا ما جاء العصر الهيلنستي وطَغَت الفلسفة الهيلينية المَمزوجة بالأديان الشرقية ظهرت المُدوَّنات الهِرْمِسية والعِرفانية المُهجَّنة بين الهيلينية والمصرية، وأهمُّها على الإطلاق مُدوَّنة «هِرْمِس تحوت أو هِرْمِس طوط» التي هي أصل المُدوَّنة الهِرْمِسية بوامندريس.

العِرفانية إذن ذات جذور بعيدة قد يكون أبعدها العِرفان السومري، لكن نبونائيد هو الذي صاغ النظرية العِرفانية (الهِرْمِسية القمرية أو الهِرْمِسية السينية)، ثم ظهرت الفلسفة العِرفانية الهيلنستية، وبَينهما تمَّ ظهور دين عِرفاني مهم هو «المندائية» الذي قام بربط العِرفان النبونائيدي مع العِرفان الهيلنستي.

والمِندائية ديانة غُنُوصِية (مِندا تَعني عِرفان أو معرفة في اللغة الآرامية) ظهَرت في جنوب العراق، وهي ذات جذور قديمة لكن الصياغة الغُنُوصِية لها حصَلَت بعد نبونائيد.

وفي العصر الهيلنستي كانت الغُنُوصِية قد أخَذَت شَكْلها النهائي، وجمَعت — هي الأخرى — بين أديان الشرق القديمة والفلسفة الهيلينية، ونرى أنها (أي الغُنُوصِية الهيلنستية) كانت الرَّحِم الذي ظهَرت منه المسيحية، خصوصًا في عقائد الخَلاص اللاهوتية وأقانيمها الثلاثة. مِثلما ظَهرَت اليهودية من «الغُنُوصِية النبونائيدية» إبَّان الأسْر البابلي لأهل يهوذا.

أما الأصل الهيليني الذي ساهَم في صياغة الغُنُوصِية صياغة هيلنستية فنَعثُر عليه عند أفلاطون «الذي ترجع فلسفته المثالية إلى أصول هِرْمِسية هو وفيثاغورس».

(٣) مكوِّنات الغُنُوصِية

قالت الغُنُوصِية إن العالَم والجِنس البشري ظَهرَا نتيجة لخطأ فادح ومَشئوم. فالله لم يَخلُقْنا ولم يُرِد لنا أن نُخْلَق … بل نحن من صُنِع إله وَضِيع، هو ذلك الخالِق للكون الذي يَعتَقِد في نفسه خطأ أنه إله، ونحن مَحكوم علينا بالفناء، ولكن الله بالرغم من كونه ليس مسئولًا عن وُجودنا، أخَذَته الشفقة بالكون وأرسل مَسيحه لِيُبْطِل جهل هذا الخالِق، ولِيَهبَنا المعرفة.

فالمسيح هو الصِّلَة بين الإلهي وبين ذلك الخطأ التَّعِس المُسمَّى بالإنسان. ودارَ الغُنُوصِيُّون حول هذه الفكرة، سيرينش الذي تَعلَّم في الإسكندرية قال: إن يسوع كان إنسانًا، أما المسيح فهو الرُّوح التي غادَرَته عند الوفاة، باسيليدس (وهو زائر سوري) قال: إنه كانت هناك ثلاث شرائع؛ وهي ما قبل اليهودية، واليهودية، والمسيحية. وكان لكل حاكِم من حكَّام هذه الشرائع ابن، وهذا الابن كان يُدرِك عن الله أكثرَ مما كان يدركه أبوه. فالأوفيتيون عَبدوا الثَّعابين؛ لأن الأفعى في عدن كانت، حقًّا، رسولًا من الله، وهي التي دَفعَت حواء لتعصي خالِق الكون يهوه، وبالتالي إذا رغبْنَا في أن نكون طَيِّبين فعلينا أن نكون خُطَاة. (فورستر، ٢٠٠٠م، ١١٦).

ظهرت الصياغة الهيلنستية للفلسفة الغُنُوصِية قبل ظهور المسيحية، وتناوَلت ثلاث مشكلات أساسية سنطرحها هنا بإيجاز:
  • (١)
    مشكلة الشر في العالَم: كما قلنا في الفقرة السابقة، قام أكسنوقراطيس بتطوير فكرة الإله «الواحد»، أو الخير المحض وشَطَره على إلهين: الأعلى هو «الواحد» المُبرَّأ من الدَّنَس وهو الخير المَحْض، والذي بَعْدَه وهو بمثابة ابنه هو «الاثنان» وهو المَشوب بالشَّر الأقل كمالًا ويُنسَب له صُنْع المادة.

    قام الفلاسفة الغُنُوصيون بتطوير هذه الفكرة ووضعوا هيكلًا فلسفيًّا فَسَّروا من خلاله مبدأ التكوين والخلْق فلسفيًّا، وتكوَّن تَشكيل هذا الهيكل الفلسفي الغُنُوصي كما يلي:

(٣-١) الهيكل الغُنُوصي الأول

استقر الهيكل الغُنُوصي الأول على أساس وجود ثلاث مراتب فيه هي:
  • (١)

    الإله المتعالي الواحد (العقل الأول): وهو الإله المُنزَّه الذي لا علاقة له بالعالَم (لم يخلق العالم) وهو الخير المَحض اللامُدْرَك السكون الرءوف الرحيم، وهو الهاوية، وهو ذَكَر وأنثى معًا.

  • (٢)

    الإله الصانع (العقل الكلي): وهو الذي ولَدَه من ذاته الإلهُ المتعالي الواحد ليقوم بصُنْع العالَم وهو إله مَشوب بالنقص، ويُعتَبر مصدر الشر؛ ولذلك فهو إله شديد العقاب.

  • (٣)

    المادة الأزلية: التي هي الشرُّ كُلُّه وهي مِن صُنْع الإله الصانع والإنسان ينغمس فيها؛ حيث الإنسان رُوح إلهية من العقل الأول لكنها موضوعة في جسد مادي ومحبوسة فيه؛ أي إنها خيرٌ داخلَ سِجْن من الشر.

figure
الهيكل الغُنُوصي الأول.

ويقينًا إن هذا الهيكل الثلاثي يُشبِه إلى حدٍّ كبير ذلك الهيكل الثلاثي الميثولوجي الذي انتهَت له كل أنساب الآلهة الشرقية القديمة: المصرية، والكنعانية والآرامية، التي وصَلَت إلى مشارف العصر الهيلنستي بهذا الإيقاع الثلاثي، رغم أن هذا الثالوث الإلهي الشرقي كان مُركَّبًا بصيغة أخرى، وهي: «الأب والزوجة والابن»، باستثناء الثالوث الآرامي الذي كان مُركَّبًا من «سيميون وسيما وسوما» حيث سيميون الأب البحري، وسيما وسوما أقنومان ذَكَري وأُنْثوي، ربما مثلا الجسد والروح.

أما فكرة الإله الأب المتعالي، وابنه الشاب الصانع فقد كانت من أكثر الأمور شيوعًا في الميثولوجيا الشرقية.

(٣-٢) مشكلة الخَلاص

قلنا في فقرات سابقة إن جميع الأديان والعقائد والمذاهب السِّرِّية نشأت بسبب مُشكلة الخَلاص سواء في الحياة أو الموت، ورأينا كيف أن مشكلة الخَلاص بعد الموت قد سيطرت على العقائد الإسكاتولوجية المصرية ثم العقائد الشرقية والإغريقية القديمة السِّرِّية الطابع.

ولا شك أن الغُنُوصِية كانت قد نشأت أولًا بسبب فكرة الخلاص أيضًا (خلاص دموزي من العالَم الأسفل) … ولكنها مع الصياغة الهيلنستية كانت قد تَوصَّلت إلى أفكار جديدة تمامًا.

ولكي تكتمل فكرة الخلاص الغُنُوصي لا بُدَّ من وضع هيكل تفصيلي للغُنُوصِية في المبدأ والمَعاد يكون قادرًا على تفسير الخلاص فلسفيًّا، ولأجل تحقيق هذا استعانت الغُنُوصِية بالهيكل الهِرْمِسي الذي وضعته الهِرْمِسية البابلية، حيث يقول سيرجي هوتن «لقد أخذ العِرفانيون من البابليين الأسطورة التنجيمية الكبرى Le grand mythe astrologique الخاصة بهبوط النَّفْس وصُعودها: النَّفس تهبط من السماء العليا عَبْر الدوائر الفَلكية السبع فتَتلقَّى في كل منها استعدادات خاصَّة، وبعد الموت تتم العملية العكسية، فتصعد النفوس تاركة في كل دائرة فَلكية ما سبق أن أخَذَته منها. أما فكرة المُخلِّص الذي يُخلِّص نفسه Le sauveur sauvé، المنقذ الذي يُنقِذ أجزاءه النورانية المُشتَّتة في المخلوقات الدنيا (الجسم، المحسوسات) وهو بذلك يُنقِذ نفسه، هذه الفكرة أصلها إيراني» (Hutin 1959: 83).
وكان هذا الأمر يَستدعي تعديلًا أو تفصيلًا في الهيكل الغُنُوصي الأول الذي كان مَصدُره المباشِر أفلاطونيًّا مُحوَّرًا. وبالعودة إلى الهيكل الهِرْمِسي نجد أن هناك أربعة مقامات للعقل الأول (الأب)، والثانية للعقل «الثاني» (العقل الصانع + الإنسان السماوي)، ثم الإنسان (النَّفْس) ثم المادة. وهكذا ظَهَر الهيكل الغُنُوصي مختلفًا عن الهيكل القديم، والهيكل الهِرْمِسي:
  • (١)

    العقل الأول (الواحد، الخير، النور)، وصفة النور هذه مصدرها هِرْمِسي.

  • (٢)

    الأيونات والأراكنة (الأركونات) وهي أرواح إلهية تَصدُر عن العقل الأول زوجًا فزوجًا (ذكرًا وأنثى)، مُتضائلة في الألوهية كُلَّما ابتعدت عن المصدر، ويمكن القول إن هذه الأيونات تُشكِّل ما يقابل «العقل الصانع»، وكانت تُعتَبر بمثابة آلهة الكواكب أو الكواكب نفسها، وكان بَعضُهم يسميها الكلمات، والبعض يجمعها في «الكلمة»، ويُسمِّيها فِيلون الإسكندري بالملائكة أو القوات، وغيرهم يُسمُّونها الجِن، وغيرهم يُسمُّونها الوسطاء، «ويروي الغُنُوصيون عنهم قصصًا غامضة وغريبة».

  • (٣)

    وقد حاوَل أحد الأيونات (الأركونات) أن يرتفع إلى مستوى العقل الأول (الله) فطُرِد من العالَم المعقول وعن هذا «الأيون الخاطئ» صدَرَت أرواح شريرة مثله، ثم صَدَرت المادة أو العالَم المحسوس.

  • (٤)

    قام الأيون الخاطئ بحبس النُّفوس البشرية «الصادرة من الأيونات الصالحة، داخِل المادة وهي الأجساد، وهكذا خُلق الإنسان».

  • (٥)

    أصبحت هذه النُّفوس تَتوق للخلاص من سجنها الجسدي وذلك بالتَّطلُّع إلى الكواكب ودَحْر الشهوات الجسدية والتَّحرُّر منها، وحرب الشياطين والشر، ثم الالتحاق بالأيونات، ثم بالعقل الأول، وهذا هو طريق الخلاص الغُنُوصي.

ويُقسِّم الغُنُوصيون الناس على ثلاث طوائف «متمايزة بالطبيعة لا بالنِّية والإرادة فحسب؛ الطائفة الأولى: هم الروحيون، وهم من أصْل إلهي يَكفُل لهم النجاة، أولئك هم الغُنُوصيون صفوة البشر، والطائفة الثانية: الماديون المُركَّبون من المادة وهي التي تَعوقُهم عن الصعود فوق العالَم السفلي، والطائفة الثالثة: الحيوانيون وهم الذين يُؤلِّفون طبقة وسطى قابِلة للارتفاع والسقوط، للنجاة والهلاك … ووسيلة النجاة قَهْر الجسم واطِّراح كل ما يَثْقِل النَّفْس ويَمنعها من بلوغ المَقر الروحاني النوراني الذي هبطت منه» (كرم، د.ت، ٢٤٤-٢٤٥).

(٣-٣) الظاهر والباطن

المبدأ الثالث من مبادئ الغُنُوصِية يَترتَّب على تصنيفها الأخير للناس؛ فعامَّة الناس من المادِّيين والنَّفسانيين يأخُذون المعرفة من العلوم الظاهرة كالفلسفة والعلم التجريبي، أما خاصَّة الناس من الرُّوحانيين الغُنُوصيين فيأخذون بالعِلْم العِرفاني الذي هو العِلْم الباطني.

والعِلْم الظاهر هو الأخذ بالأشياء والظواهر والنصوص كما هي، ويتم تَلقِّي هذا العِلْم بالخطوات التعليمية التدريجية. أما العِلْم الباطن فهو الغَوْص في أعماق الأشياء والظواهر والنصوص وكشْف أسرارها الحقيقية «لا معانيها الظاهرة»، ويتم تَلقِّي هذا العِلْم بالكشف والإشراق المفاجئ في الألباب والقلوب … وسِرُّ هذا الكشف سببه أن النَّفس أو الروح الغُنُوصِية أو الباطنية الطابع تَتلقَّف بسرعة وبنوعٍ من الومض أسرار المَعرفة الإلهية — بشكل خاص — لأنها مصنوعة من مادة روحية خفيفة مرتَبِطة بالله، أو بالعقل الأول.

وهذه النفوس في تَشوُّق متبادَل مع الله، هي تريده وتريد معرفته وهو يريدها ويريد جَذْبَها؛ ولذلك تختفي الحواجز بينهما، ويمكن تفسير فكرة الوحي على هذا الأساس، فالنُّفوس الشَّفافة الإلهية الطابع هي القادرة على تَلقِّي الوحي بدرجة أعلى بكثير من النفوس المادَّية الظلامية الطابع المُكبَّلة بِلذَّاتها وماديتها.

شفافية النفوس الخاصة هي التي تَصِلها بالله مباشرة، وأحيانًا عن طريق الوحي — عند الأنبياء مثلًا — أما أصحاب النفوس المُظلِمة الهابطة في المادَّة فلا تتطلع إلى الله، بل تَعرِفه معرفة العابر وتَسحبُها دُونِيَّتها إلى المادة، والمَلذَّات، والشر، والشيطان، والعالَم الأسفل.

يرى البعض أن الغُنُوصِية رغم ابتكارها لنظام روحي جديد لكنها انجرفَت في جَدل عقيم، وتَناظُر هندسي مُرهِق في أشكال الأيونات والأرخونات وحركتهما، ويصف مُؤرِّخ الفلسفة إميل برهييه ذلك بالهذيان.

حسبنا أن نقرأ هذا الهُذاء، الذي يرهن مصير الإنسان بمُشاحنة زوجية، ميتافيزيقية، حتى نُدرِك كم تختلف ذرية الأيونات — تلك الموجودات الأزلية المتولدة عن أزواج من الآلهة، كما تصفها الغُنُوصِية — عن ذرية الأقانيم الأفلوطينية، وكم يبعد هذا الفداء الذي تكون فيه النفس غنيمة تتنازع عليها القوى المُصطرعة — تصور شعبي سيعمر طويلًا في الحكايات الخرافية — عن الخلاص الأفلوطيني، (هذا إن جاز بعد أن نطلق اسم الخلاص على ما لا يعدو أن يكون معرفة متبصرة بنظام عقلاني). على هذا النحو نرى الغُنُوصِية، التي تَمخَّضَت من جهة أولى عن خرافات وحكايا أسطورية تَتَّسع لجميع الصور الدينية التي تسكن عقل الشرقي، ومن جهة ثانية عن عبادات وممارسات تَطيُّرية ترامت أنصابها وآثارها على امتداد الإمبراطورية الرومانية، نراها لا تَعقد إلا صِلات غير مباشرة بتاريخ الفلسفة (برهييه، ج٢، ١٩٨٨م، ٣١٠).

figure
الهيكل الغُنُوصي المفصَّل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥