تاريخ الغُنُوصِية القديمة
(١) الغُنُوصِية العتيقة (الوثنية)
ما زالت الآراء متضاربة في وجود أو عدم وجود غُنُوصِية وثنية، فهناك شبه إجماع يقول بأن الغُنُوصِية نشأت مع بداية المسيحية، بل إنها أصل المسيحية كما نرى.
لكننا نقول — في أكثر من مكانٍ ومناسبةٍ — إن الغُنُوصِية كفكرةٍ موجودةٌ في الأديان الشرقية القديمة، فالأديان الرافدينية حفلت بها وهي في باطن الأساطير. إن الدين السومري الذي يرى في دموزي الإله الذي ينزل إلى باطن الأرض في الخريف والشتاء (في العالَم الأسفل)، ويصعد إلى الأرض في الربيع والصيف يُشكِّل دورة نزول وصعود الروح (النفس)؛ حيث يَتجلَّى ذلك في صعود قطرة الماء على شكل دامو في نُسْغ النباتات.
وتكتمل الصورة الدائرية سماويًّا عندما نجد ديموزي (تموز) ونظيره ننكشزيدا وهما في السماء قرب «آن» (انظر أسطورة آدابا).
هذه الدورة السماوية الأرضية السفلية للإله دموزي هي دورة الروح (النفس) التي منها انطلقت فكرة الصعود والهبوط (أو البدء والمعاد) الهِرْمِسية لاحقًا والتي شكَّلت أساس الفكر الغُنُوصي.
وفي إيران نجد خيوطًا أُخْرى من الغُنُوصِية تَكمُن في إله النور (الخير)، وهو أهورا مزدا؛ أي الإله الأعلى، وإله الظلام (الشر) أهريمان وهو الإله الأسفل وبمثابة الشيطان، ويدور صراع بينهما حتى ينتصر إله النور. وهذه الثنائية بوجود إله أعلى «خيِّر» وإله أسفل منه «شرير» سنجد صداها في النظام الغُنُوصي المتطور لاحقًا.
وفي الشرق الأقصى شَكَّلت فكرة ونظام «بوذا» مصدرًا من مصادر الغُنُوصِية، وسَتُلْهم سيرة بوذا كُتَّاب سيرة المسيح المُنتَظر في صياغة غُنُوصِية واضحة.
كل هذه المصادر كانت خيوطًا متناثرة للغُنُوصِية الوثنية.
لكن الصياغة الأولى لهذه الغُنُوصِية الوثنية «الشرقية» جاءت من اليونان على يد أفلاطون الذي كان مطَّلِعًا على التراث الديني الشرقي والذي ألهمه فلسفته.
في المرحلة الأولى لفلسفة أفلاطون، تكون معرفة الإله بتطهير النَّفْس من أدران البَدَن، وسُلطان الحِس والخيال. يبلغ الفيلسوف هذه المعرفة، بفضل جدل صاعد يترك فيه العالَمَ المحسوس، ويَرقَى إلى مثل هذا العالَم ومبادئه العليا في صورها الرياضية والميتافيزيقية، مُبتعدًا عن المحسوسات، وعن العالَم الواقعي المحسوس، وما فيه من حركة وتَغيُّر مُستمِرَّين، فيصل إلى ما وراء المُثل ذاتها، إلى مَبدئِها الأسمى وأصْلِها المُطلَق، إلى الخير، إلى «الواحد»، حيث تستقر النَّفْس وتثبت ثبوتًا نهائيًّا. (بلدي، ١٩٦٢م، ٦٢-٦٣).
ثم تطوَّر موقف أفلاطون وأدرك أنه يجب معرفة الإله من العالَم ذاته، وهي محاولة لإنشاء دين عالمي يهتم بالعالَم ليرقى إلى الإله. واهتدى شيئًا فشيئًا إلى أن الرُّوح (النفس) هي القوة الكبرى في هذا الوجود، وهي التي تربط العالَم الغيبي مع العالَم المادي، فهي حاضرة كليًّا في العالَم الغيبي الميتافيزيقي، والنفس البشرية، ومن يمثلها، حاضرة في العالَم المادي.
وهكذا اهتدى أفلاطون إلى وضْع أسس دين فلسفي عالمي، فهو يقول في مُحاورة طيماوس: وهو ما يؤيد ظَنَّنا من أن أفلاطون كان بمثابة النبي الفلسفي (غير المرسل)، وقد أثَّرَت صورة هذا الإله الأفلاطوني في أرسطو (كدين فلكي سماوي فلسفي)، ثم في مدرسة الإسكندرية في العصر الهيلنستي.
فبَعْد أن أنشأ أفلاطون نِظامه الفلسفي المثالي في أكاديمية أثينا، وبعد أن تُوفِّي تولَّى أمر الأكاديمية الأفلاطونية إسبوسيبوس، ثم تولَّاها أكسانوقراطيس، وقام هذا الأخير — بشكل خاص — بتحويل فلسفة أفلاطون إلى رياضيات، وأدْخَل عليها تأويلًا ثنائيًّا، حيث قام بتطوير فكرة أفلاطون عن الإله «الواحد» الذي كان كله خيرًا محضًا، أما الشر فكان يَنتُج عن خطيئة في النَّفْس ارتكبَتْها في حياتها الأولى، فقال أكسانوقراطيس — ربما بتأثير الثنوية الفارسية عن إلهي الخير والشر — بأن الإله الواحد الخيِّر أنجب إلهًا هو الإله «الصانع» الذي يَشوبُه نقص قياسًا بالإله الواحد؛ «حيث كان أفلاطون يرى أن الكمال أول والنقص تضاؤله»، وأن هذا الإله الثاني هو الذي صَنع العالَم والنَّفْس اللذين يَشوبهما النقص، وهكذا جعل أكسانوقراطيس مبدأين أَوَّلَين؛ أحدهما: خَيِّر هو «الواحد»، والآخَر فيه نقص فهو مصدر الشر وهو «الثاني». وهكذا وضَع الله «الواحد» في مكان قَصِيٍّ ونَزَّهَه عن المادة … وقال إن النفس لا تدركه بالتَّدرُّج بل بالإشراق المفاجئ.
هذا التطوير الأكسانوقراطي كان الجذر المناسب الذي تَتحوَّر فيه الأفلاطونية لتتناسب مع الغُنُوصِية الشرقية. ويَنتُج عنهما النظام الغُنُوصي الهيلنستي.
يُضاف إلى ذلك الأصل الفارسي الذي ظهر في عقائد الثَّنوية المَزْدية ثم الزَّرادُشْتية التي تقول بإلهَي الخير والشر ويُمسِك بناءَها النظام الهِرْمِسي.
كل هذه الأصول انحدَرَت من الماضي لتتفاعل مع بعضها في بَوتَقة العصر الهيلنستي الجامع لعقائد الأمم الشرقية والغربية، ومن كل هذا تظهر الغُنُوصِية الهيلنستية التي كانت ذروة العقائد الغُنُوصِية.
هكذا نقل أفلاطون ثم أرسطو الفكر الديني للمدينة الإغريقية إلى فكر ديني عالمي «عن طريق الفلسفة»، وسيكون لهذا الفعل صداه الكبير عندما يُعلِّم أرسطو تلميذه الإسكندر المقدوني، وعندما يَفرِش هذا الأخير الأرضية لنشوء دين عالمي جديد يَتمخَّض عن حركة التوحيد التي تبدأ فلسفيةً، ثم تنشأ غُنُوصِيةً، ثم تعود أدراجها شرقيةً يَنتُج عنها يهودية مُوحِّدة «وليس تفريدية كما كانت»، ثم مسيحية مُوحِّدة «غُنُوصِية، ثم ثائرة على الغُنُوصِية»، وإسلام توحيدي خالِص ورافِض للأصول الفلسفية للتوحيد.
وهكذا مَهَّد الإسكندر بفتوحاته إلى تحوُّل فكري حقيقي سيصل إلى ظهور أديان توحيدية في الشرق، وإلى فكرة المدينة العالمية والدين العالمي في الفلسفة الرِّواقية في الغرب والإسكندرية.
وإذا كان أفلاطون وسُلالته قد أعطوا البذور الأولى للصياغة الغُنُوصِية فلا شك أن «الهِرْمِسية» بصيغتها المصرية الإغريقية هي التي أعطَت الغُنُوصِية هيكلها الروحي المعروف. لكن ما بين أيدينا من نصوص هِرْمِسية يعود أقدمها إلى القرن الميلادي الثاني وهي فترة بدأت فيها الغُنُوصِية المسيحية بالظهور، إذن لا بُدَّ من البحث في جذور أبعد.
إن نصوص التَّنجيم والخيمياء المصرية والرافدينية هي الأقرب إلى أن تكون المادة الأولية للهِرْمِسية الشرقية والتي أعاد صياغتها الإغريق ليعطوا الهِرْمِسية هيكلًا واضحًا، وخصوصًا فيثاغورث ثم زوسيموس. والهِرْمِسية سابقة لأفلوطين، وقد راجعنا في الفصول السابقة تفاصيل الهِرْمِسية الهيلنستية.
(٢) الغُنُوصِية الهيلنستية المُبكِّرة
وقد تكوَّنَت (بالإجمال) مجموعة من الرؤى الغُنُوصِية لموضوعات توراتية منها ما يخص التكوين أو الآباء الأوائل أو الطوفان.
وكان لظهور يُوحنَّا المعمدان في القرن الميلادي الأول كمعلم من مُعلِّمِي الحق، أو كَنَبِي معمداني خارِج على الطُّرق اليهودية، أو كعضو في فرقة أسينية، أو كزعيم للمِنْدائِيِّين؛ أثره الكبير على انتعاش الفكر الغُنُوصي ونموه.
وهناك الكثير من الآراء حول المسيح المُنتَظر، وكتابات فيلون، ونصوص زَرادُشْت، ومُدوَّنة هِرْمِس مُثلَّث العَظَمة (الهِرْمِسية)، فضلًا عن النزعة الروحية للمعتقدات المُسارِّيَّة التي كانت قد بدأت منذ أورفيوس ونِحْلَته مرورًا بفيثاغورس.
كل هذه الأمور لَعِبَت دورًا في تهيئة المناخ لظهور الغُنُوصِية المُبكِّرة كنظام روحي جديد سيكون له الشأن الكبير في صياغة الديانة المسيحية بشكل خاص.
(٣) الغُنُوصِية المسيحية في القرون الميلادية الأولى
كان الجو الغُنُوصي قد ملأ الأوساط الاجتماعية والروحية والثقافية مع القرن الميلادي الأول، وكان الكثيرون (ربما بَلغوا ١٢ شخصًا) قد ادَّعو في هذه الفترة أنهم المسيح المُنتَظر (ماشيح أو مشيا) الذي بَشَّرَت به التوراة أو خارج ذلك.
وتُعتَبر مريم المجدلية أحد مَظاهر الغُنُوصِية المسيحية المُبكِّرة كما جاء في «إنجيل مريم». ويعتقد أن هناك مُؤثِّرات غُنُوصِية واضحة في تعاليم ورسائل بولس، وكذلك تلميذه «ثيودس» في القرن الميلادي الأول.
وفي القرن الثالث ظَهَر النبي ماني في بابل، وأسَّس الديانة المَانوية المتأثرة بالمِنْدائية والبُوذِية والزَّرادُشْتية والمسيحية.

(٤) المدارس الفكرية للغُنُوصِية
أسس سرنثيوس (في نهاية القرن الميلادي الأول وبداية الثاني)؛ مدرسة غُنُوصِية ذات طابع فلسفي، وذلك عن طريق إعادة إنتاجه للأبيونية التي انتشرت كطائفة محلية مسيحية مبكرة لم تَدخُل عليها أفكار بولس، وقد أشار إلى «الله الأعلى»، ولكنه لم يميِّزه بشكل واضح من «الإله الصانع» أو الديميورج أو يهوا، وعَزا له خلْق العالَم.
وفي القرن الثاني الميلادي أَسَّس كاربوقراطس مَدْرَسته الغُنُوصِية وكان فيها طلابه: مارسلينا، وابنه إبيفانيس (وهو ليس أبيفانس من سلاميس ناقد الغُنُوصِية). وظهر كذلك باسليدس، وخلَفَه ابنه إيزادور في حدود ١٥٠م، وسيردو وهو مُعلِّم روماني. ثم ظهر مَرقِيُون وتلميذه أبيليس.
ورغم أن الشِّيثية ازدهرت في القرن الثاني، لكنها ربما تكون قد نشأت وبدأت قبل ظهور المسيحية دون أن نعرف مَن هو مُؤسِّسها، لكننا إذا عُدْنا إلى كِتاب «الفلاحة النبطية» لابن وحشية فإننا سنجد أن جذور هذه الطائفة في وادي الرافدين قديمة جدًّا، وأن مؤسِّسها هو شخصية غامضة لم نَتحقَّق من وجودها التاريخي وهو «ماسي السوراني» من مدينة «سورا» قرب بابل حيث يرى مؤلِّف «الفلاحة النبطية» الأول «قوثامي» بأن ماسي السوراني هو «أحد الحكماء الكبار الأجِلَّاء القدماء من حكماء الكسدانيين الموثوق بآرائه ووفور عقله، ولِي في مِثْلِه فخر، وأحب أن يحوز الفضائل كلها» (ابن وحشية، ص١١٠٦).
وهناك ما يشير إلى أن ماسي السوراني كان وثنيًّا، ولكنه كان على علاقة مع يهود بابل خصوصًا الغُنُوصيين من جماعته الوثنية مع الغُنُوصِية اليهودية كانتَا على اتفاق واضح في زمنٍ ما «على أن من الواضح أن قوثامي يلاحظ نوعًا من التحالف بين الغُنُوصِية الشِّيثية الوثنية والغُنُوصِية اليهودية التوحيدية، وحين يرى التقاءَهما في الغُنُوصِية والعِرفان، فهو ينفي استمرار هذا الالتقاء لوجود تناقُض بين الديانتين، والمؤكَّد أن التحالف بين الغُنُوصيات استمر طوال العهد الفِرْثي، ربما من القرن الثاني ق.م. حتى نهاية العصر الفِرْثي في منتصف القرن الميلادي الثاني، وإلى هذا التقارب يجب أن نعزو طائفة قمران، التي عُثِر على مخطوطاتها في منطقة البحر الميت» (الغانمي، ٢٠١٠م، ١٠٤).
وهذا يشير إلى أن الغُنُوصِية ظَهَرت قبل المسيحية في الطائفة الشيثية بين نَبَط وادي الرافدين، وأنها قد تكون سببًا في ظهور الغُنُوصِية اليهودية في بابل.
وهذا ما يجعلنا نُفكِّر أن الغُنُوصِية كانت قد تَرعرَعت ونَمَت في وادي الرافدين أثناء العصر الفِرْثي وربما قَبْله منذ العصر السلوقي في العراق، وهو ما يجعلنا نعيد البحث عن جذورها خارج منطقة انتعاشها المسيحية في بداية القرن الميلادي الأول. وهذا يجعلنا نميل بوضوح إلى وجود غُنُوصِية وَثَنية في العراق القديم امتَدَّت بعد بابل وحوَّلَت بعض اليهود إلى غُنُوصِيِّين يهود نَقَلوا غُنُوصيتهم إلى بلاد الشام، فظهرت الغُنُوصِية هناك مع قِلَّة من اليهود ثم المسيحيين، وتأسَّسَت مدارسها الفكرية بين الشام والإسكندرية وروما.
الغُنُوصِية الرافدينية-الفارسية | الغُنُوصِية السورية المصرية | الغُنُوصِية اليهودية المُبكِّرة | الغُنُوصِية المسيحية المُبكِّرة | الطوائف الغُنُوصِية المُتفَرِّقة |
---|---|---|---|---|
• الشيثيون. | • القوقيون. | • المركابا. | • الأبيونيون. | • الأبيلونيون. |
• الكسدانيون النبط. | • الباسيليديون. | • البيرشيت. | • السردونيون. | • الأغابيتيون. |
• المندائيون. | • الشِّيثِيُّون. | • هيخالوت. | • المراقيونيون. | • أنجليسي. |
• المانويون. | • الفاليسيون. | • كنيسة الآباء. | • اللوقيانيون. | • أنتيتاكتي. |
• الديهوريون. | • الساتورنيوليون. | • فيثاغوريو الكرمل. | • الأبليكوس. | • الأكواري. |
• الباننسيزيون. | • القوماسيون. | • الشافيون. | • الكولورباسيون. | • الأرخونتيون. |
• الأساتي. | • الفالنتيون. | • اليوئيليون. | • السايمونيون. | • الأسكودروتيون. |
• الشنانج. | • الهيراقليطيون. | • الشيثيون. | • الميناندريون. | • البوبوريون. |
• الصابئون (السامبسيون). | • البوتلميون. | • القاينيون. | • الدوسيثيون. | • الكوديون. |
• البارديصانيون. | • ستراتيوتيتون. | |||
• الحرَّانيون. | • الليفتيسيون. | |||
• الفبيونيتيون. | ||||
• القاينيون. | ||||
• الكاربوكراتيون. | ||||
• سرنثيون. | ||||
• الآدميون. | ||||
• مارسيليون. | ||||
• ماركوسيون. | ||||
• ميساليون. | ||||
• الأوفاتيون. | ||||
• الناسيوينس. | ||||
• البيراتين. | ||||
• البريسنيالية. | ||||
• السكيونديون. | ||||
• السلوقيون. |
(٥) الديانات الغُنُوصِية
رغم أن الغُنُوصِية أثَّرَت في الديانات والمذاهب جميعها؛ الوثنية واليهودية والمسيحية والإسلام، وتَدخَّلَت في الفلسفة، وصَبغَتها بلونها، وظهرت علوم غُنُوصِية كثيرة إلا أن هناك أربع ديانات غُنُوصِية ظهرَت كلها في العراق القديم (وادي الرافدين)، وهو ما يُعزِّز افتراضنا الذي وضَعْناه حول نشوء الهِرْمِسية والغُنُوصِية في العراق القديم … بل ويُعزِّز افتراضنا حول إعادة هيكلة الغُنُوصِية «العِرفانية» على يد نبونائيد الملك والكاهن البابلي الكبير والأخير.
كان العراق القديم بعد سقوط بابل قِدرًا هائلًا تَتخمَّر فيه عقائد وأديان الغُنُوص والهِرْمِسيات، ولو أن التاريخ قيَّض للعراق آنذاك مدرسة كبرى مثل الإسكندرية في مصر لكانت عقائد وأديان العراق والشرق (وتحديدًا الشرق الأقصى) المدفونة في طَيَّات الزَّمن قد ظهرت وتفاعَلت وكوَّنت أعظم تيارات الثقافة والمعرفة. ورغم ذلك ورغم تَمزُّق الهوية الدينية والروحية بل والقومية للعراق القديم لكنه أظهر لنا أربع ديانات غُنُوصِية مُتميِّزة؛ ثلاث منها ظهَرَت قبل المسيحية، وواحدة بعدها وهي «المِندائية، الحرَّانية، الإيزيدية، المانوية».
(٥-١) المندائية

لم تكن الديانة المندائية وليدة العصر الهيلنستي، بل هي ذات جذور أبعد من هذا العصر؛ فهي ترتبط بوشائج عميقة مع ديانة الأسرار السومرية، خصوصًا بعد أن اختفَت الديانة السومرية، وقد بحثْنَا في كتابنا «جذور الديانة المندائية» عن الأصول السومرية للديانة الصابئية المندائية.
لقد ظهرت بدايات هذه الديانة في شكلها الصابئي من بقايا الديانة السومرية وعناصرها المعروفة «الهواء والماء، النور والظلام، عالَم ما بعد الموت» … إلخ.
لكن الديانة الصابئية تعرَّضَت لضغط الكثير من العقائد الدينية التي ظهرت في العراق القديم؛ مثل: الديانة البابلية، والآشورية، وقبْلَهما الأكدية، ونرى أن إعادة صياغة شاملة لها تَمَّت بعد سقوط بابل على يد عناصر كلدانية وآرامية، وعلى أساس العِرفانية النبونائيدية التي ظَهَرت منذ منتصف القرن السادس قبل الميلاد؛ ولأن هذه الصياغة تَمَّت باللغة الآرامية وبإحدى لهجاتها التي هي «المندائية» فقد أطلق على هذه الديانة المندائية أو الصابئية المندائية، وربما كانت العقيدة الدينية هي السبب في إطلاق تسمية المندائية لأن كلمة «مندا» باللغة الآرامية تعني «العارف»؛ ولذلك يكون المندائيون هم العارفين؛ أي العِرفانيين على وجه الدِّقَّة.
وها نحنُ نَجِد مصطلحًا آراميًّا عربيًّا دقيقًا للغُنُوصِية ظهر قبل ظهور مصطلح الغُنُوصِية اليوناني وهو مصطلح «المندائية».
إن المندائية هي الغُنُوصِية وهي العِرفانية بأدق وأكمل أشكالها، وإن من حُسْن حظِّ الأديان والثقافات البشرية أن هذه الطائفة العريقة ما زالت حتى يومنا هذا تُمارِس عقائدها وطقوسها وتعاليمها في جنوب العراق وفي الأحواز بشكل خاص.
المندائية تحتوي «في طياتها» على أقدم عقائد الغُنُوصِية ممثَّلةً بالنبض السومري فيها، وعلى الصياغة الغُنُوصِية النوعية لنبونائيد مُمثَّلة بالمندائية الآرامية … ولذلك فهي دين عِرْفاني خالِص، يمكن مشاهدته حيًّا اليوم، ودراسته عن كثب، والخروج منه بنتائج في غاية الأهمية عن أصل التوحيد، وعن الديانات العراقية القديمة، وعن المذاهب الهيلنستية التي خاض بُحورَها حتى عَبَر بَعْدَها لُجَج الأديان المُوحَّدة وصولًا إلى العصر الحديث.
للمندائية لاهوت وأساطير وطقوس، كلها ذات طبيعة غُنُوصِية، وكلها نِضال ضد الشر، وتَوَجُّه نحو الخير والنور، وكلها تَوَجُّه نحو خلاص النفس البشرية قبل وبعد الموت من عالَم الظلام (آلمي دهشوخا) باتجاه الالتحاق بعالَم النور (آلمي دنهورا).
(أ) المندائية والغُنُوصِية
قلنا — في أكثر من مكان — إن المندائية هي أصل الغُنُوصِية وهي شَكْلها النَّيِّئ الأول قبل أن تَتحوَّل إلى فلسفة وتيارات فكرية غَلَّفَت العصر الهيلنستي، ثم أنبَتَت بذرة التوحيد الذي أصبح وعاء اليهودية والمسيحية فيما بَعدُ.
بعد سقوط بابل ٥٣٩ق.م. استمَرَّت الديانة البابلية الكلدانية ديانةً لشعوب وادي الرافدين، لكنها اختلَطَت بعقيدتين وفَدَت رياحهما قُبَيل وبُعيد سقوط بابل. لقد أَتت الديانة اليهوذية مع أسرى السبي الأول والثاني لأهل يهوذا، وكانت ديانة تفريدية وليست توحيدية، عَمِل في بابل الكاتِب عزرا على إعادة صياغتها مع الكثير من الأحبار والكهنة الكبار المَسْبِيِّين، ثم وُلدت اليهودية في بابل بعد أن كانت ديانة يهوذا واحدة من تنويعات الديانة الكنعانية.
أما العقيدة الوافدة الثانية فهي الديانة الزَّرادُشْتية التي كانت — آنذاك — آخر حلقات الديانات الثنوية الفارسية، والتي أصبحت ديانة الغُزاة الفُرس الأخمينيين لوادي الرافدين والشرق الأدنى، وكانت هذه الديانة تُؤْمِن بعالَمَي النور والظلام، وبوجود إله وإلهة على رأس كلٍّ منهما وبالصراع الدائر بينهما.
كانت الديانة البابلية الكلدانية قد تَحوَّلت إلى ديانة كوكبية بدَت وكأنها تخرج من العالَم الأسفل المُظلِم حتى إن «مردوخ» كان يرمز إلى كوكب «المشتري»، وابنه «نبو» إلى «عطارد»، وابنته «عشتار» إلى «الزهرة» … إلخ. وهكذا وُصِمَت الديانة البابلية بكونها ابنة الظلام، أما الديانتان الوافدتان فقد ظَهرَتا وكأنهما تُمثِّلان المُضاد الأكبر للديانة البابلية. فاليهودية تَبنَّت أدوناي ويهوا، ووُصِف الأول بأنه إله الشمس والثاني بأنه إله العاصفة والطقس. والزَّرادُشْتية تَبنَّت أهورا مزدا سيد النور والشمس، وأناهيت رَبَّة الخصوبة.
وهكذا بدأت تتقوض أركان الديانة البابلية من جهة، وتتبلور الزَّرادُشْتية واليهودية من جهة أخرى. ولكنَّ نَبتًا سِريًّا خصبًا كان ينمو تحت كل هذه الأنقاض والأديان المُعْلَنة، وهو «المندائية» التي هي الخميرة المُعَتَّقة الأصلية لعقائد وادي الرافدين؛ إذ إنها تَجمَع في نسيجها مادة الديانتين الجديدتين، فعالَمَا النور والظلام فيها، وجذور التوحيد فيها لكنها لا تكشف عن نفسها؛ لأنها إذا أعلَنَت تعاليمها وأسرارها فستموت، هكذا قرَّر كَهنتُها وعِرْفانِيُّوها الكبار آنذاك.
عندما أتى الإسكندر المقدوني برياح الهيلينية إلى وادي الرافدين تَخصَّبَت عقائد وادي الرافدين بالثقافة الكلاسيكية الإغريقية، ولكنها لم تفقد خصوصيتها الروحية. فإذا كان قد طُوبِق بين «زوس» الإغريق و«مردوخ» البابلي، وبين «أفروديت» الإغريقية و«عشتار» البابلية، وهكذا بقية الآلهة، فإن بقية الأديان أثارَت فضول الإغريق كالزَّرادُشْتية واليهودية، أما المندائية فقد كان إغواؤها كبيرًا وسِحْرُها أخَّاذًا؛ لأنها لم تكن مألوفة أبدًا في الثقافة الإغريقية أو محيطها … وهكذا صَعدَت من القيعان السِّرِّية لها رائحة الدهشة، وتَعرَّفوا لأول مرةٍ على شيء اسمه المندائية الذي ترجموه إلى الغُنُوصِية، وكان يعني في الحالين «العِرفان» أو «المعرفة الإلهية» … ونَقلوا أفكار هذه الديانة إلى فلاسفتهم الذين نَظرُوا إليها كَدِيانةٍ خَلاصِية وناظَرُوها مع عقائد الخصب السِّرِّية والخَلاصية كالأورفية والإليوزيسية، لكنَّ المندائيةَ كانت تَنفرِد بغُنُوصِيَّتِها العميقة فأصبحت الفلسفة الغُنُوصِية، بعد حوالي قرنين، واحدة من أكبر التيارات الفلسفية الهيلنستية وتمت دراستها وإشاعتها في الإسكندرية والرها وحرَّان. أما هي (المندائية) فكانت تَتناسَل ذاتيًّا في الكرخة وميسان والطيب.
فوجئ الإغريق أن آلهتهم ضعيفة جدًّا قياسًا إلى آلهة الشرق الغنية المكتنزة، ولم تَعُد محدودية المساحة التي كانت هذه الآلهة تُغطِّيها مُغرِيةً قياسًا إلى التوسُّع الشامل لهم وتكوينهم لإمبراطورية عالمية، فكانوا بحاجة لآلهةٍ أكثر تجريدًا وأكثر عالمية، فوجدوا ضالتهم في آلهة شرقية عريقة؛ مثل: «مردوخ، وآمون، وأهورا مزدا، والإلهة السورية ديا».
كما أن الشرق تفاعَل بجدية مع الفكر الإغريقي الفلسفي بشكل خاص، والعلوم الإغريقية المنظَّمة والواقعية. وبذلك بدأت الأفكار اللاهوتية السميكة المحيطة بالفلسفة والعلم في الشرق تَتقشَّر تدريجيًّا، ويُعاد صياغتها. فالتنجيم البابلي أصبَح يَتَّجه أكثر فأكثر نحو علم الفلك، أما شحنته الفلسفية والدينية فكانت تُوضَع في عالَم الظلام المزدكي أو المندائي، وتزداد من جهة أخرى المفاهيم الفكرية والذهنية للثنويات المتضادة؛ كالخير، والشر، والمادة، والنور، والملائكة، والشياطين … إلخ.
وكانت الرواقية — بحق — هي سمة العصر الهيلنستي الفلسفية بما احتوته من تأكيدات على اللوغوس؛ وهي الروح أو الكلمة الخالقة للكون، والتي تَحل في أدق التفاصيل، وبشيء من صفاء النَّفْس يمكن اكتشافه، وهو يسري في داخل الإنسان وفي الكون. لكن هذه الرواقية كانت تجري كتعاليم ظاهرية وكأنها امتدادٌ للمثالية الإغريقية المخططة بروح الشرق، أما النُّسْغ السِّرِّي الباطن فكان في الغُنُوصِية (التي كانت قد ظهرت بسبب المندائية ولكن الإغريق أعادوا تصنيعها فلسفيًّا)، وكان أهم ما في الغُنُوصِية آنذاك، هو بحثها عن «الخلاص»، ومحاولة تشخيصها لطبيعة «المُخلِّص» القادم. وصارت الأفكار الخَلاصية هي سمة العصر، وبدا أن هذا المخلِّص سيكون عالميًّا، وانشغل الجميع بالبحث عنه، أو بصياغته وبَعْثه بالقوة.
كان اليهود يَروْن في المسيح الذي بَشَّر به أرميا هو المُخلِّص القادم، وكانت الأوساط الرسمية البابلية تنظر إلى «نبو» إله الحكمة كمُخلِّص قادم، أما الإيرانيون فقد نظروا إلى اﻟ «فارقليط» كمُخلِّص قادم، والأوساط الشعبية في وادي الرافدين ما زالت تَحِن إلى «تموز» كمُخلِّص أبدي، أما المندائيون على تخوم الأنهار الجنوبية في وادي الرافدين فكانوا ينظرون إلى عالَم النور وإلى رسوله «مندا إد هيي» ليقوم بهذه المهمة، ولم ينظروا إلى فرد بشري أو نبي ليقوم بها، لقد كانوا الأكثر مثالية بين هؤلاء جميعًا.
ولم يَفُز بهذه المنافَسة سوى «يسوع» الذي هو عيسى ابن مريم رغم ظهور أكثر من اثني عشر مُدَّعيًا كمُخلِّص. وعندما نمَت المسيحية بعيدًا عن اليهودية وصار لها أهلها اصطدَمَت أول ما اصطدمت فكريًّا بالغُنُوصِية على قاعدة الأفكار الخلاصية. فقد شعر الغُنُوصيون أن المسيحية سَرقَت أفكارهم الخَلاصية، فقام المسيحيون بالصراع معها من خلال طروحات جوستين (١٠٠–١٦٥م)، ثم إيرانوس (١٣٢–٢٠٢م)، ثم هيغسبوس (١٥٠–١٨٠م) في فلسطين، ثم كليمانص (١٥٠–٢١٥م) في الإسكندرية، ثم هيبولبتوس (١٧٠–٢٣٦م) … وغيرهم. كلُّ هؤلاء شكَّلوا الدِّرع الواقي للمسيحية بوجه الغُنُوصِية. وكان من الواضح أن الغُنُوصِية قد أثَّرَت تأثيرات كبيرة في المسيحية وفي طريقة ظهورها الأولى.
وهكذا تَضمَّخَت الغُنُوصِية بروائح وشُموس عَصْرِها وبَدَت كما لو أنها مطبوخة، أما المندائية فقد ظَلَّت غُنُوصِية نَيِّئة تَقبَع في الأدراج السِّرِّية للمياه بعيدة عن الظهور والتداول وضاع حَقُّها في كونها الأم الكبرى للتيارات الغُنُوصِية والخَلاصية والباطنية التي ظَهَرت في المرحلة الهيلنستية.
- (١)
تتم المعرفة على شَكْل إلهام وكَشْف وليس عن طريق التَّعلُّم والتحليل؛ مثل: الفلسفة والعِلم، فهي تتم من خلال الرؤية المباشرة للحقيقة.
- (٢)
نوع هذه المعرفة هي معرفة إلهية وضَعَها الله في القلب الطاهر، أو يصل إليها المؤمن بالتَّنزُّه عن المادة والشر.
- (٣)
هناك أسرارٌ خفية لا يعرفها إلا العِرفانيون (الغُنُوصيون) هي التي تُنير لصاحبها طريق الخلاص وتُمكِّنه من التغلب على القوى الشريرة.
- (٤)
أهم عمل غُنُوصي هو تحرير (تخليص) النَّفْس أو الرُّوح الإنسانية من أسْر الجسد الدنيوي، ويتم ذلك بتذكيرها بأصْلِها الإلهي. فاذا عرَفَت ذاتها عرَفَت خالقها «الله»؛ لأنها جزءٌ منه، وبذلك تَعرِف الروح ما يلي: «من أين جاء الإنسان، كيف أصبح إنسانًا، أين كانت روحه قبل أن يُخلق، أين وُضع بعد خلقه، أين نحنُ ذاهبون، كيف نذهب في الطريق الصحيح، كيف ستنبعث الأرواح … إلخ».
هذه الأسئلة تكتشفها الروح لوحدها عندما تدرك ذاتها، وقد يقوم الوسيط السماوي بإيصال هذه المعرفة لمن يمتلك روحًا طاهرة عارفة.
- (٥)
يُسمَّى هذا الوسيط السماوي ﺑ «المُخلِّص»، ويُعتَبر الجسد البشري بمثابة العالَم الأسفل فيهبط «المخلص» إليه ليُعرِّف الروح بأجوبة هذه الأسئلة (العِرفان) لكي يُسهِّل لها طريق الصعود إلى العالم السماوي وهو «الخلاص». وقد يكون الخلاص قبل الموت عن طريق النشوة العِرفانية؛ حيث ينكشف النور الإلهي ويلتحم به العارف، أو بعد الموت حيث تصعد الروح «مع المُخلِّص» إلى السماء وتلتحم بالله إلى الأبد.
- (٦)
لا يصل كل إنسان إلى الخلاص، ويساعده المُخلِّص، بل الذي طبَّق الجانب العملي من العِرفان والذي يكون بأداء مجموعة من الطقوس والشعائر؛ مثل: التعميد أو التسلُّح بالأسماء السرية (حفظ هذه الأسماء)، وأداء الصدقات وغيرها.
- (٧)
العِرفان هو معرفة الباطن، أما العلم فهو معرفة الظاهر، ومعرفة الباطن هو مَعرفة الأسرار التي صار السِّحر والتنجيم والعرافة والكيمياء أساسَها، في حين أن الباطن هو الأسرار الإلهية الخفية. أما العلم فهو معرفة الظواهر العيانية وإدراك أسبابها ونتائجها وهو مُتاح للجميع.
- (٨)
يَطغَى على الأدبيات العِرفانية الأسلوب الأسطوري الفلسفي؛ حيث تَتحوَّل أساطير الخلاص القديمة إلى لغة فلسفية تعم فيها المفاهيم الذِّهنية؛ مثل: وجود الإله المتعالي، والمادة، وبينهما الإله الصانع أو الوسيط، وأسطورة مصدر الشَّر التي تُرجِع الشَّر إلى الكائن السماوي الذي ارتكب الخطيئة الأولى التي تضطره للاتحاد مع المادة فتولد الكائنات المكبَّلة بالشر (المادة)، ويُصار إلى تخليصها من هذا الخطأ وكل هذه الأفكار ضَمَّتها المندائية في مُتونها كما سنرى.
- (٩) لا نعتقد أن المُدوَّنة الهِرْمِسية (Corpus Hermeticum) هي مصدر هذه الفلسفة الغُنُوصِية كما يذهب إلى ذلك أغلب الباحثين، بل نعتقد أن المُدوَّنة المندائية (Corpus Mandean)، ونعني بها اﻟ «كنزا ربَّا» هي المصدر الأول للفلسفة الغُنُوصِية. أما المُدوَّنة الهِرْمِسية التي تُنسب إلى هِرْمِس فهي مُدوَّنة إغريقية مُتأخِّرة قياسًا إلى المُدوَّنة المندائية.
(٥-٢) المانوية
(ب) سيرة ماني (٢١٦–٢٧٦)
وُلِد النَّبِي ماني من أب اسمه «فاتك» وهو اسم يحمل تركيبة سامِيَّة، لكن الأساطير التاريخية تجعل منه أميرًا فِرثِيًّا أشكانيًّا سكن في همدان وهذا أمرٌ خيالي بعيد؛ فقد سكن فاتك في منطقة طيسفون/سلوقيا الهيلنستيةِ الماضي بامتياز، وكان اسم والدة ماني هو «مريم» وهو اسم يوحي بانتماء مندائي مسيحي يهودي. ولعل ما يؤكد ذلك هو أن ديانة فاتك هي المندائية.
تقول الروايات إنه قد الْتَحق فاتك بالمندائيين «المغتسلة» في نواحي دست ميسان مع زوجته مريم، وعاشَا هناك وتنقَّلَا في هذه المنطقة، وولدت مريم ولدها البكر «ماني» في قرية تُسمَّى «مردينوس» من نهر كُوثَى الأعلى في بلاد بابل الشمالية وعاش ماني معهما على الدِّين المندائي الذي كان له أكبر الأثر في تكوين عقائده الروحية لاحقًا.


وتذكر سيرة ماني أن الوحي نزل أول مرة على ماني وهو في سن الثانية عشر؛ أي في عام ٢٢٨م وكان هذا الوحي من «ملك حدائق النور» وهو تعبير مندائي عن الله. وقد كان اسم المَلاك الذي نقل إليه الوحي هو «توما» ومعنى اسمه «التوأم»؛ أي الأخ، وقد طلب منه توما أن ينفصل عن المندائيين ويَعتَزِل لمدة طويلة.
ويبدو أن هذه العُزْلة الطويلة كانت ضرورية للفتى لكي يدرس العقائد والأديان التي كانت سائدة في وادي الرافدين؛ فقد درس المندائية والغُنُوصِية السريانية (الديصانية والمَرقِيُونية)، والديانة البابلية.
وبعد ٢٨ سنة من العُزْلة والدراسة نزل إليه الوحي مرة أخرى عام ٢٤٠-٢٤١م ليقول له بأن الله اختاره ليكون رسولًا إلى الناس.
كان ماني نبيًّا بابليًّا متأخرًا عَمِل على جمع التراث البابلي المُتأخِّر بين المندائية، والسريانية الغُنُوصِية، والبابلية ليظهر بدين جديد هو المانوية. وقد وَرَد على لسانه هذا الوصف «أنا الرسول الشكور المبعوث من أرض بابل.»
أصبح «توما» هو القرين السماوي للرسول أو للنبي ماني، وقد أبلغ ماني عائلته برسالته ونُبوَّته وحَرص والده على تَمْتِين علاقته بأهله المندائيين لينال دعمهم. وبدأ ماني التبشير بديانته في أصقاع بابل، ثم رحل إلى الهند في مناطق النفوذ الفارسي، وهناك تعرَّف جيدًا على الديانة البوذية ونَهَل منها، وعاد إلى وادي الرافدين في بابل، وميسان، والأحواز حين أصبح شابور ملك الإمبراطورية الفارسية وقد حضر «ماني» مراسيم تتويجه، ومنحه الملك الحماية وضَمِن له حق التبشير بديانته.

وفي الوقت الذي أعاد شابور الاعتبار للديانة الزَّرادُشْتية وظَهَر الرهبان والمجوس، بدأ ماني بالتبشير الواسع لديانته في أصقاع الإمبراطورية انطلاقًا من بابل. وقد استطاع ماني أن يَضُم إلى ديانته أخَوي شابور؛ وهما: «فيروز ومهرشاه» لكنه خلق أعداءً له في البلاط الفارسي، وعلى رأسهم «كارتير» رئيس طائفة الرُّهْبان المجوس. وكادت المانوية أن تكون الديانة الرسمية للإمبراطورية الساسانية لكن «كارتير» وقف بالمرصاد دون حصول ذلك.
أرسل «ماني» رسله إلى الدول والبلدان، فوصل دعاتُه إلى مصر، وإلى خراسان التي أصبحت مُنطَلقًا لديانته نحو الشرق الأقصى. ووصل دُعاته إلى بيت جرمي شرق دجلة عام ٢٦١م.
ويبدو أن ماني على صلة بالإله مِثرا أو بكهنته، وقد وُجِدَت عُملة معدنية مكتوبة بالمندائية تحمل هذه الإشارة ويبدو أنه حصل على مكانه في «شرسين» و«ميسان». ثم ظهر على أنه رسول يسوع المسيح.

وبعد وفاة شابور خَلَفه ولده هُرمز الأول الذي حكم لمدة عام، ثم أخوه بهرام الأول، ويبدو أن مُوظَّفِي البلاط وَجَّهوا له تحذيرًا في عدم التبشير في بعض المناطق؛ مثل: كوشان، وكان «كرتير» يتآمر على ماني ويُشوِّه صورته أمام الإمبراطور الجديد، وهكذا استدعاه الملك الفِرثي وأعلن قراره فيما يُشبِه المحاكمة بأن يموت ماني صلبًا. وهكذا مات بحضور كاهِن مانوي اسمه «عزاي»، وانتشر خبر موته في مدينة «بيت لابات» وأمر الملك بغرز مِشْعَل نار في جسده، ثم مُزِّقَت جثته وقُطِع رأسه وعُلِّق على بوابة المدينة، ودُفِن ما تَبقَّى من جسده في طيسفون.
(ﺟ) الينابيع الغُنُوصِية السبعة لديانة ماني
-
(١)
لا شك أن أكبر الينابيع الغُنُوصِية لديانة ماني كانت من المندائية التي هي ديانته وديانة أهله، والمندائية هي الدين النموذجي للغُنُوصِية «العِرفانية» التي تكون معرفتها بالله عن طريق القلب، والمعرفة الذوقية والعميقة، وليس عن طريق الوحي، والتي تَرى في عالَم النور أول العوالم، ثم عالَم الظلام والخطيئة، ثم عالَم الأرض الفانية.
-
(٢)
أما الينبوع الغُنُوصي الثاني فكان في الغُنُوصِية المسيحية السريانية التي مَثَّلَها بامتياز بارديصان الذي استقى غُنُوصِيَّته من علوم الفَلك والتنجيم البابلية، ومن الإنجيل، وأراد أن يجمعهما في إطار واحد … وقد ساعده حِسُّه الأدبي على أن يكون كذلك. وقد كانت أسطورة اللؤلؤة «نشيد الروح» أهم الشواهد على تأثُّر ماني ببارديصان.
-
(٣)
أما الينبوع الغُنُوصي الثالث فكان في الغُنُوصِية المسيحية الأرثوذوكسية التي مَثَّلها مَرقِيُون السينوبي (١٢٠–١٦٠) وهو ابن أسقف سينوب في إقليم البنطس (على شاطئ البحر الأسود)، وكان له أتباع كثيرون وهو على عكس الغُنُوصيين الفلاسفة الكبار؛ مثل «باسليدس وفالنتينوس» استقى غُنُوصيته من الكِتاب المقدَّس وليس من الفلسفة.
-
(٤)
الينبوع الغُنُوصي الرابع هو الرسول توماس «توما» الذي كانت له «أعمال توماس» التي هي بمثابة أعمال أبوكريفية «غير رسمية» تُؤكِّد على التعميد كوسيلة كبرى للتخلص من الذنوب والشرور وكذلك الدهن بالزيت الذي هو بمثابة زيت شجرة الحياة في الجنة. وكان الرسول توما أحد الرسل الاثني عشر الذين اختارهم الرسول.
-
(٥)
الينبوع الغُنُوصي الخامس هو الغُنُوصِية الفارسية المِثْرائية التي ألهمته في الكثير من تعاليمه.
-
(٦)
أما الينبوع الغُنُوصي السادس فكان الغُنُوصِية البابلية التي كانت ماثلة تحت رماد الدِّين البابلي بعد نبونائيد.
-
(٧)
الينبوع السابع يأتي من البوذية المهاينية، ويَتمثَّل ماني بوذا وسِيرتَه وتعاليمه، وقد أفادته زيارته للهند للتعرُّف عليها عن كثب.
(ﺟ) التراث المانوي

وكذلك كان كل التراث المانوي الذي كَتَبه ماني أو أتباعه في وادي الرافدين؛ فقد كان باللغة السريانية وبالخط السرياني اللَّذين ظَهرَا في الرها، بل إن ماني كان يحتذي حذو بارديصان الرهاوي، ونستطيع هنا أن نفهم بشكل جيد استحواذه على الكلام الذي قاله ابن ديصان ورغبة ماني بكل وضوح أن يحل محله، وذلك كيما يُصبِح معروفًا تمامًا من خلال هذه الكتابات المتداوَلة، كما أن قِطَع الشعر المانوي التي احتفظ بها ثيودور يارقونية من الجائز أنه نقَلَها عن خط ماني نفسه؛ فهي منطوقة باللهجة الرهاوية، وينطبق الشيء نفسه على البقايا الصغيرة من الأدب المانوي المكتَشف في مصر، وذلك على الرغم من عدم وجود أي دليل يُبيِّن في هذه الحالة: متى تَمَّت كتابتها؟ ومَن كَتَبها؟ ومع ذلك فإن الكتابة والمادة هما مانويَّتان بشكل قاطع ثابت، كما أن الانحرافات الطفيفة عن اللغة الرسمية السريانية الرهاوية لا تؤثر على هذه المسألة، ذلك أن معرفتنا غير تامة حول اللغة الرهاوية الأولى، ومن المستحيل التَّمسُّك بفكرة أن الكلام المتداوَل في هذه القِطَع مُتطابق عمليًّا مع اللغة السريانية الفصحى للرها» (نغرين، ١٩٨٤م، ١٠٠-١٠١).
ويُمكِننا أن نُفسِّر عدم لجوء ماني إلى لُغتَين قَريبَتَين مِن مَوطِنه؛ هما: البابلية التلمودية أو المندائية، أو الفارسية بأنه اختار اللغة السريانية الرهاوية؛ لأنها لغة الكنيسة الشرقية التي تتمتع بأوسع نطاق في ذلك العصر.
وقد كُتِبَت كل كُتُب ماني باللغة السريانية باستثناء كِتاب واحد هو «الشابورقان» الذي أهداه للملك شابور الأول وكَتَبه باللغة الفارسية الوسيطة المكتوبة بحروف آرامية أيضًا.
(د) التراث المانوي
بعد أن تَوفَّرت لدينا العديد من مؤلَّفات ماني وأتباعه المُقرَّبين؛ وضَعْنا خطةً محكمة لتصنيف هذا التراث على أساس المكوِّنات الأساسية والثانوية للدين المانوي. المكونات الأساسية للدين المانوي؛ هي: «المعتقَدات، الأساطير، الطقوس» أما المكونات الثانوية؛ فهي «الشرائع والأخلاق، السِّيَر، الكنيسة أو الجماعة». وعلى هذا الأساس تم تصنيف التراث الأدبي والروحي المانوي من أجل دراسته كما يلي:

