المبحث الأول

اليهودية من ديانة مُشْرِكة إلى ديانة تفريدية ثم توحيدية

(١) اليهودية التي ظهرت في بابل أولًا

نشأت الديانة اليهودية في بابل بعد الأسر البابلي ليهوذا وأورشليم، وقد كان شعب يهوذا وأورشليم كنعانيًّا وديانته «اليهوذية» ديانة كنعانية بكل ما في هذه الكلمة من دلالة، فَهُم يَتعبَّدون أودناي ويهوا والبعل وإيل وعشيرا وغيرهم من الآلهة الذين لهم زوجات وأزواج وأولاد.

في السَّبْي البابلي، وعندما وُضع هذا الشعب في مدينة «نيبور» وهي «نفر» الحالية قرب مدينة عفك، وتبعد ٢٥ كم شمال شرق الديوانية في العراق وسُمح لهم باصطحاب عوائلهم وممتلكاتهم ومواشيهم؛ تَعلَّموا هناك الحِرَف والصناعة والكتابة والحكمة، واطَّلعوا على التراث الرافديني الديني والأدبي وأخذوا منه، وأصبح بعضهم من الأثرياء، في مجال الزراعة والرَّي والتجارة.

بتأثير وإيحاء من فكرة الإمبراطورية البابلية، التي بدَءُوا يعيشونها كحقيقة على الأرض، واندماج الأمم والشعوب فيها، وبسبب مِن فقدانهم الأرض الخاصة بهم، والعَيش كمواطنين عالميين في إمبراطورية كهذه قَرَّروا رفْعَ الإله القومي لهم لمنزلة تفريدية وتوحيدية، وجَعْلَه إلهَ العالَم، ولكنه — في الوقت نفسه — إلههم القومي وهم شعبه المختار.

وبسبب من عدم وجود معابد لآلهتهم وإلههم الخاص «يهوا»؛ فقد قَرَّروا جَعْلَه في السماء إلى الأبد فهو مكانه السرمدي ومعبده هناك، وهو ما حَفَّز ظهور فكرة «الإله السماوي» بقوة أكبر، خصوصًا أن معبده لم يَعُد له وجود ولا يمكن إقامته في أرض بابل وهم أسرى.

وبعد سقوط بابل بيد الفُرس الأخمينيين (٥٣٩ق.م.) لم يعودوا جميعهم إلى يهوذا وأورشليم وبشكل مباشِر، بل استطاع النابهون منهم (مثل عزرا الكاتب) أن يكتب أول أسفار التوراة وهو سِفر الشريعة من أجل تنظيم أحوالهم وحياتهم.

في بابل ونَفَّر تحوَّل مَسبيُّو يهوذا إلى ما عُرف بعدئذٍ ﺑ «يهود» وظهَر أكبر أنبيائهم؛ وهم: حِزْقِيال، ودَانيال، وعِزْرا، وناحُوم، ونَحْمِيا، وحَجَّي، وزكريا، وحَبَقوق، وكتبوا أسفار التوراة الخمسة الأولى مُتأثِّرين بالدين البابلي، وظهر ملوك لهم في بابل؛ مثل: يهوياقين، صدقيا، زروبابل، وأفرج الملك البابلي أويل مردوخ عن يهوياقين بعد ٣٧ سنة من الأَسْر في بابل وأكرمه.

وفي بابل كَتبوا التلمود (متأثرين بلوح سومري لأقدم تقويم زراعي عُثِر عليه في نفَّر، ومكوَّن من ١٠٨ أَسْطُر).

الدين اليهودي دين بابلي أعاد صياغة مواد أولية كنعانية مع سيرة مُبالَغٍ فيها لمجموعة من العائلات الكنعانية المُنشقَّة والمعارِضة لكل مَن حاول حُكْمَهم بِشكْل عام.

وقد ظلَّت هذه الديانة محكومة بالتَّعدُّد الإلهي أولًا ثم بالتَّفريد الذي جعل من أدوناي أو يهوا إلهًا مركزيًّا مع غيره من الآلهة.

يهودية ما قبل الهيكل، لم تكن مفاهيمها أو عقائدها الدينية قد تبلورت بعدُ، بل كانت هذه المفاهيم تحتوي على أفكار ثنوية وتعددية كثيرة. وقد ساهم انتشار اليهود على هيئة جماعات مُشتَّتة داخل تشكيلات حضارية شتَّى، في مدن البحر الأبيض المتوسط وبابل، إلى زيادة عَدَم تجانس اليهودية بل إلى تنافُرها وتحوُّلها إلى عقائد عدة أو ديانة مُهجَّنة. ويظهر هذا في كثير من العقائد اليهودية الثنوية؛ مثل: «عزازيل، وميتاترون، وقوة الملائكة والشياطين، وحدود الإله، والنزعة العدمية في سفر الجامعة، وإنكار البعث في كثير من كتب العهد القديم». وقد عُثر على أحجار في صحراء النَّقَب عليها نقوش تَتحدَّث عن عشيراه زوجة إله يسرائيل، وكان يهود إلفنتاين يعبدون يهوه وزوجته عنات (المسيري، ١٩٩٩م، ج١).

أثَّرَت الديانة الزَّرادُشْتية التي هيمن أصحابها سياسيًّا على الشرق الأدنى القديم لحوالي قرنين ونصف، وتَسرَّبت منها إلى الديانة اليهودية عناصر كثيرة، فقد أصبح يهوا مع زوجته عشيرا أساس التَّفريد. وهذا يشبه ما هو حاصِل في الديانة الزَّرادُشْتية حيث أهورامزدا وأناهيت وانتقلت عناصر كثيرة أخرى من الزَّرادُشْتية لليهودية، وكُتِبَت أسفار جديدة من التوراة والتَّنَاخ.

بعد سيطرة الإسكندر المقدوني على الشرق الأدنى وبدء العصر الهيلنستي بعد موته، طرأت تغييرات جديدة على اليهودية؛ فقد دخَلَت العناصر الهيلنستية وأعادت صياغة اليهودية وجعَلَت منها دينًا توحيديًّا بتأثير مباشر من التيارات الباطنية التي انتعشَت في هذه الفترة، وبالفلسفة الهيلنستية وبالتسامح والرعاية لهذه الديانة من قِبَل الكثير من الملوك الهيلنستيين، وسنقدِّم عرضًا لهذه العناصر.

(٢) يهوا مِنَ الشِّرْك إلى التَّفريد إلى التوحيد

لم يَعُد جديدًا القول إن الإله يهوا إله قديم ظهَر قبل اليهود وقبل مُقاطَعة يهوذا التي عَبَدته؛ حيث يظهر كأحد أسماء إنليل الإله السومرية على شكل حمامة، وهو إله كنعاني عُبِد مِن قِبَل بعض القبائل الكنعانية، وهو إله منطقة مدين … إلخ.

وقد كان ليهوا عند اليهود الأوائل وعند الذين سبقوهم زوجة وأبناء، وهو مُحاط بحاشية من الآلهة الأخرى، وهو أمْر مألوف في الديانات المتعدِّدة الآلهة.

وقد عُثِر على صورة له على ختم كنعاني وهو يجلس على عجلةٍ مُجنَّحة ويحمل على كفه الأيسر طائرًا، وهو ما يشير إلى أنه إله للهواء، ولْنُلاحظ أن اسم يهوا له علاقة بالهواء باللغتين العبرية والعربية.

figure
يهوا والعجلة والطير على ختم كنعاني.

منذ الأسر البابلي أصبح الإله «يهوا» بلا معبد خاص به؛ ولذلك قرَّر أسرى يهوذا أن يجعلوا السماء مقرًّا أبديًّا له، وهكذا بدأت فكرة الديانة السماوية.

لم يَعُد «يهوا» ساكنًا في هيكل أو معبد، بل هو ساكن في السماء ومن هناك كان ينظر إلى شعبه «الخاص». وهذه الخطوة أفْرَدَته وجعَلَته سماويًّا، لكن عادات الشرك والتَّعدُّد ظلَّت سارية.

إن وجود اليهود في نسيج إمبراطوريات متتالية (البابلية، الأخمينية، المقدونية، البطلمية)؛ جعَلَهم يتأثرون بفكرة الإمبراطور الواحد للعالَم، ويُعزِّزون بها فكرة الإله الواحد للعالم. وهكذا تَشذَّب يهوا شيئًا فشيئًا مِنَ الشِّرك والتَّفريد باتجاه التوحيد.

وكذلك الفلسفة الهيلنية والهيلنستية كانت تَتحدَّث عن إله واحد خالِق للعالَم وهو ما أثَّر في كل ديانات المنطقة التي وقعَت تحت تأثيرها ومنهم اليهود.

(٣) الثنوية اليهودية Jewish dualism

عندما أصبح اليهود تحت الحكم الفارسي الأخميني بدأت العقائد والأديان الفارسية بالتَّسرُّب إلى الدين اليهودي، وهو ليس مجال بحثنا الآن لكن الثنوية (Dualism) التي هي مبدأ أصيل في الأديان الفارسية وخصوصًا في الزَّرادُشْتية انعكس بوضوح على اليهودية وأصبح جزءًا من عقائدها الباطنية التي تَفجَّرت بقوة في العصر الهيلنستي.

والثنوية ترى أن الوجود يتكون من بِنيتين رئيسيتين هما: «الخير والشر»، و«النور والظلام»، و«الإله والشيطان»، وهما لا يلتقيان ولا يتصارعان من وجهة نظر اليهود، بل ربما يكملان بعضهما، فهما متوازيان «في الزَّرادُشْتية متصارعان وينتصر الخير في النهاية».

وقد ظهرت نتائج هذه الفكرة في كُتب يهودية؛ مثل: «الكابالا» و«التلمود» حين ظهرت أفكار عن «يهوا وعزازيل» «الإله والشيطان»، وانعكست في طقوس أعياد الفصح وغيره.

ظهرت في «الكابالا» ثنوية «الإله الخفي» مقابل «التَّجلِّي النوراني» وثنوية «الشر» مقابل «الخير» وثنوية «الإله» مقابل «شِخِينَاه» وهي المقابل الأنثوي للإله يهوا.

(٤) التوحيد الغُنُوصي المندائي

لعل العامل الأهم الذي ساهَم في تنقية التوحيد اليهودي هو «التوحيد الغُنُوصي» الذي أتت به التيارات الباطنية للشرق في وهلة انتعاشها إبَّان العصر الهيلنستي وما قبله بقليل.

كانت المندائية وهي ديانة غُنُوصِية في جنوب العراق ذات أثَر كبير في نَشْر التوحيد وجعْله مذهبًا وتوجُّهًا أساسيًّا في أديان المنطقة.

المندائية كانت آخِر صياغة للديانة الناصورائية القديمة في وادي الرافدين، وهي صياغة آرامية اللغة والتُّراث جَعَلتْ من الناصورائية ديانة قابلة للانتشار والتأثير والتأثُّر بحكم اللغة الآرامية التي هَيمنَت على المنطقة.

واستطاعت المندائية باحتكاكها السلبي والإيجابي مع اليهود أن تُؤثِّر في نزعتهم التوحيدية وتجعلها أكثر نقاءً. ورغم أن الجهاز العِرفاني للمندائية كثير الثراء والتركيب، لكنه يُوفِّر نوعًا من الفهم العميق للتوحيد في معناه النفسي والروحي والكوني.

هكذا يمكننا أن نقول إن التوحيد العميق هو توحيد غُنُوصي عِرفاني كانت المندائية قد بَنتَه عَبْر جهاز اصطلاحي منحوت من الديانات الرافدينية والزَّرادُشْتية، أما التوحيد الظاهري الذي هو شأن «اليهودية ثم المسيحية والإسلام»؛ فهو توحيد تبسيطي قائم على حذف أغلب عناصر التوحيد الباطني (العميق) واستبدال العِرفان بالوحي.

هذا هو ما حصل بالضبط وهو أن تقوم الأديان التوحيدية الظاهرية وأولها اليهودية بسرقة فكرة التوحيد الغُنُوصي الأولى وتسطيحها، وحذف عمقها الروحي والفلسفي، والاكتفاء بما يقتنع به عامة الناس من علاقة بالخالق الواحد عن طريق الوحي والأنبياء «حيث لا وحي ولا أنبياء في الغُنُوصِية».

أُعِيدَت صياغة الدين اليهودي غُنُوصيًّا مع حذْف العناصر الغُنُوصِية الأساسية، وتَبنِّي صيغة التوحيد الشكلانية، وأفكار الخير والشر، والنور والظلام وغيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥