من اليهودية المحلية إلى اليهودية الهيلنستية
بدأت اليهودية الهيلنستية بعد وفاة الإسكندر المقدوني، وانتهَت في القرن الثالث الميلادي. وكانت قد انتشرت في مناطق الإسكندرية في مصر وأنطاكيا (شمال سوريا، الآن في تركيا) في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد. وكان أهم مَظاهر هذه المَوجَة تَكمُن في الترجمة السبعينية للتوراة، وفي مَظاهر أخرى متعدِّدة سنأتي على ذِكْرها.
أما نهايتها التي ابتدأت في نهاية القرن الميلادي الثاني فقد نتج عنها بدايات المسيحية المُبكِّرة حول أنطاكيا، وظهور بولس الرسول وإلغاء شريعة العهد القديم.
وثَمَّة نصوص عديدة في العهد القديم يُمكِن تفسيرها تفسيرًا غُنُوصيًّا بكل بساطة. وقد كان الغُنُوصيون اليهود يشيرون إلى الإصحاح الأول في سفر التكوين (وخصوصًا الفقرة رقم ٢٧، «فخلق الإله الإنسان على صورته، على صورة الإله خَلَقه، ذكرًا وأنثى خلقهم.») وإلى حزقيال ١/٢٦ («وعلى شبْه العرش شبْهٌ كمنظر إنسان عليه من فوق.»)، كما أن كتب الرؤى (أبوكاليبس) اليهودية دعَّمت الاتجاهات الغُنُوصِية بتقسيمها الزمان وبكل حدة إلى زمان الفساد الحاضر وزمان الخير المستقبل، وبرؤيتها للتاريخ باعتباره ساحة صراع شرس بين قُوى الخَيْر وقُوى الشر. كما أن النزعة الحلولية الكمونية القوية في هذه الكُتب مهَّدت الجو لظهور الغُنُوصِية. فعلى سبيل المثال، جاء في كتاب حكمة سليمان أن روح الإله (النيوما) تُوجَد في كل الأشياء. وقد انتشرت كُتُب الرؤى في نهايات الألف الأخير قبل الميلاد، وكثير من عناصرها دخل الفكر الغُنُوصي. (المسيري، ١٩٩٩م، ج١).
وهكذا تكون اليهودية الهيلنستية هي أساس تحويل الدين اليهودي من دين مُنعَزِل إلى دين عالمي بلغة عالمية هي لغة (الكوين) الإغريقية وظهور كتاب التَّنَاخ كاملًا في نسخة واحدة. فهي التأسيس الحقيقي لليهودية من وجهة بدايتها، أما نهاية اليهودية الهيلنستية فقد شهدت (عمليًّا) نهاية اليهودية ونَسْخها بالمسيحية المُبكِّرة التي ساهَم في تأسيسها بقوة الرسول بولس «اليهودي الأصل»، ونَسْخ أو إلغاء شريعة العهد القديم (التَّنَاخ) بشريعة جديدة هي شريعة العهد الجديد أو «الإنجيل».
كان اليهود يُطلِقون على ديانتهم اسم «توراة» قبل العصر الهيلنستي وحتى قام يوسفيوس فلافيوس بإطلاق مصطلح «يهودية» و«يهود» على الديانة.
كان يدين سكان يهوذا آنذاك في مقاطعة «يهوذا» كتمييز لهم عن ديانة أهل هيلاس الإغريق الذين أُطلق عليها اسم «هيلينية»، وأصبح المصطلحان يُطلَقان أولًا على منطقتين جغرافيتين ثم على ديانتين. أما مصطلح «يهودت» فيعود إلى العصور الوسطى.
أصبح المصطلحان «يهودية» و«توراة» يُستَعْملان مع بعضهما لكن «يهودية» أصبح يشير إلى اليهود كشعب، أما «توراة» فيشير إلى الجانب الإلهي في الديانة اليهودية، فضلًا عن التسمية الأصلية التي تشير إلى الأسفار الخمسة الأولى من كتابهم المقدس (تَنَاخ).
وقد يُجمع المصطلحان معًا «اليهودية التوراتية» بمعنى «اليهودية الأصلية» وهو يعني بالضبط اليهودية الأرثوذوكسية؛ أي التقليدية أو الراشدة.
(١) المؤلفون اليهود الهيلنستيون
(١-١) أرستوبولس
مع أرستوبولس تبدأ المبالغات في دور اليهود في التراث الإنساني، فهو يزعم أن موسى هو أستاذ شعراء وفلاسفة الإغريق من هوميروس وهسيود إلى فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو.
والحقيقة أن القدماء أنفسهم سَخِروا من هذا الزعم وفَنَّدوه بدليل بسيط، وهو أن ما عرَفه الإغريق عن اليهود لا يَتعدَّى عصر غزوهم للشرق بعد الإسكندر المقدوني.
لا نعرف الكثير عن أرستوبولس سوى أنه عاش في الإسكندرية حوالي عام ١٥٠ق.م. أيام حُكم بطليموس السادس فيلوماتر (١٨١–١٤٥ق.م.) حيث كتب كتابه عن التوراة وأهداه لبطليموس السادس.
قام أرستوبولس بالتأويل المجازي للتوراة السبعينية المُترجَمة للإغريقية الهيلنستية، يبدو أن أرستوبولس هو يهودي من أصل ساميٍّ لكنه تَأغْرَق ثقافةً ولُغةً، وفسَّر التوراة تفسيرًا فلسفيًّا منتفعًا بالإرث الفلسفي للإغريق.
كانت محاولته هي الأولى في مجال التوفيق بين التوراة والفلسفة الإغريقية، ولكنها كانت محاولة بسيطة استخدم فيها التأويل العقلي بدلًا من التأويل الروحي الذي ربما سبقه إليه بعض المُفكِّرِين من اليهود.
ولعل أهم ما حاوله هو جَعْلُه مفهوم «القدرة» وسطًا بين الله والعالَم في تدبير شئون الخلق. إضافة إلى ادعائه بأن موسى هو مُعلِّم أساطين الإغريق وهو ادعاء كاذب طبعًا.
(١-٢) فيلون الإسكندري (٢٠ق.م.–٤٠م)

مُفكِّر يهودي حاول التوفيق بين الدين اليهودي والفلسفة الإغريقية، عاش في عصر الإمبراطور الروماني كاليجولا؛ أي في الزمن الثاني للهيلنستية، وهو الفترة الرومانستية. أما أهم مؤلَّفاته فتنحصر في ثلاثة حقول متتالية زمنيًّا، وهي: «فلسفية، تأويل التوراة، التبشير والرد على المخالِفِين».
(أ) الفلسفة التوفيقية لفيلون
والحقيقة أن هذا المنهج يقترب من المنهج الذي اتبعه الهَرامِسة والغُنُوصيون في توضيح وشرح «أساطيرهم» الخاصة بهم.
كان فيلون يرى أن عقائد الشعوب الشرقية القديمة كالإغريق ومصر خاطئة، ولكنه «في الوقت نفسه» كان يستعملها، ويستفيد منها في منهجه.
لقد رسخت هذا المنهج تيارات كالأفلاطونية والفيثاغورية والرواقية الجديدة، وأصبح مُيَّسرًا لفيلون وغيره، وهو الذي كان يرى أن الآلهة هي عبارة عن مفاهيم تَجسَّدت بصورة تشخيصية لتسهيل توصيلها للعامة. وكان منهج التأويل الرمزي هو بداية التأويل القديم، لكن أهمية فيلون تكمن في أنه أول من استخدمه في الديانة اليهودية بهذا الشَّكل الواسع العقائدي حينًا «للدفاع عن العقيدة»، والنفعي حينًا «لتسهيل فَهْم النصوص والطقوس».
(ب) التوحيد «التوفيقي»
لا شك أن فيلون ساهَم بوضع أُسس فلسفية زادَ بها الدين اليهودي توحيديةً، وحاوَل تخليصه من التَّفريد القديم الذي كان يعج به، لكنه سَقَط في الهياكل الغُنُوصِية والأفلاطونية والهِرْمِسية عندما جَعَل هناك وسطاء بين الله والعالَم. فبدلًا من «التَّفريد» أصبحنَا أمام مشكلة «التوسيط» التي ستبقى آثارها في الديانة المسيحية أيضًا بصيغة الأقنوم.
الله عند فيلون واحد لا مُتعيِّن ولا يُشبِهه شيء، وهو العِلَّة الأولى للعالَم ومفارِقٌ له. وبذلك عَيَّن الله من خلال سَلْب صفاته؛ أي أبعاد مفهومة عن أي تحديد أو تعيين، «وهذه تقنية كلامية جديدة».
ولكونه يهوديًّا أصوليًّا، فقد عرض قضيته الفلسفية بلغة العهد القديم هكذا: يهوه قد قال: «أنا هو أنا» بمعنى لا شيء يمكن أن يُعلِن عن الله إلا وجوده، فالله ليس له صفات، ولا رَغبات، ولا شَكْل، ولا مكان، ونحن حتى لا نستطيع أن نُسمِّي الله بالله؛ لأن الله كلمة، ولا تُوجَد كلمة تستطيع أن تَصِفَ اللهَ، بينما اعتبار الله إنسانًا هو ارتكاب لإثم أوسع من كل البحار، فالله يكون، ولا يُوجَد ما يمكن أن يُقال عنه، ولكن هذه الكينونة التي لا يمكن الدنو منها هي التي خلقَتْنا … كيف؟ … ولماذا؟
ومن خلال العقل أو الكلمة وهي اللوجس الخاص بفيلو، صار هو الحكيم والرسول الذي يمد الجسور على الهاوية. إنه التعبير الظاهري عن وجود الله، هو مَن أبدع العالَم وأبقاه، وفيلو هو الذي استخدم اللغة الحقيقية للتقوى المتعلِّقة بالله، داعيًا إياه إسرائيل الرائي، الرحيم، المقيم في أعماق الباطن - لغة تستثير الوجدان بالفطرة، وربما هي التي أوحت بافتتاحية إنجيل القديس يوحنا «في البدء كان الكلمة … والكلمة كان عند الله».
وربما كان فيلو هو مَن كَتَب هذا، ولكنه لم يستطع أن يكتب «وكان الكلمة الله»، ولا أن يكتب «وفيه كانت الحياة»؛ لأن هذا كما سنرى … هو تمايُز المسيحية التي تعتقد أن الصلة بين الإنسان والله، يجب أن تكون هي ذاتها الله والإنسان، وبهذا المُعتَقَد عن اللوجوس، أو الكلمة الأولى. استطاع فيلو أن يجعل من يهوه اليهودي إلهًا مفهومًا ومقبولًا من يهود الإسكندرية. إن هذا المعتقَد غير موجود في العهد القديم، ولكي يستنتجه اضطُرَّ لاستخدام المَجاز، ولتحريف الكلمات عن معناها الحقيقي، وهذا هو ما أعطى فلسفته مظهرًا فاترًا، وروحًا هلعة، وحال دون سموها الحقيقي … (فورستر، ٢٠٠٠م، ١٠٦).
والله عنده بسيط وغير مركب وهو «الحيز الأعظم»، و«الشمس المعقولة»، و«المبدأ الأول للوجود» وهي تشبيهات أفلاطونية لله.
وحين نزَّه فيلون الله وجعَلَه طاهرًا بالمُطلَق تَوجَّب أن لا يجعله ملامسًا لأي شيء من هذا العالَم باعتبار هذا العالَم وما فيه مُدنَّسًا؛ ولذلك لا بُدَّ للنَّفْس التي تريد معرفة الله من وسطاء.
إن المعرفة … الانجذاب.
ولعل طريقة الانجذاب تَتحقَّق عند فيلون عن طريق مراحل يمر بها العارف المتصوف، وهي تجربة من الاستغراق في التأمُّل تَتعرَّف فيها الروح على الله بعد أن تتخلَّص من علاقتها بالعالَم المحسوس والمعقول، فهي تجربة باطنية لاهوتية.
ولأجل ذلك أيضًا اقترح فيلون وجود «الإله الصانع» مثلما فعل أفلاطون، والاثنان قالَا بأن العالَم خُلق من العدم.
- (١)
اللوغوس: كلمة الله، وهو ابن الله، ونموذج الخَلْق.
- (٢)
الحكمة الإلهية (صوفيا، أو ثيوصوفيا).
- (٣)
رجل الله (الإنسان الإلهي) أو آدم الأول.
- (٤)
الملائكة: كائنات غير جسدية بل روحية.
- (٥)
النَّفْس الإلهية (الروح الإلهي) مصدر فضيلة النفس الإنسانية.
- (٦)
القُوى الإلهية: كائنات نارية وهوائية كثيرة.
أما العالَم المادي فهو نُسخَة من العالَم المعقول الذي هو نُسخة من عالَم المُثل الأفلاطونية واللوغوس، فهو يرى أن الله لم يَخلُق العالَم المادي مباشرة؛ لأن هذا العالَم مليء بالشر.
ولذلك فالله ليس مصدر الأشياء وليس خالقًا للمادة الأولى، بل إن الوسطاء هم الذين خَلقوا هذا العالم.
- (١)
المعرفة الناقصة: حيث تَعرِف النَّفْس موضوعات الله.
- (٢)
المعرفة الوسطية: حيث ترتقي النفس سُلَّم الوسطاء.
- (٣)
المعرفة اللوغوسية: حيث تصل النفس لوسيط اللوغوس.
- (٤)
المعرفة الإلهية: حيث تصل النَّفْس إلى الله وتُدرِكه، وهي درجة خاصة بأهل الكمال كما حصل ﻟ «موسى».
ويرى إميل برهييه أن فيلون قد استقى فكرته عن المعرفة الإيمانية من مَصادر مصرية قديمة، وعلينا البحث عن «العناصر الأساسية … الإلهي».
وهكذا يكون فيلون قد جمع في نظريته عن التوحيد والاتصال بالله عناصر توراتية مُؤَوَّلة بالفلسفة الأفلاطونية والأساطير المصرية القديمة.
(١-٣) يوسفيوس فلافيوس (٣٨–١٠٠م) Josephus Flavius

يُسمَّى باللغة العبرية يوسف بن ماتيتياهو، واليونانية يوسبيوس، وكان مُؤرِّخًا وكاتبًا يهوديًّا رومانيًّا، وقد أرَّخ تاريخ مقاطعة «اليهودية» في القرن الأول للميلاد بشكل خاص، والتمرد اليهودي ضد حكم الرومان لهم، وخراب هيكل هيرودوس.
وُلد في أورشليم من عائلة دينية يهودية، وكانت أُمُّه من نسل الحشمونيين (حكام منطقة يهودية حتى ٤٤م)، وعندما بلغ السابعة والخمسين من عمره انتمى لطائفة الفَرِّيسيين اليهودية وهي أكبر طوائف اليهود آنذاك.
سافر إلى روما وبَقِي فيها لعدة سنوات، وعندما عاد لفلسطين انضم إلى المتمرِّدِين ضد روما، وأصبح قائد منطقة الجليل، واختلف مع القادة المتطرفين للتمرد بسبب اعتداله، وحاوَلوا خلعه من منصبه. وعندما احتل الرومان الجليل انهزم هو ورجاله، ولكن الرومان عَثَروا عليه مع قائد آخر معه وساءت سُمعَته بين اليهود؛ لأنه أبدى تعاونًا مع الرومان.
حصَل يوسفيوس على حريته بعد أن نَجا من حُكم الإعدام بفضل صداقته مع القائد الروماني «فسبازيان» الذي أصبح القيصر فيما بعد، وكان ذلك في ٦٩م، وذهب إلى روما في ٧١م وأصبح مواطنًا رومانيًّا وأصبح اسمه الرسمي هناك «تيتوس فلافيوس يوسيبوس» حسب القانون الروماني.
(أ) فكره
هو الذي ابتكر مصطلح «اليهودية» كشعب وديانة بمقابل مصطلح «الهيلينية»؛ ولهذا يصعب قبول فكرة أن المسيح كان يهوديًّا، وأن اليهودية نشأتَ من إبراهيم وموسى وأنبياء اليهود.
ورغم أن الفحص الدقيق لمصداقية يوسفيوس لا تقف لصالحه؛ فهو مُؤرِّخ متناقض الأفكار، وهناك ما يشير إلى عدم حصول بعض الحوادث التي ذكرها، لكن المسيحيين واليهود ما زالوا يَجدُون في كتاباته ما يُؤيِّد بعض وجهات نظَرِهم ويَغضُّون النظر عن مصداقيته المَثلومة؛ إذنْ من خلال تطبيق القواعد الأساسية للبحوث التاريخية على كتابات يوسفيوس، لا بُدَّ لنا أن نخلص إلى أن كتابات يوسفيوس لا يمكن أن تُثبِتها مصادر أخرى. الدليل الأثري يُناقِض بعض كتابات جوزيفوس، بل إن كتاباته تُناقِض بعضها. يوسفيوس يُقدِّم التاريخ لخدمة مصالح ذاتية، وتحتوي كتاباته على العديد من الأمثلة التي تزين ما بها لصاحب البلاغ. ولذلك على ضوء هذه الحقائق ينبغي لنا أن نتجاهل كتابات جوزيفوس كمصدر بأكملها.
ولكن هذا لن يحدث أبدًا، وسوف يتواصل استخدام جوزيفوس في المَراجع التاريخية كمصدر. لماذا؟ قد لا يكون مفهومًا تمامًا أن هذه القضية قد يكون لها علاقة مع حقيقة ما أن جوزيفوس يُعتَبر مَورِدًا هامًّا لكلا الديانتين اليهودية، فضلًا عن الطوائف المسيحية. المسيحيون يعتبرونه الدليل الحي بجانب الإنجيل، على وُجود السيد المسيح. اليهودية تعتمد عليه كثيرًا في وضعها الراهن للهوية «بعد تدمير الهيكل»، كما هو الحال في القصة الأسطورية مسعدة التي أصبحت داخل عامة السكان اليهود، ورغم أن الأدلة تشير إلى أن الأحداث لم تجرِ بالطريقة التي يَصفها يوسفيوس أو لم تَجْرِ على الإطلاق، فإنها تُعتبَر مقدَّسة من قِبَل بعض اليهود (عبير زياد، هل يصلح يوسفيوس كمصدر تاريخي وأثري؟ التاريخ: ٢٠١٠-٠٤-٢٨ ٢١، ٣٠، ٢١، وكالة النهار الإخبارية.
(ب) كُتُبه
-
(١)
تاريخ حرب يهوذا ضد الرومان (حروب يهوذا) عام ٧٨م باللغة اليونانية، وربما كتبه يوسفيوس بالآرامية أولًا ثم ترجمه إلى اليونانية.
والكتاب مُكوَّن من سبعة أجزاء، ويُؤرِّخ للفترة ما قبل الحرب والأحداث التي تَلتْها، ومُقدِّمة عن تاريخ اليهود، حاول يوسفيوس في هذا الكتاب إظهار نفسه في صورة اليهودي الحقيقي وإبعاد تهمة الخيانة عن نفسه.
-
(٢)
عاديات يهودا: (The Antiquities of the Jews) عام ٩٤م باللغة اليونانية، وفيه (٢٠) فصلًا، وفيه تاريخ أتباع الديانة اليهودية حسب ما توفَّر من تراث ومعلومات ومصادر عصره. ويقع في عشرين جزءًا، ويشمل بداية خلْق الكون وحتى عهد نيرون، وكتَبه باليونانية بمساعدة آخَرِين، وقد اعتمد على التوراة، وكُتُب الأبوكريفا اليهودية، وأحيانًا على مُؤرِّخين آخَرِين، هذا باستثناء الأحداث التي عاصرَها، مُعتمِدًا على التقليد الشفوي الذي كان يجيده كرجل فِرِّيسي، وحاوَل جاهدًا أن يُظهر الشريعة الموسوية في شكل إنساني وركَّز على الدور الأخلاقي للتوراة.السطور التي أُضيفت في كتاب يوسفيوس فهي التالية:
في نحو ذلك الزمان، جاء يسوع، إنسان حكيم، لو أمكن أن ندعوه إنسانًا؛ لأنه كان يقوم بعمل معجزات عجيبة ويُعلِّم الحق للباحثين عنه، فتَبِعه عدد كبير من اليهود ومن الأمم، فهو المسيح، ولكن زعماء أمتنا وَشَوْا به لدى بيلاطس فحكم عليه بالصَّلْب، وأما الذين اتبعوه فظلوا على حبهم له؛ ولذلك ظهر لهؤلاء حيًّا في اليوم الثالث من موته مثبِتًا أقوال الأنبياء المختصة به وبمعجزاته التي لا حصْرَ لها، وتُوجَد حتى الآن جماعة باقية تدعى باسم «مسيحيون» نسبة له (الخضري، ١٩٨١م، ١٤٨-١٤٩).
تاسيتوس (حوالي ٥٥م–١١٧م) مؤرِّخ يونانى أشار في إحدى كتاباته إلى Christus وهو يسوع المسيح - سجلات التاريخ (Annals): وبالتالي — للتخلص من التقرير — ربط نيرون الذَّنْب وأوقع التعذيب الأشد قسوة في التاريخ على جماعة كانوا مُبغضين مَنَّا، وهم المسيحيون المأخوذ اسمهم من المدعو المسيح، وهم (المسيحيون) عَانَوا من الاضطهاد في فترة حكم طيباريوس القيصر على يد بيلاطس البنطي (Pontius Pilatus) بسبب خرافتهم المؤذية. هؤلاء المسيحيون حتى هذه اللحظة، يزداد الإيمان بتعاليمهم التي مصدرها أرض اليهودية (Judea) منبع الشر حتى وصلت إلى روما، حيث تنتشر في روما كل الأشياء المخزية وتتحول من أشياء فردية إلى أشياء شعبية.المرجع، نسخة الكتاب الإنجليزية:
ولكن هذه الإشارة ضعيفة وتدل على المسيحيين وليس على المسيح.
-
(٣)
مخاطَبَات يوسفيوس حول حادس: وهو كتاب منسوب إلى يوسفيوس خطأً، وكاتِبُه الأصلي هو هيبوليتوس الروماني.
-
(٤)
يوسفيوس فلافيوس بمواجهة أبيون (٩٧م) وهو دفاع عن مفاهيم الديانة اليهودية مقارَنة بمفاهيم الديانة الرومانية المعاصرة.
-
(٥)
حياة يوسفيوس فلافيوس (٩٩م) وهي سيرة حياته بقلمه.
(٢) الهِرْمِسية اليهودية
تتطابق شخصية هِرْمِس مع شخصية «أخنوخ» في التراث التوراتي، وقد ترك لنا أحد الكتب اليهودية غير القانونية كتاب أو سفر «أخنوخ» الذي يُنسب خطأً لأخنوخ المذكور في سفر التكوين التوراتي. ويُرجَّح أنه كتاب آرامي الأصل كُتِب في ١٦٣–٨٠ق.م. وقد تُرجم إلى اليونانية لاحقًا. والكتاب يَتحدَّث عن «المسيا» أو «الماشيح» المُنتظَر والدينونة الأخيرة. ولكن هناك كِتاب آخَر بنفس الاسم سُمِّي «كتاب أخنوخ الثاني» بنسخة سلافية عن اليونانية يتحدث عن أخنوخ أو هِرْمِس ورحلته أو معراجه إلى السموات السبع وإعلانات الله له. وتحذيرات أخنوخ لأبنائه من يوم القيامة القادم.
الأثر الهِرْمِسي الآخَر هو الكتاب الشفوي اليهودي «الهاجادة» الذي هو التفسير الباطني للتوراة وفيه قصص وتأويلات رمزية لقصص التوراة. نشأت الهاجادة في بداية العصر الهيلنستي تقريبًا، ونَضجَت بين ١٠٠–١٥٠م، وكانت مُستمدَّة من الآثار الهِرْمِسية، والرمزية، والهيلينية، وتفسيرات فيلون ويوسفيوس وغيرهم.
والحقيقة أن الهاجادة هي مصدر الروايات الخاصة برموز وقصص التوراة التي انتشرَت في منطقة الشرق الأدنى وجزيرة العرب، وكانت مادةً من المواد التفسيرية التي دخلت في الثقافة الإسلامية منذ بواكيرها الأولى.
كتاب «أساطير اليهود» لمؤلفه «لويس جينزبرغ» الذي صدر بترجمة حمدي حسن السماحي بأربعة مجلدات؛ يذكر الكثير من الجوانب الهِرْمِسية في اليهودية أثناء العصر الهيلنستي والتي أثَّرت في إعادة تشكيلها (جيزنبرغ، ٢٠٠٧م).
(٣) الغُنُوصِية اليهودية
عرفْنا أن الغُنُوصِية نشأتْ في وادي الرافدين أولًا من خلال دورات الصعود والهبوط لديموزي، ثم تطوَّرَت هذه العقيدة مع عبادة الإله القمر الذي كانت دورته الشهرية تُمثِّل وجهًا غُنُوصيًّا واضحًا، فضلًا عن صراع النور والظلام وغيرها. ولعل المندائية التي ظَهَرت من الأنسجة العميقة للمعتقَدات الدينية الرافدينية كانت هي الديانة الغُنُوصِية الأهم التي أثَّرَت تأثيرًا نوعيًّا في تَطوُّر الغُنُوصِية.
لا نستبعد وجود علاقة بين نشوء الديانة اليهودية بعد الأسر البابلي في بابل، وبين آخِر مَلِك بابلي كان يَتبنَّى الغُنُوصِية بصيغتها القمرية وهو «نبونائيد»، لكن هذا الأمر بحاجة إلى بحوث مُعمَّقة.
ما يهمنا أن الغُنُوصِية تَسرَّبَت إلى اليهودية من نبونائيد ومن المندائية، ولعلها كانت الحافز الأول لظهور «القابلا» اليهودية لاحقًا.
ومن أهم ملامح الغُنُوصِية اليهودية فكريًّا هو الاعتقاد بأن شريعة موسى هي شريعة البشر الجسمانِيِّين والنَّفسانِيِّين فهي شريعة العامة أما شريعة الرُّوحانِيِّين فهي شريعة الغُنُوصِيين منهم.
وكانوا يُشبِّهون تَشتُّت اليهود في العالَم مثل تَشتُّت النور الذي سقط على الأرض وتَشتَّت بين الشعوب المادية المُظلِمة.
واحتوت كتب الرُّؤى «أبو كاليبس» اليهودية على أفكار غُنُوصِية تخص تقسيم الزمان إلى زمان حاضِر فاسد، وزمان خيِّر مُستقبَل، وكيف أن التاريخ هو مكان للصراع بين الخير والشر. وكذلك كتاب «حكمة سليمان» الذي يرى أن روح الإله «نيوما» توجد في جميع الأشياء.
وربما كان «فيلون» الإسكندري مصدرًا من مصادر الغُنُوصِية اليهودية من خلال تفسيره للعهد القديم بطريقة فلسفية هيلنستية تضم عناصر غُنُوصِية كثيرة.
وهناك أيضًا «حزقيال تراجيكوس» وهو مسرحي يهودي هيلنستي حاوَل المزج بين التراث التوراتي والهيليني.
وهناك من يرى أن بعض الجماعات المعتزلة قرب البحر الميت كانت غُنُوصِية مثل الأسينيين.
العاصفة الغُنُوصِية التي اجتاحت العصر الهيلنستي نَتَج عنها بشكل مباشر وواضح الدِّين المسيحي، لكن هذا الدِّين ما كان ليظهر لولا مُؤثِّرات الغُنُوصِية على الدِّين اليهودي.
- (١) الغُنُوصِية اليهودية المُبكِّرة: وقد ظَهرَت في حدود القرن الأول قبل الميلاد والقرن الميلادي الأول وعَبَّرَت عنها الفِرَق الغُنُوصِية الآتية:
- (أ)
الفيثاغوريون اليهود: وهم أصحاب العبادة السِّرِّية في جَبَل الكرمل.
- (ب) الشافيون (Therapeutics): وهم نِحْلة يهودية طِبِّية سِحْرية ظهَرَت في الإسكندرية.
- (جـ)
اليوئيليون: وهم جماعة الإله يوئيل (الإله الوكيل).
- (د)
الشِّيثِيُّون: وهم غُنُوصِيون لا نستطيع الجزم بيهوديتهم، وربما كانوا الحلقة الرابطة بين الوثنية واليهودية.
- (هـ)
القاينيون: وهم الذين ظهروا في أعقاب الحركة الشِّيثِية.
- (أ)
- (٢)
الغُنُوصِية اليهودية الوسيطة: من القرن الميلادي الأول حتى القرن الميلادي الرابع، وقد ظهرت مؤثراتها في كُتُب الأبوكريفا والسيدوبيجرافيا وكُتب الرُّؤى الأبوكالبسية (الآخروية).
- (٣)
الغُنُوصِية اليهودية المتأخِّرة: وتمثلها حركة «الكابالا» خير تمثيل؛ فقد جمعت الغُنُوصِية والتصوُّف اليهودي في أكمل صورهما.
(٤) الأسينيون Essenes
أُطلق الاسم على فرقة يهودية ظهرت قبل الميلاد في الفترة المكابية الحشمونية (١٥٠–٣٠ق.م.)، وقد نَأَوا بجماعتهم بعيدًا عن المؤثِّرات الإغريقية ومحاولتهم مُمارَسة ديانة يهودية أصيلة ذات طابع مُتقشِّف وصوفي، فسكنوا خربة «قمران» قرب البحر الميت، وعاشوا في الكهوف والمغاور بعيدين عن الناس، ووضَعوا دستورًا أو وثيقة لطريقة عَيْشِهم وفق شرائع دينية مُحدَّدة ودقيقة تعتمد على الطهارة، والعبادة الروحية، والعَيش المُشترَك من أجل ديانة روحية خالصة، فلا نساء بينهم، ولا عبيد، ولا ثروات، ولا مِلْكية فردية. أَحَبوا جميع الناس، ولم يُفرِّقوا بين اليهودي وغيره وكانوا يرفضون تقديم الذبائح والقرابين ويدعون إلى السلام بين كل الشعوب. كانت حياتهم تكافلية فهم حين يستيقظون صباحًا يَستحمُّون بمياه الينابيع وفق طقوس دينية (وهم بهذا يشبهون المندائيين)، ويأكلون ما يزرعونه، ويتطببون بالأعشاب التي يزرعونها أيضًا، ويُحرِّمون كل اللحوم، ويلبسون الملابس البيضاء.
وقف الأسينيون، سياسيًّا، بوجه هَلْيَنة الإغريق ثم هَيْمَنة الرومان ورفَضُوا هَلْيَنة الدين اليهودي؛ ولهذا رفضوا سياسة دولة «يهودية» الحشمونية؛ لأنها كانت مع الهلينية. وقد يقول قائل كيف إذن يُمكِننا اعتبارها في المناخ الهيلنستي، والجواب على ذلك هو أن المناخ الهيلنستي لم يكن هيلينيًّا صِرفًا، بل كان هيلينيًّا ممزوجًا بالشرق. هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فقد عَمِل هذا الجو على انتعاش الحركات الباطنية المَحلِّية كالغُنُوصِية والهِرْمِسية التي اختلَطت لاحقًا بمثيلاتها في الثقافة الهيلينية.
ونحن لا نَستَبْعد أن تكون هناك مُؤثِّرات باطنية وزَرادُشْتية على هذه الطائفة. عاشوا حتى عام ٦٨م، وكانوا قد بدَءُوا قَبْل هذا الوقت بعقود ربما تمتد إلى ما قبل الميلاد.
كانوا يُسمُّون تراثهم ﺑ «العهد الجديد»، ويُعتقد أن يوحنا المعمدان كان أحد زعماء الأسينيين ويسمى ﺑ «معلم الحق» الذي كان تَقْدِمةً لظهور السيد المسيح. أما الطقوس التي كانوا يمارسونها؛ فهي: «الطهارة، التَّبتُّل، رفْض القربانية والذبائح، رفْض المال، رفْض الزواج والجنس، الطعام الجماعي الديني وطهارته»، وكذلك صفات أخرى تشير إلى باطنيتهم؛ مثل: «المعرفة بأسرار التَّنَاخ وتفسيره بطريقتهم الخاصة، المعرفة بالفَلَك والتَّنبُّؤ، اللون الأبيض كَلِباس وحيد، انقسامهم إلى ١٢ مجموعة بقيادة رئيس لهم اسمه «سيد العدالة»، ادعاؤهم بأنهم يعرفون الحقيقة دون غيرهم من اليهود وربما من البشر»، وكل هذه الصفات يشترك بها الغُنُوصيون خصوصًا، والباطنيون عمومًا، وتشير الصفات التي قبلها إلى سلوك الزُّهَّاد والمُتصوِّفِين.
آمن الأسينيون بيسوع المسيح عندما ظهر باعتباره واحدًا من أنبياء إسرائيل المُصلِحين، وهناك مَن يرى بأن يسوع كان آسينيًّا منهم، لكنه أراد أن يُحوِّل عقيدتهم من مَخبئها الضَّيِّق إلى ديانة عالمية جديدة … ولذلك سلك سلوكهم في رفْض المال والمُرابِين عندما دخل إلى الهيكل وطَرد التُّجَّار والمُرابين منه، وقلب أغراضهم.
الآسينيون قَبِلوا بالمسيح كَنبِي يهودي منهم، لكنهم رفضوا عقيدة وأفكار بولس التي جاءت لتؤسِّس للمسيحية بعد صَلْب السيد المسيح.
كثيرون يجدون أنهم لم يَتهلْيَنوا، ولكنهم تأثَّروا بالفكر الهيليني، وخصوصًا بفيثاغورس وبآراء البراهمة، والبوذية التي كانت ضمن البيئة الهيلنستية.