الثقافة الهيلنستية وولادة المسيحية من رحمها
إذا كانت اليهودية قد تأسَّستْ قبل العصر الهيلنستي، ثم ساهَم هذا العصر بإعادة صياغتها فإن المسيحية ولدت (تمامًا) من رحم العصر الهيلنستي بكل عناصرها تقريبًا.
الهيلنستية (والغُنُوصِية تحديدًا) هي مصدر المسيحية، فضلًا عن المؤثرات الهيلنستية الأخرى؛ كالباطنية (الهِرْمِسية والغُنُوصِية والمُسارِّيَّة)، وما نَتَج من تحولات جديدة في أديان الشرق الأدنى، والدِّين الإغريقي، والفكر الفلسفي الهيلنستي، وقد قال الباحث الهيلنستي الكبير ويلاموتيز مالندورف عن ظهور المسيحية في العصر الهيلنستي: «أخيرًا عَبَّرَت اللغة الإغريقية عن تجربة روحية حَيَّة ومُتَّقِدة.»
وسنستعرض الجوانب الهيلنستية التي صنَعت المسيحية وأدَّت إلى ولادتها.
وقبل البدء بفقرات هذه الجوانب لا بُدَّ لنا من القول بأن الغُنُوصِية كانت ترى أن الخَلاص يتم عن طريق فعالية روحانية فردية يقوم بها الغُنُوصي عن طريق التَّطهُّر والتأمل تقوده إلى معرفة الروح أو النفس التي فيه، وكونها جزءًا من روح الكون والله، وهو ما يُؤدِّي إلى إمكانية تحريرها من الجسد عن طريق تَجنُّب نزواته أو الاتصال بالله عن طريق لحظة صوفية نادرة تُعرِّف الإنسان بحقيقته. وهذا ما يُسمَّى بالكشف أو المعرفة الذَّوقية. وقد اقتَرحَت الغُنُوصِية المسيحية التي كانت هي مؤسِّسة الدِّين المسيحي «وليست فرقة هرطوقية كافرة كما يصفها آباء الكنيسة»، اقترحت أن الله السَّامي المتعالي «الرب» أرسل «الابن» الذي هو «المسيح» والذي لا علاقة له مطلقًا ﺑ «ماشيح» اليهود، أرسله ليخلص نفوس الناس من سجنها الجسدي ويعود بها إلى الرب؛ لأنها جزء منه.
الخلاص اليهودي كان عكس ذلك تمامًا؛ فقد كان عن طريق الالتزام بالشريعة اليهودية، وأداء الطقوس، في حين أن الخلاص المسيحي أصبح، في النهاية، الإيمان بيسوع المسيح كمُخلِّصٍ وفَادٍ للبشرية، وبعودته في نهاية الزمان.
الغُنُوصِية صارت تَرَى في إله اليهود «يهوا» مُعبِّرًا عن كل الآلهة القديمة، وهي وهو رمز للشر والشيطان، وما سماه أفلاطون ثم الغُنُوصِية باﻟ «ديميورج»، وهكذا نادت بإله واحد مُتعالٍ لا يمكن معرفة صِفاته، وهو إله الفلاسفة (أفلاطون وأرسطو) الذي يعيش في عالَم من النور بعيدًا عن السماء والأرض، وعندما ادَّعَى المسيحيون لاحقًا بأن إلههم هو ليس يهوا، بل إيل؛ وصفهم الغُنُوصيون بأنهم استبدلوا الاسم فقط، وأن هذا الإله هو إله شرير أيضًا، فَهُما (يهوا وإيل) إلهان صانعان خَلقَا العالَم المادي الشرير، وهما إلهان خاطئان خرَجَا على إرادة «الإله الأسمى» الذي يَسكُن إلى الأبد في عالَم النور. فالعالَم الذي نحن فيه هو عالَم شر مادي ظهر نتيجة خطأ وعملية سقوط من عالَم الألوهية الحقيقي «في عالَم النور» تشبه سقوط الشيطان أو إبليس، وقد أدَّى ذلك إلى تكوين عالَم أرضي وبشري خاطئ تورَّطَت فيه الروح أو النَّفس الخيِّرة بالسجن داخل براثن المادة والجسد، وعليها الخلاص منه والعودة إلى عالَم النور لِتدَع هذا العالَم يفنى. فالغُنُوصِية ترى أن كل عملية الخلق خاطئة وستزول يومًا ما، وأن البقاء الحقيقي هو لعالَم النور الأعلى والأسمى من أي اسم أو تجسيد، وأن الأديان على خطأ حين تُجسِّد هذا العالَم وتتحَدَّث عنه بأسماء وصفات من عالَم المادة الشرير.
وهكذا تكون بدايات المسيحية قد بدأت بالكنيسة الغُنُوصِية التي أسَّسها سايمون الساحر، ثم ظهرت كنيسة الخِتَان التي أسسها يعقوب ابن يوسف النجار المُلقَّب ﺑ «يعقوب أخي الرب» الذي رأى أن أخاه غير الشقيق «يسوع» هو «الماشيح» اليهودي الذي من نَسْل داود، وكانت كنيسته تُقيم الخِتَان، وترى في المسيح نبيًّا يهوديًّا جاء لتخليص اليهود والعالَم من الخطيئة، ونُسمِّيها «كنيسة الختان»، وسميت فرقته فيما بعد ﺑ «النصارى».
أما «كنيسة الأمم» فقد نشأت لاحقًا عندما تَحوَّل بولس عن ديانته اليهودية إلى المسيحية، ولكنه قَرَّر أن لا يجعلها غُنُوصِية خالِصة (رغم وجود الكثير من الأفكار الغُنُوصِية في رسائله ومسيحيته)، بل أن يضيف لها عناصر ظاهرية معروفة، رغم أنه أبقى على فكرة نَسْخ شريعة اليهود وعدم الأَخْذ بها، لكن القديس بطرس هو مَن أسَّس فعليًّا كنيسة الأمم وخلَّصها من الغُنُوصِية، ومن التَّضاد مع اليهود وكِتَاب العهد القديم.
ويمكننا إجمالًا وضْع ما ذكرناه في هذا الشكل التوضيحي:

(١) المسيح كشخصية غُنُوصِية
هناك الكثير مِمَّا يشير إلى أن السيد المسيح كان شخصية غُنُوصِية، فربما كان قد انتمى إلى حَلقة من حلقات الأسينيين التي اعتزَلَت في كهوف البحر الميت (قمران)، وكان مُعلِّمه الأول هو يوحنا المعمدان. وهذا ما يُؤكِّده اعتراف الأسينيين به كَنبِي من أنبياء إسرائيل يُصحِّح مسيرة اليهود.
يرى المندائيون (وهم أتباع دين غُنُوصي أصيل) أن السيد المسيح كان مندائيًّا. وقد يجعلنا هذا نفكر بأن السيد المسيح ما هو إلا التَّجلِّي الأرضي للإله الأسمى، فإذا كان اﻟ «نشمثا» أو نسمة الروح مُرسَلة من قِبَل إله عالَم النور، فلا شك أن السيد المسيح هو «نشمثا» كاملة مُثلَّت الإله الأسمى، وهبَطَت في جسد بشري مادي. لكن الأصل المندائي للمسيحية يبقى ضعيفًا لأسباب كثيرة؛ منها وجود المندائية في جنوب العراق، وطبيعة الغُنُوصِية المندائية التي لا تُجازف بتجسيد كائن «كالمسيح» مُرسَل من عالَم النور.
لكننا نُرجِّح احتمالات أخرى، سنذكرها لاحقًا، حول شخصية السيد المسيح الغُنُوصِية.
- (١)
أنتم لا تعرفونني ولا تعرفون أبي، ولو عرفتموني لعرفتم أبي (يوحنا ٨–١٩).
- (٢)
أنتم من الدَّرْك الأسفل وأنا من الملأ الأعلى، أنتم من العالَم وأنا لستُ من العالَم (يوحنا ٨–٢٣).
- (٣)
إنكم أولاد أبيكم إبليس، وأنتم تريدون شهوات أبيكم … مَن كان مِن الله سمع كلام الله، فإذا كنتم لا تسمعون فلأنكم لستم من الله (يوحنا ٨–٤١-٤٢).
كل هذه الجُمَل تُشير إلى أن المسيح بمثابة ابن الله الأسمى، وليس ابن الله الصانع الذي هو «يهوا» أو إيل (إليا)، فقد كانت الغُنُوصِية تُميِّز بين نوعين من الله؛ الله الأسمى الذي خَلَق عالَم النور فقط، ولم يخلق الأرض أو الإنسان، والآخَر هو الله أو الإله الصَّانِع الذي رَاقَ له عالَم الظلام فخرج على طاعة الله الأسمى وعالَم النور، وخلَق عالمًا هَجينًا هو الأرض فيه ظلام كثير ونور قليل، ومثله الإنسان فيه جسد مُظلِم مادي وروح/نفس إلهية مُنيرة. وقد صار الإله الخالَق هذا، فيما بعد، بمثابة الشيطان أو مُمثِّل الشر. ولهذا تنظر الغُنُوصِية للإله يهوا الذي يَتعبَّده اليهود بأنه إله صانع أو خالِق وهو شرير. أما المسيحيون الغُنُوصيون فلا يَقْبَلون أن يكون «إيل» هو إلههم، ويرون أن المسيح نزل من الإله الأسمى وليس من «إيل» أو «يهوا»، وهم يَروْن أنه لم يُعَذَّب على الصليب ولم يُصْلَب ولم يُقْتَل.
في الكتاب الأبوكالبسي الغُنُوصي المعروف «رؤيا يعقوب» نقرأ ما يلي: «لم يُعَذَّب على الصليب ولم يَنلْه أي أذًى من جلاديه.»
وفي نص «الأطروحة الثانية لشِيت الكبير» وهو كتاب غُنُوصي مسيحي نقرأ بأن يسوع لم يَمُت على الصليب، وأن ما رَأوْه من موته لم يكن سوى مظهر خادِع، وأنهم ما ضربوه، وما أهانوه، وما سَقَوه الخَلَّ والمُر، وإنما فعلوا ذلك بآخَر اتَّخَذ شبهه، بينما كان هو على البُعد يهزأ منهم، ومن جَهلِهم.
وهذا الموقف سيتبَنَّاه الإسلام في روايته عن يسوع (عيسى بن مريم)، وهو ما نراه تأثُّرًا إسلاميًّا بالمُدوَّنات الغُنُوصِية التي سيكون الكثير منها مصدرًا من مصادر روايات وأفكار الإسلام، وهي التي كانت منتشرة بقوة في جزيرة العرب، وهو ما سنناقشه مُفصَّلًا.
(١-١) الوجود التاريخي للسيد المسيح

ما زال الوجود التاريخي للسيد المسيح يُثير جدلًا واسعًا بين علماء الأديان والتاريخ، وتميل أغلب الآراء العلمية بِعَدم التثبت، حتى الآن، من وجوده التاريخي؛ فالأناجيل الأربعة القانونية المنسوبة ﻟ «مرقس، مَتَّى، لُوقا، يُوحنَّا» نفسها أصبحت مَحطَّ شكٍّ في كونها كُتِبَت من قِبَل هؤلاء الأشخاص، فضلًا عن كون أصحابها — إن كانوا هم مَن كتبوها — لم يشاهدوا المسيح، ولم يَتعرَّفوا عليه مباشرة.
كُتِب إنجيل مُرقس في مصر (على أكثر التقديرات رجحانًا) في حدود ٥٨–٦٠م؛ أي بعد أكثر من ربع قرن من نهاية السيد المسيح، ولم يشاهد هذا المسيح.
وكذلك إنجيل مَتَّى في أورشليم الذي كَتبَه مَتَّى العَشَّار جامع الضرائب والمُوظَّف الذي لم يستطع السَّفَر مع المسيح.
أما إنجيل لُوقا فقد كُتِب في القيصرية حوالي ٦١–٦٤م، واعتمد على إنجيلَي «مرقس ومَتَّى» كمصدر له، وقد كان طبيب بولس، وهذان لم يُشاهِدا المسيح.
أما إنجيل يوحنَّا فقد كُتِب في أفسس حوالي ٨٥م، واعتمد على رؤية أخرى.
وهكذا يَتبيَّن لنا أن هذه الأناجيل لم تُكتَب في زمن السيد المسيح، ولم يُشاهد أحَدُ كاتِبِيها السَّيدَ المسيح.
ولا تُوجَد إشارات وكتابات تاريخية دقيقة في زمن السيد المسيح تقول بوجود «يسوع»، أما ما يُذْكَر من كتابات تاريخية ضعيفة أهمُّها الشهادة الفلافِيَّة وهي الإشارة المُقتضَبة التي ذكرها فلافيوس يوسفيوس الذي عاش في زمن المسيح، في كتابه «عاديات يهودا»، والتي يرى فيها العلماء أنها مُضافة على كتاب يوسفيوس من قِبَل المسيحيين لإثبات وجوده وصَلْبه بِسبَب عَدَم إتقان تزوير كاتِبِها، ووضع هذا التزوير على لسان كاتِب يهودي مثل يوسفيوس.
ولعل المطابَقة بين شخصية السيد المسيح، وشخصية سايمون الساحر تَبْقى مُحيِّرة ومُثيرة وجذابة، في الوقت نفسه، لكنها ما زالت بحاجة للكثير من الدَّعم والأسانيد.
(٢) بولس الرسول والغُنُوصِية
إذا كان يسوع هو السيد المسيح المؤسِّس للديانة المسيحية كنَبي مُرسَل من الله أو كابن للرب، فإن بولس هو المؤسِّس الثاني للمسيحية؛ فهو الذي قام بصياغة هيكلها الدِّيني بمكوِّناته المعروفة.
وُلِد بولس الرسول في حوالي ٣ق.م. في مدينة طرسوس (قليقية) في غلاطية، وكان يهوديًّا «واسمه شاءُول» في أسرة يونانية الثقافة، وكان والده يحمل الجنسية الرومانية، واسم «بولس» هو اسمه الروماني. فهو يهودي الديانة يوناني الثقافة روماني الجنسية وعِبْري الأصل من سبط بنيامين كما يقول هو.
كان ينتمي شكليًّا إلى المذهب اليهودي «الفِرِّيسية» وهم فئة متشددة، فكان يعرف الآرامية والعِبْرية. لكنه كان قد دَرَس في روما؛ فقد أرسله أبوه الموظَّف الروماني إلى هناك لِتلقِّي معارفه الهيلنستية والرواقية والغُنُوصِية، كان يجيد اللغة اليونانية ويكتبها، ولم يكن هو في أورشليم أو غيرها خلال ظهور السيد المسيح داعيًا لديانته الجديدة، بل كان في روما يَتلقَّى تعاليمه الهيلنستية الإغريقية اللغة.
كان مُعلِّم بولس في دمشق واسمه «حنانيا» يحث بولس على حرب وإزاحة أتباع يسوع الذين آمنوا بأنه مَلِك اليهود الذي جاء لِيُخلِّصهم ويحكمهم … وكانت فكرته أن يتم تمويه ذلك بالقول إن يسوع لم يُطالِب بمُلْك، بل جاء ليفتدي ذنوب البشر عندما رُفع على الصليب ومات؛ ولذلك فهو لم يكن مَلكًا لليهود يُخلِّصهم من حُكْم الرومان، بل هو مُخلِّص كل الناس من ذنوبهم.
فكرة الخَلاص هذه امتزَجَت مع الثقافة الهيلنستية والرواقية والغُنُوصِية لبولس؛ فجاءت جديدة مُدهِشة ولم يَعُد هناك شيء من فكرة «المشيَّا» الذي نادت به التوراة؛ ولذلك كان لا بُدَّ من استعارة الهيكل الغُنُوصي الذي يَعتَبِر المسيح ابنًا للإله الأعلى الذي جاء ليخلص الإنسان من المادة والشر الذي صنعه الإله الصانع المادي.
أعاد بولس «تصنيع» يسوع أو المسيح المصلوب طبقًا إلى ثقافته اليهودية اليونانية، وأطلق عليه الفادي والمخلِّص بعد أن جَمَع فكرة «الشكينة اليهودية»، و«اللوغوس اليوناني» كمؤنَّث ومُذكَّر نَتَج عنهما الابن الذي توسَّط بين الله الواحد المتعالي والإنسان.
كان هذا نوعًا من تحوير الغُنُوصِية باتجاه المسيحية البولسية التي أصبحت أساس الفكر المسيحي لاحقًا مع وجود التغييرات الكثيرة فيها.
كانت «الشكينة» هي إشارة وردت من فيلون، وقال إنها المُقابِل الأنثوي ﻟ «لوغوس» اليونانية المُذكَّرة، وتعني بالعربية «السكينة» فيما تعني اللوغوس «الكلمة»، وربما كانت أساس كلمة «لغة» العربية؛ لأن العرب والساميين عمومًا يُسمُّون اللغة ﺑ «اللسان».
إذن السكينة واللوغوس هما الحِكْمة المُؤنَّثة والكلمة المُذكَّرة في اتحاد دائم، وهو ما أنتج الابن الذي كان بمثابة الوسيط الفَعَّال بين الإله والخَلْق. وهذه الاستعارة من الغُنُوصِية التي قام بها بولس واضحة تمامًا، وربما كانت من خلال فيلون اليهودي الغُنُوصي.
أما فكرة الفداء فلا شك أنها فكرة مُسارِّية معروفة. وهكذا أصبح الابن الفادي من مرجعية غُنُوصية مُسارِّية. وكانت أحداث ولادته وموته وصَلْبه وبَعْثه قد حدَثَت منذ الأزل في السماء البعيدة قبل نشوء هذا العالَم المادي، وهكذا تكوَّن «مسيح آخَر» كما يذكر ذلك بولس في رسالته إلى أهل غلاطية (٣: ٢٤– ٢٨).
وهكذا أصبح «المسيح الآخَر» هو غير المسيح اليهودي «المشيَّا» الذي بَشَّرَت به التوراة، وهذا ما أراده بولس تمامًا. وبذلك أبعد المسيحية عن اليهودية.
يستخدم بولس كثيرًا مصطلح «الملأ الأعلى» وهو مصطلح غُنُوصي بامتياز وهو العالَم الذي ظهر من الإله الأب.
ومن أمارات استخدام بولس للغُنُوصِية هجومه العنيف على الجسد واعتباره من العالَم المادي الشرير الذي يحمل الخطيئة، فهو يقول «لأن الجسد زنَى، عهارة، نجاسة، دعارة، عبادة أوثان، سِحر، وشِقَاق. أما الروح فصلاة ومحبة، فرَح وسلَام، صَلَاح وإيمان» (غلاطية، ٢١ و١٩: ٥).
فكان يرى بولس ضرورة قمع الجسد ونزواته، والمُطالَبة بالتحرر منه، وهو ما كانت تعتقده الغُنُوصِية تمامًا.
وكذلك نرى المَوقِف الغامض لبولس من الزواج والذي يتذبذب بين كُرْه الزواج واتخاذه وسيلة لقمع الشهوات، وهو ما ألقَى بظلاله كثيرًا على حياة المسيحيين وبشكْل خاصٍّ رجال الدين منهم، وما كان سببًا في نشوء الرَّهبَنة والتَّبتُّل.
وكل هذا كان بسبب الأثر الغُنُوصي الذي بدأ مع المسيحية منذ بدايتها وتأسيس مُكوِّنَاتها على يد بولس.
كانت سُبُل اتصال بُولس بالرب عن طريق الحِلم أو الرؤيا وهو أحد التقاليد الغُنُوصِية المعروفة أيضًا.
وكان يشير إلى اليهود كعبيدٍ للآلهة وللحُكَّام (الأراكنة)، وأن المسيح جاء ليُحرِّر الناس كلهم، ومِن ضمنهم اليهود، من الآلهة «التي يهوا على رأسها»، ومن الأراكنة، وهذه كلها مفاهيم غُنُوصِية معروفة.
(٣) الأصل الغُنُوصي للرَّهْبَنة المسيحية
ساهمت الغُنُوصِية والرِّواقية بقِسْط كبير في نشوء الرَّهبَنة المسيحية؛ فقد كانت مبادئها في اعتبار المادة والجسد أصلًا للشر والتعفُّف عن غرائز الجسد، والامتناع عن الزواج والاتصال الجنسي، «بل وتحريمهما»، والهروب والعزلة عن الناس، والشعور بالغربة في هذا العالَم. كل هذه المبادئ الغُنُوصِية كانت سببًا رئيسيًّا للرهبنة في أغلب الفرق الغُنُوصِية وفي المسيحية.
ترى الغُنُوصِية أن الكون بأكمله خُلق كحادثة شريرة قام بها الإله الصانع (الديميورج) الذي هو بمثابة المُمثِّل عن آلهة الشِّرك القديم، إزاء الله الواحد العالي المُتفرِّد الذي يحتضن عالَمًا روحانيًّا نورانيًّا، لكن الإله الصانع الذي هو إله الشر أراد تقليد الإله الواحد فصَنع عالمًا ماديًّا؛ «لأنه لا يستطيع صُنْع عالَم روحاني نوراني بِسبَب هبوطه عن العالَم الروحاني وخروجه عليه».
الرواقية هي الأخرى ترى أن المادة هي الشرُّ بعينه، وهذا ما يجعلنا نُؤكِّد أن الغُنُوصِية احتَقَرت العالَم، ونفَرَت من المادة، ومجَّدَت الرُّوح وعالَم الروح، وقد كان هذا المبدأ هو أساس الزُّهد والتصوف والرهبنة.
والغُنُوصي يشعر أنه إنسان غريب عن هذا العالَم؛ لأنه يَحمِل في داخله الروح أو النفس الإلهية المصدر والتي تشعر بغربتها عن العالَم المادي وسجنها فيه؛ ولذلك يكون همُّه الوحيد الوصول إلى العالَم الروحاني الأعلى.
وكذلك فإن أغلب التيارات الغُنُوصِية تمنع الزواج وتراه يتعارض مع نفورها من المادة والجسد «كالمانوية»، أو أن بعضها تُقلل من أهمية الزواج وتتحاشى تشجيعه؛ لأنه إعمار لعالَم الدنيا التي يتوجب الرحيل منها.
كل هذه الأمور انعكسَت في البداية الغُنُوصِية للمسيحية، ونَجِد صداها في سلوك السيد المسيح وحوارِيِّيه، وبالأخص يُوحنَّا صاحب الإنجيل الذي كان يَلبَس الوَبَر، ويأكل الجراد والعسل البَرِّي مُتقشِّفًا عن الدنيا وما فيها، وكذلك يعقوب الذي هو أخو «يسوع» والملقَّب ﺑ «يعقوب أخي الرب» الذي كان أقرب إلى الزاهد والراهب. وكان تلاميذ وأتباع السيد المسيح يَسلُكون سُلوك الزاهِدين، والذي كان نواة لنشوء الرَّهبَنة المسيحية بالنسبة للمُؤمِنين رجالًا ونساءً.
(٤) فِرَق الغُنُوصِية المسيحية الأولى
المُشجَّر الآتي يُوضِّح لنا أسماء الفِرَق الغُنُوصِية المسيحية الأولى التي أسَّست المسيحية والتي يُصنِّفها الآباء المسيحيون كفِرَق هرطوقية:

(٥) الغُنُوصيون المسيحيون الأوائل (الكنيسة الغُنُوصِية)
(٥-١) سيمون الساحر (حوالي٦٧م) Simon Magus
هو سايموس ماجوس، أو سمعان الساحر، أو شمعون الساحر، واسم سايمون أو سمعان تعني بالعبرية «سامع»، وماجوس هو لقب أطلقه عليه أعداؤه لكي يحجبوا حقيقته ويعني «الساحر».
وردت قِصَّته في الإصحاح الثامن من سفر الأعمال وكما يلي «وكان في المدينة ساحرٌ اسمه سمعان فَتَن السامريين من قبلُ بأعمال السحر وادَّعى أنه رجلٌ عظيمٌ فكانوا يتبعونه جميعًا، مِن صغيرهم إلى كبيرهم، ويقولون: هذا الرجل هو قُدْرة الله التي ندعوها العظيمة. وكانوا يتبعونه؛ لأنه فَتنَهم بأساليب سِحْره من زمن طويل. فلما بَشَّرهم فيليبس بملكوت الله واسم يسوع المسيح آمَنوا، وتَعمَّد رجالهم ونساؤهم، وآمن سمعان أيضًا فَتعمَّد ولازم فيليبس. يرى ما يصنعه من الآيات والمعجزات العظيمة فتأخذه الحيرةُ» (أعمال، ٨: ٩–١٣).

وهو مسيحي من السامرة من قرية جتُّو ظهر في عهد كلوديوس قيصر، وقضى طفولته في مصر، وكان يمتلك قُوًى سِحْرية جعَلَته يمزج السِّحر بالغُنُوصِية والمسيحية ليكوِّن له طريقة أو مذهبًا أطلق عليه لاحقًا «السايمونية» الذي ظلَّ حيًّا بأتباعه إلى منتصف القرن الميلادي الثالث.
مارَس السِّحر والأعاجيب في السامرة، ووصل صيته إلى روما؛ حيث أُقيم له فيها تمثال أُقيم على نهر التيبر «في الجزيرة القائمة في وسط نهر التيبر وهي تحت الفاتيكان بمسافة صغيرة» بين قنطرتين، ونُقشت عليها باللاتينية «سيمون الإله القدُّوس».

اصطَحَب سايمون امرأة من صور اسمها «هيلانة» وادَّعَى أنها من بنات أفكاره وأنها «الفكرة الأولى» التي ظهرت منه، وأنها أُمُّ كل الأشياء، وبها خُلق الملائكة والعالَم، وقد وضَعها العالَم في جسد بَشري ومَنعُوها من الرجوع إليه فصارت غانِيَة ضالَّة وجاء سايمون لِيُخلِّصها من سجنها المادي. وكان يطلب من الناس أن يَتَّبعوه معها حتى يهتدوا إلى الخلاص.
لقد كان سايمون يُقلِّد سيرة السيد المسيح ويَتشبَّه به وبمعجزاته، وحتى هيلانة كانت نظيرة مريم المجدلية في حياته.
اصطدم بالرسولين: بُطرس ويُوحنَّا، فَقد ألقيا اللَّوم عليه وهو يُمارِس مثل هذه الأمور، ويقال بأنه اهتدى على يد فيليبس، لكننا لا نملك دليلًا على ذلك، بدليل نهايته التي تَرسُمها أغلب الكتب المسيحية.

هاتان النهايتان تُفنِّدان موضوع هدايته على يد فيليبس، ولا تخلو مثل هذه المبالَغات في سيرته من تدخُّل أيدي كُتاب السيرة المسيحيين في تشويه حياته وأعماله، وكان لسايمون كِتاب مُقدَّس «الوحدي العظيم» وصلت منه بعض الشذرات.
تأثَّر سايمون بالغُنُوصِية الوثنية المُبكِّرة وبالسِّحر، ورسم له سفر «أعمال بطرس» المنحول صورة أخرى وهو يَتبارى مع بطرس في روما ويستطيع الطيران فوق روما والتَّجوُّل في سمائها، لكنَّ بطرس يَعِد بكشْف أعمال سمعان السِّحْرية. كان له تلميذان مُهمَّان في السامرة؛ هما «ميناندر، ودتسيوس» اللذين غادرا إلى أنطاكية ونَشَرا الغُنُوصِية المسيحية فيها.
كان بعضُهم يرى أن شخصية سايمون هي شخصية مُختَلَقة من قِبَل السيناتور مارشيلو الذي كان في عصر الإمبراطور الروماني نيرون (٥٤– ٦٧م).
لكن هناك الكثير مِمَّا يشير إلى وجوده التاريخي، وهو موصوم من قِبَل جميع مُناصري الكنيسة بالكذب والزَّيف والسِّحر والشعوذة، وبأنه مؤسِّس خلافة كاذبة من الزنادقة المستوحاة من الشيطان وهو أبٌ لكل البدع.

هناك ما يُشير إلى أن سايمون يَنحدِر من سلالةٍ كلدانية قَدِمَت إلى السامرة، ولم يكن يهوديًّا بل كان بابلي الديانة، وتُخالِط ديانته ثقافة مجوسية زَرادُشْتية، فضلًا عن هذا، إنه كان أيضًا تلميذًا ليوحنا المعمدان وإنه قضَى بعض طفولته وصباه في مصر.
في هذه الفترة كانت قد انتشرت الأخبار عن تعاليم «الأسينيين»، وكان هؤلاء يَعتَنون بتربية الأطفال والصبيان وفق تعاليمهم التَّزهُّدِية، والرافضة للديانة اليهودية التقليدية، والداعين إلى ديانة عالمية، وانضم إليها يوحنا المعمدان، وبطرس، وفيليب، وبولس.
حين أتى فيليب (وهو غُنُوصي مسيحي له إنجيل أبوكريفي في مخطوطات نجع حمادي) إلى السامرة عَرَف أن سايمون يُبشِّر بأنه المسيح، وأنه «قوة الله في الإنسان»، وكان في أورشليم كنيسة مُبكِّرة هي كنيسة جيمس (أخي يسوع).
كان سايمون مؤمنًا بأن للكتاب المقدَّس معانيَ رمزية وليست حَرْفِية، وأصبحت فِرْقَته «السايمونية» حافزًا لولادة فرقة الدوسيتية التي تؤمن بأن يسوع لم يَمُت جسديًّا على الصليب.
أسَّس سايمون الكثير من الكنائس على طول الساحل الفلسطيني السوري من قيصرية إلى أنطاكيا، وذهب إلى صور (حيث التقى هيلين)، وطرابلس ثم إلى روما.
كانت وما زالت هناك شكوك قوية بأن سايمون هو المسيح الحقيقي الذي ظهر في نفس فترة المسيح، وحقَّق بعص المعجزات وكان غُنُوصيًّا، ثم نُسجت حوله أسطورة أخرى عن المسيح المصلوب.

- (١)
بعد إجراء نوع من التَّحدِّي بينه وبين بطرس طار سايمون فوق روما، لكنَّه سقط بعدها والتقطه بعض الناس، ورغم ما أُشِيع عن عَدَم موته، لكنه ربما كان قد أُصيب بكسور أدَّت إلى موته، ثم وضعه في تابوت حيث دُفن في تيراسينا، ومن ثَمَّ في أريشيا في حديقة فيلا «جيكي».
- (٢)
بعد أن سقط على الأرض ربما يكون قد انتحر.
- (٣)
ربما عُثِر عليه مكسورًا وطَلَب هو أن يُدفَن حيًّا ليقوم بعد ثلاثة أيام لكنه مات ولم يَقُم.
- (٤)
ربما يكون قد استخدم أجنحة إيكاروس (كما في الحكاية الإغريقية)، لكنه سقط ومات.
- (٥)
هناك احتمال أنه أصبح في حلقة مسيحية تضم السيناتور المُقرَّب من نيرون وهو مارسيلو، بل إن الإمبراطور نيرون ربما يكون في هذه الحلقة، وربما كانت مباراة التحدي بين سايمون وبطرس عملًا فاصلًا، وكان نجاح سايمون ثم سقوطه مثيرًا وهو ما جعل سايمون يُرجَم من قِبَل الناس، فيما بعدُ، وقد اتُّهم بطرس بأنه بهذا دبَّر قتْل سايمون فسُجن وصُلب، أما سايمون أكرمته الإمبراطورية بعد وفاته، وكأنه إله، وصنَعَت له التمثال المعروف ﺑ «سايمون المقدس» والذي أمر به كلوديوس.

تُوفي سايمون في حدود ٦٥م، وصُلب بطرس رأسًا على عقب (على الصليب مقلوبًا)؛ لأنه كان يرى أنه ليس أهلًا ليكون مصلوبًا كالمسيح، صُلب في ٦٧م، أما بولس «الذي كان يبشر في روما أيضًا» فقد أُعدم بقطع رأسه بأمر من نيرون على إثر حريق روما الذي اتُّهم المسيحيون بإشعاله عام ٦٤م؛ ولذلك يؤرخ موته ﺑ (٦٤–٦٧م).
(٥-٢) دوسيثيوس (حوالي ٧٠م) Dositheos
هو أحد الأتباع الثلاثين ليوحنَّا المعمدان، «فهو زميل سيمون الذي كان أيضًا أحد أتباع يوحنا». وهو رئيس طائفة الدُّوسيثِيِّين التي يُعتَقد أنها أصل المندائيين (في هذه المرحلة الهيلنستية على أقل تقدير).
ذكَره ترتوليان في كتابه عن الهراطقة بأنه «أول من أنكر أنبياء بني إسرائيل، وقد دفع هذا إلى ظهور الصَّدُوقيِّين، وجيروم يعطي الشيء ذاته، وهيبوليتس يبدأ تعداده للاثنين والثلاثين من الهراطقة بالإشارة إلى دوسيثيوس» (سباهي، ١٩٩٦م، ١٥٢).
وهناك آراء متضارِبة حول أصله وزمنه، فهناك مَن يرى أنه ظهر قبل ظهور الإسكندر المقدوني، وهناك مَن يرى تَشابُه عقائده مع السامريين؛ مثل: «تقديس جبل كريزيم، ورفْض كُتُب أنبياء التوراة، وإنكار البعث»، وهناك من يرى أنه كان مُعلِّمًا لسايمون أو جاء بعده.
ويقول أوريجن (١٨٥–٢٠٣م)، وهو أحد أساتذة اللاهوت الكبار في الإسكندرية «إن تلاميذ دوسيثيوس يحتفظون بكُتبٍ له، وإنه كان يدعو نفسه بالمسيح، وإن فرقته لم تزدهر يومًا ما، وإنها تكاد تختفي تمامًا في زمانه، إذ لم يبقَ منها سوى ثلاثين شخصًا، أما المصادر الكهنتية في الإسكندرية فتشير إلى وجودهم هناك وبعدد كبير، وأنهم كانوا يدخلون في جدالات مع رجال الدين المسيحيين» (سباهي، ١٩٩٦م، ١٥٣).
ربما كانت هناك علاقة للدوسيثيين بالشِّيثيِّين، ولهؤلاء الاثنين بالمندائيين، ولهؤلاء الثلاثة بالمسيحيين الأوائل، وكل هؤلاء، من وجهة نظرِنَا، كانوا فِرقًا غُنُوصِية ساهمَت في ظهور المسيحية وطَبَعَت أفكارها الأولى بطابعها.
(٥-٣) ميناندر (حوالي ٨٠م)
ميناندر أو مندار الذي ظهر في السامرة أيضًا بعد سايمون، الذي ربما كان مُعلِّمه لكن ميناندر اختَطَّ له طريقًا غُنُوصيًّا خاصًّا، كان من قرية كابراتيا في السامرة وبعد أن اتبعَ سايمونَ رحَل إلى أنطاكية، وهناك أسَّس مذهبه الغُنُوصي وصار له أتباع.
ادَّعى ميناندر أنه هو «المخلِّص» الذي أُرسل من الدُّهور الخفية لخلاص البشر، وأنه إذا عمَّد الناس فإنه يمنحهم الخلود، ويكونون مثل الملائكة التي خَلقَت العالم. وقد ذكره غيريناوس في كتابه «ضد الهرطقات».
اتسع نفوذه في أنطاكية بين سنتي ٧٠–١٠٠م، ونشَر الغُنُوصِية في غرب سوريا حيث أصبحَت أهم مراكز الغُنُوصِية لاحقًا، وبشَّر في آسيا الصغرى عمومًا. تميَّزت غُنُوصيته بالإصرار على التفريق بين الله المُتعالي والطاقة أو الطاقات المُبدِعة وهي «قُوى الطبيعة»، ورأى أن الغُنُوصِية لا تُنال بالإيمان فقط، بل عن طريق العلوم الكونية والروحية، وكان يُنادي ﺑ «السِّحر المتسامي».
وقد ثَبت أن هناك صلة بين تعاليم ميناندر وبعض الأفكار الزَّرادُشْتية وخصوصًا ما يخص الأيونات التي هي إحدى مَظاهر أهورامزدا، وربما كان هناك ما يشير إلى اهتمامه بها من خلال التراث المصري.