المبحث الثالث

الفلسفة الغُنُوصِية

رغم أن الغُنُوصِية تيارٌ روحي وديانة جديدة لكنها وَجدَت لنفسها مكانًا في فلسفات العصر الهيلنستي التي كانت تنحو ضمن مَنحاها، ولا شك أن الغُنُوصِية شكَّلَت نوعًا من أنواع الأفلاطونية الجديدة المُبكِّرة قبل أن يُباشر مؤسِّس هذه الأفلاطونية الجديدة — ونعني به أمونيوس ساكاس — بالشروع في تأسيسها بأكثر من قرنين، وتبقى فرادة الفلسفة الغُنُوصِية في ابتكارها لهياكل مَساقط الروح وارتفاعها مُثيرًا للعقل وللروح معًا، ويمكننا فَرْز سِتَّة من أهم فلاستها الكبار؛ هم: «سرنثيوس، باسليدس، فلانتينوس، مَرقِيُون، بطليموس، بارديصان».

(١) سرنثيوس (حوالي ١٠٠م) Cerinthus

هو أحد الغُنُوصيين المسيحيين اليونانِيِّين المُبكِّرين الذي اعتبَرتْه الكنيسة الرسمية هرطوقيًّا من الكنيسة الأرثودوكسية المُبكِّرة، وهو الذي اتبع طريقة يُوحنَّا، وقد استعمل «إنجيل العبرانيين» ملهمًا له، ويمكن اعتباره من الغُنُوصيين الأبيونيين … وقد كان معلمًا لمَرقِيُون.

رأى سرنثيوس أن المسيح قد حَلَّ في يسوع أثناء التَّعميد وغادره أثناء تعليقه على الصليب.

كان على عكس المسيحية الأرثودوكسية يتبع الشريعة اليهودية ويعترف بها، وهو ما يجعل غُنُوصِيَّته مَحَل شك وتأرجُح، رغم أنه نَفى على الله الأعلى صُنْعَه للعالَم المادي، وأن الديميورغس هو الصانع.

كان يرى أن المسيح يأتي ليقيم عصرًا من السعادة قبل ألف عام من حصول القيامة، وهو الرأي الذي رفضه مجمع نيقية، وقد استخدم أو أَوَّل ما قرَأه من آراء سرنثيوس تعبيرًا عن بدايات فلسفة غُنُوصِية مسيحية ما زالت غير ناضجة ومتأثِّرة بخليط من أفكار العصر الهيلنستي.

كان سرنثيوس معاصرًا ليوحنا على ما يبدو، وكل ما نعرفه عنه يأتي من خصومه وليس منه مباشرة.

عاش سرنثيوس في مقاطعة رومانية في آسيا وهو يوناني الأصل وأسَّس مدرسة وجمَع حوله المُريدين، ويبدو أن مدرسته استمرَّت حتى القرن الميلادي الرابع، ووجدت آثارها بصفةٍ خاصة في سلاميس.

أول مَن حاول دحضه هو «إيريناوس» الذي رأى أن سرنثيوس تأثَّر بالحكمة المصرية القديمة.

فرَّق بين الله الأعلى، والإله الصانع (ديميورغوس) الذي أوْكَل له صُنع العالَم المادِّي وبذلك يكون قد استثنى «يهوا» من ذلك وجعل الملائكة شريكة للديميورغوس في صُنْع العالم المادي وليس يهوا، وهو ما يُثبِت تأثُّره بالدِّين اليهودي.

كان مفهومه عن اﻟ Demiurge (ديميورج) يعني بالضبط (الحَرْفِي) الذي سيستخدمه بعده «فالنتينوس»، وهو مصطلح أفلاطوني الأصل. ويرى أن اليديميورج والملائكة يَجْهَلون وجود الله الأعلى. وكان يَرى عكس الغُنُوصيين بأن هذا الديميورج كان جيِّدًا وخيِّرًا، وبذلك يكون قريبًا من رأي فيلون في اللوغوس وبعيدًا عن ما سيعرضه لاحقًا فالنتينوس عن مفهوم «الديميورج» أو الحرفي.
figure
الديميورج الذي غالبًا ما يُصُوَّر كثعبان بوجه أسد.
كان سرنثيوس يرى أن تحقيق الخلاص يتم عن طريق اتباع الشريعة الموسوية، وتُسمَّى نظرَتُه هذه في الخلاص (أو في علم الخلاص Soteriology) ﺑ (الشريعية Legalism)، وهذا الرأي يتناقش مع ما قرَّره مجمع أورشليم (٥٠م) حول موضوع الخَلاص، عندما طالَب بولس «الطرسوسي» ألَّا يكون الخلاص عن طريق الختان، وأن يتم التوقُّف عن تطبيق الشريعة الموسوية.

ربما كان سرنثيوس قد تَلقَّى الكتاب غير القانوني المُسمَّى «جيمس» (وهو أحد مخطوطات نجع حمادي الغُنُوصِية) وظهر ادِّعاءٌ حوله، في القرنين الثاني والرابع، بأنه قد يكون هو المؤلِّف الحقيقي ﻟ «إنجيل يوحنا» و«سفر الرُّؤيا»، وهناك إشارات تُؤيِّد أن الرؤيا الأخروية (أبوكالبسي) ليوحنا تُؤكِّد أن سرنثيوس الغُنُوصي هو مَن وضعها. وهذا ما يؤكده تلازُم اسِمَي يُوحنَّا وسرنثيوس في الكثير من المَراجِع القديمة والحديثة.

كان سرنثيوس الأول في طائفة تُدْعَى الدوسيتية (Docetism) ومعنى هذه الكلمة هو «يظهر»، وقال أتباعها بأن يسوع لا يملك جسدًا ماديًّا، ولكنه يبدو أو «يظهر» بجسد مادي وهو كائن روحي ولا يمكن أن يكون له جسد، لكنه حلَّ في جسد مادي. وأن الكائن الروحي غادَر جسده المادي عند الصلب.

وهناك بعض الدوسيتيين يزعمون أن الذي صُلِب هو ليس يسوع، بل هو إمَّا يهوذا الإسخريوطي، أو سمعان القورينائي.

(٢) باسليدس (١٢٠–١٤٠م) Basilides

figure

عُرف باسليدس في الإسكندرية في حدود النصف الأول من القرن الثاني للميلاد (١٢٠–١٤٠م) وكان خطيبًا مسيحيًّا وداعيةً أخلاقيًّا قبل أن يكون فيلسوفًا، وكان هَمُّه الرئيس هو البحث في مشكلة الشر، وإبعادها عن العناية الإلهية؛ أي إنه لا يرى — مطلقًا — أن الله يحتوي على الخير والشر معًا؛ ولذلك كان لا بُدَّ أن يضع الشر على عاتق مخلوق آخر هو الشيطان.

هذه الصورة وجَدَها ناصعةً في الزَّرادُشْتية التي تصنع الخير المطلق في أهورا مزدا، والشَّر المُطلَق في أهريمان، لكنه مزجها بتصورات أفلاطون عن الإله الواحد ذي الخير المُطلَق.

فكان في المقام الأول داعية أخلاقيًّا، «تستحوذ على مجامع نفسه مشكلة الشر ومشكلة تبرير العناية الإلهية»، فكان يقول: «لكم ما شئتم إلا أن تُلْقُوا بِتبعَة الشر على عاتق العناية الإلهية.» وما كان يمسك — تفسيرًا منه لعذابات الشهداء — عن التسليم بأنهم قَارَفُوا الخطيئة في حياة سابقة. وكان يرى — على أية حال — أن مصدر الخطيئة هو الهوى، وأن الهوى روح خبيث يَدلِف إلى النَّفْس من الخارج ويُلوثِّها. وقد تأدَّت هذه النظرات إلى ضرب من ثنوية خلقية، نلقى نظيرها لدى أفلاطون (بريهييه، ج٢، ١٩٨٨م، ٣٠٧).

إن باسيليدس، على غير الرواقيين الذين آمنوا بكوسموس ماديٍّ واحد، أخذ بفكرة أن الكوسموس، كما رأينا، مكوَّن من سموات عديدة، وأن العالَم المادي هو السماء الدنيا، وبالتالي فهو فاسد. وبما أن هذه السماء الأخيرة تمثل «النحب الأخير» للفيض الإلهي، إذا جاز التعبير، وأنها ليست، من أيِّ وجه، صورةً كاملة عن الألوهية الحقيقية، فإن اعتناق قوانينها لا يمكن له أن يُفضي إلى أيِّ خير. لا بل إن الجسم، بما أنه الوسيلة التي يستخدمها حاكِمُ هذا الكوسموس المادي لفَرْض قوانينه؛ فإن بلوغ الحرية مشروط بالتخلِّي عن جميع النوازع والرغبات الجسدية، أو ﺑ «عدم الاكتراث بها». غير أن عدم المبالاة (Adiaphora) هذا بنوازع الجسد لا يؤدي إلى مجرَّد تَنسُّك راكد. فباسيليدس لا يدعو مستمعيه إلى ترْك العالَم المادي، بما يجعلهم يذوبون في السلبية، بل هو يقدِّم لهم حياة جديدة، متوسلًا التراتبية العظمى من الحكَّام التي تُشرِف على العالَم المادي (مقطع د). فحين يلجأ المرء إلى المرتبة العظمى للوجود تكون النتيجة «خلق أشياء طيبة» (المقطع ج، الترجمة معدَّلة). الحب والإبداع الشخصي، استيلاء الخير، هما النِّتاج الأخير لنظام باسيليدس الجَدَلِي المُلتبِس؛ ولهذا السبب فهو أحد أهم التعبيرات الأولى للفلسفة المسيحية الحق، وإن لم تكن أرثوذكسية (إدوارد مور، الغُنُوصِية: الفلسفة والوحي، موقع معابر http://www.maaber.org/issue_february05/spiritual_traditions1a.htm.).
figure

قال باسيليدس بأن الإله الأعلى يصدر عنه «ثماني مجردات مشخصة صدر بعضها عن بعض، الواحد تلو الآخر منها الحكمة والعدالة والسلام … وأن الملائكة الأُوَل الصَّادِرين عن الحكمة صَنَعوا السماء الأولى، والملائكة الصَّادرِين عنهم صَنعوا السماء الثانية، وهكذا صُنِعت على التوالي ثلاثمائة وخمس وستون سماء، وذلك هو السبب في أن السنة تُعَدُّ ٣٦٥ يومًا» (النشار، ١٩٩٥م، ٨٢).

figure

ومما يُذكر من آراء باسيليدس أنه كان ورفاقه من الغُنُوصيين المسيحيين يميلون إلى احتقار المادة والجسم؛ ولذلك فقد حَرَّموا الزواج في الوقت الذي أباحوا فيه جميع الأفعال إعفاءً للنفس من تَبِعة ضعف الجسم! ولقد قال باسيليدس في هذا إن الشهوة الجنسية، ولو أنها طبيعية، إلا أنها ليست حاجة ضرورية.

وبالطبع فقد أنكر المسيحيون المدافعون عن العقيدة المسيحية الأصيلة ذلك، واعتبروا أن هذه الآراء الغُنُوصِية بدعة، خاصَّة ما يتعلق منها بإنكارهم لبعث الأجساد وإقرارهم برَداءة المادة ودونيتها (النشار، ١٩٩٥م، ٨٢).

(٣) فالنتينوس (فالانتاين) (١٠٠–١٦٠م) Valentinus, Valenttius

figure

فالانتينوس أو فالانتيوس أو فلانتاين اسم واحد للفيلسوف الغُنُوصي المسيحي الشهير الذي كان لاهوتيًّا معروفًا في روما.

ويجب الحذر من اعتبار اسمه الذي يُطلقُ على «عيد الحب»، حيث كان هذا يُطلَق على بعض الشهداء المسيحيين من القديسين الأوائل، ومنهم مَن عاش في روما حيث قُتل فلانتاين في ٢٦٩م المدفون قرب فيلا فلامينا بأمر من الإمبراطور الروماني كلوديوس الثاني الذي منع زواج الشباب من أجْل تجنيدهم في جيشه، لكن فالنتاين رفض هذا القرار فأصبح يوم إعدامه في ١٤ شباط عيدًا للحب، رغم أن هناك من يُقدِّم أدلة كافية على أن فالنتينوس الغُنُوصي هو صاحب عيد الحب، والأمر ما زال خاضعًا للجدل.

وُلِد الغُنُوصي فلانتينوس في الدلتا «شمال مصر» من أسرة مصرية هيلنستية، ودرس في الإسكندرية، وأصبح معلمًا فيها، ثم رحل إلى روما وقضى فيها واحدًا وثلاثين عامًا (١٣٦–١٦٥م). وأصبح ثيولوجيًّا (لاهوتيًّا)، ورُشح لكي يكون أسقفًا في روما، وعندما لم يصبح أسقفًا كانت أفكاره الغُنُوصِية جاهزة للإعلان فأعلنها وأصبح غُنُوصيًّا مسيحيًّا وخرج عن الأمة المسيحية الأصولية.

له مؤلَّفات كثيرة لم تَصِل كلها، ووصلَت أغلب أفكاره من خلال تلاميذه. وقد تأثَّر فالنتاين بآراء باسيليدس، لكنه اختلف عنه في جعله الصدورات الإلهية (الأيونات) مزدوجة وليست فردية كما عند باسليدس.

على أن فالنتينوس، وكان فِكْره أكثر اتِّشاحًا بالطابع الميتافيزيقي من فكر بازيليدس، استخلص من تلك النظرات عَينِها، نتائج معاكِسة تمامًا للأفلاطونية. فقد بحث في أصل الإنسان عن تفسير للثنوية التي عاينها فيه. فهذه الثنوية بين الروح والجسد تُناظر ثنوية أعمق وأبعد غَورًا بين خالِق هذا العالَم، الفاطر، المخفور بملائكته، الذي يتكلم عنه سِفر التكوين، وبين الإله العَلِي أو الإله الطيب. فبمقتضى قصة سفر التكوين، وبمقتضى تأويل فيلون الإسكندري لها، على الأقل جزئيًّا، قال فالنتينوس: إن الإنسان خَلقَه الفاطر والملائكة، وهي كائنات شريرة وأرواح نجسة، عن طريقها تَدلِف إلى الخليقة الانفعالاتُ والأهواءُ. وهذه الخليقة هي عَينُها التي أضاف إليها الإله العلي أو الإله الطيِّب بذرة من الجوهر العلوي: الروح (بريهييه، ج٢، ٣٠٧).

يُرجعُ فالنتينوس ثنائية الخير والشر، أو الروح والجسد عند الإنسان إلى ثنائية إلهية؛ حيث يرى أن هناك إلهين في الأعالي، الأول الذي هو الأعلى والأرفع هو الإله الخَيِّر الطيب الذي أنزل الروح في الإنسان وهو سبب الخير، أما الإله الأسفل فهو الإله الصانع المحاط بالملائكة وهو، بنظره، إله التوراة؛ أي «يهوا» وهو إله الشر والمادة والذي صَنع جسد الإنسان.

استطاع أن يُبرْهِن أن المسيح (Christ)، الفادي، الذي سَيُحرِّرنا من سلطان الفاطر، ليس هو بحال من الأحوال المشيح (Messie) اليهودي الذي تَنبَّأ به الأنبياء، ولا يشق عليه أن يثبت، استنادًا إلى الفهم الحرفي للنصوص، أن ما من قَسَمة من قَسَمات المشيح تَلتَقى لدى المسيح. ومن جهة أخرى، أنه لا يستطيع التسليم بأن المسيح، مبعوث الإله العلي، يمكن أن تكون له — حقًّا — طبيعة جسمانية؛ أي أن يشارك بصورة من الصور في عالَم الفاطر، ومن ثم نراه يفترض أنه تَجلَّى على حين بَغتة في هيئة بشر، وأن جِسمه ظاهري ليس إلا. ومن هذه النظرات استخلص مَرقِيُون نزعة زُهْدية مُتزمِّتة، تَحظُر الزواج، وتجعل من التَّعفُّف شَرْط المعمودية، فعلى هذا النحو يمكن للإنسان أن يُفلت بإرادته، على الأقل، من عالَم الفاطر. (برهييه، ج٢، ١٩٨٨م، ٣٠٨).

ولأن فلسفته ولاهوت فالنتاين أصبح العمود الفقري للفلسفة الغُنُوصِية؛ ولذلك سنتناوله بشيء من التفصيل.

يَتكوَّن لاهوت فالنتاين من مستويات عِدَّة يجري فيها كائنات إلهية؛ وهي: «الأب، الابن، الأيونات، صوفيا، السقوط، اتحاد الأيونات، معاناة الحكمة السُّفلى، الابن النازل للحِكمة السفلى، خَلْق المادة» مُستعينِين بمراجع كثيرة منها «إنجيل الحقيقة» لفالنتينوس وكُتب توضيحية أخرى لفلسفته.

(٣-١) الأب

الأبُ هو الله، الأعلى، غير المخلوق وغير المعروف، والغامض الذي لا يمكن مشاهدته أو سماعه؛ فهو لا نهائيٌّ بلا بدايةٍ ولا نهاية، وهو أصل كلِّ شيء.

يحمل الله صفات الذكورة والأنوثة معًا، كما يرى ذلك أتباع فالانتينوس؛ فهو الأب والأم؛ لأنه يثمثِّل شَكْلَي الوجود. الجانب المُذكَّر من الله هو الصَّمْت وله أسماء سلبية غير موصوفة، أما الجانب المُؤنَّث فهو الحركة ذات الوضع الإيجابي.

الصمتُ هو الحالة الأولى لله، وعندما يَتحرَّر الله من صمته تظهَر منه مجموعة من الكائنات الإلهية التي تُسمَّى الأيونات (الدهور) (Aeons)، وهي كائنات غير منفصلة عن الأب بل هي الوجه الآخر له، ويمكن أن نُشبِّه علاقتها به مثل الماء والرطوبة.

(٣-٢) الابن

كان الأب يقع فوق الحد الأول (الأعلى)، ولكن ظهور الأيونات، ثم ظهور الابن أظهر عالَمًا جديدًا هو عالَم الملأ (الامتلاء) الذي يقع تحت الحد الأول. وعالَم الملأ تَكوَّن من عمليات انبثاق مُتلاحِقة من الأب، أما الابن (ابن الله) فهو العقل والحقيقة وهو الذي ظَهر منه بإرادته، وهو عند فالنتينوس «المسيح» الذي سَيتجلَّى لاحقًا والموجود الآن في تكوين الأب، والذي سَيرسلُه الأب لإنقاذ الأرواح في العالَم المادي.

هو الابن الوحيد للأب وهو شكلٌ ذَكرِي، أما صيغة الأنوثة المقابلة فَتسمَّى «الحقيقة» وهي أم الكل.

العلاقة بين الأب والابن يمكن مقارنتها بالعلاقة بين عقل الإنسان (الشعور) واللاشعور حيث يتضمن ذلك وجود الابن ضمن الأب.

(٣-٣) الأيونات وعالَم الملأ

الأيونات كائنات مستوحاة من الأب، وهي عبارة عن أزواجٍ مُكوَّنة من ذكرٍ وأنثى، وهي تَجلِّيات طاقة الله. تملأ الأيونات عالَم الملأ وعددها ثلاثون، وهي عبارة عن جيلين:
  • (١)

    الجيل الأول: أَيُونات المفاهيم الكبرى لحياة العقل وعددها أربعة أزواج؛ أي ثمانية أَيُونات ذكرية وأنثوية.

    الذكرية الأنثوية
    الكلمة الحياة
    العمق الصمت
    إنسانية الفرد الجماعة (الكنيسة)
    العقل الحقيقة

    ويمثل الزوج الأول «الكلمة، الحياة» «لوغوس الحياة» الصفات الإلهية وتَتبَعه صفتان إلهيتان هما «العمق، الصمت».

    أما الزوج الثالث «الإنسانية والجماعة» فيُمثِّل صيغة المخلوق الإلهي، وتتبعهما صفتان تخصانه وهما «العقل، الحقيقة».

  • (٢)

    الجيل الثاني: وتتكون من مجموعتين: الذكرية هي الملائكة، والأنثوية هي البذور.

    • (أ)

      مجموعة أَيُونات استقرار حياة الألوهية: وهي خمسة أزواج (١٠ أَيُونات) ظهرَت من الزوج الأول في الجيل الأول «الكلمة، الحياة» فهي صفات لاستقرار حياة إلهية وهي كما يلي:

      الذكرية الأنثوية
      العميق الخليط
      الخالد الاتحاد
      الذاتي الولادة اللَّذة
      اللامتحرك الخلط
      الوحيد الولادة الطوبى (الوحدة)
    • (ب)

      مجموعة أَيُونات الفضائل البشرية التي تُنتِج الكمال من خلال الاتحاد مع الجماعة: وهي ستة أزواج (١٢ أَيُونًا) ظهرت من الزوج الثالث في الجيل الأول «الفرد، الجماعة» فهي صفات بشرية مثالية تنتج الكمال من خلال اتحاد الفرد في جماعته، وهي:

      الذكرية الأنثوية
      المؤازر الإيمان
      الأبوي الأمل
      الأمومي الحب
      التدفق المبدع الفهم
      الجماعي النعيم
      الرسامي صوفيا (الحكمة)

هناك إذن ثلاثون أَيُونًا أولها اللوغوس (الكلمة) وآخرها صوفيا (الحكمة)، وترتبط هذه الأيونات مع بعضها وتجتمع في الابن، وهكذا يتكون اسم الابن من ثلاثين حرفًا، ولكنَّ كلَّ حرفٍ من هذه الحروف يتكون من تشكيلات صوتية؛ مثلًا حرف دلتا في اللغة اليونانية يتكون من أصوات (د، ل، ت، ا) والحقيقة أن هذا يُوحِي أن الله الأب بدأ الخَلْق عندما نطَق فخَلق عالمًا روحانيًّا هو الملأ الأعلى من الأقوال والمفاهيم، «سُميت أَيُونات» لكن هذه الأيونات اجتمعت في اسم الابن على شكل حروف لها أصوات مفصَّلة.

ويُظهر هذا المجال الروحي المثالية المسيحية (اللوغوستية بشكل خاص)، ويمثل نموذجًا لهذا العالم.

إن عالَم الملأ الأعلى الذي مَلأ الحدَّ الأول للخَلْق هو عالَم لغوي لوغوسي روحاني عبارة عن أقوال الخالق الثمانية الأولى التي أنتجت جيلين؛ أحدهما يُناظِر العالم الإلهي النموذجي «١٠ أَيُونات»، والثاني يُناظِر العالَم البشري النموذجي القادم «١٢ أَيُونًا». وتكون حياة كلِّ واحد من الأيونات كاملة فقط في عضويتها في الامتلاء والكلية.

إن الأيونات الستة والعشرين (الأربعة من الجيل الأول الآباء واﻟ ٢٢ من الجيل الثاني الأبناء)، هي مرتبطة بالابن (بينما الأيونات الأربعة مَشدودة للأب) وهي تُمثِّل عناصر غير متكاملة لشخصية الابن.

(٣-٤) الأيونات تسعى لمعرفة الأب وتَسقط في الخطيئة

كان الابن هو المُمثِّل الوحيد لمعرفة الأب الأعلى، أما الأيونات فكانت غير مرئية وغير مُتصوَّرة، ويتضح هذا عندما يناقش القديس بولس سر اختفاء الأيونات في الله، والأمر هنا طبيعي جدًّا، وذلك للحَدِّ من المصير الذي ينتظر الأيونات، فهي مختفية في كنَف الله (الأب).

في «إنجيل الحقيقة» يصف فالنتينوس كيف أن الأيونات تَتُوق لمعرفة الأب الواحد الذي ظَهرت فيه ومنه، ولكن هذا سَيؤدِّي حتمًا إلى كارثةٍ؛ لأن الجهل بالأب من قبل الأيونات يُؤدِّي بها إلى الخوف والتحريض اللذين ينموان بكثافة مثل الضباب بحيث لا يُمكِن لأحدهم أن يرى شيئًا. ومن هنا ظَهَرت الخطيئة بسهولةٍ، حيث ظَنَّت الأيونات أنها موجودة أصلًا بلا سبب، ومُستقِرَّة في عوائلها الزوجية «على غرار النموذج المادي»، وقد أغواها الجمال بدلًا من الحقيقة، هذا التصور الكوني المادي المُتدنِّي هو الذي دفعها إلى الخطيئة والاستقرار في «شكل نموذجي» مثل «الجسد البشري».

(٣-٥) سقوط صوفيا (الحكمة)

وعلى أساس ما حصل، كانت آخِر وأصغر الأيونات الاثني عشر التي هي صوفيا (الحكمة)، قد بَحثَت عن الأب نيابةً عن الملأ (الامتلاء الأبوي)؛ ولأنها حاولَت معرفة الأب دون مساعدة الابن «الذي هو الوحيد القادر على تجسيد الأب»، ولذلك وقعَت في الخطيئة، وأصبحت منفصلةً عن قرينها «الرسامي»، وسقَطَت في نوعٍ من المعاناة والخطأ. ويُشبِه هذا ما حصل لحواء مع آدم «في سفر التكوين في التوراة» عندما حاوَلَت حواء المَعرِفة؛ فوقعَت في الخطيئة.

إن صوفيا أرادت أن تكون مثل الأب أو تَتشبَّه به فوقعت في الإجهاض؛ حيث عانت في جهلها الحزن والخوف والارتباك، ولكنها، في محنتها هذه، تابت وبدأت مرافعةً وطلَبت الحصول على مساعدة، وكانت الأيونات الأخرى قد سقطت في الأسى والحُزن أيضًا.

عن طريق الحدِّ الثاني من الحدود انقسمَت صوفيا إلى قسمين؛ هما: «النَّفْس العليا، والنَّفْس السفلى»، وتَم استبعاد النَّفْس السفلى من جسمها «عن طريق الإجهاض»، بالترافق مع معاناة الملأ الأعلى، وتمَّ تعزيز النَّفْس العليا منها، وعادت إلى جَمْعِها الأيوني مُقتنعةً بأن الله غير قابل للمعرفة؛ (أي يصعب معرفته تمامًا).

إن أفعال الحكمة هذه خدَمَت ظهور انفصالٍ وخَللٍ في عالَم الملأ، وكان الإجهاض هو التعبير عن الرغبة المُشترَكة من قِبَل كل الأيونات لمعرفة الأب الأعلى، وكانت النتيجة النهائية لهذه العملية هي مُحاصَرة صوفيا السفلى (كتفكيرٍ مُجهَض)، ودفعها خارج الملأ الأعلى باتجاه عالَم الجهل والمعاناة. وقد حصلت هذه العملية بالاتفاق مع ما رسَمه الأب، وهو ما يجعلنا نُسمِّي قرين الحكمة بالرسامي (Ordain).
figure

(٣-٦) توحيد الأيونات

من أجل أن لا تحصل مثل هذه الأنواع من الأزمات أظهر الابن نَفْسَه في شكلين: الأول ذَكَرِي هو «المسيح»، والثاني أنثوي هو «الروح القُدُس»، وظهر نشاطهما بين الأيونات كنماذج أولية «أركيتايب» لهيئة مؤلَّفة من «يسوع» و«الروح» في الجماعة (الكنيسة) الأرضية.

كَشَف المسيح للأيونات الأخرى أن الأب غير مُدرَك، وأنه لا يمكن أن يكون معروفًا حتى بالنِّسبَة له، أما الرُّوح القدس فقد قَدَّمَت الشكر لهم وجعَلَتْهم على قَدَم المساواة، وهذا هو التَّعمِيد بأسمى معانيه، وهو ينطبق على الأيونات، وعلى الجماعة البشرية. وكما يقول فلانتينوس: الأب يكشف حِضْنه، وحِضْنه الآن هو الرُّوح القُدُس. وهو يكشف الجزء الخفي منه، وابنه هو هذا الجزء الخفي منه أيضًا؛ أي «المسيحي».

ومن خلال هذا سيكون من المُقنِع أن تكفَّ الأيونات مُستقبَلًا البحث عن الأب وعن محاولة معرفته، فتكون بذلك مُستقِرَّة فيه ولا تنفصل.

وهكذا تكون الأيونات قد انضمَّت لبعضها، وأصبحت مُتَّحِدة في الابن الذي يُسمَّى أيضًا «المخلِّص».

إن المخلِّص هو الاسم الكامل لجميع الأيونات وهي تُنْطقُ سويةً، بمعنى أن اسم المخلِّص يتكون من ثلاثين حرفًا (أيونًا)، ونحنُ ننطقها جميعها في كلمة «آمين» عند الصلاة كما يصرح مرقس بذلك.

المخلِّص يَتلقَّى أيضًا ألقاب «الكلمة» والمسيح يَتلقَّى الكيانات المكوِّنة له، فهو الكلُّ ويسكن في الامتلاء الكامل للألوهية. وبذلك يكون الابن هو المعبِّر عن الملأ الأعلى بعد أن اتَّحدَت به الأيونات.

وإذا خرج المُخلِّص وشريكه يكون الذَّكَر العريس ويَسقُط خارج الحدود مع الحكمة، وتَظهَر عناصر المخلِّص في كل مسيحي، يشبه ذلك أشعة الشمس فهي لا تُفرِّق بين الأفراد بل تُمثِّل ثراءَ حركة يسوع.

(٣-٧) معاناة الحِكْمة السفلى (صوفيا السفلى)

بسبب السقوط الإجهاضي للحِكْمة السفلى في عالمٍ سفليٍّ يجتاحهُ النقص والعوز وهو عالَم المادة، وكما أن عالَم الملأ الأعلى هو الآن من إنتاج الابن الذي يقع داخله، وكذلك صوفيا السفلى أنتَجَت العالَم المادي، وأصبَحَت في داخله، وكما أن هذا النَّقْص حصل نتيجة الجهل، فإن حَلَّه سيكون عن طريق المعرفة.

الحكمة الساقطة أحيانًا تُسمَّى (أخاموث Achamoth) وهي كلمة عِبْرية تُعبِّر عن الحكمة، والرُّوح القُدُس بعد ارتباطها بالمسيح، وهي أورشليم السماوية (في سفر الرؤيا ٩: ١٠–٢١)، والخِراف الضَّالَّة في المثل (في مَتَّى ١١: ١٤–١٨) والمحاصَرة بعالَم ناقص وبجهل أصلها الحقيقي، وهي النموذج الأول الأصلي (أركيتايب) للفرد.
figure
صوفيا السفلى: صوفيا أخيموث Sophia-Achemoth.

حاولَت الحكمة الساقطة سَعْيَها لمعرفة عظَمة الله دون معرفة المسيح، وقد مَنعَها هذا من الصعود إلى الملأ الأعلى؛ ولذلك استمرَّت معاناتها من الخوف والحزن والارتباك، وعاشَت في العالَم كمكان للأوهام؛ لأنها غير قادرة على التمييز بين الواقع والخيال.

إن حالة الوَهم والمُعاناة (التي هي النقص)؛ هي جَوْهَر العالَم الذي يعيشهُ كل أولئك الذين يَجهلُون الله.

خضعَت الحكمة (صوفيا) للتحوُّل، وفَكَّرَت في ذلك الذي وهبها الحياة، ونتيجة لذلك أصبَحَت مَرِحةً وضاحكة، وطلبت المساعَدة؛ لأنها تُمثِّل الطريق الوسط بين الجهل والمعرفة الروحية، فهي تُمثِّل الحنين لله من جهة، ولكنها تُشير إلى أنها أصبحَت شبيهة لما نسميه ﺑ «الصانع أو الإله الصانع أو الخالق Craftsman» الذي هو بمثابة ابنها دون أن يعلم، وهي بذلك تُشبِه الذين يُمثِّلون صورة أولئك الذين يجهلون عبادة الله بسبب الخطأ رغم توبتهم.

(٣-٨) الابن ينزل إلى الحِكْمة السفلى

ردًّا على احتجاج الحِكْمة السُّفلى في كونها قد نزَلَت إلى عالمٍ غريبٍ عنها يقوم الابن بالنزول إلى الحِكْمة السفلى من الملأ الأعلى باتجاه النقص مع مُرافقيه من الملائكة، ويُصبح هو والحكمة كزوجٍ من الأيونات، ومن خلال معرفة العالَم الأبدِي «الذي يعلمه لها الابن» تبدأ هي بالتَّحرُّر من مُعاناتها.

وتبتهج الحكمة (صوفيا) لمرأى المخلِّص وحاشيته من الملائكة، وترى «البذور الروحية» في صورهم، وهذه البذور هي العنصر الروحي الموجود في كلِّ مسيحي، ولهذا يُشار إلى هذه البذور ﺑ «الجماعة أو الكنيسة»، فهي تُشير إلى الجماعة في الملأ الأعلى؛ أي الأيونات المُتَّحِدة بالابن.

البذور الأنثوية، والملائكة الذَّكَرِية؛ هي ما أشارَت له عبارة: «على صورة الله خلقهم ذكرًا وأنثى.» (التكوين ١: ٢٧)، ويكون المُخلِّص عريسًا للحكمة (صوفيا)، ولذلك تكون الملائكة أزواجًا للبذور في نهاية الزمان.

وهكذا تظهر ثلاثة أنواع من المادة خارجة من الحكمة (صوفيا) نتيجةً لسعيها لمعرفة الله وهي:
  • (١)
    الخياليون أو الجهلة (Illusion) التي تتميز بوجود المعاناة والجهل.
  • (٢)
    المُتحوِّلة والمُحْتجَّة (Conversion and pleading) التي تُمثِّل مرحلة وسطى بين الجهل والمعرفة.
  • (٣)
    البذرة الروحية (Spirtual seed) التي جاءت من المعرفة.

يمكن فَهْم أسطورة مُعاناة الحِكمة وخلاصها النهائي بوصفها رمْزَ التطور الروحي للفرد، حيث البحث عن الله من خلال التفكير وحْدَه وبدون المسيح، وهو ما يُؤدِّي إلى المعاناة والنقص والوصول إلى مفهوم خاطئ عن الله باعتبار المسيح تجسيدًا له وهو ليس كذلك؛ لأن المخلِّص تَدخَّل لكي يُصحِّح فَهْمَنا لا لكي يُوقِعَنا في خطأ جديد، فمن خلاله نعرف الله ولا يمكن أن نظن أنه هو الله.

(٣-٩) خلق المادة

كان خَلْق المادة لا بُدَّ منه لحبس ومَنْع البذور الروحية من أن تَنضج، ولكي تقوم المادة بِسَجْنها وعدم عودتها إلى الملأ الأعلى؛ ولأن الحكمة (صوفيا) غير قادرة على خَلْق هذا العالَم مُباشَرة فقد أثَّرَت على ابنها «الحرفي» ليخلق العالَم المادِّي ويعطي الأشياء شَكْلَها، ومن خلاله صُنِعَت السماء والأرض.

الحرفيُّ يجهلُ أُمَّه ويعتقد أنه يعمل لوحده، ولكنه يَتصرَّف من دون وَعْي كوكيلٍ لها، فهو يخلق — بتأثيرها غير المباشر — سبعة كائنات ملائكية هي «السموات السبع»، ويسكن فوقها؛ ولهذا يسمى ﺑ «السابع»، وتشير السموات السبع إلى أيام الخَلْق السبعة (في سفر التكوين مثلًا)، أما صوفيا (والدة السابع) فتَسكُن في السماء الثامنة.

لقد أثَّرَت صوفيا والمسيح سرًّا في «الحرفي» ليخلق عالَم المادة مُشابِهًا لعالم الروح (الملأ)؛ لكي تظهر الحقيقة في العالَم المادِّي مُناظِرة لها في العالَم الروحي الذي يريد البحث عنها حتى وهو في خِضَمِّ الوهم والنقص.

كذلك تمَّ خلق وتَشكيل الإنسان من قِبَل «الحرفي» على صورة «قبل وجود البشرية Pre-existent humanity».

أي على صورة روحية. ومع ذلك فهي تختلف عنها قليلًا بسبب العنصر المادي، فهي تتكون من: جسد مادي، عنصر شيطاني، بذرة روحية.

البذرة الروحية وحْدَها هي القادرة على تحقيق معرفة (غنوص، عِرفان) الله من خلال وَسَاطة يسوع. وهنا تختلف غُنُوصِية فالنتينوس المسيحية عن غُنُوصيات أخرى؛ فهي لا تَعتَبِر الروح أو النَّفْس قادرة على إدراك أو معرفة أصلها الإلهي (وليس السماوي)، بل هي تُحقِّق ذلك بوجود المخلِّص الذي هو المسيح.

إن كل شخص يَصِل إلى المعرفة يُحطِّم جرءًا من النَّقص الذي فيه، ويُحطِّم العنصر المادي الذي فيه، ويُمسك بالألوهية خطوة بعد خطوة لإعادة دَمْج البذرة الروحية بأصلها الإلهي، وفي النهاية سَيَكون هناك إعادة اندماج شاملة؛ حيث إن إتمام أو نهاية العالَم تَحدُث عندما تأخذ الأرواح شَكْلَها عن طريق المعرفة الإلهية.

ثم تُوضَع الأرواح جَنْب النفوس مع والدتهم «صوفيا» ويدخلون الملأ الأعلى، وتنضمُّ صوفيا التي هي أورشليم الجديدة، بعريسها المخلِّص، وبالمثل تَنضمُّ إلى أرواح الملائكة.

وفي العالَم تظهر النار المُخبَّأة فيه، وتنشب في المادة، وتُدمِّر الحرائقُ كلَّ أشكال المادة وتُحوِّلها إلى عدَم، ويزول العالَم المادِّي من الوجود، ويتم القضاء على النَّقص، وتكون عملية استعادة الأرواح من العالَم قد اكتَملَت.

إن هذا المُخطَّط الغُنُوصي المسيحي يُؤكِّد على المَبدأ أكثر من تأكيده على المَعاد؛ فهو يُفْرِد فقرات طويلة لنشوء العالَم الروحي ثم العالَم المادي. وهو يحتذي حذو المُخطَّطات الغُنُوصِية عمومًا.

هذا يبدو وكأنه ردُّ فالنتينوس على مُعضِلة ديمومة الخلاص: بما أن صوفيا أو «الأم» الإلهية، وهي فَرْدٌ من الملأ الأعلى، قد سَقَطتْ في الضلال، كيف يمكن لنا التأكد من أننا لن نَقترِف الغَلَط نَفْسَه أو غلطًا مماثلًا بعد أن نبلغ الامتلاء؟ فبإعلانه أن دورَ «المُصطَفى» (أو المسيحي الغُنُوصي) ومُهمَّتَه هي استنفاد الموت، و«إعدام» العالم، يوضح فالنتينوس موقفه الذي مُفاده أن تلك النُّفوس المُختارة نُفوس مُشارِكة في خلاص العالَم، إلى جانِب المسيح، الذي كان أول مَن حمَل الخطيئة والفساد المُتأصِّلَين في العالَم المادي (راجع، إيريناوس، ١.١١.١؛ وليتون، ص٢٤٠)؛ لذا، بما أن «أجرة الخطيئة هي الموت» (الرسالة إلى الرومانيين ٦: ٢٣). فإن أيَّ كائن قادرٍ على تحطيم الموت لا بدَّ أن يكون معصومًا من الخطيئة. ففي نظر فالنتينوس، إذن، أن الفَرْد المُقدَّر له أن يُخلِّص؛ مُقدَّر له، أيضًا، نوعٌ من الخلافة الإلهية تَتضمَّن دورًا فاعلًا في التاريخ، وليس مُجرَّدَ راحة مع الله، أو حتى حياة غِبْطة مِن الخلق المحب، كما ذهب باسيليدس. طالَب فالنتينوس مُستمِعيه — على غرار بولس — بالاعتراف بمخلوقيَّتهم؛ إلا أنهم — خلافًا لبولس — اعترفوا بخالِقهم بوصْفِه «الوالد اللاموصوف»، وليس كإله الكُتُب المُقدَّسة اليهودية. وبعد فالنتينوس، أضْحَت مهمةُ التأويل المسيحي إثباتَ الاستمرارية بين العهدين القديم والجديد. وفي هذا الصدد، وكما في الروحانية العامة لتعاليمه — ناهيك عن عقيدته البدائية في التثليث — كان لفالنتينوس وَقْعٌ لا يُجارَى على تطور المسيحية (إدوارد مور، الغُنُوصِية: الفلسفة والوحي، موقع معابر http://www.maaber.org/issue_february05/spiritual_traditions1a.htm).

إن فالنتينوس فيما سبَق إنِّما يُقدِّم قصة الخليقة من منظور مسيحي مَشُوب بالكثير من الأفكار الشرقية واليهودية، بل والإلحادية الفلسفية، فالله كما هو واضح فيما سبق ليس خالِق الإنسان، بل خلقه الصانع. لكن الله أراد أن يُخلِّص البشرية من دنسها فأنزل إليها المسيح من السماء بهذه الصورة غير الإلهية (غير المادية)، فكأنه كائن وسط بين الكائنات السماوية والكائنات البشرية، وقد فسر ظهوره على هذه الصورة غير الإلهية (غير البشرية) على أساس اعتقاده برداءة المادة. (النشار، ١٩٩٥م، ٨٣).

(٤) مَرقِيُون Marcion (٨٥–١٦٠م) Marcion of Sinope

figure

هو مَرقِيُون السِّينُوبي ابن أسقف سِينُوب في إقليم البنطس (على شاطئ البحر الأسود). أصبح غَنيًّا وتأثَّر بالأفكار الغُنُوصِية فأغتاظ والده منه وطرَده من الكنيسة الأرثودوكسية. هاجَر من سِينوب في أرجاء آسيا الصغرى ثم وصَل إلى روما، وفيها أنضج عقيدته المسيحية الغُنُوصِية والتفَّ حوله جماعة، وكوَّن كنيسة غُنُوصِية في أرجاء العالم المسيحي، وكان معاصرًا لباسليدس، ولكنه جاء بعد فالنتينوس، وقد طوَّر غُنُوصيته في الاتجاه الذي بدَأه بولس وهو تخليص المسيحية من اليهودية.

وقد رفَض التوراة والإله يهوا، ولم يَقبَل إلَّا بإنجيل لوقا وببعض رسائل القِدِّيس بولس وحرَمَته الكنيسة عام ١٤٤م، وكَتَب ضده يوستينوس وفَنَّده ترتليانس بكتابه «ضد مَرقِيُون»، وقد بَشَّر بأفكاره في الإسكندرية أيضًا.

وكان النِّظام الغُنُوصي لمَرقِيُون يَقضي بأن «يهوا» هو الإله الصانع لهذا العالَم الشرير والمادي، وأنه ليس أبًا للمسيح الوديع؛ فيهوا إله حرب، وصارم، وغاضب، ومُتوعِّد كما يصفه العهد القديم، وقَد تساءل مَرقِيُون ذات مرة: أيُّ إله خير تطاوعه نفسه بأن يقضي على البشر جميعًا بالشَّقاء؛ لأن أباهم الأول أكل تفاحةً، أو في المعرفة أو أحب امرأة؟!

أما الإله الخيِّر فهو أبو المسيح الذي أرسل ابنه إلى الأرض في جسم طَيفِي غير حقيقي وكَسَب مَيْزة البَعث الروحي الخالص … ليخلص روح الإنسان من قالب الشَّرِّ الذي هو جِسم الإنسان.

ولذلك رفض مَرقِيُون شريعة اليهود وناموسهم مُتَّبِعًا ما فعلَه بولس، ولكنه تَطرَّف كثيرًا عندما دعا إلى نَبْذ الزواج، واللذات الجنسية، وقهر الجسد بالزُّهد والتقشف، وقد كان له كِتاب أو إنجيل جديد صاغه من إنجيل لوقا ورسائل بولس. رفض مَرقِيُون أن يكون المسيح هو المشيَّا المذكور في العهد القديم ليقطع علاقة المسيحية بالدين اليهودي، ولينشِئ دينًا مسيحيًّا جديدًا.

وفي حين أن مُفكِّرِين مسيحيين آخَرِين من ذلك العصر قد اشتغلوا على التفسير المجازي للعهد القديم بُغْيَة التوفيق بينه وبين تعاليم العهد الجديد، أجاز مَرقِيُون للعهد الجديد — وإنْ في نسخته الشخصية منه — مُخاطبَتَه كصوت مرجعيٍّ فريد، فصاغ مذهبه وفقًا لذلك. وهذا المذهب لم يُشدِّد على غُرْبة البشر الجذرية عن هذا العالَم الذي اتَّفق لهم أن يُولَدوا فيه وحسب، بل كذلك على افتقارهم إلى أية علاقة نَسَبية مع الإله الذي ضحَّى بابنه لافتدائهم — بعبارة أخرى — صوَّر مَرقِيُون البشريةَ كسلالة مُشرَّدة، من دون أيِّ وطن حقيقي أصلًا (راجع: جيوفاني فيلورامو، تاريخ الغُنُوصِية، ١٩٩٢م، ص١٦٤). والأمل في البحث عن وطن مَفقود، أو أمل العودة إلى وطن طُرِدْنا منه، كان غائبًا عن مذهب مَرقِيُون. فمثله كمثل بيكو ديلا ميراندولا، أعلن مَرقِيُون أن طبيعة البشرية هي طبيعة وسيط أبدًا، واقِف وقوفًا غير مُستقِر بين السماء والأرض (قارن: بيكو ديلا ميراندولا، خطبة في كرامة الإنسان، ٣). غير أن مَرقِيُون، خلافًا لبيكو، دعا إلى عَزْل جذري للبشرية — «قطيعة» — تصحو فيها الإنسانيةُ على مُمكِناتها التامة، إن لم نَقُل الفطرية (إدوارد مور، الغُنُوصِية: الفلسفة والوحي، موقع معابر http://www.maaber.org/issue_february05/spiritual_traditions1a.htm).

وقد استمرت كنيسته وأفكاره إلى القرن الرابع للميلاد، وبعد أن انتصرت المسيحية على الغُنُوصِية أصبح مَرقِيُون في عِدَاد الهراطقة مثل الكثيرين من الذين أرادوا بناء ديانة جديدة بعيدة عن التأثير اليهودي.

ويبدو أن مَرقِيُون قد تَميَّز عن سابقيه بتركيزه على تحليل النصوص الدينية ودراستها وتأويلها بما يوضح ويؤكد هذه الثنائية وذلك التضاد، فعن طريق دراسته للنصوص، أوضح أن إله العهد القديم الذي تَجلَّى لموسى إنما هو الإله العَنِيف، القاسي، المُحِب للانتقام والحرب، وأن هذا الإله الموسوي لا يمكن أن يكون هو نفسه الذي تَجلَّى عن طريق المسيح كإله طَيِّب خَيِّر. إن التَّعارض بين هذين الإلهين هو كتَعارُض العَدْل والطِّيبَة. ومَرقِيُون لا يَبذُل أي جهد في تقرير هذه الدعوى، فهو قد اكتفى بالقول: إن الوحي نزل في عهدين — يقصد العهد القديم والعهد الجديد — وإن المسيح Christ المُخلِّص ليس هو بحال من الأحوال المشيح Messie اليهودي الذي تَنبَّأ به الأنبياء (النشار، ١٩٩٥م، ٨٥).

لقد رفَض مَرقِيُون التسليم بأن المسيح بصفته مبعوثًا للإله الأعلى يمكن أن يكون له طبيعة جسمانية مادية، ومِن ثَمَّ وجَدْناه يفترض أنه تجلَّى للبشرية بَغْتة في هيئة بشرية، وأن جِسْمه ظاهري ليس إلا.

ولعل ها كان سببًا في نَزْعَة الزُّهد المُتزمِّتة التي آمن بها مَرقِيُون والتي جعَلَتْه يُحرِّم الزواج، ويجعل مِن التَّعفُّف عنه شَرْط المعمودية. إن هذا في اعتقادِه هو الطريق الذي يمكن للإنسان به أن يفلت بإرادته من العالَم الحسي، وأن يَتحرَّر من نِير الأهواء والعواطف.

إن الرسالة الفكرية التي حَمَلها مَرقِيُون ورِفاقه من الغُنُوصيين المسيحيين الإسكندرانيين تَتلخَّص في أنهم جميعًا تَمتَّعوا بقوة العاطفة الدينية — وإن لم تكن عاطفة مسيحية خالصة — وأنهم اشتركوا في التأكيد على ضرورة التَّخلُّص من سلطان الأهواء، وتحرير النَّفس، وقد وَجدوا في اعتقادهم بالمسيحية إرضاءً لحاجاتهم الروحية والعقلية وتأكيدًا لانقلابهم نحو الغُنُوصِية. (النشار، ١٩٩٥م، ٨٥).

(٥) بطليموس الغُنُوصي (١٤٠م) Ptolemy the Gnostic

تلميذ فلانتاين كَتَب كِتابين؛ هما: «الأسطورة الفالنتينية» التي حفظها إيرينياوس، و«الرسالة إلى فلورا» التي حفظها القديس أبيفانيوس.

في الكتاب الأول يُفَصِّل ويشرح نظرية فالنتينوس التي تشرح أسطورة «صوفيا»، وفي الكتابين نَعثُر على محاولة توفيق فالنتينوس للتوفيق بين بعض الكتابات اليهودية والكتابات الغُنُوصِية، وتأويله المَجازي الخاص بالعهد الجديد.

ويُقَسِّم بطليموس النَّفْس الحالَّة في المادة إلى ثلاثة أنواع؛ هي: «المادية، النَّفْسية، الروحانية»، الإنسان المادي هو الذي لا يصل إلى الحياة العقلية، وهو الهالك الذي لا أمَل في خلاصه، والإنسان النَّفْسي هو الذي لديه صورة ناقصة عن الإله الحقيقي وعليه أن ينذر حياته لله لكي ينجو، وهو الإنسان المسيحي العادي، أما الإنسان الروحاني فهو الغُنُوصي الذي لا يحتاج إلى الإيمان؛ لأن يحمل المعرفة (الغُنُوص) في داخله وهو الذي يفوز بالخلاص.

إن فكرة بطليموس عن الخلاص تتمثل في صيرورة الثالوث الذي يدور حول خلاص صوفيا وافتدائها لنفسها بثلاث مراحل؛ وهي: «الاعتراف بآلامها، الاعتراف بعدوتها، ولادتها الروحية» ولذلك يرى بطليموس أن الخلاص في شكله النهائي «يتضمن نوعًا من الخَلْق الرُّوحي من قِبَل الغُنُوصيين الذين يَبلُغون الملأ الأعلى، غير أن على البشر النَّفسانِيِّين، المُكوَّنِين جزئيًّا من مادَّة قابلة للفساد، وجزئيًّا من ماهية روحية، أن يَظلُّوا مُكتَفِين بوجود بسيط مريح من «صانع» الكوسموس، بما أنه لا يمكن لعنصر ماديٍّ أن يدخل الملأ الأعلى (إدوارد مور)، (الاقتباس الأخير).

وتتضَمَّن أفكاره نقاشًا حول مفاهيم؛ مثل: «الختان والصوم» التي رفعها المخلِّص من العالَم المادي إلى العالَم الروحي. ورأى أن الله الذي أجْرَى الشريعة وليس الإنسان، فقد كان الديميورج (الإله الصانع) وسطًا بين «الله الأعلى» و«الشيطان» وهو ليس الشيطان بذاته، لقد خَلَق العالَم المادي ناقصًا وليس شريرًا، فهو لحظة وسط بينهما. كما رأى بطليموس أن للنظام الواسع للأيونات التي انبثقت من مصدر «موناد روحي»، ثلاثون منها لعبت دورًا في تكوين الملأ الأعلى (بليروما)، وقد أصبحت هذه الأنظمة أساسية لتفسير بداية إنجيل يوحنا.

(٦) بار ديصان (ابن ديصان) (١٥٤–٢٢٢)

figure

وُلد في الرها عند نهر ديصان من أبوين نَبيلَين من أربيل في حدياب، وكان بار ديصان قد تعلَّم الفلك والتنجيم في منبج «التي تدين بعبادة الكواكب»، وتعلَّم الشِّعر وفن الرماية. وفي الرها صار مسيحيًّا، ثم شماسًا، ثم كاهنًا، وتولَّى صديقه أبجر التاسع الملوكية في الرها وكان بار ديصان هو الذي هداه إلى المسيحية وتحوَّلَت الرها، كلها، نحو المسيحية.

كان بار ديصان غُنُوصيًّا وكانت مصادر غُنُوصيته من المانوية والمندائية، ويرى ابن النَّديم، والشهرستاني، والمسعودي أن له أتباعًا في خراسان والصين وتركستان تأثَّروا بِفرْقة له في البطائح في العراق. ونحن نرجِّح أن تكون هناك علاقة وثيقة بين بار ديصان والمندائية والمانوية والإيزيدية «التي سميت قديمًا بالديسانية».

وقف بار ديصان بوجه الغُنُوصِية المسيحية الإغريقية الأصول والتي مثَّلَها فالنتينوس ومَرقِيُون وغيرهم، ونشَر غُنُوصيته السريانية محاولًا الإفادة من علوم الفَلك والتَّنجيم والعلوم البابلية ومن المندائية. وكان له شِعرٌ عذبٌ يُردِّده شَعْب الرها، وهو ما أغاظ أفرام الذي وَجَد فيه منافسًا وحارَبه بكل الوسائل.

كان بار ديصان مسيحيًّا ذا عقلٍ مُتنوِّر ومنفتح على الأديان والحضارات، وقد أعطى للمسيحية الكثير وهي في بداية نشوئها. أما أهم مؤلَّفاته؛ فهي:
  • (١)

    شرائع البلدان: عن القضاء والقدر.

  • (٢)

    في الفلك: ذكره جرجس أسقف العرب.

  • (٣)

    مائة وخمسون نشيدًا (على طريقة مزامير داود النبي).

  • (٤)

    الرد على الهراطقة من غلاة الفلاسفة والبابليين.

  • (٥)

    تاريخ أرمينيا.

  • (٦)

    أنشودة الروح (ابن الملك).

والحقيقة أن «أنشودة الروح» التي تُنسَب لبار ديصان هي من أهم مؤلَّفات الأدب الغُنُوصي في وادي الرافدين، ونَجِدُها حرْفيًّا في الأدب المانوي وتُنسب إلى «توما» المانوي وتُعتَبر مُصنَّفًا غُنُوصيًّا أبوكريفيًّا. وقد عُرفَت هذه الأنشودة ﺑ «اللؤلؤة» أو «أنشودة الروح» أو «ابن الملك» وهي حكاية رمزية تأويلية أول مَن وضعها هو بار ديصان.

تَرِد في الكتاب المقدَّس للمندائيين «كنزا ربا» إشارة إلى كتاب ديصان الصغير على لسان دنانوخت الذي هو بمثابة هِرْمِس أو أخنوخ المندائي، ونرى أن المقصود منه هو كتاب بار ديصان. وهو ما يشير أيضًا إلى علاقة بين بار ديصان والمندائية وعلاقتهما معًا بالهِرْمِسية. ومن أعمال توما (توماس) المانوي إضافة إلى أنشودة الروح هناك أنشودة الزواج التي تُنسَب أيضًا لبار ديصان، وهذا دليل آخر على ترابط هذه المنظومة الغُنُوصِية الواحدة وأثَر بار ديصان فيها.

ومن تلاميذ بار ديصان؛ هرموينوس وهو ابنه الذي كان شاعرًا، وقد ساهم مع أخيه في تأسيس الموسيقى الكَنَسية السريانية. وكان من تلامذته «عويذا» الذي ألَّف عددًا من الرؤى وكان غُنُوصيًّا أيضًا ولم يصلنا من آثاره شيء بسبب حملة رجال الكنيسة عليها.

وهكذا يظهر بوضوح أن بار ديصان هو مؤسِّس الأدب السرياني في وادي الرافدين، وقد بناه على أسس غُنُوصِية سريانية جمعت بين علوم وآداب وادي الرافدين القديمة من مندائية وبابلية وآشورية ومانوية وبين المسيحية الجديدة الناشئة في وادي الرافدين، وهو الأمر الذي حاول الكثير من المُؤرِّخين التقليديين النيل منه حين حاولوا جعْل بار ديصان منحرفًا وهرطوقيًّا. ويجدر بالذكر أن بار ديصان قد كتبَ إنجيلًا خاصًّا به مُستوحًى من الأناجيل السابقة عليه، ولكن مار أفرام حين علم بذلك «بعد وفاة بار ديصان»، فاستدرج أخت بار ديصان وطلَب منها أن تُسلِّمه هذا الإنجيل، وبعد اطلاعه عليه قرَّر إتلافه بأن وضَع الغرى بين صفحاته فلم تَعُد تفتح مطلقًا وأعاده إلى أخته. وهكذا ذهب هذا الإنجيل ضحية الضِّيق الفكري والغيرة المُستَعِرة من قِبَل مار أفرام على مؤسِّس الأدب السرياني وواضع أصوله.

(٧) ثورة المسيحية الرسمية (القويمة) على الغُنُوصِية وتصفيتها

المسيحية وُلِدَت من رَحِمَين مُتعاكسَين؛ هما: اليهودية التي كانت تُبشِّر بظهور «المشيَّا» الذي سينقذ بني إسرائيل، ومن الغُنُوصِية التي كانت ترى المسيح مبعوثًا إلهيًّا لينقذ النفس البشرية من أدران العالَم المادي.

فمن هذه الجهة كان السيد المسيح يحمل ما يشير إلى يهوديةٍ سابقةٍ ولكنه كان ثائرًا على اليهودية ورافضًا لها في كل تعاليمه التي كانت مميزةً بفعل أصلها الغُنُوصي الذي حَمَل وجهة نظر مدهشة ومغايِرة لما تعرفه الأديان آنذاك.

أما من الجهة الأخرى فلم يكن المسيح يهوديًّا أو منبعثًا من فكرة الماشيح اليهودي المنتظَر، بل كان من الجليل غُنُوصيًّا يُمثِّل تنفيذًا للفكرة الغُنُوصِية التي تقول بأن ابن الرب نزل إلى هذا العالَم في جسد بشري ويخلص البشرية من الشر الذي لازمها مذ صُنع العالم. استطاعت الغُنُوصِية أن تقطع مشيمة المسيحية باليهودية، وتؤسِّس لها تقاليد وأفكارًا جديدة أصبحت — فيما بعد — قاموس المسيحية الأساسي. وكوَّنت الغُنُوصِية أولى الكنائس المسيحية، لكنَّ المُنادِين بوحدة الشريعة اليهودية المسيحية تصدَّوا لهذه الكنائس.

وحين ظهر آباء الكنيسة المسيحية الرسمية ومُفكِّروها تصدَّوا بشراسة وعنف للغُنُوصِية واعتبروا أن الغُنُوصِية هي التي تطفَّلَت على المسيحية وأرادت صبغها بصبغتها، ومن أهم هؤلاء «أوريجين ١٨٥–٢٥٣م، وإكليمندس الإسكندري حوالي ٢٠٠، وقسطنطين».

وهكذا بدأت الغُنُوصِية — (التي كانت عسيرة على الفهم عند العامة — تَخْسَر الطبقات الشعبية، وفقَدَت قُوَّتها قُبَيل نهاية القرن الثاني، ونهَضَت الأرثوذوكسية.

لم تكن الأرثوذوكسية في بدايتها بالإسكندرية مُحدَّدة المَعالم. بل نحن — في الحقيقة — كلما أمْعَنَّا النظر وجَدْنا أنها كانت تندمج في كل ما حولها؛ فقَد تكيَّفَت مع تعاليم فيلو عن اللوجس، وطابَقَت ما بين اللوجس والمسيح، وهي تُشارِك الغُنُوصِية الرغبة في معرفة الله، بينما هي تُعلِن أن تلك المعرفة ليست في حاجة إلى أن تكون لفئة قليلة (نخبة). لقد كان لديها إنجيلها الخاص، ولكن الكُتب المقدَّسة الأخرى كانت تُقرأ في كنائسها بِغضِّ النَّظَر عن أنه مُعترَف بها أو غير مُعترَف بها (مثلًا كتب اليهود والمصريين المقدسة). إنها تأثَّرَت بالفكر اليوناني؛ حيث أصبح الكثيرون من الأفلاطونيين مسيحيين، وكان العكس صحيحًا أيضًا فقط كان أحد تعاليمها الفارقة؛ هو تمجيد المسيح كقيمة عُليا، فالمسيح كان تجسيد الكلمة «اللوجس» وبه تُعرف محبة الله وقُوَّته، بل إن قضايا مثل «طبيعة المسيح» لم تكن تَشغَل علماء اللاهوت الأوائل؛ حيث كان باعِثُهم هو أن يَشهَدوا ويُؤكِّدوا، لا أن يُحلِّلوا، وكان لديهم إحساس بالبهجة، يُلْهِم كتاباتهم اللامتناهية. ومن الممكن من خلال كتاباتهم المُسهَبة، أن نَستشِف الإيمان الذي يملأ أرواح معاصريهم من الشهداء بالعزم والتصميم (فورستر، ٢٠٠٠م، ١١٦).

ولذلك نلاحظ أن الأرثوذوكسيين الأوائل؛ مثل أكليمندس الإسكندري كانوا يُهادِنون التعاليم الهيلنستية والغُنُوصِية قبل أن تَشتَد المقاومة الشَّرسة للغُنُوصِية.

أكليمندس الإسكندري وهو ربما كان يونانيًّا من أثينا، كان رئيسًا للمدرسة اللاهوتية الكبيرة في الإسكندرية، وكانت قضيته مثل اليهود الذين سبقوه، هو أن يجعل دِينَه مقبولًا عند هذه المدينة الماكرة ذات الطابع الفلسفي، وكان أسلوبُه في ذلك سابقًا بكثير لهؤلاء المُبشِّرِين المُتطوِّرين المعاصِرِين!، ولذا لم يَشجُب الفلسفة اليونانية، معتقدًا أنها كانت تمهيدًا للإنجيل، مثلما كانت الشريعة اليهودية تمهيدًا له أيضًا، بل وكان يعتقد أن ما كان قبل ميلاد المسيح كان في الحقيقة اقترابًا إلهيًّا للحدث الأسمى (فورستر، ٢٠٠٠م، ١١٦).

ثم أصبحت المسيحية رَسمِيَّة في العالَم البيزنطي، وتَصدَّت بعنف وشراسة للغُنُوصِية والغُنُوصِيِّين، وأحرَقَت وأتْلفَت كل التراث الغُنُوصي بحجة كونه هرطوقيًّا كافرًا، لكنها في حقيقة الأمر كانت تُخفِي أصول المسيحية الغُنُوصِية التي انتصرَت عليها.

إن المسيحية التي أصبحَت رسمية في بداية القرن الرابع الميلادي، صارت إجبارية في نهايته، مما أعطى للرُّهبان فُرصة للهجوم على عبادة «سرابيس». فاتخذ الكثير من الناس لهم مَلجأ في الفلسفة البطلمية القديمة المقدَّسة، بل وفي السِّحر أيضًا وفي المعرفة، وفي الإباحية والتَّحلُّل. وقاد البطريرك ثيوفيلس الهجوم وأسقط مَعبد سرابيس في كانوبس (أبوقير) في ٣٨٩م، ومن ثَم الهجوم على المعبد الأصلي في الإسكندرية بعد ذلك بسنتين، وكان سقوط هذا الأخير مَهيبًا؛ لأنه تضمن أيضًا تدمير المَكتبة، التي كانت تَحتفِظ بكتبها في الأروقة المُحيطة بالمبنى. وهناك تم بناء دير في ذات الموقع، واستمر اضطهاد الوثَنِيِّين وبلغ ذروته بمقتل هيباتيا في ٤١٥م، الذي بُولغ في إنجازاتها كما بُولغ في حيويتها، وهي كانت سيدة في منتصف العمر، تقوم بتعليم الرياضيات في الجامعة، وليس لدينا وثيقة بمعتقداتها بالرغم من أنها كانت فيلسوفة أيضًا. وفي هذا الوقت صار الرهبان هم الأعلى سُلطة، حتى إن أحَدَهم قام بقتل الوالي الإمبراطوري، وأعلن البطريرك سيريل قداسة هذا الراهب بعد وفاته تكريمًا له على عَملِه. وامتلأت الشوارع بجيش سيريل الأسود المتوحش «آدميون في وجوههم فقط» كانوا شغوفين بالقيام بأي عمَل يُبرْهِن على ولائهم تتويجًا لما قاموا به، وفي هذا المِزاج صادفوا هيباتيا التي كانت تقود مركبتها عائدة من مُحاضرتها (ربما على امتداد شارع النبي دانيال الحالي) فَسحبُوها من مَرْكَبتها حتى السيزيريوم، وهناك مَزَّقُوها إربًا بالأحجار، لم تكن شخصية عظيمة، ولكن بها ومعها لَفظَت اليونان رُوحها، تلك الروح التي حاولت اكتشاف الحقيقة وإبداع الجمال، وخُلِقَت الإسكندرية (فورستر، ٢٠٠٠م، ٩٦).

بدأت الغُنُوصِية بالحدس ما قَبْل الفلسفي الأساسي نفسه الذي قاد تَطوُّر الفلسفة اليونانية. إنَّ هناك ازدواجًا بين عالَم الوجود الحقيقي القيوم، وبين عالم الصيرورة المتغيِّرة أبدًا. غير أن الغُنُوصيين، على العكس من الإغريق الذين كدحوا لإيجاد الرابط بين هذين «العالَمَين» والوحدة الشاملة لهما، ضخَّموا الاختلافات وبَسَطوا مذهبًا ميثولوجيًّا عن أصل الجنس البشري في عالَم الوجود، وعن السقوط الناتج في عالَم الظُّلْمة أو المادة؛ أي «الصيرورة». وقد قُيِّضَ لهذه الأسطورة الغُنُوصِية العامة أن تُؤثِّر على المسيحية الناشئة، وعلى الفلسفة الأفلاطونية أيضًا، حتى إنها، في الشرق، تطوَّرتْ إلى ديانة عالمية (المانوية) انتشرتْ في المعمورة آنذاك، واستمرَّت حتى العصور الوسطى المتأخرة [من خلال الكاثاريين]. وفي القرن العشرين، عاد الاهتمام مُجدَّدًا بالأفكار الغُنُوصِية، وخاصة في العمل الريادي لهانس جوناس، الفيلسوف الوجودي وتلميذ مارتن هيدغر. كما أن عالِم النفس كارل يونغ قد استلهم الثيمات الغُنُوصِية في أبحاثه النظرية، ناهيك عن أن التشديد المتزايد على التأويل في فكر أواخِر القرن العشرين يدين بعض الشيء إلى تحليلات الأسطورة الغُنُوصِية وتفاسيرها التي أنجزها هارولد بلوم وبول ريكور وآخرون. (إدوارد مور، الغُنُوصِية: الفلسفة والوحي، موقع معابر http://www.maaber.org/issue_february05/spiritual_traditions1a.htm).

ونرى، اليوم، أن الغُنُوصِية ما زالت حيَّة في زوايا كثيرة من هذا العالَم لا باعتبارها منافسة للمسيحية «القويمة» حول أصْل المسيحية وأصْل التوحيد، بل لتُواصِل دوْرَها في الإشارة إلى عُلوِّ النَّفْس ومكانها الرفيع، وإلى كونها ملهمة روحية تشير إلى عظمة القوة الروحية في الإنسان قبل أن تكون دينًا مُنظَّمًا أو بديلًا للأديان؛ إذ إن من الواضح أنها تخلَّت عن هذا الدور.

الغُنُوصِية ومعها المُسارِّيَّة والهِرْمِسية — رغم سرقة دورها الريادي في التوحيد — وجَدَت لها مكانًا في الأديان المُوحِّدة الظاهرية الثلاثة وهي «اليهودية والمسيحية والإسلام»، وساهمت في نَقْل العالَم الغربي من التاريخ الوسيط إلى التاريخ الحديث. ولكن كيف؟

كل هذا سنطرحه بالتفصيل في كتابنا القادم:

المُسارِّيَّة والهِرْمِسية والغُنُوصِية في اليهودية والمسيحية والإسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥