ذكر دخول الفرنساوية الإسكندرية سنة ثلاث عشرة ومايتين وألف (١٧٩٨م)
وهي أولى سِني الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة والوقايع النازلة والنوازل الهايلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلاف الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ.
وفي يوم الأحد العاشر من شهر محرم الحرام من هذه السنة وردت مكاتبات على يد السعاة من ثغر الإسكندرية، ومضمونها: أن في يوم الخميس ثامنه حضر إلى الثغر عشرة مراكب من مراكب الإنكليز، ووقفت على البعد بحيث يراها أهل الثغر، وبعد قليل حضر خمسة عشر مركبًا أيضًا فانتظر أهل الثغر ما يريدون، وإذا بقايق صغير واصل من عندهم، وفيه عشرة أنفار فوصلوا البر، واجتمعوا بكبار البلد والريس إذ ذاك فيها والمشار إليه بالإبرام والنقض السيد محمد كريم الآتي ذكره، فكلموهم واستخبروهم عن غرضهم، فأخبروا أنهم إنكليز حضروا للتفتيش على الفرنسيس؛ لأنهم خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات، ولا ندري أين قصدهم، فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم، ولا تتمكنون من منعهم! فلم يقبل السيد محمد كريم منهم هذا القول، وظن أنها مكيدة، وجاوبوهم بكلام خشن، فقالت رسل الإنكليز: نحن نقف بمراكبنا في البحر محافظين على الثغر لا نحتاج منكم إلا الإمداد بالماء والزاد بثمنه، فلم يجيبوهم لذلك، وقالوا: هذه بلاد السلطان، وليس للفرنسيس ولا لغيرهم عليها سبيل، فاذهبوا عنا فعندها عادت رسل الإنكليز، وأقلعوا في البحر ليمتاروا من غير الإسكندرية، وليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
ثم إن أهل الثغر أرسلوا إلى كاشف البحيرة ليجمع العربان، ويأتي معهم للمحافظة بالثغر فلما قريت هذه المكاتبات بمصر حصل بها اللغط الكثير من الناس، وتحدثوا بذلك فيما بينهم وكثرت المقالات والأراجيف.
ثم ورد في ثالث يوم بعد ورود المكاتيب الأول مكاتبات مضمونها أن المراكب التي وردت الثغر عادت راجعة، فاطمأن الناس وسكن القيل والقال، وأما الأمرا فلم يهتموا بشي من ذلك، ولم يكترثوا به اعتمادًا على قوتهم وزعمهم أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم، وأنهم يدوسونهم بخيولهم فلما كان يوم الأربعا العشرون من الشهر المذكور وردت مكاتبات من الثغر ومن رشيد ودمنهور بأن في يوم الاثنين ثامن عشره وردت مراكب وعمارات للفرنسيس كثيرة، فأرسوا في البحر، وأرسلوا جماعة يطلبون القنصل وبعض أهل البلد، فلما نزلوا إليهم عوقوهم عندهم، فلما دخل الليل تحولت منهم مراكب إلى جهة العجمي، وطلعوا إلى البر، ومعهم آلات الحرب والعساكر، فلم يشعر أهل الثغر وقت الصباح إلا وهم كالجراد المنتشر حول البلد، فعندها خرج أهل الثغر وما انضم إليهم من العربان المجتمعة وكاشف البحيرة، فلم يستطيعوا مدافعتهم ولا أمكنهم ممانعتهم ولم يثبتوا لحربهم، وانهزم الكاشف ومن معه من العربان.
ورجع أهل الثغر إلى التترس في البيوت والحيطان، ودخلت الإفرنج البلد، وانبث فيها الكثير من ذلك العدد، كل ذلك وأهل البلد لهم بالرمي يدافعون، وعن أنفسهم وأهليهم يقاتلون ويمانعون، فلما أعياهم الحال وعلموا أنهم مأخوذون بكل حال، وليس ثم عندهم للقتال استعداد — لخُلُوِّ الأبراج من آلات الحرب والبارود، وكثرة العدو وغلبته — طلب أهل الثغر الأمان فأمنوهم، ورفعوا عنهم القتال ومن حصونهم أنزلوهم، ونادى الفرنسيس بالأمان في البلد، ورفع بنديراته وطلب أعيان الثغر فحضروا بين يديه فألزمهم بجمع السلاح وإحضاره إليه، وأن يضعوا الجوكار في صدورهم فوق ملبوسهم: «والجوكار ثلاث قطع من جوخ أو حرير أو غير ذلك مستديرة في قدر الريال سودًا وحمرًا وبيضًا توضع بعضها فوق بعض، بحيث تكون كل دايرة أقل من التي تحتها حتى تظهر الألوان الثلاثة كالدواير المحيط بعضها ببعض».
ولما وردت هذه الأخبار مصر حصل للناس انزعاج، وعول أكثرهم علي الفرار والهجاج.
وأما ما كان من حال الأمرا بمصر، فإن إبراهيم بك ركب إلى قصر العيني وحضر عنده مراد بك من الجيزة؛ لأنه كان مقيمًا بها، واجتمع باقي الأمرا والعلما والقاضي، وتكلموا في شأن هذا الأمر الحادث، فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مكاتبة بخبر هذا الحادث إلى إسلامبول، وأن مراد بك يجهز العساكر، ويخرج لملاقاتهم وحربهم، وانفض المجلس على ذلك وكتبوا المكاتبة وأرسلها بكر باشا مع رسوله على طريق البر ليأتيه بالترياق من العراق، وأخذوا في الاستعداد للثغر وقضا اللوازم والمهمات في مدة خمسة أيام، فصاروا يصادرون الناس ويأخذون أغلب ما يحتاجون إليه بدون ثمن، ثم ارتحل مراد بك بعد صلاة الجمعة، وبرز خيامه ووطاقة إلى الجسر الأسود فمكث به يومين حق تكامل العسكر وصناجقه وعلي باشا الطرابلسي وناصف باشا، فإنهم كانوا من أخصايه ومقيمين معه بالجيزة، وأخذ معه عدة كثيرة من المدافع والبارود، وسار من البر مع العساكر الخيالة وأما الرجالة وهم الألداشات القلينجية والأروام والمغاربة، فإنهم ساروا في البحر مع الغلايين الصغار التي أنشاها الأمير المذكور.
ولما ارتحل من الجسر الأسود أرسل إلى مصر يأمر بعمل سلسلة من الحديد في غاية الثخن والمتانة، طولها ماية ذراع وثلاثون ذراعًا؛ لتنصب على البغاز عند برج مغيزل من البر إلى البر لتمنع مراكب الفرنسيس من العبور لبحر النيل، وذلك بإشارة علي باشا وأن يعمل عندها جسر من المراكب، وينصب عليها متاريس ومدافع ظنًّا منهم أن الإفرنج لا يقدرون على محاربتهم في البر، وأنهم يعبرون في المراكب ويقاتلونهم وهم في المراكب، وأنهم يصابرونهم ويطاولونهم في القتال حتى تأتيهم النجدة.
- الأول: ذهاب الوحشة من القلوب وحصول الاستيناس.
- والثاني: الخوف من الدخيل في البلد.
وفي يوم الاثنين وردت الأخبار بأن الفرنسيس وصلوا إلى دمنهور ورشيد وخرج معظم أهل تلك البلاد على وجوههم، فذهبوا إلى فوة ونواحيها، والبعض طلب الأمان وأقام ببلده وهم العقلا.
وقد كانت الفرنسيس حين حلولهم بالإسكندرية كتبوا مرسومًا وطبعوه، وأرسلوا منه نسخًا إلى البلاد التي يقدمون عليها تطمينًا لهم، ووصل هذا المكتوب مع جملة من الأسارى الذين وجدوهم بمالطة، وحضروا صحبتهم، وحضر منهم جملة إلى بولاق، وذلك قبل وصول الفرنسيس بيوم أو بيومين ومعهم منه عدة نسخ، ومنهم مغاربة وفيهم جواسيس، وهم على شكلهم من كفار مالطة ويعرفون باللغات.
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له ولا شريك له في ملكه، من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية، السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته.
يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع الإيذا والتعدي، فحضر الآن ساعة عقوبتهم، وأخرنا من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأبازة والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها، فأما رب العالمين القادر على كل شي فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم، يا أيها المصريون قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه والقرآن العظيم.
وقولوا أيضًا لهم إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشي الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضايل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم، ويختصوا بكل شي أحسن فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة، فإن كانت الأرض المصرية التزامًا للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم! ولكن رب العالمين رءوف وعادل وحليم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدًا لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلما والفضلا والعقلا بينهم سيدبرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها، وسابقًا كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك.
أيها المشايخ والقضاة والأيمة والجربجية وأعيان البلد، قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضًا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دايمًا يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكواللرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين، ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني، وأعدا أعدايه — أدام الله ملكه — ومع ذلك إن المماليك امتنعوا من إطاعة السلطان غير ممتثلين لأمره، فما أطاعوا أصلًا إلا لطمع أنفسهم.
طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير، فيصلح حالهم وتعلى مراتبهم.
- المادة الأولى: جميع القرى الواقعة في دايرة قريبة بثلاث ساعات من المواضع التي يمر بها عسكر الفرنساوية، فواجب عليها أن ترسل للسر عسكر من عندها وُكَلا كيما يعرف المشار إليه أنهم أطاعوا، وأنهم نصبوا علم الفرنساوية الذي هو أبيض وكحلي وأحمر.
- المادة الثانية: كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار.
- المادة الثالثة: كل قرية تطيع العسكر الفرنساوي أيضًا تنصب صنجاق السلطان العثماني محبنا دام بقاه.
- المادة الرابعة: المشايخ في كل بلد يختمون حالًا جميع الأرزاق والبيوت والأملاك التي تتبع المماليك، وعليهم الاجتهاد التام لئلا يضيع أدنى شي منها.
- المادة الخامسة: الواجب على المشايخ والعلما والقضاة والأيمة أنهم يلازمون وظايفهم، وعلى كل أحد من أهالي البلدان أن يبقى في مسكنه مطمينًّا، وكذلك تكون الصلاة قايمة في الجوامع على العادة، والمصريون بأجمعهم ينبغي أن يشكروا الله سبحانه وتعالى لانقضا دولة المماليك قايلين بصوت عالٍ: أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك وأصلح حال الأمة المصرية.
تحريرًا بمعسكر إسكندرية في ١٣ شهر مسيدور سنة ٦ من إقامة الجمهور الفرنساوي، يعني في آخر شهر محرم سنة ١٢١٣ هجرية. ا.ﻫ. بحروفه.
وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر وردت الأخبار بأن الفرنسيس وصلوا إلى نواحي فوة، ثم إلى الرحمانية.
واستهل شهر صفر سنة ١٢١٣ﻫ «١٥ يوليو ١٧٩٨م»
وفي يوم الأحد غرة شهر صفر وردت الأخبار بأن في يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر محرم التقى العسكر المصري مع الفرنسيس، فلم تكن إلا ساعة وانهزم مراد بك ومن معه، ولم يقع قتال صحيح وإنما هي مناوشة من طلايع العسكرين بحيث لم يقتل إلا القليل من الفريقين، واحترقت مراكب مراد بك بما فيها من الجبخانة والآلات الحربية، واحترق بها ريس الطبجية خليل الكردلي، وكان قد قاتل في البحر قتالًا عجيبًا، فقدر الله أن علقت نار بالقلع وسقط منها نار إلى البارود؛ فاشتعلت جميعها بالنار، واحترقت المركب بما فيها من المحاربين وكبيرهم، وتطايروا في الهواء.
فلما عاين ذلك مراد بك داخَلَه الرعب وولى منهزمًا، وترك الأثقال والمدافع وتبعته عساكره، ونزلت المشاة في المراكب ورجعوا طالبين مصر، ووصلت الأخبار بذلك إلى مصر فاشتد انزعاج الناس، وركب إبراهيم بك إلى ساحل بولاق، وحضر الباشا والعلما وروس الناس، وأعملوا رأيهم في هذا الحادث العظيم، فاتفق رأيهم على عمل متاريس من بولاق إلى شبرا، ويتولى الإقامة ببولاق إبراهيم بك وكشافه ومماليكه، وقد كانت العلما عند توجه مراد بك تجتمع بالأزهر كل يوم، ويقرون البخاري وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ فقرا الأحمدية والرفاعية والبراهمة والقادرية والسعدية وغيرهم من الطوايف وأرباب الأشاير، ويعملون لهم مجالس بالأزهر، وكذلك أطفال المكاتب، ويذكرون الاسم اللطيف وغيره من الأسما.
وفي يوم الاثنين حضر مراد بك إلى بر إنبابة، وشرع في عمل متاريس هناك ممتدة إلى بشتيل وتولى ذلك هو وصناجقه وأمراه وجماعة من خشداشينه، واحتفل في ترتيب ذلك وتنظيمه بنفسه هو وعلي باشا الطرابلسي ونصوح باشا، وأحضروا المراكب الكبار والغلايين التي أنشاها بالجيزة، وأوقفها على ساحل إنبابة، وشحنها بالعساكر والمدافع فصار البر الغربي والشرقي مملوين بالمدافع والعساكر والمتاريس والخيالة والمشاة، ومع ذلك فقلوب الأمرا لم تطمين بذلك، فإنهم من حين وصول الخبر لهم من الإسكندرية شرعوا في نقل أمتعتهم من البيوت الكبار المشهورة المعروفة إلى البيوت الصغار التي لا يعرفها أحد، واستمروا طول الليالي ينقلون الأمتعة ويوزعونها عند معارفهم وثقاتهم، وأرسلوا البعض منها لبلاد الأرياف، وأخذوا أيضًا في تشهيل الأحمال، واستحضار دواب للشيل، وأدوات الارتحال.
فلما رأى أهل البلدة منهم ذلك داخلهم الخوف الكثير والفزع، واستعد الأغنيا وأولو المقدرة للهروب، ولولا أن الأمرا منعوهم من ذلك وزجروهم وهددوا من أراد النقلة لما بقي بمصر منهم أحدٌ.
وفي يوم الثلاثا نادوا بالنفير العام وخروج الناس للمتاريس وكرروا المناداة بذلك كل يوم؛ فأغلق الناس الدكاكين والأسواق، وخرج الجميع لبر بولاق، فكانت كل طايفة من طوايف أهل الصناعات يجمعون الدراهم من بعضهم وينصبون لهم خيامًا، أو يجلسون في مكان خرب أو مسجد ويرتبون لهم فيما يصرف عليهم ما يحتاجون له من الدراهم التي جمعوها من بعضهم، وبعض الناس يتطوع بالإنفاق على البعض الآخر، ومنهم من يجهز جماعة من المغاربة أو الشوام بالسلاح والأكل وغير ذلك، بحيث إن جميع الناس بذلوا وسعهم وفعلوا ما في قوتهم وطاقتهم وسمحت نفوسهم بإنفاق أموالهم، فلم يشح في ذلك الوقت أحد بشي يملكه، ولكن لم يسعفهم الدهر، وخرجت الفقرا وأرباب الأشاير بالطبول والزمور والأعلام والكاسات، وهم يضجون ويصيحون ويذكرون بأذكار مختلفة.
وصعد السيد عمر أفندي نقيب الأشراف إلى القلعة، فأنزل منها بيرقًا كبيرًا سَمَّتْه العامة البيرق النبوي، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وأمامه وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصي، يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح ومعهم الطبول والزمور وغير ذلك.
وأما مصر فإنها باقية خالية الطرق لا تجد بها أحدًا سوى النسا في البيوت والصغار وضعفا الرجال الذين لا يقدرون على الحركة، فإنهم مستترون مع النسا في بيوتهم، والأسواق مصفرة والطرق مجفرة من عدم الكنس والرش، وغلا سعر البارود والرصاص بحيث بِيع الرطل البارود بستين نصفًا والرصاص بتسعين، وغلا جنس أنواع السلاح، وقل وجوده، وخرج معظم الرعايا بالنبابيت والعصي والمساوق، وجلس مشايخ العلما بزاوية علي بك ببولاق يدعون ويبتهلون إلى الله بالنصر، وأقام غيرهم من الرعايا: البعض بالبيوت، والبعض بالزوايا، والبعض في الخيام.
ومحصل الأمر أن جميع من بمصر من الرجال تحول إلى بولاق، وأقام بها من حين نصب إبراهيم بك العرضي هناك إلى وقت الهزيمة سوى القليل من الناس الذين لا يجدون لهم مكانًا ولا مأوى، فيرجعون إلى بيوتهم يبيتون بها ثم يصبحون إلى بولاق.
وأرسل إبراهيم بك إلى العربان المجاورة لمصر، ورسم لهم أن يكونوا في المقدمة بنواحي شبرا وما والاها، وكذلك اجتمع عند مراد بك الكثير من عرب البحيرة والجيزة والصعيد والخبيرية والقيعان وأولاد علي والهنادي وغيرهم، وفي كل يوم يتزايد الجمع ويعظم الهول ويضيق الحال بالفقرا الذين يحصلون أقواتهم يومًا فيومًا لتعطل الأسباب واجتماع الناس كلهم في صعيد واحد.
وانقطعت الطرق وتعدى الناس بعضهم على بعض لعدم التفات الحكام واشتغالهم بما دهمهم.
وأما بلاد الأرياف فإنها قامت على ساق يقتل بعضهم بعضًا، وينهب بعضهم بعضًا، وكذلك العرب غارت على الأطراف والنواحي، وصار قطر مصر من أوله إلى آخره في قتل ونهب وإخافة طريق وقيام شر وإغارة على الأموال وإفساد المزارع وغير ذلك من أنواع الفساد الذي لا يحصى، وطلب أمرا مصر التجار من الإفرنج بمصر فحبسوا بعضهم بالقلعة، وبعضهم بأماكن الأمرا، وصاروا يفتشون في محلات الإفرنج على الأسلحة وغيرها، وكذلك يفتشون بيوت النصارى الشوام والأقباط والأروام والكنايس والأديرة على الأسلحة، والعامة لا ترضى إلا أن يقتلوا النصارى واليهود فيمنعهم الحكام عنهم، ولولا ذلك المنع لقتلتهم العامة وقت الفتنة.
ثم في كل يوم تكثر الإشاعة بقرب الفرنسيس إلى مصر، وتختلف الناس في الجهة التي يقصدون المجي منها: فمنهم من يقول إنهم واصلون من البر الغربي، ومنهم من يقول بل يأتون من الشرقي، ومنهم من يقول بل يأتون من الجهتين.
هذا وليس لأحد من أمرا العساكر همة أن يبعث جاسوسًا أو طليعة تناوشهم القتال قبل دخولهم وقربهم ووصولهم إلى فناء المصر، بل كل من إبراهيم بك ومراد بك جمع عسكره، ومكث مكانه لا ينتقل عنه ينتظر ما يفعل بهم، وليس ثمَّ قلعة ولا حصن ولا معقل، وهذا من سوء التدبير وإهمال أمر العدو.
ولما كان يوم الجمعة سادس الشهر وصل الفرنسيس إلى الجسر الأسود، وأصبح يوم السبت فوصلوا إلى أم دينار فعندها اجتمع العالم العظيم من الجند والرعايا والفلاحين المجاورة بلادهم لمصر، ولكن الأجناد متنافرة قلوبهم، منحلة عزايمهم، مختلفة آراهم، حريصون على حياتهم وتنعمهم ورفاهيتهم، مختالون في ريشهم، مغترون بجمعهم، محتقرون شأن عدوهم، مرتبكون في رويتهم، مغمورون في غفلتهم، وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم، وقد كان الظن بالفرنسيس أن يأتوا من البرين؛ بل أشيع في عرضي إبراهيم بك أنهم قادمون من الجهتين، فلم يأتوا إلا من البر الغربي.
ولما كان وقت القايلة، ركب جماعة من العساكر التي بالبر الغربي، وتقدموا إلى ناحيه بشتيل — بلدة مجاورة لإنبابة — فتلاقوا مع مقدمة الفرنسيس، فكروا عليهم بالخيول فضربهم الفرنسيس ببنادقهم المتتابعة الرمي، وأبلى الفريقان وقتل أيوب بك الدفتردار وعبد الله كاشف الجرف، وعدة كثيرة من كشاف محمد بك الألفي ومماليكهم وتبعهم طابور من الإفرنج في نحو الستة آلاف وكبيره (ويزه) الذي ولي على الصعيد بعد تملكهم.
وأما بونابارته الكبير فإنه لم يشاهد الواقعة، بل حضر بعد الهزيمة، وكان بعيدًا عن هولا بكثير، ولما قرب طابور الفرنسيس من متاريس مراد بك ترامى الفريقان بالمدافع، وكذلك العساكر المحاربون البحرية، وحضر عدة وافرة من عساكر الأرنؤد من دمياط وطلعوا إلى إنبابة، وانضموا إلى المشاة، وقاتلوا معهم في المتاريس، فلما عاين وسمع عسكر البر الشرقي القتال ضج العامة والغوغا من الرعية وأخلاط الناس بالصياح، ورفع الأصوات بقولهم: يا رب يا لطيف ويا رجال الله، ونحو ذلك، وكأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم وجلبتهم، فكان العقلا من الناس يصرخون عليهم، ويأمرونهم بترك ذلك ويقولون لهم إن الرسول والصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب وضرب الرقاب، لا برفع الأصوات والصراخ والنباح، فلا يستمعون ولا يرجعون عما هم فيه، ومن يقرا ومن يسمع!
وركب طايفة كبيرة من الأمرا والأجناد من العرض الشرقي، ومنهم إبراهيم بك الوالي، وشرعوا في التعدية إلى البر الغربي في المراكب، فتزاحموا على المعادي لكون التعدية من محل واحد، والمراكب قليلة جدًّا، فلم يصلوا إلى البر الآخر حتى وقعت الهزيمة على المحاربين.
هذا والريح النكباء اشتد هبوبها، وأمواج البحر في قوة اضطرابها، والرمال يعلو غبارها، وتنسفها الريح في وجوه المصريين فلا يقدر أحد أن يفتح عينيه من شدة الغبار، وكون الريح من ناحية العدو، وذلك من أعظم أسباب الهزيمة كما هو منصوص عليه.
ثم إن الطابور الذي تقدم لقتال مراد بك انقسم على كيفية معلومة عندهم في الحرب، وتقارب من المتاريس بحيث صار محيطًا بالعسكر من خلفه وأمامه ودق طبوله، وأرسل بنادقه المتتالية والمدافع واشتد هبوب الريح، وانعقد الغبار، وأظلمت الدنيا من دخان البارود وغبار الرياح، وصمت الأسماع من توالي الضرب، بحيث خُيِّل للناس أن الأرض تزلزلت والسما عليها سقطت.
واستمر الحرب والقتال نحو ثلاثة أرباع ساعة، ثم كانت هذه الهزيمة على العسكر الغربي، فغرق الكثير من الخيالة في البحر لإحاطة العدو بهم وظلام الدنيا، والبعض وقع أسيرًا في أيدي الفرنسيس، وملكوا المتاريس وفر مراد بك ومن معه إلى الجيزة، فصعد إلى قصره وقضى بعض أشغاله في نحو ربع ساعة ثم ركب وذهب إلى الجهة القبلية، وبقيت القتلى والثياب والأمتعة والأسلحة والفرش ملقاة على الأرض ببر إنبابة تحت الأرجل.
وكان من جملة من ألقى نفسه في البحر سليمان بك المعروف بالأغا، وأخوه إبراهيم بك الوالي فأما سليمان بك فنجا، وغرق إبراهيم بك الصغير وهو صهر إبراهيم بك الكبير، ولما انهزم العسكر الغربي حول الفرنسيس المدافع والبنادق على البر الشرقي وضربوها، وتحقق أهل البر الآخر الهزيمة، فقامت فيهم ضجة عظيمة، وركب في الحال إبراهيم بك والباشا والأمرا والعسكر والرعايا، وتركوا جميع الأثقال والخيام كما هي لم يأخذوا منها شيًّا.
فأما إبراهيم بك والباشا والأمرا فساروا إلى جهة العادلية، وأما الرعايا فهاجوا وماجوا ذاهبين إلى جهة المدينة ودخلوها أفواجًا أفواجًا وهم جميعًا في غاية الخوف والفزع وترقب الهلاك، وهم يضجون بالعويل والنحيب ويبتهلون إلى الله من شر هذا اليوم العصيب، والنسا يصرخن بأعلى أصواتهن من البيوت، وقد كان ذلك قبل الغروب.
فلما استقر إبراهيم بك بالعادلية أرسل يأخذ حريمه، وكذلك من كان معه من الأمرا، فأركبوا النسا بعضهن على الخيول وبعضهن على البغال، والبعض على الحمير والجمال، والبعض ماشٍ كالجواري والخدم.
واستمر معظم الناس طول الليل خارجين من مصر، البعض بحريمه، والبعض ينجو بنفسه ولا يسأل أحد عن أحد، بل كل واحد مشغول بنفسه عن أبيه وابنه فخرج تلك الليلة معظم أهل مصر: البعض لبلاد الصعيد، والبعض لجهة الشرق وهم الأكثر، وأقام بمصر كل مخاطر بنفسه لا يقدر على الحركة ممتثلًا للقضا متوقعًا للمكروه، وذلك لعدم قدرته وقلة ذات يده وما ينفقه على حمل عياله وأطفاله ويصرفه عليهم في الغربة، فاستسلم للمقدور، ولله عاقبة الأمور.
والذي أزعج قلوب الناس بالأكثر أن في عشا تلك الليلة شاع في الناس أن الإفرنج عدوا إلى بولاق وأحرقوها وكذلك الجيزة، وأن أولهم وصل إلى باب الحديد يحرقون ويقتلون ويفجرون بالنسا.
وكان السبب في هذه الإشاعة أن بعض القلينجية من عسكر مراد بك الذي كان في الغليون بمرسى إنبابة لما تحقق الكسرة أضرم النار في الغليون الذي هو فيه، وكذلك مراد بك لما رحل من الجيزة أمر بانجرار الغليون الكبير من قبالة قصره ليصحبه معه إلى جهة قبلي، فمشوا به قليلًا ووقف لقلة الماء في الطين، وكان به عدة وافرة من آلات الحرب والجبخانة فأمر بحرقه أيضًا، فصعد لهيب النار من جهة الجيزة وبولاق فظنوا بل أيقنوا أنهم أحرقوا البلدين، فماجوا واضطربوا زيادة عما هم فيه من الفزع والروع والجزع، وخرج أعيان الناس وأفندية الوجاقات وأكابرهم ونقيب الأشراف، وبعض المشايخ القادرين، فلما عاين العامة والرعية ذلك اشتد ضجرهم وخوفهم، وتحركت عزايمهم للهروب واللحاق بهم.
والحال أن الجميع لا يدرون أي طريق يسلكون، وأي جهة يذهبون، وأي محل يستقرون، فتلاحقوا وتسابقوا وخرجوا من كل حدب ينسلون، وبيع الحمار الأعرج أو البغل الضعيف بأضعاف ثمنه، وخرج أكثرهم ماشيًا أو حاملًا متاعه على راسه وزوجته حاملة طفلها، ومن قدر على مركوب أركب زوجته أو ابنته ومشى هو على أقدامه، وخرج غالب النسا ماشيات حاسرات وأطفالهن على أكتافهن يبكين في ظلمة الليل، واستمروا على ذلك بطول ليلة الأحد وصبحها، وأخذ كل إنسان ما قدر على حمله من مال ومتاع، فلما خرجوا من أبواب البلد، وتوسطوا الفلاة تلقتهم العربان والفلاحون، فأخذوا متاعهم ولباسهم وأحمالهم بحيث لم يتركوا لمن صادفوه ما يستر به عورته، أو يسد جوعته.
فكان ما أخذته العرب شيًّا كثيرًا يفوق الحصر، بحيث إن الأموال والذخاير التي جاءت من مصر في تلك الليلة أضعاف ما بقي فيها بلا شك؛ لأن معظم الأموال عند الأمرا والأعيان وحريمهم وقد أخذوه صحبتهم، وغالب مساتير الناس وأصحاب المقدرة أخرجوا أيضًا ما عندهم، والذي أقعده العجز وكان عنده ما يعز عليه من مال أو مصاغ أعطاه لجاره أو صديقه الراحل، ومثل ذلك أمانات وودايع الحجاج من المغاربة والمسافرين، فذهب ذلك جميعه، وربما قتلوا من قدروا عليه، أو دافع عن نفسه ومتاعه، وسلبوا ثياب النسا وفضحوهن وهتكوهن، وفيهم الخوندات والأعيان، فمنهم من رجع من قريب، وهم الذين تأخروا في الخروج، وبلغهم ما حصل للسابقين ومنهم من جازف متكلًا على كثرته وعزوته وخفارته فسلم أو عطب، وكانت ليلة وصباحها في غاية الشناعة جرى فيها ما لم يتفق مثله في مصر، ولا سمعنا بما شابه بعضه في تواريخ المتقدمين فما راءٍ كمن سمعا.
من معسكر الجيزة خطابًا لأهل مصر، إننا أرسلنا لكم في السابق كتابًا فيه الكفاية، وذكرنا لكم أننا ما حضرنا إلا بقصد إزالة المماليك الذين يستعملون الفرنساوية بالذل والاحتقار وأخذ مال التجار ومال السلطان، ولما حضرنا إلى البر الغربي خرجوا إلينا فقابلناهم بما يستحقونه، وقتلنا بعضهم، وأسرنا بعضهم عندنا، وهرب بعضهم، ونحن في طلبهم حتى لم يبق أحد منهم بالقطر المصري، وأما المشايخ والعلما وأصحاب المرتبات والرعية فيكونون مطمينين، وفي مساكنهم ومتاجرهم مرتاحين إلى آخر ما ذكرناه، ثم قال لهم: لازم أن المشايخ والشربجية يأتون إلينا لنرتب لهم ديوانًا ننتخبه من سبعة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور.
ولما رجع الجواب بذلك اطمأن الناس، وركب الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي وآخرون إلى الجيزة فتلقاهم وضحك لهم، وقال: أنتم المشايخ الكبار؟ فأعلموه أن المشايخ الكبار خافوا وهربوا، فقال: لأي شي يهربون؟ اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لكم ديوانًا لأجل راحتكم وراحة الرعية وإجراء الشريعة.
فكتبوا منه عدة مكاتبات بالحضور والأمان، ثم انفصلوا من معسكرهم بعد العشا، وحضروا إلى مصر واطمأن برجوعهم الناس، وكانوا في وجل وخوف على غيابهم، وأصبحوا فأرسلوا الأمان إلى المشايخ، فحضر الشيخ السادات والشيخ الشرقاوى والمشايخ، ومن انضم إليهم من الناس الفارين من ناحية المطرية.
وأما عمر أفندي نقيب الأشراف فإنه لم يطمين ولم يحضر، كذلك الروزنامجي والأفندية، وفي ذلك اليوم اجتمعت الجعيدية وأوباش الناس ونهبوا بيت إبراهيم بك ومراد بك اللذين بخطة قوصون وأحرقوهما، ونهبوا أيضًا عدة بيوت من بيوت الأمرا، وأخذوا ما فيها من فرش ونحاس وأمتعة وغير ذلك وباعوه بأبخس الأثمان.
وفي يوم الثلاثا عدت الفرنساوية إلى بر مصر، وسكن بونابارته ببيت محمد بك الألفي بالأزبكية بخط الساكت الذي أنشأه الأمير المذكور في السنة الماضية، زخرفه وصرف عليه أموالًا عظمية، وفرشه بالفُرُش الفاخرة، وعند تمامه وسكناه فيه حصلت هذه الحادثة، فأخلوه وتركوه بما فيه، فكأنه إنما كان يبنيه لأمير الفرنسيس.
وكذلك حصل في بيت حسن كاشف جركس بالناصرية، ولما عدى كبيرهم وسكن بالأزبكية كما ذكر، استمر غالبهم بالبر الآخر، ولم يدخل المدينة إلا القليل منهم، ومشوا في الأسواق من غير سلاح ولا تعدٍّ بل صاروا يضاحكون الناس، ويشترون ما يحتاجون إليه بأغلى ثمن، فيأخذ أحدهم الدجاجة ويعطي صاحبها في ثمنها ريال فرانسة، ويأخذ البيضة بنصف فضة قياسًا على أسعار بلادهم وأثمان بضايعهم.
فلما رأى منهم العامة ذلك أنسوا بهم، واطمأنوا لهم، وخرجوا إليهم بالكعك وأنواع الفطير والخبز والبيض والدجاج وأنواع المأكولات وغير ذلك مثل: السكر والصابون والدخان والبن، وصاروا يبيعون عليهم بما أحبوا من الأسعار وفتح غالب السوقة الحوانيت والقهاوي.
وفي يوم الخميس ثالث عشر صفر أرسلوا بطلب المشايخ والوجاقلية عند قايمقام صاري عسكر.
فلما استقر بهم الجلوس خاطبوهم، وتشاوروا معهم في تعيين عشرة أنفار من المشايخ للديوان وفصل الحكومات فوقع الاتفاق على الشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ خليل البكري، والشيخ مصطفى الصاوي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ محمد المهدي، والشيخ موسى السرسي، والشيخ مصطفى الدمنهوري، والشيخ أحمد العريشي، والشيخ يوسف الشبرخيتي، والشيخ محمد الدواخلي. وحضر ذلك المجلس أيضًا مصطفى كتخدا بكر باشا والقاضي، وقلدوا محمد أغا المسلماني أغات مستحفظان، وعلي أغا الشعراوي والي الشرطة، وحسن أغا محرم أمين احتساب، وذلك بإشارة أرباب الديوان فإنهم كانوا ممتنعين من تقليد المناصب لجنس المماليك، فعرفوهم أن سوقة مصر لا يخافون إلا من الأتراك ولا يحكمهم سواهم، وهؤلاء المذكورون من بقايا البيوت القديمة الذين لا يتجاسرون على الظلم كغيرهم، وقلدوا ذا الفقار كتخدا محمد بك كتخدا بونابارته، ومن أرباب المشورة الخواجا موسى وكلا الفرنساوي ووكيل الديوان حنا بينو.
وفيه اجتمع أرباب الديوان عند ريسه، فذكر لهم ما وقع من نهب البيوت، فقالوا له: هذا فعل الجعيدية وأوباش الناس، فقال: لأي شي يفعلون ذلك، وقد أوصيناكم بحفظ البيوت والختم على متاع المماليك؟! فقالوا: هذا أمر لا قدرة لنا على منعه، وإنما ذلك من وظيفة الحكام، فأمروا الأغا والوالي أن ينادوا بالأمان، وفتح الدكاكين والأسواق والمنع من النهب، فلم يستمعوا ولم ينتهوا، واستمر غالب الدكاكين مغلقة، والأسواق على حالها مقفرة معطلة، والناس غير مطمينين وقلوبهم مرجوفة مرجفة وصدورهم ضيقة، والتفت جماعة الفرنسيس إلى فتح البيوت التي للأمرا فصاروا يفتحون البيوت المغلوقة التي للأمرا، ودخلوها وأخذوا منها أشيا، وخرجوا وتركوها مفتوحة، فعندما يخرجون منها يدخلها طايفة الجعيدية، ويستأصلون ما فيها، واستمروا على ذلك عدة أيام، ثم إنهم تتبعوا بيوت الأمرا وأتباعهم وختموا على بعضها، وسكنوا بعضها، فكان الذي يخاف على داره من جماعة الوجاقلية أو من أهل البلد يعلق له بنديرة على باب داره، أو يأخذ له ورقة من الفرنسيس بخطهم لا يعرف ما فيها ويلصقها على داره.
وفيه قلدوا برطلمين النصراني الرومي، وهو الذي تسميه العامة فرط الرمان كتخدا مستحفظان، وركب بموكب من بيت صاري عسكر، وأمامه عدة من طوايف الأجناد والبطالين مشاة بين يديه، وعلى رأسه حشيشة من الحرير الملون وهو لابس فروة بزٍّ عادة، وبين يديه الخدم بالحراب المفضضة، ورتب له بيوك باشي، وقلقات عينوا لهم مراكز بأخطاط البلد يجلسون بها، وسكن المذكور ببيت يحيى كاشف الكبير بحارة عابدين، أخذه بما فيه من فرش ومتاع وجوارٍ، وغير ذلك.
والمذكور من أسافل نصارى الأروام العسكرية القاطنين بمصر، وكان من الطبجية عند محمد بك الألفي، وله حانوت بخط الموسكي يبيع فيه القوارير الزجاج أيام البطالة.
وقلدوا أيضًا شخصًا إفرنجيًّا وجعلوه أمين البحرين، وآخر جعلوه أغات الرسالة، وجعلوا الديوان ببيت قائد أغا بالأزبكية قرب الرويعي، وسكن به رئيس الديوان، وسكن «روتوي» قايمقام مصر ببيت إبراهيم بك الوالي المطل على بركة الفيل، وسكن شيخ البلد ببيت إبراهيم بك الكبير، وسكن «مجلون» ببيت مراد بك على رصيف الخشاب، وسكن «بوسليك» مدبِّر الحدود ببيت الشيخ البكري القديم، ويجتمع عنده النصارى القبط كل يوم، وطلبوا الدفاتر من الكتبة.
ثم إن عساكرهم صارت تدخل المدينة شيًّا فشيًّا، حتى امتلأت منها الطرقات، وسكنوا في البيوت، ولكن لم يشوشوا على أحد، ويأخذون المشتروات بزيادة عن ثمنها، ففجر السوقة وصغروا أقراص الخبز وطحنوه بترابه، وفتح الناس عدة دكاكين بجوار مساكنهم يبيعون فيها أصناف المأكولات، مثل: الطير والكعك والسمك المقلي واللحوم والفراخ المحمرة وغير ذلك.
وفتح نصارى الأروام عدة دكاكين لبيع أنواع الأشربة وخمامير وقهاويَ، وفتح بعض الإفرنج البلديين بيوتًا يصنع فيها أنواع الأطعمة والأشربة على طرايقهم في بلادهم، فيشتري الأغنام والدجاج والخضارات والأسماك والعسل والسكر وجميع اللوازم، ويطبخه الطباخون، ويصنعون أنواع الأطعمة والحلاوات، ويعمل على بابه علامة لذلك يعرفونها بينهم، فإذا مرت طايفة بذلك المكان تريد الأكل دخلوا إلى ذلك المكان، وهو يشتمل على عدة مجالس دون وأعلى، وعلى كل مجلس علامته، ومقدار الدراهم التي يدفعها الداخل فيه فيدخلون إلى ما يريدون من المجالس وفي وسطه دكة من الخشب، وهي الخوان التي يوضع عليها الطعام، وحولها كراسي فيجلسون عليها، ويأتيهم الفراشون بالطعام على قوانينهم، فيأكلون ويشربون على نسق لا يتعدونه، وبعد فراغ حاجتهم يدفعون ما وجب عليهم من غير نقص ولا زيادة ويذهبون لحالهم.
وفيه تشفَّع أرباب الديوان في أسرى المماليك فقبلوا شفاعتهم وأطلقوهم، فدخل الكثير منهم إلى الجامع الأزهر وهم في أسوأ حال، وعليهم الثياب الزرق المقطعة، فمكثوا به يأكلون من صدقات الفقرا المجاورين به، ويتكففون المارين، وفي ذلك عبرة للمعتبرين.
وفي يوم السبت، اجتمعوا بالديوان وطلبوا دراهم سلفة، وهي مقدار خمسماية ألف ريال من التجار المسلمين والنصارى القبط والشوام وتجار الإفرنج أيضًا، فسألوا التخفيف فلم يُجابوا، فأخذوا في تحصيلها.
وفيه نادوا: من أخذ شيًّا من نهب البيوت يحضر به إلى بيت قايمقام، وإن لم يفعل وظهر بعد ذلك حصل له مزيد الضرر، ونادوا أيضًا على نسا الأمرا بالأمان، وأنهن يسكن بيوتهن وإن كان عندهن شي من متاع أزواجهن يظهرنه، فإن لم يكن عندهن شي من متاع أزواجهن يصالحن على أنفسهن ويأمنَّ في دورهن، فظهرت الست نفيسة زوجة مراد بك، وصالحت عن نفسها وأتباعها من نسا الأمرا والكشاف بمبلغ قدره ماية وعشرون ألف ريال فرانسة، وأخذت في تحصيل ذلك من نفسها وغيرها، ووجهوا عليها الطلب، وكذلك بقية النسا بالوسايط المتداخلين في ذلك، كنصارى الشوام والإفرنج البلديين وغيرهم، فصاروا يعملون عليهن إرهاصات وتخويفات، وكذلك مصالحات على الغز والأجناد المختفين والغايبين والفارين، فجمعوا بذلك أموالًا كثيرة، وكتبوا للغايبين أوراقًا بالأمان بعد المصالحة، ويختم على تلك الأوراق المتقيدون بالديوان.
وفي يوم الأحد طلبوا الخيول والجمال والسلاح فكان شيًّا كثيرًا، وكذلك الأبقار والأثوار فحصل فيها أيضًا مصالحات، وأشاعوا التفتيش على ذلك، وكسروا عدة دكاكين بسوق السلاح وغيره، وأخذوا ما وجدوه فيها من الأسلحة، هذا وفي كل يوم ينقلون على الجمال والحمير من الأمتعة والفرش والصناديق والسروج وغير ذلك مما لا يحصى، ويستخرجون الخبايا والودايع، ويطلبون البنايين والمهندسين والخدام الذين يعرفون بيوت أسيادهم، بل يذهبون بأنفسهم ويدلونهم على أماكن الخبايا ومواضع الدفاين ليصير لهم بذلك قربة ووجاهة ووسيلة ينالون بها أغراضهم.
وفيه قبضوا على شيخ الجعيدية ومعه آخر، وبندقوا عليهما بالرصاص ببركة الأزبكية، ثم على آخرين أيضًا بالرميلة، وأحضر النهابون أشيا كثيرة من الأمتعة التي نهبوها عندما داخلهم الخوف، ودل على بعضهم البعض.
وفي يوم الثلاثا طلبوا أهل الحرف من التجار بالأسواق وقرروا عليهم دراهم على سبيل القرض والسلفة مبلغًا يعجزون عنه، وأجَّلوا لها أجلًا مقداره ستون يومًا؛ فضجوا واستغاثوا وذهبوا إلى الجامع الأزهر والمشهد الحسيني وتشفعوا بالمشايخ، فتكلموا لهم ولطفوها إلى نصف المطلوب، ووسَّعوا لهم في أيام المهلة.
وفيه شرعوا في تكسير أبواب الدروب والبوابات النافذة، وخرج عدة من عساكرهم يخلعون ويقلعون أبواب الدروب والعطف والحارات، فاستمروا على ذلك عدة أيام، وداخل الناس من ذلك وهم وخوف شديد، وظنوا ظنونًا وحصل عندهم فساد مخيلة ووسوسة تجسمت في نفوسهم بألفاظ نطقوا بها، وتصوروا حقيقتها وتناقلوها فيما بينهم، كقولهم: إن عساكر الفرنسيس عازمون على قتل المسلمين وهم في صلاة الجمعة، ومنهم من يقول غير ذلك، وذلك بعد أن كان حصل عندهم بعض اطمينان، وفتحوا بعض الدكاكين، فلما حصلت هاتان النكتتان انكمش الناس ثانية وارتجفت قلوبهم.
وفي عشرينه حضرت مكاتيب الحجاج من العقبة، فذهب أرباب الديوان إلى باش العسكر وأعلموه بذلك، وطلبوا منه أمانًا لأمير الحاج فامتنع، وقال: لا أعطيه ذلك إلا بشرط أن يأتي في قلة، ولا يدخل معه مماليك كثيرة ولا عسكر، فقالوا له: ومن يوصل الحجاج؟ فقال لهم: أنا أرسل لهم أربعة آلاف من العسكر يوصلونهم إلى مصر، فكتبوا لأمير الحاج مكاتبة بالملاطفة، وأنه يحضر بالحجاج إلى الدار الحمرا، وبعد ذلك يحصل الخير، فلم تصل إليهم الجوابات حتى كاتبهم إبراهيم بك يطلبهم — أي الحجاج — للحضور إلى جهة بلبيس فتوجهوا على بلبيس وأقاموا هناك أيامًا، وكان إبراهيم بك ومن معه ارتحل من بلبيس إلى المنصورة، وأرسلوا الحريم إلى القرين.
وفي ثالث عشرينه خرجت طايفة من العسكر الفرنساوي إلى جهة العادلية، وصار في كل يوم تذهب طايفة بعد أخرى، ويذهبون إلى جهة الشرق.
فلما كان ليلة الأربعا خرج كبيرهم بونابرته، وكانت أوايلهم وصلت إلى الخانكة وأبي زعبل، وطلبوا كلفة من أبي زعبل، فامتنعوا فقاتلوهم وضربوهم وكسروهم، ونهبوا البلدة وأحرقوها وارتحلوا إلى بلبيس.
وأما الحجاج فإنهم نزلوا ببلبيس، واكترت حجاج الفلاحين مع العرب فأوصلوهم إلى بلادهم بالغربية والمنوفية والقليوبية وغيرها، وكذلك فعل الكثير من الحجاج، فتفرقوا في البلد بحريمهم ومنهم من أقام ببلبيس، وأما أمير الحاج صالح بك، فإنه لحق بإبراهيم بك وصحبته جماعة من التجار وغيرهم.
وفي ثامن عشرينه مَلَكَ الفرنساوية مدينة بلبيس من غير قتال وبها من بقي من الحجاج، فلم يشوشوا عليهم، وأرسلوهم إلى مصر وصحبتهم طايفة من عساكرهم ومعهم طبل، فلما كان ليلة الأحد غايته جا الرد إلى الأمرا بالمنصورة وأخبرهم بوصول الإفرنج وقربهم منهم، فركبوا نصف الليل وترفعوا إلى جهة القرين وتركوا التجار وأصحاب الأثقال.
فلما طلع النهار حضر إليهم جماعة من العربان، واتفقوا معهم على أنهم يحملونهم إلى القرين وحلفوا لهم وعاهدوهم على أنهم لا يخونونهم، فلما توسطوا بهم الطريق نقضوا عهدهم وخانوهم ونهبوا حملوهم، وتقاسموا متاعهم وعرَّوْهم من ثيابهم، وفيهم كبير التجار السيد أحمد المحروقي، وكان ما يخصه نحو ثلثماية ألف ريال فرانسة نقودًا ومتجرًا من جميع الأصناف الحجازية، وصنعت العرب معهم ما لا خير فيه.
ولحقهم عسكر الفرنساوية، فذهب السيد أحمد المحروقي إلى صاري العسكر وواجهه وصحبته جماعة من العرب المنافقين، فشكا له ما حل به وبإخوانه، فلامهم على تنقلهم وركونهم إلى المماليك والعرب.
ثم قبض على أبي خشبة شيخ بلد القرين، وقال له: عرفني عن مكان المنهوبات، فقال: أرسل معي جماعة إلى القرين، فأرسل معه جماعة دلهم على بعض الأحمال، فأخذها الإفرنج ورفعوها ثم تبعوه إلى محل آخر فأوهمهم أنه يدخل ويخرج إليهم أحمالًا كذلك، فدخل وخرج من مكان آخر، وذهب هاربًا، فرجع أوليك العسكر بجمل ونصف جمل لا غير، وقالوا: هذا الذي وجدناه والرجل فر من أيدينا، فقال صاري عسكر: لا بد من تحصيل ذلك، فطلبوا منه الإذن في التوجه إلى مصر، فأصحب معهم عدة من عسكره أوصلوهم إلى مصر، وأمامهم طبل وهم في أسوأ حال، وصحبتهم أيضًا جماعة من النسا اللاتي كن خرجن ليلة الحادثة، وهن أيضًا في أسوأ حالة تسكب عند مشاهدتهن العبَرات.
واستهل شهر ربيع الأول بيوم الاثنين سنة ١٢١٣ﻫ (١٣ أغسطس ١٧٩٨م)
في ثانيه وصل الفرنساوي إلى نواحي القرين، وكان إبراهيم بك ومن معه وصلوا إلى الصالحية، وأودعوا مالهم وحريمهم هناك، وضمَّنوا عليها العربان وبعض الجند، فأخبر بعض العرب الفرنساوية بمكان الحملة، فركب صاري عسكر وأخذ معه الخيَّالة، وقصد الإغارة على الحملة، وعلم إبراهيم بك بذلك أيضًا، فركب هو وصالح بك وعدة من الأمرا والمماليك وتحاربوا معهم ساعة، أشرف فيها الفرنسيس على الهزيمة لكونهم على الخيول، وإذا بالخبر وصل إلى إبراهيم بك بأن العرب مالوا على الحملة يقصدون نهبها، فعند ذلك فرَّ بمن معه على إثره، وتركوا قتال الفرنسيس، ولحقوا بالعرب وجلَوْهم عن متاعهم، وقتلوا منهم عدة وارتحلوا إلى قَطْيَا، ورجع صاري عسكر إلى مصر، وترك عدة من عساكره متفرقين في البلاد، فدخل مصر ليلًا، وذلك ليلة الخميس رابعه.
وفي يوم الجمعة خامسه الموافق لثالث عشر مسرى القبطي كان وفا النيل المبارك، فأمر صاري عسكر بالاستعداد وتزيين العقبة كالعادة، وكذلك زينوا عدة مراكب وغلايين، ونادوا على الناس بالخروج إلى النزهة في النيل والمقياس والروضة على عادتهم، وأرسل صاري عسكر أوراقًا لكتخدا الباشا والقاضي وأرباب الديوان وأصحاب المشورة والمتولين للمناصب وغيرهم بالحضور في صبحها، وركب صحبتهم بموكبه وزينته وعساكره وطبوله وزموره إلى قصر قنطرة السد، وكسروا الجسر بحضرتهم، وعملوا شنك مدافع ونفوطًا حتى جرى الماء في الخليج وركب وهم صحبته حتى رجع إلى داره، وأما أهل البلد فلم يخرج منهم أحد تلك الليلة للتنزه في المراكب على العادة سوى النصارى الشوام والقبط والأروام والإفرنج البلديين ونسايهم، وقليل من الناس البطالين حضروا في صبحها.
وفيه تواترت الأخبار بحضور عدة مراكب من الإنكليز إلى ثغر إسكندرية، وأنهم حاربوا مراكب الفرنساوية الراسية بالمينا، وكانت أشيعت هذه الأخبار قبل، وتحدث الناس بها فصعب ذلك على الفرنساوية.
واتفق أن بعض النصارى الشوام نقل عن رجل شريف يسمى السيد أحمد الزرو من أعيان التجار بوكالة الصابون أنه تحدث بذلك فأمروا بإحضاره، وذكروا له ذلك، فقال: أنا حكيت ما سمعته من فلان النصراني فأحضروه أيضًا، وأمروا بقطع لسانيهما أو يدفع كل واحد منهما ماية ريال فرانسة نكالًا لهما وزجرًا عن الفضول فيما لا يعنيهما، فتشفع المشايخ فلم يقبلوا، فقال بعضهم: أطلقوهما ونحن نأتيكم بالدراهم فلم يرضوا، فأرسل الشيخ مصطفى الصاوي، وأحضر مايتي ريال ودفعها في الحضرة، فلما قبضها الوكيل ردها ثانيًا إليه، وقال: فرقها على الفقرا، فأظهر أنه فرقها كما أشار وردها إلى صاحبها، فانكفَّ الناس عن التكلم في شأن ذلك.
والواقع أن الإنكليز حضروا في إثرهم إلى الثغر وحاربوا مراكبهم، فنالوا منهم وأحرقوا القايق الكبير المسمى بنصف الدنيا، وكان به أموالهم وذخايرهم، وكان مصفحًا بالنحاس الأصفر، واستمر الإنكليز بمراكبهم بمينا الإسكندرية يغدون ويروحون يرصدون الفرنسيس، وفي ذلك اليوم سافر عدة من عساكرهم إلى بحري وإلى الشرقية.
ولما جرى الماء في الخليج منعوا دخول الماء إلى بركة الأزبكية، وسدوا قنطرة الدكة بسبب وطاقهم ومدافعهم وآلتهم التي فيها.
وفيه سأل صاري عسكر عن المولد النبوي، ولماذا لم يعملوه كعادتهم؟ فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور وتوقف الأحوال، فلم يقبل، وقال: لا بد من ذلك، وأعطى له ثلثماية ريال فرانسة معاونة، وأمر بتعليق تعاليق وأحبال وقناديل، واجتمع الفرنساوية يوم المولد، ولعبوا ميادينهم، وضربوا طبولهم ودبادبهم، وأرسل الطبلخانة الكبيرة إلى بيت الشيخ البكري، واستمروا يضربونها بطول النهار والليل بالبركة تحت داره، وهي عبارة عن طبلات كبار مثل طبلات النوبة التركية، وعدة آلات ومزامير مختلفة الأصوات مطربة، وعملوا في الليل حراقة نفوط مختلفة وسواريخ تصعد في الهواء.
وفي ذلك اليوم ألبس الشيخ خليل البكري فروة وتقلد نقابة الأشراف، ونودي في المدينة بأن كل من كان له دعوى على شريف فليرفعها إلى النقيب.
وفيه ورد الخبر بأن إبراهيم بك والأمرا المصرية استقروا بغزة.
وفي خامس عشره سافر عدة كبيرة من عسكر الفرنساوية جهة الصعيد، وكبيرهم ديزه وصحبتهم يعقوب القبطي ليعرفهم الأمور، ويطلعهم على المخبآت.
وفيه حضر القاصد الذي كان أرسله كبير الفرنساوية بمكاتبات وهدية إلى أحمد باشا الجزار بعكا، وذلك عند استقرارهم بمصر، وصحبته أنفار من النصارى الشوام في صفة تجار، ومعهم جانب أرز، ونزلوا من ثغر دمياط في سفينة من سفاين أحمد باشا، فلما وصلوا إلى عكا وعلم بهم أحمد باشا أمر بذلك الفرنساوي، فنقلوه إلى بعض النقاير، ولم يواجهه ولم يأخذ منه شيًّا، وأمره بالرجوع من حيث أتى، وعوق عنده نصارى الشوام الذين كانوا بصحبته.
وفيه حضر جماعة من عسكر الفرنساوية إلى بيت رضوان كاشف بباب الشعرية وصحبتهم ترجمان ومهندس، فانزعجت زوجته، وكانت قبل ذلك بأيام صالحت على نفسها وبيتها بألف ريال وثلثماية ريال، وأخذت منهم ورقة ألصقتها على باب دارها، وردت ما كانت وزعته من المال والمتاع عند معارفها واطمأنت، فلما حضر إليها الجماعة المذكورون قالوا لها: بلغ صاري عسكر أن عندك أسلحة وملابس للماليك، فأنكرت ذلك، فقالوا: لازم من التفتيش، فقالت: دونكم، فطلعوا من مكان وفتحوا مخبأة فوجدوا بها أربعة وعشرين شروالًا وبلكات وأمتعة وغير ذلك، ووجدوا في أسفلها مخبأة أخرى بها عدة كثيرة من الأسلحة والبنادق والطبنجات وصناديق بارود وغير ذلك، فاستخرجوا جميع ذلك، ثم نزلوا إلى تحت السلالم وفجروا الأرض، وأخرجوا منها دراهم كثيرة وحجاب ذهب في داخله دنانير، ثم أنزلوا صاحبة الدار ومعها جارية بيضاء، وأخذوهما مع الجواري السود، وذهبوا بهن، فأقمن عندهم ثلاثة أيام، ونهبوا ما وجدوه بالدار من فرش وأمتعة، ثم قرروا عليها أربعة آلاف ريال أخرى قامت بدفعها، وأطلقوها ورجعت إلى دارها.
وبسبب هذه الحادثة شددوا في طلب الأسلحة ونادوا بذلك، وأنهم بعد ثلاثة أيام يفتشون البيوت، وقال الناس: إن هذه حيلة على نهب البيوت ثم بطل ذلك، والسبب في ذلك أنه حصل بينها وبين مباشرها القبطي منافسة، فذهب وأغرى بها ودل على ذلك.
وفي عشرينه قلدوا مصطفى بك كتخدا الباشا على إمارة الحاج، فحضروا إلى المحكمة عند القاضي، ولبس هناك الخلعة بحضرة مشايخ الديوان، والتزم بونابارته بتشهيل مهمات الحج، وعمل محملًا جديدًا.
وفيه سأل أصحاب الحصص الالتزام في التصرف في حصصهم، فطلبوا منهم حلوانًا فلم يرتضوا بذلك، فواعدهم لتمام التحرير والإملا، وقالوا: كل من كان له التزام وتقسيط ناطق باسمه يحضره ويمليه، ففعلوا ذلك في عدة أيام.
وفيه قدروا فرضة من المال على القرى والبلاد، ونشروا بذلك أوراقًا وذكروا فيها أنها تحسب من المال وقيدوا بذلك الصيارف من القبط، ونزلوا في البلاد مثل الحكام يحبسون ويضربون ويشددون في الطلب.
وفيه طلب صاري عسكر بونابارته المشايخ، فلما استقروا عنده نهض بونابارته من المجلس ورجع وبيده طيلسانات ملونة بثلاثة ألوان، كل طيلسان ثلاثة عروض أبيض وأحمر وكحلي، فوضع منها واحدًا على كتف الشيخ الشرقاوي، فرمى به إلى الأرض، واستعفى وتغير مزاجه وانتقع لونه واحتد طبعه، فقال الترجمان: يا مشايخ أنتم صرتم أحبابًا لصاري عسكر، وهو يقصد تعظيمكم وتشريفكم بزيه وعلامته، فإن تميزتم بذلك عظمتكم العساكر والناس، وصار لكم منزلة في قلوبهم، فقالوا له: لكن قدرنا يضيع عند الله وعند إخواننا من المسلمين، فاغتاظ لذلك وتكلم بلسانه، وبلغ عنه بعض المترجمين أنه قال عن الشيخ الشرقاوي: إنه لا يصلح للرياسة ونحو ذلك، فلاطفه بقية الجماعة واستعفوه من ذلك، فقال: إن لم يكن ذلك فلازم من وضعكم الجوكار في صدوركم — وهي العلامة التي يقال لها الوردة — فقالوا: أمهلونا حتى نتروَّى في ذلك، واتفقوا على اثني عشر يومًا.
وفي ذلك الوقت حضر الشيخ السادات باستدعا فصادفهم منصرفين، فلما استقر به الجلوس بشَّ له وضاحكه صاري عسكر، ولاطفه في القول الذي يعربه الترجمان، وأهدى له خاتم ألماس، وكلفه الحضور في الغد عنده، وأحضر له جوكار وأوثقه بفراجته، فسكت وسايره، وقام وانصرف، فلما خرج من عنده رفعه.
وفي ذلك اليوم نادى جماعة القلقات على الناس بوضع العلامات المذكورة المعروفة بالوردة — وهي إشارة الطاعة والمحبة — فأنف غالب الناس من وضعها، وبعضهم رأى أن ذلك لا يخل بالدين إذ هو مكروه، وربما ترتب على عدم الامتثال الضرر فوضعها، ثم في عصر ذلك اليوم نادوا بإبطالها من العامة، وألزموا بعض الأعيان، ومن يريد الدخول عندهم لحاجة من الحاجات بوضعها، فكانوا يضعونها إذا حضروا عندهم، ويرفعونها إذا انفصلوا عنهم، وذلك أيام قليلة وحصل ما يأتي ذكره فتركت.
وفي أواخره كان انتقال الشمس لبرج الميزان، وهو الاعتدال الخريفي فشرع الفرنساوية في عمل عيدهم ببركة الأزبكية، وذلك اليوم كان ابتدا قيام الجمهور ببلادهم، فجعلوا ذلك اليوم عيدًا وتاريخًا فنقلوا أخشابًا وحفروا حفرًا، وأقاموا بوسط بركة الأزبكية صاريًا عظيمًا بآلة وبنا، وردموا حوله ترابًا كثيرًا عاليًا بمقدار قامة، وعملوا في أعلاه قالبًا من الخشب محدد الأعلى مربع الأركان مسلة، ولبسوا باقيه على سمت القالب قماشًا ثخينًا طلوه بالحمرة الجزعة، وعملوا أسفله قاعدة نقشوا عليها تصاوير سودا في بياض، ووضعوا قبالة باب الهوا بالبركة شبه بوابة كبيرة عالية من خشب مقفص، وكسوها بالقماش المدهون مثل لون الصاري، وفي أعلى القوصرة طلا أبيض، وبه تصاوير بالأسود مصور فيه مثل حرب المماليك المصرية معهم، وهم في شبه المنهزمين، بعضهم واقع على بعض، وبعضهم ملتفت إلى خلف، وعلى موازاة ذلك من الجهة الأخرى بناحية قنطرة الدكة التي يدخل منها الماء إلى البركة مثال بوابة أخرى على غير شكلها لأجل حراقة البارود، وأقاموا أخشابًا كثيرة منتصبة مصطفة منها إلى البوابة الأخرى شبه الدايرة متسعة محيطة بمعظم فضا البركة بحيث صار عمود الصاري الكبير المنتصف المذكور في المركز، وربطوا بين تلك الأخشاب حبالًا ممتدة، وعلقوا بها صفين من القناديل، وبين ذلك تماثيل لحراقة البارود أيضًا، وأقاموا في عمل ذلك عدة أيام.
واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الأربعا سنة ١٢١٣ﻫ
فيه وردت الأخبار بأن مراد بك ومن معه لما بلغهم ورود الفرنسيس عليهم رجعوا إلى جهة الفيوم، وأن عثمان بك الأشقر عدى إلى البر الشرقي، وذهب من خلف الجبل إلى أستاذه إبراهيم بك بغزة، وخرج جماعة من الفرنساوية إلى جهة الشرق، ومعهم عدة جمال وأحمال، فخرج عليهم الغُزُّ والعرب الذين يصحبونهم، فأخذوا منهم عدة جمال بأحمالها ولم يلحقوهم.
وفي ثالثه حضرت مكاتبة من إبراهيم بك خطابًا للمشايخ وغيرهم، مضمونها: أنكم تكونون مطمينين ومحافظين على أنفسكم والرعية، وأن حضرة مولانا السلطان وجه لنا عساكر، وإن شا الله تعالى عن قريب نحضر عندكم، فلما وردت تلك المكاتبة، وقد كان سأل عنها بونابارته، فأرسلوها له وقريت عليه، فقال: المماليك كذابون.
ووافق أيضًا أنه حضر أغا رومي، وكان معوقًا بالإسكندرية، فمر بالشارع وذهب لزيارة المشهد الحسيني فشاهده الناس، فاستغربوا هيئته وفرحوا برؤيته، وقالوا: هذا رسول الحي حضر من عند السلطان بجواب للفرنسيس، يأمرهم بالخروج من مصر واختلفت رواياتهم وآراهم وأخبارهم، وتجمعوا بالمشهد الحسيني وتبع بعضهم بعضًا.
وصادف ذلك أن بونابارته في ذلك الوقت بلغه مما نقل وتناقل بين الناس أنه ورد مكتوب إلى المشايخ أيضًا وأخفوه، فركب من فوره وحضر إلى بيت الشيخ السادات بالمشهد الحسيني، وكان الوقت بعد الظهر فدخل على حين غفلة، ولم يكن تقدم له مجي، وهو في كبكبة وخيول كثيرة وعساكر، فانزعج الشيخ وكان منحرف المزاج، ونزل إليه وهو لا يعرف السبب في مجيه في مثل هذا الوقت على هذه الصورة، فعندما شاهده سأله عن ذلك المكتوب، فقال: لا علم لي بذلك، ولم يكن بلغه الخبر.
ثم جلس مقدار ساعة وركب ومر بعسكره وطوافيه من باب المشهد، والناس قد كثر ازدحامهم بالجامع والخطة وهم يلغطون ويخلطون.
فلما نظروه وشاهد هو جمعيتهم داخله أمر من ذلك، فصاحوا بأجمعهم وقالوا بصوت عالٍ (الفاتحة)، فشخص إليهم، وصار يسأل من معه عن ازدحامهم، فلطفوا له القول، وقالوا له: إنهم يدعون لك، وذهب إلى داره وكانت نكتة غريبة، وساعة اتفاقية عجيبة كاد ينشا منها فتنة.
وفيه شرعوا في خلع البوابات والدروب الغير النافذة أيضًا، ونقلوا الجميع إلى بركة الأزبكية عند رصيف الخشاب والبوابة الكبيرة يقطعونها نصفين، ويرفعونها بالعتالين إلى هناك، فاجتمع من ذلك شيء كثير جدًّا وامتلا من رصيف الخشاب إلى قريب وسط البركة.
وفي يوم السبت حادي عشره كان يوم عيدهم الموعود به، فضربوا في صبيحته مدافع كثيرة، ووضعوا على كل قايم من الخشب بنديرة من بنديراتهم الملونة، وضربوا طبولهم، واجتمعت عساكرهم بالبركة الخيالة والرجالة، واصطفوا صفوفًا على طرايقهم المعروفة بينهم، ودعوا المشايخ وأعيان المسلمين والقبطة والشوام، فاجتمعوا ببيت صاري عسكر بونابارته، وجلسوا حصة من النهار.
ولبسوا في ذلك اليوم ملابس الافتخار، ولبس المعلم جرجس الجوهري كركه بطرز قصب على أكتافها إلى أكمامها وعلى صدرها شمسات قصب بأزرار، وكذلك فلتيوس، وتعمموا بالعمايم الكشميري، وركبوا البغال الفارهة وأظهروا البشر والسرور في ذلك اليوم إلى الغاية، ثم نزل عظماهم وصحبتهم المشايخ والقاضي وكتخدا الباشا، فركبوا وذهبوا عند الصاري الكبير الموضوع بوسط البركة، وقد كانوا فرشوا في أسفله بسطًا كثيرة.
ثم إن العساكر لعبوا ميدانهم، وعملوا هيئة حربهم وضربوا البنادق والمدافع، فلما انقضى ذلك اصطفت العساكر صفوفًا حول ذلك الصاري، وقرأ عليهم كبير قسوسهم ورقة بلغتهم لا يدري معناها إلا هم، وكأنها كالوصية أو النصيحة أو الوعظ، ثم قاموا وانفض الجمع، ورجع صاري عسكر إلى داره، فمد سماطًا عظيمًا للحاضرين، فلما كان عند الغروب أوقدوا جميع القناديل التي على الجبال والتماثيل والأحمال التي على البيوت، وعند العشا عملوا حراقة بارود وسواريخ ونفوط وشبه سواقي ودواليب من قار ومدافع كثيرة نحو ساعتين من الليل، واستمرت القناديل موقدة حتى طلع النهار.
ثم فكوا الحبال والتعاليق والتماثيل المصنوعة، وبقيت البوابة المقابلة لباب الهوا والصاري الكبير وتحته جماعة ملازمون الإقامة عنده ليلًا ونهارًا من عساكرهم؛ لأنه شعارهم وإشارة إلى قيام دولتهم في زعمهم.
وفي ثاني ليلة منه ركب كبيرهم إلى بر الجيزة وسفَّر عساكر إلى الجهة التي بها مراد بك، وكذلك إلى جهة الشرقية، ومعهم مدافع على عجل، وفيه أرسل دبوي قايمقام إلى الست نفيسة، وطلب منها إحضار زوجة عثمان بك الطنبرجي، فأرسلت إلى المشايخ تستغيث بهم، فحضر إليها الشيخ محمد المهدي والشيخ موسى السرسي، وقصدوا منعها فلم يمكنهم، فذهبوا صحبتها ونظروا في قصتها.
والسبب في طلبها أنهم وجدوا رجلًا فراشًا معه جانب دُخَان وبعض ثياب، فقبضوا عليه وقرروه فأخبر أنه تابعها، وأنها أعطته ذلك ووعدته بالرجوع إليها لتسلمه شبكي دخان وفروة وخمسماية محبوب ليوصل ذلك إلى سيده، فهذا هو السبب في طلبها، فقالوا: وأين الفراش؟ فبعثوا لإحضاره، وسألوها فأنكرت ذلك بالمرة، فانتظروا حضور الفراش إلى بعد الغروب فلم يحضر، فقال لهم المشايخ: دعوها تذهب إلى بيتها، وفي غد تأتي ونحقق هذه القضية، فقال دبوي: «نو نو»، ومعناه بلغتهم النفي، أي لا تذهب، فقالوا له: دعها تذهب هي ونحن نبيت عوضًا عنها، فلم يرضَ أيضًا، وعالجوا في ذلك بقدر طاقتهم، فلما أيسوا تركوها ومضوا، فباتت عندهم في ناحية من البيت وصحبتها جماعة من النسا المسلمات والنسا الإفرنجيات.
فلما أصبح النهار ركب المشايخ إلى كتخدا الباشا والقاضي فركبا معًا وذهبا إلى بيت صاري عسكر الكبير، فأحضرها وسلمها إلى القاضي، ولم يثبت عليها شي من هذه الدعوة، وقرروا عليها ثلاثة آلاف ريال فرانسة، وذهبت إلى بيت لها مجاور لبيت القاضي، وأقامت فيه لتكون في حمايته.
وفي يوم الخميس نادوا في الأسواق بأن كل من كان عنده بغلة يذهب بها إلى بيت قايمقام ببركة الفيل ويأخذ ثمنها، وإذا لم يحضرها بنفسه تؤخذ منه قهرًا، ويدفع ثلثماية ريال فرانسة، وإن أحضرها باختياره يأخذ في ثمنها خمسين ريالًا، قلت قيمتها أو كثرت، فغنم صاحب الخسيس، وخسر صاحب النفيس، ثم ترك ذلك.
وفيه نادوا بوقود قناديل سهاري بالطرق والأسواق، وأن يكون على كل دار قنديل وعلى كل ثلاثة دكاكين قنديل، وأن يلازموا الكنس والرش، وتنظيف الطرق من العفوشات والقاذورات.
وفيه نادوا على الأغراب من المغاربة وغيرهم والخدامين البطالين ليسافروا إلى بلادهم، وكل من وجد بعد ثلاثة أيام يستاهل الذي يجري عليه، وكرروا المناداة بذلك، وأجلوها بعدها أربعًا وعشرين ساعة، فذهبت جماعة من المغاربة إلى صاري عسكر، وقالوا له: أرنا طريقًا للذهاب، فإن طريق البر غير مسلوكة والإنكليز واقفون بطريق البحر، يمنعون المسافرين، ولا نقدر على المقام في الإسكندرية من الغلا وعدم الماء بها فتركهم.
وفيه جعلوا إبراهيم أغات المتفرقة المعمار قبطان السويس، وسافر معه أنفار ببيرق فرنساوي فخرج عليهم العربان في الطريق فنهبوهم وقتلوا إبراهيم أغا المذكور ومن بصحبته، ولم يسلم منهم إلا القليل، وفيه أهمل أمر الديوان الذي يحضره المشايخ ببيت قايد آغا، فاستمروا أيامًا يذهبون، فلم يأتهم أحد فتركوا الذهاب فلم يطلبوا.
وفيه شرعوا في ترتيب ديوان آخر وسموه محكمة القضايا، وكتبوا في شأن ذلك طومار وشرطوا فيه شروطًا، ورتبوا فيه ستة أنفار من النصارى القبط، وستة أنفار من تجار المسلمين، وجعلوا قاضيه الكبير ملطي القبطي الذي كان كاتبًا عند أيوب بك الدفتردار، وفوضوا إليهم القضايا في أمور التجار والعامة والمواريث والدعاوى، وجعلوا لذلك الديوان قواعد وأركانًا من البدع السيئة، وكتبوا نسخًا من ذلك كثيرة، أرسلوا منها إلى الأعيان، ولصقوا منها نسخًا في مفارق الطرق وروس العطف وأبواب المساجد، وشرطوا في ضمنه شروطًا، وفي ضمن تلك الشروط شروطًا أخرى بتعبيرات سخيفة يفهم منها المراد بعد التأمل الكثير لعدم معرفتهم بقوانين التراكيب العربية، ومحصلة التحيل على أخذ الأموال، كقولهم بأن أصحاب الأملاك يأتون بحججهم وتمسكاتهم الشاهدة لهم بالتمليك، فإذا أحضروها وبينوا وجه تملكهم لها إما بالبيع أو الانتقال لهم بالإرث لا يُكتفَى بذلك؛ بل يومر بالكشف عليها في السجلات، ويدفع على ذلك الكشف دراهم بقدر عينوه في ذلك الطومار، فإن وجد تمسكه مقيدًا بالسجل طلب منه بعد ذلك الثبوت، ويدفع على ذلك الإشهاد بعد ثبوته وقبوله قدرًا آخر، ويأخذ بذلك تصحيحًا ويكتب له بعد ذلك تمكين، وينظر بعد ذلك في قيمته، ويدفع على كل ماية اثنين، فإن لم يكن له حجة أو كانت ولم تكن مقيدة بالسجل، أو مقيدة ولم يثبت ذلك التقييد، فإنها تضبط لديوان الجمهور، وتصير من حقوقهم وهذا شي متعذر، وذلك أن الناس إنما وضعوا أيديهم على أملاكهم إما بالشرا أو بأيلولتها لهم من مورثهم، أو نحو ذلك بحجة قريبة أو بعيدة العهد، أو بحجج أسلافهم ومورثيهم، فإذا طولبوا بإثبات مضمونها تعسر أو تعذر لحادث الموت أو الأسفار، أو ربما حضرت الشهود فلم تقبل، فإن قبلت فعل به ما ذكره.
ومن جملة الشروط مقررات على المواريث والموتى ومقاديرها متنوعة في القلة والكثرة، كقولهم: إذا مات الميت يشاورون عليه، ويدفعون معلومًا لذلك، ويفتحون تركته بعد أربع وعشرين ساعة، فإذا بقيت أكثر من ذلك ضبطت للديوان أيضًا ولا حق فيها للورثة، وإن فتحت على الرسم بإذن الديوان يدفع على ذلك الإذن مقررًا، وكذلك على ثبوت الورثة، ثم عليهم بعد قبض ما يخصهم مقرر، وكذلك من يدعي دَينًا على الميت يثبته بديوان الحشريات، ويدفع على إثباته مقررًا، ويأخذ له ورقة يستلم بها دينه، فإذا استلمه دفع مقررًا أيضًا.
ومثل ذلك في الرزق والأطيان بشروط وأنواع وكيفية أخرى غير ذلك، والهبات والمبايعات والدعاوى والمنازعات والمشاجرات والإشهادات الجزئيات والكليات، والمسافر كذلك لا يسافر إلا بورقة ويدفع عليها قدرًا، وكذلك المولود إذا ولد يقال له إثبات الحياة، وكذلك المؤجرات وقبض أجر الأملاك وغير ذلك.
وفيه نادى أصحاب الدرك على العامة بترك الفضول والكلام في أمور الدولة، فإذا مر عليهم جماعة من العسكر مجروحون أو منهزمون لا يسخرون بهم، ولا يصفقون عليهم كما هي عادتهم.
وفيه نهبوا أمتعة عسكر القلينجية الذين كانوا عسكرًا عند الأمرا، فأخذوا مكانًا بوكالة علي بك بساحل بولاق وبالجمالية، وأخذوا متاعهم ومتاع شركاهم محتجين بأنهم قاتلوا مع المماليك، وهربوا معهم.
وفيه أحضروا محمد كتخدا أبا سيف الذي كان سردارًا بدمياط من طرف الأمرا المصريين، وكان سابقًا كتخدا حسن بك الجداوي، فلما حضر حبسوه في القلعة، وحبسوا معه فراشًا لإبراهيم بك.
وفيه أمروا سكان القلعة بالخروج من منازلهم، والنزول إلى المدينة ليسكنوا بها، فنزلوا وأصعدوا إلى القلعة مدافع ركزوها بعدة مواضع وهدموا بها أبنية كثيرة، وشرعوا في بناء حيطان وكرانك وأسوار، وهدموا أبنية عالية، وأعلوا مواضع منخفضة، وبنوا على بدنات باب العزب بالرميلة وغيروا معالمها، وأبدلوا محاسنها، ومحوا ما كان بها من معالم السلاطين وآثار الحكما والعظما، وما كان في الأبواب العظام من الأسلحة والدرق والبلط والحوادث والحرب الهندية وأكر الفداوية، وهدموا قصر يوسف صلاح الدين ومحاسن الملوك والسلاطين ذوات الأركان الشاهقة والأعمدة الباسقة.
وفيه عينت عساكر إلى مراد بك، وذهبوا إليه ببحر يوسف جهة الفيوم.
وفي يوم الخميس سادس عشره نودي بأن كل من تشاجر مع نصراني أو يهودي، أو تشاجر معه نصراني أو يهودي يشهد أحد الخصمين على الآخر، ويطلبه لبيت صاري عسكر.
وفيه قتلوا شخصين وطافوا بروسهما، وهم ينادون عليهما، ويقولون: هذا جزاء من يأتي بمكاتيب من عند المماليك، أو يذهب إليهم بمكاتيب.
وفيه نبَّهوا الناس بالمنع من دفن الموتى بالترب القريبة من المساكن كتربة الأزبكية والرويعي، ولا يدفنون الموتى إلا في القرافات البعيدة، والذي ليس له تربة بالقرافة يدفن ميته في ترب المماليك، وإذا دفنوا يبالغون في تسفيل الحفر، ونادوا أيضًا بنشر الثياب والأمتعة والفرش بالأسطحة عدة أيام، وتبخير البيوت بالبخورات المذهبة للعفونة، كل ذلك للخوف من حصول الطاعون وعدواه، ويقولون: إن العفونة تنحبس بأغوار الأرض، فإذا دخل الشتا وبردت الأغوار بسريان النيل والأمطار والرطوبات، خرج ما كان منحبسًا بالأرض من الأبخرة الفاسدة، فتعفن الهوا فيحصل الوبا والطاعون.
ومن قولهم أيضًا: إن مرض مريض فلا بد من الإخبار عنه، فيرسلون من جهتهم حكيمًا للكشف عليه إن كان مرضه بالطاعون أو بغيره، ثم يرون رأيهم فيه.
وفي يوم السبت ثامن عشره ذهبت جماعة من القوَّاسة الذين يخدمون الفرنساوية، وشرعوا في هدم التراكيب المبنية على المقابر بتربة الأزبكية وتمهيدها بالأرض، فشاع الخبر بذلك، وتسامع أصحاب الترب بتلك البقعة، فخرجوا من كل حدب ينسلون، وأكثرهم النسا الساكنات بحارة المدابغ وباب اللوق وكوم الشيخ سلامة والفوالة والمناصرة وقنطرة الأمير حسين وقلعة الكلاب، إلى أن صاروا كالجراد المنتشر، ولهم صياح وضجيج، واجتمعوا بالأزبكية، ووقفوا تحت بيت صاري عسكر، فنزل لهم المترجمون، واعتذروا بأن صاري عسكر لا علم له بذلك الهدم، ولم يأمر به وإنما أمر بمنع الدفن فقط، فرجعوا إلى أماكنهم، ورفع الهدم عنهم.
وفيه كتبوا من المشايخ كتابًا ليرسلوه إلى السلطان، وآخر إلى شريف مكة، ثم إنهم بصموا منه عدة نسخ، ولصقوها بالطرق والمفارق وصورته ملخصًا:
بعد الصدور وذكر ورودهم وقتالهم مع المماليك وهروبهم، وأن جماعة من العلما ذهبت إليه بالبر الغربي فأمنوهم، وكذلك الرعية دون المماليك، وذكروا فيه أنهم من أخصا السلطان العثماني وأعدا أعدايه، وأن السكة والخطبة باسمه، وشعاير الإسلام مقامة على ما هي عليه وباقية بمعنى الكلام السابق من قولهم إنهم مسلمون، وإنهم محترمون القرآن والنبي، وإنهم أوصلوا الحجاج المتشتتين وأكرموهم، وأركبوا الماشي، وأطعموا الجيعان، وسقوا العطشان، واعتنوا بيوم الزينة يوم جبر البحر، وعملوا له شنكًا ورونقًا استجلاب السرور للمومنين، وأنفقوا أموالًا برسم الصدقة على الفقرا، وكذلك اعتنوا بالمولد النبوي، وأنفقوا أموالًا في شأن انتظامه، واتفق رأينا ورأيهم على لبس حضرة الجناب المحترم مصطفى أغا كتخدا بكر باشا والي مصر حالًا، فاستحسنا ذلك لبقاء عُلقَة الدولة العلية، وهم أيضًا مجتهدون في إتمام مهمات الحرمين، وأمرونا أن نعلمكم بذلك والسلام.
وفيه وقعت حادثة جزئية من جملة الجزئيات، وهي أن رجلًا صيرفيًّا بجوار حارة الجوانية وقع من لفظه أنه قال: السيد أحمد البدوي بالشرق، والسيد إبراهيم الدسوقي بالغرب يقتلان كل من يمر عليهما من النصارى، وكان هذا الكلام بمحضر من النصارى الشوام، فجاوبه بعضهم وأسمعه قبيح القول، ووقع بينهما التشاجر، فقام النصراني وذهب إلى دبوي، وأخبره بالقصة فأرسل وقبض على ذلك الصيرفي وحبسه وسمر حانوته، وختم على داره، وتشفع فيه المشايخ عدة مرار، فأطلقوه بعد يومين وأرسلوه إلى بيت الشيخ البكري ليؤدب هناك بالضرب، أو يدفع خمسماية ريال فرانسة، فضرب ماية سوط وأطلق إلى سبيله، وكذلك أفرجوا عن بقية المسجونين.
وفي يوم الاثنين طاف أصحاب الدرك على الأخطاط والوكايل، فكتبوا أسماها وأسما البوابين، وأمروهم أن لا يسكنوا أحدًا من الأغراب، ولا يطلقوا أحدًا يسافر بلا إذن من أغات مستحفظان.
وفي يوم الثلاثا عمل المولد الحسيني، وكان من العزم تركه في هذا العام، فدس بعض المنافقين دسيسة عند الفرنسيس، وذلك أنه وقعت المذاكرة بأن من المعتاد أن يعمل المولد الحسيني بعد المولد النبي، فقال بونابارته: ولمَ لَمْ يعملوه؟ فقال ذلك المنافق: غرض الشيخ السادات عدم عمله إلا إذا حضر المسلمون، فبلغ شيخ السادات ذلك، فشرع في عمله على سبيل الاختصار، وحضر صاري عسكر وشاهد الوقدة ورجع داره بعد العشا.
وفيه حضر علما الإسكندرية وأعيانها، وكذلك رشيد ودمياط وبقية البنادر باستدعا صاري عسكر ليحضروا الديوان الشارعين فيه لترتيب النظام الذي سبقت الإشارة إليه.
وفيه سافر أيضًا جماعة من الفرنسيس إلى جهة مراد بك ومن معه، التقوا معهم وتراموا ساعة، ثم انهزموا عنهم، وفي أنفسهم، فتتبعوهم إلى أسفل جبل اللاهون، ثم خرجوا عليهم على مثل حالهم رجالًا، وتراموا معهم، وأكمنوا لهم وثبتوا معهم، وظهر عليهم المصريون، وقتل من الفرنساوية مقتلة كبيرة.
وفيه سقطت البوابة المصنوعة ببركة الأزبكية المقابلة لباب الهوا التي كانوا وضعوها في يوم عيدهم، وقد تقدم شرحها ووصفها، وسبب سقوطها أنهم لما منعوا الما من دخوله للبركة، وسدوا القنطرة كما تقدم، علا الماء في أرض البركة، وتخلخلت الأرض فسقطت تلك البوابة.
وفي يوم الجمعة رابع عشرينه نبَّهوا على المشايخ والأعيان والتجار ومن حضر من الأقطار بالحضور إلى الديوان العام ومحكمة النظام بكرة تاريخه، وذلك ببيت مرزوق بك بحارة عابدين، فلما أصبح يوم السبت أعادوا التنبيه بحضورهم بالديوان القديم ببيت قايد أغا بالأزبكية، فتوجه المشايخ المصرية والذين حضروا من الثغور والبلاد، وحضر الوجاقات وأعيان التجار ونصارى القبط والشوام، ومدبرو الديوان من الفرنسيس وغيرهم جمعًا موفورًا.
فلما استقر بهم الجلوس شرع ملطي القبطي الذي عملوه قاضي في قراة فرمان الشروط، وفي المناقشة فابتدر كبير المدبرين في إخراج طومار آخر، وناوله للترجمان فنشره وقراه، وملخصه ومضمونه:
الإخبار بأن قطر مصر هو المركز الوحيد، وأنه أخصب البلاد، وكان يجلب إليه المتاجر من البلاد البعيدة، وأن العلوم والصنايع والقراءة والكتابة التي يعرفها الناس في الدنيا أخذت عن أجداد أهل مصر الأول، ولكون قطر مصر بهذه الصفات طمعت الأمم في تملكه، فملكه أهل بابل، وملكه اليونان والعرب والترك الآن، إلا أن دولة الترك شددت في خرابه؛ لأنها إذا حصلت الثمرة قطعت عروقها، فلذلك لم يبقوا بأيدي الناس إلا القدر اليسير، وصار الناس لأجل ذلك مختفين تحت حجاب الفقر وقاية لأنفسهم من سوء ظلمهم.
ثم إن طايفة الفرنساوية بعدما تمهد أمرهم، وبعد صيتهم بقيامهم بأمور الحروب اشتاقت أنفسهم لاستخلاص مصر مما هي فيه، وإراحة أهلها من تغلب هذه الدولة المفعمة جهلًا وغباوة فقدموا وحصل لهم النصرة، ومع ذلك لم يتعرضوا لأحد من الناس، ولم يعاملوا الناس بقسوة، وإن غرضهم تنظيم أمور مصر، وإجراء خلجانها التي دثرت، ويصير لها طريقان: طريق إلى البحر الأسود، وطريق إلى البحر الأحمر، فيزداد خصبها وريعها، ومنع القوي من ظلم الضعيف وغير ذلك، استجلابًا لخواطر أهلها، وإبقا للذكر الحسن.
فالمناسب من أهلها ترك الشغب وإخلاص المودة، وإن هذه الطوايف المحضرة من الأقاليم يترتب على حضورها أمور جليلة؛ لأنهم أهل خبرة وعقل، فيسألون عن أمور ضرورية ويجيبون عنها، فينتج لصاري عسكر من ذلك ما يليق صنعه إلى آخر ما سطروه من الكلام.
قلت: ولم يعجبني في هذا التركيب إلا قوله المفعمة جهلًا وغباوة بعد قوله اشتاقت أنفسهم، ومنها قوله بعد ذلك، ومع ذلك لم يتعرضوا لأحد إلى آخر العبارة.
ثم قال الترجمان: نريد منكم يا مشايخ أن تختاروا شخصًا منكم يكون كبيرًا وريسًا عليكم ممتثلين أمره وإشارته، فقال بعض الحاضرين: الشيخ الشرقاوي، فقال: نو نو، وإنما ذلك يكون بالقرعة، فعملوا قرعة بأوراق، فطلع الأكثر على الشيخ الشرقاوي.
فقال: حينئذ يكون الشيخ عبد الله الشرقاوي هو الريس، فما تم هذا الأمر حتى زالت الشمس، فأذنوا لهم في الذهاب، وألزموهم بالحضور في كل يوم.
وفيه وقعت كاينة الحاج محمد بن قيمو المغربي التاجر الطرابلسي، وهو أنه كان بينه وبين بعض نصارى الشوام المترجمين منافسة، فأنهوا إلى عظما الفرنسيس أنه ذو مال، وأنه شريك عبد الله المغربي تابع مراد بك، فأرسلوا بطلبه، فذهب إلى بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي لنسابة بينهما، فقال الشيخ للقواسة المرسلين بعد سؤالهم عن سبب طلبهم له، فقالوا: لدعوة ليست شرعية، فقال لهم: في غد أحضروا خصمه، ويتداعى معه، فإن توجه الحق عليه ألزمناه بدفعه، فرجعت الرسل، وتغيب الرجل لخوفه.
فبعد مضي مقدار نحو ساعة حضر نحو الخمسين عسكري من الفرنسيس إلى بيت الشيخ وطالبوه به، فأخبرهم أنه هرب، فلم يقبلوا عذره، وألحوا في طلبه، ووقفوا ببنادقهم وأرهبوا، فركب المهدي والدواخلي إلى صاري عسكر وأخبروه بالقضية وبهروب الرجل، فقال: ولأي شي يهرب؟ فقالوا: من خوفه، فقال: لولا أن جرمه كبير لما هرب، وأنتم غيبتموه وأظهر الحنق والغيظ، فلاطفاه واستعطفا خاطر الترجمان، فكلمه وسكن غيظه، ثم سأل عن منزله ومخزنه، فأخبراه عنهما، فقال: يذهب معكما من يختم عليهما حتى يظهر في غد، فاطمأنوا لذلك، ورجعوا عند الغروب، وختموا على مخزنه ومنزله، فلما أصبح النهار فلم يظهر الرجل فأخذوا ما وجدوه فيهما من البضايع والأمانات.
وفي يوم الأحد ذهبوا إلى الديوان وعملوا مثل عملهم الأول حتى تمموا أسما المنتخبين بديوان مصر من الثغور والمشايخ والوجاقلية والقبط والشوام وتجار المسلمين، وذلك الترتيب غير ترتيب الديوان السابق.
وفي يوم الاثنين اجتمعوا بالديوان ونادى المنادي في ذلك اليوم بالأسواق على الناس بإحضارهم حجج أملاكهم إلى الديوان، والمهلة ثلاثون يومًا، فإن تأخر عن الثلاثين يضاعف المقرر، ومهلة البلاد ستون يومًا.
ولما تكامل الجميع شرع ملطي في قراءة المنشور، وتعداد ما به من الشروط مسطور، وذكر من ذلك أشيا، منها:
أمر المحاكم والقضايا الشرعية وحجج العقارات، وأمر المواريث وتناقشوا في ذلك حصة من الزمن وكتبوا هذه الأربعة أشيا: أرباب ديوان الخاصة يدبرون رأيهم في ذلك، وينظرون المناسب والأحسن، وما فيه الراحة لهم وللرعية، ثم يعرضون ما دبروه يوم الخميس وما بين ذلك له مهلة، وانفض المجلس.
واستهل شهر جمادى الأولى بيوم الخميس الموعود سنة ١٢١٣ﻫ
واجتمعوا بالديوان ومعهم ما لخصوه واستأصلوه في الجملة، فأما أمر المحاكم والقضايا فالأولى إبقاؤها على ترتيبها ونظامها، وعرفوهم عن كيفية ذلك، ومثل ذلك ما عليه أمر محاكم البلاد، فاستحسنوا ذلك إلا أنهم قالوا: يحتاج إلى ضبط المحاصيل وتقريرها على أمر لا يتعداه القضاة ولا نوابهم، فقرروا ذلك.
وهو أنه إذا كان عشرة آلاف فما دونها يكون على كل ألف ثلاثون نصفًا، وإذا كان المبلغ ماية تكون على الألف خمسة عشر، فإن زاد على ذلك فعشرة، واتفقوا على تقرير القضاة ونوابهم على ذلك.
وأما حجج العقارات فإنه أمر شاق طويل الذيل، فالمناسب فيه والأولى أن يجعلوا عليها دراهم من بادي الرأي ليسهل تحصيلها، ويحسن عليها السكوت، ويكون المحصول أعلى وأدنى وأوسط، وبينوا القدر المناسب بتفصيل الأماكن، وكتبوه وأبقوه حتى يرى الآخرون رأيهم فيه، وانفض الديوان.
وفي ذلك اليوم نودي في الأسواق بنشر الثياب والأمتعة خمسة عشر يومًا، وقيدوا على مشايخ الأخطاط والحارات والقلقات بالفحص والتفتيش، فعينوا لكل حارة امرأة ورجلين يدخلون البيوت للكشف على ذلك، فتصعد المرأة إلى أعلى الدار وتخبرهم عن صحة نشرهم الثياب، ثم يذهبون بعد التأكد على أهل المنزل والتحذير من ترك الفعل، وكل ذلك لذهاب العفونة الموجبة للطاعون، وكتبوا بذلك أوراقًا لصقوهم بحيطان الأسواق على عادتهم في ذلك.
وفيه حضر إلى بيت البكري جم غفير من أولاد الكتاتيب والفقها والعميان والمؤذنين، وأرباب الوظايف والمستحقين من المزمني والمرضى بالمارستان المنصوري، وأوقاف عبد الرحمن كتخدا، وشكوا من قطع رواتبهم وخبزهم؛ لأن الأوقاف تعطل إيرادها، واستولى على نظارتها النصارى القبط والشوام، وجعلوا ذلك مغنمًا لهم، فواعدهم على حضورهم الديوان، وينهوا شكواهم ويتشفع لهم فذهبوا راجعين.
وفيه قدمت مراكب من جهة الصعيد، وفيها عدة من العسكر مجروحون.
وفيه وضعوا على التلال المحيطة بمصر بيارق بيضا، فأكثر الناس من اللغط، ولم يعلموا سبب ذلك.
وفي يوم الأحد اجتمعوا بالديوان، وأخذوا فيما هم فيه، فذكروا أمر المواريث، فقال ملطي: يا مشايخ أخبرونا عما تصنعونه في قسمة المواريث؟ فأخبروه بفروض المواريث الشرعية، فقال: ومن أين لكم ذلك؟ فقالوا: من القرآن، وتلوا عليهم بعض آيات المواريث، فقال الإفرنج: نحن عندنا لا نورث الولد، ونورث البنت، ونفعل كذا وكذا بحسب تحسين عقولهم؛ لأن الولد أقدر على التكسب من البنت.
فقال ميخايل كحيل الشامي، وهو من أهل الديوان أيضًا: نحن والقبط يقسم لنا مواريثنا المسلمون، ثم التمسوا من المشايخ أن يكتبوا لهم كيفية القسمة ودليلها، فسايروهم ووعدوهم بذلك وانفضوا.
وفي ذلك اليوم عزلوا محمد أغا المسلماني أغات مستحفظان، وجعلوه كتخدا أمير الحاج، واستقروا بمصطفى أغا تابع عبد الرحمن أغا مستحفظان سابقًا عوضًا عنه، ونودي بذلك.
وفي يوم الاثنين عملوا لهم ديوانًا وكتبوا لهم كيفية قسمة المواريث، وفروض القسمة الشرعية وحصص الورثة والآيات المتعلقة بذلك، فاستحسنوا ذلك.
وفي يوم السبت عاشر جمادى الأولى عملوا الديوان، وأحضروا قايمة مقررات الأملاك والعقار، فجعلوا على الأعلى ثمانية فرانسة، والأوسط ستة، والأدنى ثلاثة، وما كان أجرته أقل من ريال في الشهر فهو معافى، وأما الوكايل والخانات والحمامات والمعاصر والسيارج والحوانيت، فمنها ما جعلوا عليه ثلاثين وأربعين بحسب الخسة والرواج والاتساع، وكتبوا بذلك مناشير على عادتهم، وألصقوها بالمفارق والطرق، وأرسلوا منها نسخًا للأعيان، وعينوا المهندسين ومعهم أشخاص لتمييز الأعلى من الأدنى.
وشرعوا في الضبط والإحصا وطافوا ببعض الجهات لتحرير القوايم وضبط أسما أربابها، ولما أشيع ذلك في الناس كثر لغطهم واستعظموا ذلك، والبعض استسلم للقضا، فانتبذ جماعة من العامة وتناجوا في ذلك، ووافقهم على ذلك بعض المتعممين الذي لم ينظر في عواقب الأمور، ولم يتفكر أنه في القبضة مأسور، فتجمع الكثير من الغوغاء من غير ريس يسوسهم، ولا قايد يقودهم، وأصبحوا يوم الأحد متحزبين وعلى الجهاد عازمين، وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وآلات الحرب والكفاح.
وحضر السيد بدر وصحبته حشرات الحسينية، وزعر الحارات البرانية، ولهم صياح عظيم وهو جسيم ويقولون بصياح في الكلام: نصر الله دين الإسلام، فذهبوا إلى بيت قاضي العسكر، وتجمعوا وتبعهم ممن على شاكلتهم نحو الألف والأكثر، فخاف القاضي العاقبة، وأغلق أبوابه وأوقف حجابه، فرجموه بالحجارة والطوب وطلب الهرب، فلم يمكنه الهروب، وكذلك اجتمع بالأزهر العالم الأكبر.
وفي ذلك الوقت حضر دبوي بطايفة من فرسانه وعساكره وشجعانه فمر بشارع الغورية، وعطف على خط الصنادقية، وذهب إلى بيت القاضي فوجد ذلك الزحام، فخاف وخرج من بين القصرين وباب الزهومة، وتلك الأخطاط بالخلايق مزحومة، فبادروا إليه وضربوه، وأثخنوا جراحاته، وقتل الكثير من فرسانه وأبطاله وشجعانه، فعند ذلك أخذ المسلمون حذرهم وخرجوا يهرعون، ومن كل حدب ينسلون، ومسكوا الأطراف الدايرة بمعظم أخطاط القاهرة، كباب الفتوح وباب النصر والبرقية إلى باب زويلة وباب الشعرية وجهة البندقانيين، وما حاذاها، ولم يتعدوا جهة سواها وهدموا مساطب الحوانيت، وجعلوا أحجارها متاريس للكرنكة، لتعوق هجوم العدو في وقت المعركة، ووقف دون كل متراس جمع عظيم من الناس.
وأما الجهات البرانية والنواحي الفوقانية فلم يفزع منهم فازع، ولم يتحرك منهم أحد ولم يسارع، وكذلك شذ عن الوفاق مصر العتيقة وبولاق، وعذرهم الأكبر قربهم من مساكن العسكر.
ولم تزل طايفة المحاربين في الأزقة متترسين، فوصل جماعة من الفرنساوية وظهروا من ناحية المناخلية، وبندقوا على متراس الشوايين، وبه جماعة من مغاربة الفحامين، فقاتلوهم حتى أجلوهم وعن المناخلية أزالوهم.
وعند ذلك زاد الحال وكثر الرجف والزلزال، وخرجت العامة عن الحد، وبالغوا في القضية بالعكس والطرد، وامتدت أيديهم إلى النهب والخطف والسلب، فهجموا على حارة الجوانية، ونهبوا دور النصارى الشوام والأروام، وما جاورهم من بيوت المسلمين على التمام، وأخذوا الودايع والأمانات، وسبوا النسا والبنات، وكذلك نهبوا خان الملايات وما به من الأمتعة والموجودات وأكثروا من المعايب، ولم يفكروا في العواقب وباتوا تلك الليلة سهرانين، وعلى هذا الحال مستمرين.
وأما الإفرنج فإنهم أصبحوا مستعدين وعلى تلال البرقية والقلعة واقفين، وأحضروا جميع الآلات من المدافع والقنابر والبنبات، ووقفوا مستحضرين، ولأمر كبيرهم منتظرين، وكان كبير الفرنسيس أرسل إلى المشايخ مراسلة فلم يجيبوه عنها، ومل من المطاولة.
هذا والرمي متتابع من الجهتين، وتضاعف الحال ضعفين، حتى مضى وقت العصر وزاد القهر والحصر، فعند ذلك ضربوا بالمدافع والبنبات، على البيوت والحارات، وتعمدوا بالخصوص الجامع الأزهر، وجردوا عليه المدافع والقنبر، وكذلك ما جاوره من أماكن المحاربين كسوق الغورية والفحامين فلما سقط عليهم ذلك ورأوه، ولم يكونوا في عمرهم عاينوه نادوا يا سلام من هذه الآلام، يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف، وهربوا من كل سوق، ودخلوا في الشقوق، وتتابع الرمي من القلعة والكيمان حتى تزعزعت الأركان، وهدمت في مرورها حيطان الدور، وسقطت في بعض القصور، ونزلت في البيوت والوكايل، وأصمت الآذان بصوتها الهايل.
فلما عظم هذا الخطب وزاد الحال والكرب، ركب المشايخ إلى كبير الفرنسيس ليدفع عنهم هذا النازل، ويمنع عسكره من الرمي المتراسل، ويكفهم كما انكف المسلمون عن القتال، والحرب خدعة وسجال، فلما ذهبوا إليه واجتمعوا عليه عاتبهم في التأخير، واتهمهم في التقصير، فاعتذروا إليه فقبل عذرهم، وأمر برفع الرمي عنهم، وقاموا من عنده وهم ينادون بالأمان في المسالك.
وتسامع الناس بذلك، فردت فيهم الحرارة، وتسابقوا لبعضهم بالبشارة، واطمأنت منهم القلوب وكان الوقت قبل الغروب، وانقضى النهار وأقبل الليل، وغلب على الظن أن القضية لها ذيل، وأما الحسينية والعطوف البرانية فإنهم لم يزالوا مستمرين، وعلى الرمي والقتال ملازمين، ولكن خانهم المقصود وفرغ منهم البارود، والإفرنج أثخنوهم بالرمي المتتابع بالقنابر والمدافع إلى أن مضى من الليل نحو ثلاث ساعات، وفرغت من عندهم الأدوات، فعجزوا عن ذلك وانصرفوا، وكف عنهم القوم وانحرفوا.
وبعد هجعة من الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل، ومروا في الأزقة والشوارع لا يجدون لهم ممانع، كأنهم الشياطين أو جند إبليس، وهدموا ما وجدوه من المتاريس، ودخل طايفة من باب البرقية، ومشوا إلى الغورية، وكروا ورجعوا، وترددوا وما هجعوا، وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين، وتراسلوا أرسالًا ركبانًا ورجالًا، ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشموا خزاين الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودايع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف على الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا فيه وتغوطوا، وبالوا وتمخطوا، وشربوا الشراب وكسروا أوانيه، وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عروه، ومن ثيابه أخرجوه.
وأصبح يوم الثلاثا فاصطف منهم حزب بباب الجامع، فكل من حضر للصلاة يراهم فيكر راجعًا ويسارع، وتفرقت طوايفهم بتلك النواحي أفواجًا، واتخذوا السعي والطواف بها منهاجًا، وأحاطوا بها إحاطة السوار ونهبوا بعض الديار بحجة التفتيش على النهب، وآلة السلاح والضرب، وخرجت سكان تلك الجهة يهرعون، وللنجاة بأنفسهم طالبون، وانتهكت حرمة تلك البقعة بعد أن كانت أشرف البقاع، ويرغب الناس في سكناها، ويودعون عند أهلها ما يخافون عليه الضياع، والفرنساوية لا يمرون بها إلا في النادر، ويحترمونها عن غيرها في الباطن والظاهر.
فانقلب بهذه الحركة منها الموضوع، وانخفض على غير القياس المرفوع، ثم ترددوا في الأسواق ووقفوا صفوفًا مئينًا وألوفًا، فإن مَرَّ بهم أحد فتشوه وأخذوا ما معه وربما قتلوه، ورفعوا القتلى والمطروحين من الإفرنج والمسلمين، ووقف جماعة من الفرنسيس ونظفوا مراكز المتاريس، وأزالوا ما بها من الأتربة والأحجار المتراكمة، ووضعوها في ناحية لتصير طريق المرور خالية.
وتحزبت نصارى الشوام وجماعة أيضًا من الأروام الذين انتُهبت دورهم بالحارة الجوانية ليشكوا لكبير الفرنسيس ما لحقهم من الرزية، واغتنموا الفرصة في المسلمين، وأظهروا ما هو بقلوبهم كمين، وضربوا فيهم المضارب، وكأنهم شاركوا الإفرنج في النوايب، وما قصدهم المسلمون ونهبوا ما لديهم إلا لكونهم منسوبين إليهم، مع أن المسلمين الذين جاوروهم نهبهم الزعر أيضًا وسلبوهم، وكذلك خان الملايات المعلوم الذي عند باب حارة الروم، وفيه بضايع المسلمين وودايع الغايبين، فسكت المصاب على غصته، واستعوض الله في قضيته؛ لأنه إن تكلم لا تسمع دعواه، ولا يلتفت إلى شكواه.
وانتدب برطلمين للعسس، على من حمل السلاح أو اختلس، وبث أعوانه في الجهات يتجسسون في الطرقات فيقبضون على الناس بحسب أغراضهم، وما ينهيه النصارى من أبغاضهم، فيحكم فيهم بمراده ويعمل برأيه واجتهاده، ويأخذ منهم الكثير، ويركب في موكبه ويسير، وهم موثوقون بين يديه بالحبال، ويسحبهم الأعوان بالقهر والنكال، فيودعونهم السجونات، ويطالبونهم بالمنهوبات، ويقررونهم بالعقاب والضرب، ويسألونهم عن السلاح وآلات الحرب، ويدل بعضهم على بعض، فيضعون على المدلول عليهم القبض.
وكذلك فعل مثل ما فعله اللعين الأغا، وتجبر في أفعاله وطغى، وكثير من الناس ذبحوهم وفي بحر النيل قذفوهم، ومات في هذين اليومين وما بعدهما أمم كثيرة لا يحصي عددها إلا الله، وطال بالكفرة بغيهم وعنادهم، ونالوا من المسلمين قصدهم ومرادهم.
وأصبح يوم الأربع، فركب فيه المشايخ أجمع، وذهبوا لبيت صاري عسكر وقابلوه وخاطبوه في العفو ولاطفوه والتمسوا منه أمانًا كافيًا، وعفوًا ينادون به باللغتين شافيًا؛ لتطمين بذلك قلوب الرعية ويسكن روعهم من هذه الرزية، فوعدهم وعدًا مشوبًا بالتسويف، وطالبهم بالتبيين والتعريف عمن تسبب من المتعممين في إثارة العوام، وحرضهم على الخلاف والقيام، فغالطوه عن تلك المقاصد، فقال على لسان الترجمان: نحن نعرفهم بالواحد، فترجوا عنده في إخراج العسكر من الجامع الأزهر، فأجابهم لذلك السؤال، وأمر بإخراجهم في الحال، وأبقوا منهم السبعين أسكنوهم في الخطة كالضابطين ليكونوا للأمور كالراصدين وبالأحكام متقيدين.
ثم إنهم فحصوا على المتهمين بإثارة الفتنة فطلبوا الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طايفة العميان والشيخ أحمد الشرقاوي، والشيخ عبد الوهاب الشبراوي، والشيخ يوسف المصيلحي، والشيخ إسماعيل البراوي وحبسوهم ببيت البكري، وأما السيد بدر المقدسي فإنه تغيب وسافر إلى جهة الشام وفحصوا عليه فلم يجدوه، وتردد المشايخ لتخليص الجماعة المعوقين فغولطوا، واتهم أيضًا إبراهيم أفندي كاتب البهار بأنه جمع له جمعًا من الشطار، وأعطاهم الأسلحة والمساوق، وكان عنده عدة من المماليك المخفيين، والرجال المعزولين، فقبضوا عليه وحبسوه ببيت الأغا.
وفي يوم الأحد ثامن عشره توجه شيخ السادات وباقي المشايخ إلى بيت صاري عسكر الفرنسيس، وتشفعوا عنده في الجماعة المسجونين ببيت الأغا وقايمقام والقلعة فقيل لهم: وسعوا بالكم ولا تستعجلوا، فقاموا وانصرفوا.
وفيه نادوا في الأسواق بالأمان، ولا أحد يشوش على أحد مع استمرار القبض على الناس وكبس البيوت بأدنى شبهة، ورد بعضهم الأمتعة التي نهبت للنصارى.
وفيه توسط القلقجي لمغاربة الفحامين، وجمع منهم ومن غيرهم عدة وافرة، وعرضهم على صاري عسكر، فاختار منهم الشباب وأولي القوة، وأعطاهم سلاحًا وآلات حرب ورتبهم عسكرًا، وريسهم عمر المذكور، وخرجوا وأمامهم الطبل الشامي على عادة عسكر المغاربة، سافروا إلى جهة بحري بسبب أن بعض البلاد قام على عسكر الفرنساوية وقت الفتنة وقاتلوهم، وضربوا أيضًا مركبين بها عدة من عساكرهم، فحاربوهم وقاتلوهم.
فلما ذهب أوليك المغاربة سكنوا الفتنة وضربوا عشمًا، وقتلوا كبيرها المسمى بابن شعير ونهبوا داره ومتاعه وماله وبهايمه، وكان شيًّا كثيرًا جدًّا، وأحضروا إخوته وأولاده وقتلوهم، ولم يتركوا منهم سوى ولد صغير جعلوه شيخًا عوضًا عن أبيهم.
وسكن العسكر المغربي بدار عند باب سعادة، ورتبوا له من الفرنسيس جماعة يأتون إليهم في كل يوم، ويدربونهم على كيفية حربهم وقانونهم، ومعنى إشارتهم في مصافاتهم، فيقف المعلم والمتعلمون مقابلون له صفًّا وبأيديهم بنادقهم، ويشير إليهم بألفاظ بلغتهم كأن يقول مردبوش فيرفعونها قابضين بأكفهم على أسافلها، ثم يقول مرش فيمشون صفوفًا إلى غير ذلك.
وفيه سافر برطلمين إلى ناحية سرياقوس، ومعه جملة من العسكر بسبب الناس الفارين إلى جهة الشرق، وأخذ فِرَد من البلاد، وعسف في تحصيلها ورجع بعد أيام.
وفي يوم الأربعا خاطب الشيخ محمد المهدي صاري عسكر في أمر إبراهيم أفندي كاتب البهار، وتلطف به بمعونة بوسليك المعروف بمدبر الحدود، وهو عبارة عن الروزنامجي، ونقله من بيت الأغا إلى داره، فطلبوا منه قايمة كشف عما يتعلق بالمماليك بدفتر البهار.
وفي يوم الخميس سافر عدة من المراكب نحو الأربعين بها عسكر الفرنسيس إلى جهة بحري.
وفي ليلة السبت رابع عشرينه حضر هجان من ناحية الشام وعلى يده مكاتبات، وهي صورة فرمان وعليه طرة ومكتوب من أحمد باشا الجزار وآخر من بكر باشا إلى كتخدايه مصطفى بك، ومكتوب من إبراهيم بك خطابًا للمشايخ، وذلك كله بالعربي، ومضمون ذلك بعد براعة الاستهلال والآيات القرآنية والأحاديث والآثار المتعلقة بالجهاد، ولعن طايفة الإفرنج والحط عليهم وذكر عقيدتهم الفاسدة وكذبهم وتحيلهم، كذلك بقية المكاتبات بمعنى ذلك فأخذها مصطفى بك كتخدا، وذهب بها إلى صاري عسكر.
فلما اطلع عليها قال: هذا تزوير من إبراهيم بك ليوقع بيننا وبينكم العداوة والمشاحنة، وأما أحمد باشا فهو رجل فضولي لم يكن واليًا بالشام ولا مصر؛ لأن والي الشام إبراهيم باشا، وأما والي مصر فهو عبد الله باشا بن العظم الذي هو الآن والي الشام، فأنا أعلم بذلك وسيأتي بعد أيام والي ويقيم معه كما كانت المماليك مع الولاة.
وورد خبر أيضًا بانفصال محمد باشا عزت عن الصدارة، وعزل كذلك أنفارٍ من رجال الدولة، وفي مدة هذه الأيام بطل الاجتماع بالديوان المعتاد، وأخذوا في الاهتمام في تحصين النواحي والجهات، وبنوا أبنية على التلول المحيطة بالبلد، ووضعوا بها عدة مدافع وقنابر، وهدموا أماكن بالجيزة وحصنوها تحصينًا زايدًا، وكذلك مصر العتيقة ونواحي شبرا، وهدموا عدة مساجد منها المساجد المجاورة لقنطرة إنبابة ومسجد المقس المعروف الآن بأولاد عنان على الخليج الناصري بباب البحر، وقطعوا نخيلًا كثيرة وأشجارًا لعمل الحصون والمتاريس، وهدموا جامع الكازروني بالروضة، وأشجار الجيزة التي عند أبي هريرة قطعوها، وحفروا هناك خنادق كثيرة وغير ذلك، وقطعوا نخيل جهة الحلي وبولاق، وخربوا دورًا كثيرة وكسروا شبابيكها وأبوابها، وأخذوا أخشابها لاحتياج العمل والوقود وغير ذلك.
وفي ليلة الأحد حضر جماعة من عسكر الفرنسيس إلى بيت البكري نصف الليل وطلبوا المشايخ المحبوسين عند صاري عسكر ليتحدث معهم، فلما صاروا خارج الدار وجدوا عدة كثيرة في انتظارهم فقبضوا عليهم وذهبوا بهم إلى بيت قايمقام بدرب الجماميز، وهو الذي كان به دبوي قايمقام المقتول وسكنه بعده الذي تولى مكانه، فلما وصلوا بهم هناك عروهم من ثيابهم، وصعدوا بهم إلى القلعة فسجنوهم إلى الصباح فأخرجوهم وقتلوهم بالبنادق وألقوهم من السور خلف القلعة، وتغيب حالهم عن أكثر الناس أيامًا.
وفي ذلك اليوم ركب بعض المشايخ إلى مصطفى بك كتخدا الباشا، وكلموه في أن يذهب معهم إلى صاري عسكر، ويشفع معهم في الجماعة المذكورين ظنًّا منهم أنهم على قيد الحياة، فركب معهم إليه وكلموه في ذلك، فقال لهم الترجمان: اصبروا ما هذا وقته، وتركهم وقام ليذهب في بعض أشغاله، فنهض الجماعة أيضًا، وركبوا إلى دورهم.
وفي يوم الثلاثا حضر عدة من عسكر الفرنسيس، ووقفوا بحارة الأزهر فتخيل الناس منهم المكروه، ووقعت فيهم كرشة وأغلقوا الدكاكين، وتسابقوا إلى الهروب وذهبوا إلى البيوت والمساجد، واختلفت آراهم، ورأوا في ذلك أقضية بحسب تخمينهم وظنهم وفساد مخيلهم، فذهب بعض المشايخ إلى صاري عسكر وأخبروه بذلك، وتخوف الناس، فأرسل إليهم وأمرهم بالذهاب، فذهبوا وتراجع الناس وفتحوا الدكاكين، ومر الأغا والوالي وبرطلمين ينادون بالأمان وسكن الحال، وقيل إن بعض كبرايهم حضر عند القلق الساكن بالمشهد، وجلس عنده حصة، وهولا كانوا أتباعه ووقفوا ينتظرونه، ولعل ذلك قصدًا للتخويف والإرهاب خشية من قيام فتنة لما أشيع قتل المشايخ المذكورين وهو الأرجح.
وفيه كتبوا أوراقًا وألصقوها بالأسواق تتضمن العفو والتحذير من إثارة الفتنة، وأن من قتل من المسلمين في نظير من قتل من الفرنسيس.
وفيه شرعوا في إحصا الأملاك والمطالبة بالمقرر، فلم يعارض في ذلك معارض ولم يتفوه بكلمة، والذي لم يرضَ بالتوت يرضى بحطبه.
وفيه أيضًا قلعوا أبواب الدروب والحارات الصغيرة غير النافذة، وهي التي كانت تركت وسومح أصحابها، وبرطلوا عليها وصالحوا عليها قبل الحادثة، وبرطلوا القلقات والوسايط على إبقايها، كذلك دروب الحسينية.
فلما انقضت هذه الحادثة ارتجعوا عليها وقلعوها ونقلوها إلى ما جمعوه من البوابات بالأزبكية، ثم كسروا جميعها وفصلوا أخشابها، ورفعوا بعضها على العربات إلى حيث أعمالهم بالنواحي والجهات، وباعوا بعضها حطبًا للوقود وكذلك ما بها من الحديد وغيره.
وفي ليلة الخميس هجم المنسر على بوابة سوق طولون كسروها وعبروا منها إلى السوق، فكسروا القناديل وفتحوا ثلاثة حوانيت، وأخذوا ما بها من متاع المغاربة التجار، وقتلوا القلق الذي هناك، وخرجوا بدون مدافع ولا منازع.
وفي يوم الخميس المذكور ذهب المشايخ إلى صاري عسكر وتشفعوا في ابن الجوسقي شيخ العميان الذي قتل أبوه، وكان معوقًا ببيت البكري، فشفعهم فيه وأطلقوه.
واستهل شهر جمادى ثانية بيوم السبت سنة ١٢١٣ﻫ
فيه كتبوا عدة أوراق على لسان المشايخ، وأرسلوها إلى البلاد وألصقوا منها نسخًا بالأسواق والشوارع.
وصورتها: «نصيحة من كافة علما الإسلام بمصر المحروسة: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونبرأ إلى الله من الساعين في الأرض بالفساد، نعرف أهل مصر المحروسة من طرف الجعيدية وأشرار الناس الذين حركوا الشرور بين الرعية وبين العساكر الفرنساوية، بعدما كانوا أصحابنا وأحبابنا بالسوية، وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين ونهبت بعض البيوت، ولكن حصلت ألطاف الله الخفية، وسكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابرته.
وارتفعت هذه البلية؛ لأنه رجل كامل العقل، عنده رحمة وشفقة على المسلمين ومحبة إلى الفقرا والمساكين، ولولاه لكانت العسكر أحرقت جميع المدينة ونهبت جميع الأموال، وقتلوا كامل أهل مصر.
فعليكم ألا تحركوا الفتن، ولا تطيعوا أمر المفسدين، ولا تسمعوا كلام المنافقين، ولا تتبعوا الأشرار، ولا تكونوا من الخاسرين سُفها العقول الذين لا يقرون العواقب؛ لأجل أن تحفظوا أوطانكم وتطمينوا على عيالكم وأديانكم، فإن الله — سبحانه وتعالى — يوتي ملكه من يشا، ويحكم بما يريد، ونخبركم أن كل من تسبب في تحريك هذه الفتنة قتلوا عن آخرهم، وأراح الله منهم العباد والبلاد، ونصيحتنا لكم أن لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، واشتغلوا بأسباب معايشكم وأمور دينكم، وادفعوا الخراج الذي عليكم — والدين النصيحة — والسلام.»
وفيه أمروا بقية السكان على بركة الأزبكية وما حولها بالنقلة من البيوت ليُسكِنوا بها جماعتهم المتباعدين منهم ليكون الكل في حومة واحدة، وذلك لما دخلهم من المسلمين، حتى إن الشخص منهم صار لا يمشي بدون سلاح بعد أن كانوا من حين دخلوهم البلد لا يمشون به أصلًا إلا لغرض، والذي لم يكن معه سلاح يأخذ في يده عصا أو سوطًا أو نحو ذلك، وتنافرت قلوبهم من المسلمين وتحذروا منهم، وانكف المسلمون عن الخروج والمرور بالأسواق من الغروب إلى طلوع النهار.
ومن جملة من انتقل من الدرب الأحمر إلى الأزبكية كفرلي المسمى بأبي خشبة، وهو يمشي بها بدون معين، ويصعد الدرج ويهبط منها أسرع من الصحيح، ويركب الفرس ويرمحه وهو على هذه الحالة، ولهم به عناية عظيمة واهتمام زايد، كان يسكن ببيت مصطفى كاشف طرا.
وفي وقت الحادثة هجمت على الدار العامة ونهبوها، وقتلوا منها بعض الفرنساوية وفرَّ الباقون، فأخبروا من بالقلعة الكبيرة، فنزل منهم عدة وافرة، وقف بعضهم خارج الدار بعد أن طردوا المزدحمين ببابها، وضربوهم بالبندق، ودخل الباقون فقتلوا من وجدوه بها من المسلمين، وكانوا جملة كثيرة.
وكان بتلك الدار شيٌّ كثير من آلات الصنايع والنظارات الغريبة والآلات الفلكية والهندسية والعلوم الرياضية وغير ذلك، مما هو معدوم النظير، كل آلة لا قيمة لها إلا عند من يعرف صنعتها ومنفعتها، فبدد ذلك كله العامة وكسروه قطعًا، وصعب ذلك على الفرنسيس جدًّا، وقاموا مدة طويلة يفحصون عن تلك الآلات، ويجعلون لمن يأتيهم بها عظيم الجعالات، وممن قتل في وقعة هذه الدار الشيخ محمد الزهار.
وفي خامسه أفرجوا عن إبراهيم أفندي كاتب البهار، وتوجه إلى بيته.
وفي ثامنه قتلوا أربعة من القبط منهم اثنان من النجارين، قيل إنهم سكروا في الخمارة ومروا في سكرهم، وفتحوا بعض الدكاكين وسرقوا منها أشيا، وقد تكرر منهم ذلك عدة مرار فاغتاظ لذلك القبطة.
نصيحة من علماء الإسلام بمصر المحروسة، نخبركم يا أهل المداين والأمصار من المؤمنين ويا سكان الريف من العربان والفلاحين — أن إبراهيم بك ومراد بك وبقية دولة المماليك أرسلوا عدة مكاتبات ومخاطبات إلى سائر الأقاليم المصرية لأجل تحريك الفتنة بين المخلوقات، وادَّعوا أنها من حضرة مولانا السلطان، ومن بعض وزرائه بالكذب والبهتان.
وبسبب ذلك حصل لهم شدة الغم والكرب الزايد، واغتاظوا غيظًا شديدًا من علما مصر ورعاياها حيث لم يوافقوهم على الخروج معهم، ويتركوا عيالهم وأوطانهم، فأرادوا أن يوقعوا الفتنة والشر بين الرعية والعسكر الفرنساوية، لأجل خراب البلاد وهلاك كامل الرعية، وذلك لشدة ما حصل لهم من الكرب الزايد بذهاب دولتهم وحرمانهم من مملكة مصر المحمية، ولو كانوا في هذه الأوراق صادقين بأنها من حضرة سلطان السلاطين لأرسلها جهارًا مع أغوات معينين.
ونخبركم أن الطايفة الفرنساوية بالخصوص عن بقية الطوايف الإفرنجية دايمًا يحبون المسلمين وملتهم، ويبغضون المشركين، وطبيعتهم أحباب لمولانا السلطان قايمين بنصرته وأصدقا له ملازمون لمودته وعشرته ومعونته، يحبون من والاه، ويبغضون من عاداه.
ولذلك بين الفرنساوية والموسكوف غاية العداوة الشديدة من أجل عداوة المسكوف القبيحة الردية.
والطايفة الفرنساوية يعاونون حضرة السلطان على أخذ بلادهم إن شاء الله تعالى، ولا يبقون منهم بقية، فننصحكم أيتها الأقاليم المصرية أنكم لا تحركوا الفتن ولا الشرور بين البرية ولا تعارضوا العساكر الفرنساوية بشي من أنواع الأذية، فيحصل لكم الضرر والهلاك، ولا تسمعوا كلام المفسدين، ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، وإنما عليكم دفع الخراج المطلوب منكم لكامل الملتزمين لتكونوا بأوطانكم سالمين، وعلى أموالكم وعيالكم آمنين مطمينين؛ لأن حضرة صاري عسكر الكبير أمير الجيوش بونابارته اتفق معنا على أنه لا ينازع أحدًا في دين الإسلام، ولا يعارضنا فيما شرعه الله من الأحكام، ويرفع عن الرعية ساير المظالم، ويقتصر على أخذ الخراج، ويزيل ما أحدثه الظلمة من المغارم، فلا تعلقوا آمالكم بإبراهيم ومراد، وارجعوا إلى مولاكم مالك الملك وخالق العباد، فقد قال نبيه ورسوله الأكرم: الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها بين الأمم، عليه أفضل الصلاة والسلام.
وفي ثالث عشره قتلوا شخصين عند باب زويلة أحدهما يهودي، لم يتحقق السبب في قتلهما.
وفيه أخرجوا من بيت نسيب إبراهيم كتخدا صناديق ضمنها مصاغ وجواهر وأواني ذهب وفضة وأمتعة وملابس كثيرة.
وفي خامس عشره حضر جماعة من الفرنساوية بباب زويلة، وفتحوا بعض دكاكين السكرية، وأخذوا منها سكرًا وضاع على أصحابه.
وفيه دلوا على إنسان عنده صندوقان وديعة لأيوب بك الدفتردار، فطلبوه وأمروه بإحضارهما، فأحضرهما بعد الإنكار والجحد عدة مرار، فوجدوا ضمنهما أسلحة وجواهر وسبح لؤلؤ وخناجر مجوهرة، وغير ذلك.
وفي عشرينه كتبوا عدة أوراق مطبوعة، وألصقوها بالأسواق، مضمونها:
أن في يوم الجمعة حادي عشرينه قصدنا أن نطير مركبًا ببركة الأزبكية في الهواء بحيلة فرنساوية، فكثر لغط الناس في هذا كعادتهم، فلما كان ذلك اليوم قبل العصر تجمع الناس والكثير من الإفرنج ليروا تلك العجيبة، وكنت بجملتهم، فرأيت قماشًا على هيئة الأوية على عمود قايم، وهو ملون أحمر وأبيض وأزرق على مثل دايرة الغربال، وفي وسطه مسرجة بها فتيلة مغموسة ببعض الأدهان، وتلك المسرجة مصلوبة بسلوك من حديد منها إلى الدايرة، وهي مشدودة ببكر وأحبال، وأطراف الأحبال بأيدي أناس قايمين بأسطحة البيوت القريبة منها، فلما كان بعد العصر بنحو ساعة أوقدوا تلك الفتيلة، فصعد دخانها إلى ذلك القماش وملأه فانتفخ وصار مثل الكرة، وطلب الدخن الصعود إلى مركزه، فلم يجد منفذًا فجذبها معه إلى العلو، فجذبوها بتلك الأحبال مساعدة لها حتى ارتفعت عن الأرض، فقطعوا تلك الحبال، فصعدت إلى الجو مع الهوا ومشت هنيهة لطيفة، ثم سقطت طارتها بالفتيلة، وسقط أيضًا ذلك القماش وتناثر منها أوراق كثيرة من نسخ الأوراق المبصومة.
فلما حصل لها ذلك انكسف طبعهم لسقوطها، ولم يتبين صحة ما قالوه من أنها على هيئة مركب تسير في الهواء بحكمة مصنوعة، ويجلس فيها أنفار من الناس ويسافرون فيها إلى البلاد البعيدة لكشف الأخبار وإرسال المراسلات، بل ظهر أنها مثل الطيارة التي يعملها الفراشون بالمواسم والأفراح.
وفي تلك الليلة طاف منهم أنفار بالأسواق، ومعهم مقاطف بها لحوم مسمومة، فأطعموها للكلاب فمات منها جملة كثيرة، فلما طلع النهار وجد الناس الكلاب مرمية وطرحى بالأسواق، وهي موتى، فاستأجروا لها من أخرجها إلى الكيمان، وسبب ذلك أنهم لما كانوا يمرون بالأسواق في الليل وهم سكوت كانت الكلاب تنبحهم، وتعدو خلفهم، ففعلوا بها ذلك وارتاحوا هم والناس منها.
وفي خامس عشرينه سافر عدة عساكر إلى جهة مراد بك، وكذلك إلى جهة كرداسة بسبب العربان، وكذلك إلى السويس والصالحية، وأخذوا جمال السقايين برواياها وحميرهم، ولكن يعطونهم أجرتهم فشح الماء وغلا، وبلغت القربة عشرة أنصاف فضة.
وفيه ظفروا بعدة ودايع وخبايا بأماكن متعددة بها صناديق وأمتعة وأسلحة وأواني صيني وأواني نحاس قناطير وغير ذلك، وانقضى هذا الشهر، وما حصل به من الحوادث الكلية والجزئية التي لا يمكن ضبطها لكثرتها.
منها أنهم أحدثوا بغيط النوبي المجاور للأزبكية أبنية على هيئة مخصوصة منزهة، يجتمع بها النساء والرجال للهو والخلاعة في أوقات مخصوصة، وجعلوا على كل من يدخل إليه قدرًا مخصوصًا يدفعه أو يكون مأذونًا وبيده ورقة.
ومنها أنهم هدموا وبنوا بالمقياس والروضة، وهدموا أماكن بالجيزة، ومهدوا التل المجاور لقنطرة الليمون، وجعلوا في أعلاه طاحونًا تدور في الهوا عجيبة، وتطحن الأرادب من البر، وهي بأربعة أحجار، وطاحونًا أخرى بالروضة تجاه مساطب النشاب، وهدموا الجامع المجاور لقنطرة الدكة.
وشرعوا في ردم جهات حوالي بركة الأزبكية، وهدموا الأماكن المقابلة لبيت صاري عسكر حتى جعلوها رحبة متسعة، وهدموا الدور المقابلة لها من الجهة الأخرى والجناين التي خلف ذلك، وقطعوا أشجارها وردموا مكانها بالأتربة الممهدة على خط معتدل من الجهتين مبتدأ من حد بيت صاري عسكر إلى قنطرة المغربي.
وجددوا القنطرة المذكورة، وكانت آلت إلى السقوط، وفعلوا بعدها كذلك الوضع والنسق بحيث صار جسرًا عظيمًا ممتدًّا ممهدًا مستويًا على خط مستقيم من الأزبكية إلى بولاق، وينقسم بقرب بولاق قسمين: قسم إلى طريق أبي العلا، وقسم يذهب إلى جهة التبانة وساحل النيل، وبطريقه الطريق المسلوكة الواصلة من طريق أبي العلاء وجامع الخطيري إلى ناحية المدابغ، وحفروا في جانبي ذلك الجسر من مبداه إلى منتهاه خندقين، وغرسوا بجانبه أشجارًا وسيسبانًا.
وأحدثوا طريقًا أخرى فيما بين باب الحديد وباب العدوي عند المكان المعروف بالشيخ شعيب، حيث معمل الفواخير، وردموا جسرًا ممتدًّا ممهدًا مستطيلًا يبتدئ من الحد المذكور، وينتهي إلى جهة المذبح خارج الحسينية، وأزالوا ما يتخلل بين ذلك من الأبنية والغيطان والأشجار والتلول.
وقطعوا جانبًا كبيرًا من التل الكبير المجاور لقنطرة الحاجب، وردموا في طريقهم قطعة من خليج بركة الرطلي، وقطعوا أشجار بستان كاتب البهار المقابل لجسر بركة الرطلي، وأشجار الجسر أيضًا، والأبنية التي بين باب الحديد والرحبة التي بظاهر جامع المقس، وساروا على المنخفض بحيث صارت طريقًا ممتدة من الأزبكية إلى جهة قبة النصر المعروفة بقبة العزب جهة العادلية على خط مستقيم من الجهتين.
وقيدوا بذلك أنفارًا منهم يتعاهدون تلك الطرق، ويصلحون ما يخرج منها عن قالب الاعتدال بكثرة الدوس وحوافز الخيول والبغال والحمير.
وفعلوا هذا الشغل الكبير والفعل العظيم في أقرب زمن، ولم يسخروا أحدًا في العمل، بل كانوا يعطون الرجال زيادة عن أجرتهم المعتادة، ويصرفونهم من بعد الظهيرة، ويستعينون في الأشغال وسرعة العمل بالآلات القريبة الأخذ السهلة التناول المساعدة في العمل، وقلة الكلفة، كانوا يجعلون بدل الغلقان والقصاع عربات صغيرة ويداها ممتدتان من خلف يملؤها الفاعل ترابًا أو طينًا أو أحجارًا من مقدمها بسهولة، بحيث تسع مقدار خمسة غلقان، ثم يقبض بيديه على خشبتها المذكورتين، ويدفعها أمامه فتجري على عجلتها بأدنى مساعدة إلى محل العمل، فيميلها بإحدى يديه، ويفرغ ما فيها من غير تعب ولا مشقة، وكذلك لهم فوس وقزم محكمة الصنعة متقنة الوضع، وغالب الصناع من جنسهم، ولا يقطعون الأحجار والأخشاب إلا بالطرق الهندسية على الزوايا القايمة، والخطوط المستقيمة.
وجعلوا جامع الظاهر بيبرس خارج الحسينية قلعة، ومنارته برجًا، ووضعوا على أسواره مدافع، وأسكنوا به جماعة من العسكر، وبنوا في داخله عدة مساكن تسكنها العسكر المقيمة به، وكان هذا الجامع معطل الشعاير من مدة طويلة، وباع نظاره منه أنقاضًا وعمدًا كثيرة.
ومنها أنهم أحدثوا على التل المعروف بتل العقارب بالناصرية أبنية وكرانك وأبراجًا، وضعوا فيها عدة من آلات الحرب والعساكر المرابطين فيه، وهدموا عدة دور من دور الأمرا، وأخذوا أنقاضها ورخامها لأبنيتهم، وأفردوا للمدبرين والفلكيين وأهل المعرفة والعلوم الرياضية كالهندسة والهيئة والنقوشات والرسومات والمصورين والكتبة والحساب والمنشئين حارة الناصرية، حيث الدرب الجديد، وما به من البيوت مثل بيت قاسم بك، وأمير الحاج المعروف بأبي يوسف، وبيت حسن كاشف جركس القديم والجديد الذي أنشأه وشيده وزخرفه وصرف عليه أموالًا عظيمة من مظالم العباد، وعند تمام بياضه وفرضه حدثت هذه الحادثة، ففر مع الفارين وتركه.
فيه جملة كبيرة من كتبهم وعليها خزان ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة، ومن يريد المراجعة فيراجعون فيها مرادهم فتجتمع الطلبة منهم كل يوم قبل الظهر بساعتين، ويجلسون في فسحة المكان المقابلة لمخازن الكتب على كراسي منصوبة موازية لتختاة عريضة مستطيلة، فيطلب من يريد المراجعة ما يشاء منها، فيحضرها الخازن فيتصفحون ويراجعون ويكتبون حتى أسافلهم من العساكر.
وإذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريد الفرجة لا يمنعونه الدخول إلى أعز أماكنهم، ويتلقونه بالبشاشة والضحك، وإظهار السرور بمجيئه إليهم، وخصوصًا إذا رأوا فيه قابلية أو معرفة أو تطلعًا للنظر في المعارف بذلوا له مودتهم ومحبتهم، ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها أنواع التصاوير وكورات البلاد، والأقاليم والحيوانات والطيور والنباتات، وتواريخ القدما وسير الأمم وقصص الأنبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم، وحوادث أممهم مما يحير الأفكار.
ولقد ذهبت إليهم مرارًا، وأطلعوني على ذلك، فمن جملة ما رأيته كتاب كبير يشتمل على سيرة النبي ﷺ ومصورون به صورته الشريفة على قدر مبلغ علمهم واجتهادهم، وهو قايم على قدميه ناظر إلى السماء كالمرهب للخليقة، وبيده اليمنى السيف وفي اليسرى الكتاب، وحوله الصحابة (رضي الله عنهم) بأيديهم السيوف، وفي صفحة أخرى صورة الخلفاء الراشدين، وفي الأخرى صورة المعراج والبراق، وهو ﷺ راكب عليه من صخرة بيت المقدس، وصورة بيت المقدس والحرم المكي والمدني، وكذلك صورة الأئمة المجتهدين، وبقية الخلفاء والسلاطين، ومثال إسلامبول وما بها من المساجد العظام كآيا صوفية، وجامع السلطان سليمان، وهيئة صلاة الجمعة فيه، وأبي أيوب الأنصاري وهيئة صلاة الجنازة فيه.
وصور البلدان والسواحل والبحار والأهرام وبرابي الصعيد، والصور والأشكال والأقلام المرسومة بها، وما يختص بكل بلد من أجناس الحيوان والطيور والنبات والأعشاب وعلوم الطب والتشريح والهندسيات وجر الأثقال.
وكثير من الكتب الإسلامية مترجم بلغتهم، ورأيت عندهم كتاب الشفاء للقاضي عياض، ويعبرون عنه بقولهم: شفا شريف، والبردة للبوصيري، ويحفظون جملة من أبياتها وترجموها بلغتهم، ورأيت بعضهم يحفظ سورًا من القرآن.
ولهم تطلع زايد للعلوم وأكثرها الرياضة ومعرفة اللغات واجتهاد كبير في معرفة اللغة والمنطق، ويدأبون في ذلك الليل والنهار.
وعندهم كتب مفردة لأنواع اللغات وتصاريفها واشتقاقاتها، بحيث يسهل عليهم نقل ما يريدون من أي لغة كانت إلى لغتهم في أقرب وقت.
وعند توت الفلكي وتلامذته في مكانهم المختص بهم الآلات الفلكية الغريبة المتقنة الصنعة، وآلات الارتفاعات البديعة العجيبة التركيب الغالية الثمن المصنوعة من الصفر المموه، وهي تركب ببراريم مصنوعة محكمة، كل آلة منها عدة قطع تركب مع بعضها البعض برباطات وبراريم لطيفة، بحيث إذا ركبت صارت آلة كبيرة أخذت قدرًا من الفراغ، وبها نظارات وثقوب ينفذ النظر منها إلى المرئي، وإذا انحل تركيبها وضعت في ظرف صغير.
وكذلك نظارات للنظر في الكواكب وأرصادها، ومعرفة مقاديرها وأجرامها وارتفاعاتها واتصالاتها ومناظراتها، وأنواع المنكابات والساعات التي تسير بثواني الدقايق الغربية الشكل الغالية الثمن، وغير ذلك.
وأفردوا لجماعة منها بيت إبراهيم كتخدا السناري، وهم المصورون لكل شي، ومنهم أريجو المصور، وهو يصور صور الآدميين تصويرًا يظن من يراه أنه بارز في الفراغ مجسم يكاد ينطق، حتى إنه صور صورة المشايخ كل واحد على حدته في دايرة، وكذلك غيرهم من الأعيان، وعلقوا ذلك في بعض مجالس ساري عسكر.
وآخر في مكان آخر يصور الحيوانات والحشرات، وآخر يصور الأسماك والحيتان بأنواعها وأسمائها، ويأخذون الحيوان أو الحوت الغريب الذي لا يوجد ببلادهم فيضعون جسمه بذاته في ماء مصنوع حافظ للجسم فيبقى على حالته وهيئته لا يتغير ولا يبلى، ولو بقي زمنًا طويلًا.
وكذلك أفردوا أماكن للمهندسين وصناع الدقايق، وسكن الحكيم (رويبا) ببيت ذي الفقار كتخدا بجوار ذلك ووضع آلاته ومساحقه وأهوانه في ناحية، وركب له تنانير وكوانين لتقطير المياه والأدهان واستخراج الأملاح، وقدورًا عظيمة وبرامات، وجعل له مكانًا أسفل وأعلى وبهما رفوف عليها القدور المملوة بالتراكيب والمعاجين والزجاجات المتنوعة وبها كذلك عدة من الأطباء والجرايحية.
وأفردوا مكانًا في بيت حسن كاشف جركس لصناعة الحكمة والطب الكيماوي، وبنوا فيه تنانير مهندمة وآلات تقاطير عجيبة الوضع، وآلات تصاعيد الأرواح، وتقاطير المياه، وخلاصات المفردات وأملاح الأرمدة المستخرجة من الأعشاب والنباتات، واستخراج المياه الجلاءة والحلالة، وحول المكان الداخل قوارير وأوانٍ من الزجاج البلوري المختلفة الأشكال والهيئات على الرفوف والسدلات، وبداخلها أنواع المستخرجات.
ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان أن بعض المتقدمين لذلك أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة فصب منها شيًّا في كأس، ثم صب عليها شيًّا من زجاجة أخرى فَعَلَا المآن وصعد منه دخان ملون حتى انقطع وجف ما في الكاس، وصار حجرًا أصفر فقلبه على البرجات حجرًا يابسًا أخذناه بأيدينا ونظرناه، ثم فعل كذلك بمياه أخرى فجمد حجرًا أزرق، وبأخرى فجمد حجرًا أحمر ياقوتيًّا، وأخذ مرة شيًّا قليلًا جدًّا من غبار أبيض ووضعه على السندال وضربه بالمطرقة بلطف، فخرج له صوت هايل كصوت القربانة انزعجنا منه، فضحكوا منها، وأخذ مرة زجاجة فارغة مستطيلة في مقدار الشبر ضيقة الفم فغمسها في ماء قراح موضوع في صندوق من الخشب مصفح الداخل بالرصاص، وأدخل معها أخرى على غير هيئتها، وأنزلهما في الماء وأصعدهما بحركة انحبس بها الهواء في إحداهما، وأتى آخر بفتيلة مشتعلة وأبرز ذلك فم الزجاجة من الماء وقرب الآخر الشعلة إليها في الحال فخرج ما فيها من الهواء المحبوس، وفرقع بصوت هايل أيضًا.
وغير ذلك أمور كثيرة وبراهين حكيمة تتولد من اجتماع العناصر وملاقاة الطبايع، ومثل الفلكة المستديرة التي يديرون بها الزجاجة، فيتولد من حركتها شرر يطير بملاقاة أدنى شي كثيف، ويظهر له صوت طقطقة، وإذا مسك علاقتها شخص ولو خيطًا لطيفًا متصلًا بها ولمس آخر الزجاجة الدايرة، أو ما قرب منها بيده الأخرى ارتج بدنه، وارتعد جسمه وطقطقت عظام أكتافه وسواعده في الحال برجة سريعة، ومن لمس هذا اللامس أو شيًّا من ثيابه أو شيًّا متصلًا به حصل له ذلك، ولو كانوا ألفًا أو أكثر، ولهم فيه أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتايج لا يسعها عقول أمثالنا.
وأفردوا أيضًا مكانًا للنجارين وصناع الآلات والأخشاب وطواحين الهوا والعربات واللوازم لهم في أشغالهم وهندساتهم وأرباب صنايعهم.
ومكان آخر للحدادين وبنوا فيه كوانين عظامًا وعليها منافيخ كبار يخرج الهواء متصلًا كثيرًا بحيث يجذبه النافخ من أعلى بحركة لطيفة، وصنعوا السندانات والمطارق العظام لصناعات الآلات من الحديد والمخارط، وركبوا مخارط عظيمة لخرط القلوزات الحديد العظيمة.
ولهم فلكات مثقلة يديرها الرجال للمعلم الخراط للحديد بالأقلام المتينة الجافية، وعليها حق صغير معلق مثقوب، وفيه ماء يقطر على محل الخرط لتبريد النارية الحادثة من الاصطكاك، وبأعلى هذه الأمكنة صناع الأمور الدقيقة مثل: البركارات وآلات الساعات والآلات الهندسية المتقنة، وغير ذلك.
شهر رجب سنة ١٢١٣
استهل بيوم الأحد في ثالثه قتلوا شخصًا من الأجناد يقال له مصطفى كاشف من جماعة حسين بك المعروف بشفت وكان قد فر مع الفارين، ثم رجع من غير استيذان، وأقام أيامًا مستترًا ببيت الشيخ سليمان الفيومي، فسلمه لمصطفى أغا مستحفظان ليأخذ له أمانًا، فأخبر الفرنسيس بشأنه وأغراهم عليه، فأمروه بقتله، فقطع رأسه، وطافوا بها ينادون عليها بقولهم: «هذا جزا من يدخل إلى مصر بغير إذن الفرنسيس.»
وفي يوم الخميس حضر كبير الفرنسيس الذي بناحية قليوب وصحبته سليمان الشواربي شيخ الناحية وكبيرها، فلما حضر حبسوه بالقلعة، قيل إنهم عثروا له على مكتوب أرسله وقت الفتنة السابقة إلى سرياقوس لينهض أهل تلك النواحي في القيام، ويأمرهم بالحضور وقت أن يرى الغلبة على الفرنسيس، ولما حبسوه حبسوا معه أربعة من الأجناد أيضًا.
وفيه أحدثوا مزمارًا يضربونه في كل وقت الزوال؛ لأن ذلك الوقت عندهم ابتداء اليوم.
فليكن معلومًا عند كافة الرعايا المصرية أن في يوم الجمعة ثلاثة عشر من شهر رجب الساعة اثنين يباع في بولاق جملة خيل من المشيخة الفرنساوية، فلأجل هذا المشتري كل من أراد أن يقتني خيلًا، فمنحنا له الإجازة أنه يقتني كما يريد ويشاء، انتهى.
وفي يوم الاثنين سادس عشره سافر ساري عسكر بونابرته إلى السويس.
وأخذ صحبته السيد أحمد المحروقي وإبراهيم أفندي كاتب البهار، وأخذ معه أيضًا بعض المديرين والمهندسين والمصورين وجرجس الجوهري، وألطون أبو طاقية وغيرهم وعدة كثيرة من عساكر الخيالة والمشاة، وبعض مدافع وعربات وتختروان وعدة جمال لحمل الذخيرة والماء والقومانية.
وفيه شرعوا في ترتيب الديوان على تنظيم آخر وعينوا له ستين نفرًا، منهم أربعة عشر يقال لهم خصوص، وهم الذين يحضرون دايمًا، ويقال لهم الديوان الخصوصي والديوان الديمومي، والباقي بحسب الاقتضا، والأربعة عشر هم: من المشايخ: الشرقاوي والمهدي والصاوي والبكري والفيومي، ومن التجار: المحروقي وأحمد محرم، ومن النصارى القبطة: لطف الله المصري، ومن الشوام: يوسف فرحات ومخاييل كحيل ورواحة الإنكليزي وبودني وموسى كافرلي الفرنساوي، ومعهم وكلا ومباشرون من الفرنسيس ومترجمون.
بسم الله الرحمن الرحيم
من أمير الجيوش الفرنساوي خطابًا إلى كافة أهالي مصر الخاص والعام، نعلمكم أن بعض الناس الضالين العقول الخالين من المعرفة وإدراك العواقب سابقًا أوقعوا الفتنة والشرور بين القاطنين بمصر، فأهلكهم الله بسبب فعلهم ونيتهم القبيحة، والباري — سبحانه وتعالى — أمرني بالشفقة والرحمة على العباد فامتثلت أمره وصرت رحيمًا بكم شفوقًا عليكم، ولكن كان حصل عندي غيظ وغم شديد بحسب تحريك هذه الفتنة بينكم، ولأجل ذلك أبطلت الديوان الذي كنت رتبته لنظام البلد وصلاح أحوالكم من مدة شهرين، والآن توجه خاطرنا إلى ترتيب الديوان كما كان؛ لأن حسن أحوالكم ومعاملتكم في المدة المذكورة أنسانا ذنوب الأشرار وأهل الفتنة التي وقعت سابقًا، أيها العلما والأشراف أعلموا أمتكم ومعاشر رعيتكم بأن الذي يعاديني ويخاصمني إنما خصامه من ضلال عقله وفساد فكره، فلا يجد ملجأً ولا مخلصًا ينجيه مني في هذا العالم، ولا ينجو من بين يَدَي الله لمعارضته لمقادير الله — سبحانه وتعالى — والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله — تعالى — وإرادته وقضايه، ومن يشك في ذلك فهو أحمق وأعمى البصيرة، وأعلموا أيضًا أمتكم أن الله قدَّر في الأزل هلاك أعدا الإسلام وتكسير الصلبان على يدي، وقدر في الأزل أني أجي من المغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها، وإجراء الأمر الذي أمرت به، ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وإرادته وقضاه، وأعلموا أيضًا أمتكم أن القرآن العظيم صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل، وأشار في آيات أخرى إلى أمور تقع في المستقبل، وكلام الله في كتابه صدق وحق لا يتخلف، إذا تقرر هذا وثبتت هذه المقالات في آذانكم فلترجع أمتكم جميعًا إلى صفاء النية وإخلاص الطوية فإن منهم من يمتنع عن الغي وإظهار عداوتي خوفًا من سلاحي وشدة سطوتي، ولم يعلموا أن الله مطلع على السراير يعلم خاينة الأعين وما تخفي الصدور، والذي يفعل ذلك يكون معارضًا لأحكام الله ومنافقًا، وعليه اللعنة والنقمة من الله علام الغيوب.
واعلموا أيضًا أني أقدر على إظهار ما في نفس كل أحد منكم؛ لأنني أعرف أحوال الشخص وما انطوى عليه بمجرد ما أراه، وإن كنت لا أتكلم ولا أنطق بالذي عنده، ولكن يأتي وقت ويوم يظهر لكم بالمعاينة أن كل ما فعلت وحكمت به فهو حكم إلهي لا يرد، وأن اجتهاد الإنسان غاية جهده وما يمنعه عن قضا الله الذي قدره وأجراه على يدي، فطوبى للذين يسارعون في اتحادهم وهمتهم مع صفا النية وإخلاص السريرة والسلام.
ورتبوا لأرباب الديوان الديمومي شهرية تدفع إليهم نظير تقيدهم بمصالح العامة والدعاوى، وما يترتب عليه النظام بينهم وبين المسلمين.
وفي ثامن عشره طافوا على الطواحين واختاروا من كل طاحون فرسًا أخذوها.
وفي رابع عشرينه حضر السيد المحروقي وكاتب البهار من السويس، وكان ساري عسكر ذهب إلى ناحية بلبيس فاستأذنوه في ذهابهم إلى مصر فأذن لهم، وأرسل معهم خمسين عسكريًّا ليوصلوهم إلى مصر، فلما حضروا حكوا أن أهل السويس لما بلغهم مجي الفرنساوية هربوا وأخلوا البلدة فذهبوا إلى الطور وذهب البعض إلى العرب بالبادية، فنهب الفرنسيس ما وجدوه بالبندر من البن والمتاجر والأمتعة وغير ذلك، وهدموا الدور وكسروا الأخشاب وخوابي الماء، فلما حضر كبيرهم وكان متأخرًا عنهم، كلَّمه التجار الذاهبون معه وأعلموه أن هذا الفعل غير صالح، فاسترد من العسكر بعض الذي أخذوه ووعدهم باسترجاع الباقي أو دفع ثمنه بمصر، وأن يكتبوا قايمة بالمنهوبات.
ثم إنه وجد مركبين حضرا إلى قريب من السويس بهما بن ومتاجر فغرقت إحداهما، فنزلت طايفة من الفرنسيس في مراكب صغار، وذهبوا إليها في الغاطس وأخرجوها بآلات ركبوها واصطنعوها من علم جر الأثقال.
وفي مدة إقامته بالسويس صار يركب ويتأمل في النواحي وجهات ساحل البحر والبر ليلًا ونهارًا، وكان معه من الأدم في هذه السفرة ثلاثة طيور دجاج محمرة ملفوفة في ورق وليس معه طباخ ولا فراش ولا فرش ولا خيمة، وكل شخص من عسكره معه رغيف كبير مرشوق في طرف حربته يتزود منه، ويشرب من سقاء لطيف من صفيح معلق في عنقه.
وفي يوم السبت حضر عدة من العسكر الفرنساوية من ناحية بلبيس، ومعهم عدة من العربان نحو الثلاثين نفرًا موثقون بالحبال وأسروا أيضًا عدة من أولادهم ذكورًا وإناثًا، ودخلوا بهم إلى مصر يزفونهم بالطبول أمامهم ومعهم أيضًا ثلاثة حمول من حمول التجار، وبعض جمال مما كان نهب منهم عند رجوعهم من الحج.
وفي ليلة الاثنين غايته حضر ساري عسكر من ناحية بلبيس إلى مصر ليلًا، وأحضر معه عدة عربان وعبد الرحمن أباظة أخو سليمان أباظة شيخ العيايدة وخلافه رهاين، وضربوا أبو زعبل والمنير وأخذوا مواشيهم، وحضروا بهم إلى القاهرة وخلفهم أصحابهم رجالًا ونساءً وصغارًا.
وفي ذلك اليوم قتلوا شيخ العرب سليمان الشواربي شيخ قليوب ومعه أيضًا ثلاثة رجال يقال لهم عرب الشرقية، فأنزلوهم من القلعة إلى الرميلة على يد الأغا وقطعوا روسهم، وحملوا جثة الشواربي مع رأسه في تابوت، وأخذه أتباعه في بلدة قليوب ليدفن هناك عند أسلافه، وانقضى هذا الشهر وحوادثه الجزئية والكلية.
منها أن في ليلة السابع والعشرين منه أتت جماعة إلى دار الشيخ محمد بن الجوهري الكاين بالأزبكية بالقرب من باب الهوا، فخلعوا الشباك المطل على البركة، ودخلوا منه وصعدوا إلى أعلى الدار وكان بها ثلاثة من النسا الخدامات وابنة خدامة أيضًا وبواب الدار، ولم يكن رب الدار بها ولا الحريم بل كانوا قد انتقلوا إلى دار أخرى لما سكن معظم العسكر بالأزبكية، فاستيقظ النسا وصرخن فضربوهن وقتلوا منهن امرأة واختفت البنت في جهة، وعاثوا في الدار وأخذوا متاعًا ومصاغًا ونزلوا واستيقظ البواب فاختفى خوفًا منهم، فلما طلع النهار وشاع الخبر وكان ساري عسكر غايبًا فلم يقع كلام في شأن ذلك، فلما قدم من سفره ركب مشايخ الديوان وأخبروه، فاغتم لذلك وأظهر الغيظ وذم فاعل ذلك لما فيه من العار الذي يلحقه، واهتم في الفحص عمن فعل ذلك وقتله.
ومنها كثرة تعدي القلقات وتشديدهم على وقود القناديل بالأزقة وهم من أهل البلد، وإذا مروا بالليل ووجدوا قنديلًا أطفاه الهوا أو فرغ زيته سمروا الحانوت أو الدار التي هو عليها، ولا يقلعون المسمار حتى يصالحهم صاحبها على ما أحبوه من الدراهم، وربما تعمدوا كسر القناديل لأجل ذلك، واتفق أن المطر أطفأ عدة قناديل بسوق أمير الجيوش بسبب كونها في ظروف من الورق والجريد، فابتل الورق وسال الماء فأطفا القناديل فسمروا حوانيت السوق وأصبح أهلها صالحوا عليها، ووقع مثل ذلك في طرق عديدة، فجمعوا في ذلك اليوم جملة من الدراهم وأمثال ذلك حتى في الأزقة والعطف غير النافذة حتى كأن الناس ليس لهم شغل إلا القناديل وتفقد حالها وخصوصًا في ليل الشتا الطويل.
شهر شعبان المعظم سنة ١٢١٣
استهل بيوم الثلاثا، فيه قتلوا ثلاثة أنفار من الفرنسيس وبندقوا عليهم بالرصاص بالميدان تحت القلعة قيل إنهم من المتسلقين على الدور، وفيه أخبر السفار بأن مراد بك ومن معه ترفعوا إلى قبلي ووصلوا إلى عقبة الهوا، وكلما قرب منهم عسكر الفرنساوية انتقلوا، وقبلوا ولقد داخلهم من الفرنساوية خوف شديد، ولم يقع بينهم ملاقاة ولا قتال.
وفيه قدمت رِباعة تحمل البن الذي حضر من السويس بالمركب الداو بصحبة جماعة من الفرنساوية لخفارتها من قطاع الطريق.
وفي يوم الأحد سادسه نادى القبطان الفرنساوي الساكن بالمشهد الحسيني على أهل تلك الخطة وما جاورها بفتح الحوانيت والأسواق لأجل مولد الحسين، وشدد في ذلك وأوعد من أغلق حانوته بتسميره، وتغريمه عشرة ريال فرانسة مكافأة له على ذلك، وكان السبب في ذلك والأصل فيه أن هذا المولد ابتدعه السيد بدوي بن فتيح مباشر وقف المشهد، فكان قد اعتراه مرض الحب الإفرنجي فنذر على نفسه هذا المولد إن شفاه الله تعالى، فحصلت له بعض إفاقة فابتدا به وأوقد في المسجد والقبة قناديل وبعض شموع ورتب فُقَها يقرون القرآن بالنهار مدارسة، وآخرين بالمسجد يقرون بالليل دلايل الخيرات للجزولي، ثم زاد الحال وانضم إليهم كثير من أهل البدع كجماعة العفيفي والسمان والعربي والعيسوية، فمنهم من يتحلق ويذكر الجلالة ويحرفها وينشد له المنشدون القصايد والموالات، ومنهم من يقول أبياتًا من بردة المديح للبوصيري ويجاوبهم آخرون مقابلون لهم بصيغة صلاة على النبي.
وأما العيسوية فهم جماعة من المغاربة وما دخل فيهم من أهل الأهوا ينسبون إلى شيخ من أهل المغرب يقال له سيدي محمد بن عيسى، وطريقتهم أنهم يجلسون قبالة بعضهم صفين ويقولون كلامًا معوجًا بلغتهم بنغم وطريقة مشوا عليها، وبين أيديهم طبول ودفوف يضربون عليها على قدر النغم ضربًا شديدًا مع ارتفاع أصواتهم، وتقف جماعة أخرى قبالة الذين يضربون بالدفوف، فيضعون أكتافهم في أكتاف بعض لا يخرج واحد عن الآخر، ويلتوون وينتصبون ويرتفعون وينخفضون ويضربون الأرض بأرجلهم، كل ذلك مع الحركة العنيفة والقوة الزايدة بحيث لا يقوم هذا المقام إلا كل من عُرِف بالقوة، وهذه الحركات والإيقاعات على نمط الضرب بالدفوف فيقع بالمسجد دوي عظيم وضجات من هولا ومن غيرهم من جماعة الفقرا كل أحد له طريقة وكيفية تباين الآخر، هذا مع ما ينضم إلى ذلك من جمع العوام، وتحلقهم بالمسجد للحديث والهذيان وكثرة اللغط والحكايات والأضاحيك، والتلفت إلى حسان الغلمان الذين يحضرون للتفرج والسعي خلفهم والافتتان بهم، ورمي قشور اللب والمكسرات والمأكولات في المسجد، وطواف الباعة بالمأكولات على الناس فيه وسقاة الما، فيصير المسجد بما اجتمع فيه من هذه القاذورات والعفوش ملتحقًا بالأسواق الممتهنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم زاد الحال على ذلك بقدوم جماعة الأشاير من الحارات البعيدة والقريبة، وبين أيديهم مناور القناديل والجوامع العظيمة التي تحملها الرجال والشموع والطبول والزمور، ويتكلمون بكلام محرف يظنون أنه ذِكْر وتوسلات يثابون عليها وينسبون من يلومهم أو يعترضهم إلى الاعتزال والخروج والزندقة، وغالبهم السوقة وأهل الحرف السافلة ومن لا يملك قوت ليلته، فتجد أحدهم يجتهد بقوة معينه، ويبيع متاعه أو يستدين الجملة من الدراهم ويصرفها في وقود القناديل وأجرة الطبالة والزمارة، وكل يجتمع عليه ما هو من أمثاله من الحرافيش، ثم يقطع ليلته تلك سهرانًا ويصبح دايخًا كسلانًا، ويظن أنه بات يتعبد ويذكر ويتهجد.
واستمر هذا المولد أكثر من عشر سنين، ولم يزدد الناذر لذلك إلا مرضًا ومقتًا، واستجلب خدمة الضريح ما لاح لهم من خساف العقول مثل الشمع والدراهم، واتخذوا ذلك حيالة لأكل أموال الناس بالباطل.
فلما حصلت هذه الحادثة بمصر ترك هذا المولد في جملة المتروكات، ثم حصلت الفتنة التي حصلت وسكن هذا الفرنساوي في خط المشهد الحسيني لضبط تلك الجهة، وفيه مسايرة ومداهنة فصار يظهر المحبة للمسلمين ويلاطفهم ويدخل بيوت الجيران ويقبل شفاعة المتشفعين، ويجل الفقها ويعظمهم ويكرمهم وأبطل وقوف عسكره بالسلاح كعادتهم في غير هذه الجهة، وكذلك منع ما يفعله القلقات من أنواع التشديد على الناس في مثل القناديل، فاطمأن به أهل الخطة وتراجعوا للبكور إلى الصلاة في المساجد بعد تخوفهم من العسكر الذي رتب معهم وتركهم التبكير، فلما أنسوا به وعرفوا أخلاقه رجعوا لعادتهم ومشوا بالليل أيضًا بدون فزع وخوف وترجمانه على مثل طريقته، وهو رجل شريف من أهل حلب كان أسيرًا بمالطة، فاستخلصه الفرنسيس في جملة من استخلصوه من أسرى مالطة وقدم معهم مصر.
فلما أجلس هذا لضبط الخط كان ترجمانه يهوديًّا، فاحتال بعض أعيان الجهة ورتب هذا الشريف المذكور ليكون فيه راحة للناس ففتح له قهوة بالخط بالقرب من دار مخدومه، وجمع الناس للجلوس فيها والسهر حصة من الليل، وأمرهم بعدم غلق الحوانيت مقدارًا من الليل كعادتهم القديمة، فاستأنسوا بالاجتماعات والتسلي والخلاعات وعم ذلك جهات تلك الخطة، ووافق ذلك هوى العامة؛ لأن أكثرهم مطبوع على المجون والخلاعة، وتلك هي طبيعة الفرنساوية، فصاروا يجتمعون عنده للسمر والحديث واللعب والممازحة ويحضر معهم ذلك الضابط ومعه زوجته وهي من أولاد البلد المخلوعين أيضًا، فانساق الحديث لذكر هذا المولد الشهري وما يقع في لياليه من الجمعيات والمهرجان، وحسنوا له إعادته فوافقهم على ذلك، وأمر بالمناداة وفتح الحوانيت ووقود القناديل وشدد في ذلك.
وفي يوم الأربعا كتبوا أوراقًا بتطيير طيارة ببركة الأزبكية مثل التي سبق ذكرها وفسدت، فاجتمعت الناس لذلك وقت الظهر وطيروها وصعدت إلى الأعلى، ومرت إلى أن وصلت تلال البرقية وسقطت، ولو ساعدها الريح وغابت عن الأعين لتمت الحيلة وقالوا إنها سافرت إلى البلاد البعيدة بزعمهم.
وفيه سافر الخواجة مجلون إلى الصعيد واليًا على جرجا لتحرير البلاد، وقبض الأموال والغلال المتأخرة بالنواحي للغز.
وفيه سافرت قافلة بها أحمال كثيرة ومواشٍ ونسا إفرنجيات وصناديق قيل إنهم أرسلوها إلى الطور وصحبتهم عدة من العسكر.
وفي يوم الخميس عاشره حضر طايفة من العسكر الفرنساوية إلى وكالة ذي الفقار بالجمالية، ففتحوا طبقة كانت لكتخدا علي باشا الطرابلسي، وأخذوا ما وجدوه بها من الأمتعة وختموا عدة حواصل وطباق بذلك الخان، وبالوكالة الجديدة وغيرها للمسافرين والهاربين والقليونجية، وضبطوا ما بها وقبضوا على جماعة من الأتراك والقليونجية التجار وسجنوهم بالقلعة، وصاروا يفتشون على من بقي منهم بالقاهرة وبولاق خصوصًا الكرتلية الذين كانوا عسكرًا لمراد بك.
وأخذوا الكثير من نصارى الأروام والقليونجية الذين كانوا مع مراد بك، وبعضهم كان بمصر فأدخلوهم في عسكرهم وزيوهم بزيهم وأعطوهم أسلحة وانتظموا في سلكهم.
وفيه تواترت الأخبار أن علي باشا ونصوح باشا فارقا مراد بك، وذهبا من خلف الجبل على الهجن إلى جهة الشام، وصحبتهم جماعة إبراهيم بك، وكان ذهابهم في أواخر رجب.
وفيه نادوا بإبطال القناديل التي توقد في الليل على البيوت والدكاكين، وأن يوقدوا عوضها في وسط السوق مجامع في كل مجمع أربعة قناديل بين كل مجمع ثلاثون ذراعًا، ويقوم بذلك الأغنيا دون الفقرا ولا علاقة للقلقات في ذلك، ففرح بذلك فقرا الناس وانفرجت عنهم هذه الكربة.
وفيه نادوا أيضًا أن كل من كان له دعوى شرعية أو ظلامة فليذهب إلى العلما والقاضي.
وفيه ذهبت طايفة من العسكر وضربوا عرب الكوامل، ورجعوا بمنهوباتهم من الغنم والمعز والدجاج والإوز والحمير وغير ذلك.
وفيه حضر رجل من ناحية غزة يطلب أمانًا للست فاطمة زوجة مراد بك ولابنة المرحوم محمد أفندي البكري، وزوجها الأمير ذي الفقار وخشداشينه، والخطاب للشيخ خليل البكري.
فعرض ذلك على ساري عسكر وترجَّى عنده فكتب له أمانًا بحضورهم وأرسل لهم نفقة، وكان ذلك حيلة منهم لتأتيهم النفقة وبعض الاحتياجات، وأخبر ذلك الرسول أن عبد الله باشا ابن العظم بغزة وإبراهيم بك ومن معه خارج البلد وهم في ضيق وحصر وحيز عنهم داخل البلد.
وفيه ذهب عدة من العسكر الفرنساوية إلى قطيا وشرعوا في بنا أبنية هناك، وأشيع سفر ساري عسكر إلى جهة الشام والإغارة عليها.
وفي ليلة الأحد ثالث عشره كان انتقال الشمس لبرج الدلو، وهو أول شهر من شهورهم، وعملوا تلك الليلة حراقة بارود وسواريخ كما هي عاداتهم عند كل انتقال الشمس من برج إلى برج.
وفي يوم الاثنين رابع عشره نادى المحتسب على اللحم الضاني بسبعة أنصاف الرطل وكان بثمانية، واللحم الجاموسي بخمسة وكان بستة.
وفيه ذهب طايفة من العسكر وضربوا عرب العيايدة نواحي الخانكة، وقتلوا منهم طايفة ونهبوهم ووجدوا من منهوبات الناس وأمتعة عسكر الفرنساوية وأسلحتهم جملة، فأخذوا ذلك مع ما أخذوه وأحضروا معهم بعض رجال ونسا حبسوهم بالقلعة.
وفيه ذهب عدة من العسكر إلى صنافير وأجهور الورد وقرنفيل وكفر منصور، وبلاد أخرى للتفتيش على العرب، فأخذوا ما وجدوه للعرب من بهايم وغيرها، والذي عصى عليهم ضربوه ونهبوه أيضًا ونهبوا جمالًا وبهايم ممن لم يعصِ أيضًا، ودخلوا بذلك المدينة فصاروا يبيعون البقرة بريالين وثلاثة، والنعجة وابنها بريال؛ فاشترى غالب ذلك نصارى القبط.
وفي يوم السبت قتلوا بالقلعة نحو التسعين نفرًا، وغالبهم من المماليك الذين وجدوهم هاربين في البلاد والذين عَسَّ عليهم الخبيث الأغا وبرطلمين والقلقات، ووجدوهم مختفين في البيوت.
وفيه قبضوا على خمسة أنفار من اليهود وامرأتين، فألقوا الجميع في بحر النيل.
وفيه نادوا بأن كل من اشترى شيًّا من منهوبات العرب التي نهبتها العسكر يحضره لبيت ساري عسكر.
وفيه كثر الاهتمام والحركة بسفر الفرنسيس إلى جهة الشام، وطلبوا وهيئوا جملة من الهجن وأحضروا جمال عرب الترابين ليحملوا عليها الذخيرة والدقيق والعليق والبقسماط، ثم رسموا على الأهالي عدة كبيرة من الحمير وكذلك عدة من البغال، فطلب شيخ الحمارة وأمر بجمع ذلك، وكذلك الركبدارية، أمرهم بجمع البغال فاختفى غالب أصحاب الحمير، وخاف الناس على حميرهم فامتنع خروج السقايين الذين ينقلون الما بالقرب على الحمير وسقايي الجمال والبراسمية، فحصل للناس ضيق بسبب ذلك.
الحمد لله وحده، هذا خطاب إلى جميع أهل مصر من خاص وعام من محفل الديوان الخصوصي من عقلا الأنام علما الإسلام والوجاقات والتجار الفخام، نعلمكم — معاشر أهل مصر — أن حضرة ساري عسكر الكبير بونابرته أمير الجيوش الفرنساوية صفح الصفح الكلي عن كامل الناس والرعية؛ بسبب ما حصل من أراذل أهل البلد والجعيدية من الفتنة والشر مع العساكر الفرنساوية، وعفا عفوًا شاملًا وأعاد الديوان الخصوصي في بيت قايد أغا بالأزبكية، ورتبه من أربعة عشر شخصًا أصحاب معرفة وإتقان خرجوا بالقرعة من ستين رجلًا كان انتخبهم بموجب فرمان، وذلك لأجل قضايا حوايج الرعايا وحصول الراحة لأهل مصر من خاص وعام، وتنظيمها على أكمل نظام وأحكام، كل ذلك من كمال عقله وحسن تدبيره، ومزيد حبه بمصر، وشفقته على سكانها من صغير القوم قبل كبيره، رتبهم بالمنزل المذكور كل يوم لأجل خلاص المظلوم من الظالم، وقد اقتص من عسكره الذين أساءوا بمنزل الشيخ محمد الجوهري، وقتل منهم اثنين بقراميدان، وأنزل طايفة منهم عن مقامهم العالي إلى أدنى مقام؛ لأن الخيانة ليست من عادة الفرنسيس خصوصًا مع النسا الأرامل، فإن ذلك قبيح عندهم لا يفعله إلا كل خسيس.
ووضع القبض بالقلعة على رجل نصراني مكاس؛ لأنه بلغه أنه زاد المظالم في الجمرك بمصر القديمة على الناس، ففعل ذلك بحسن تدبيره ليمتنع غيره من الظلم ومراده رفع الظلم عن كاهل الخلق، ويفتح الخليج الموصل من بحر النيل إلى بحر السويس؛ لتخف أجرة الحمل من مصر إلى قطر الحجاز الأفخم، وتحفظ البضايع من اللصوص وقطاع الطريق، وتكثر عليهم أسباب التجارة من الهند واليمن وكل فج عميق، فاشتغلوا بأمر دينكم وأسباب دنياكم، واتركوا الفتنة والشرور ولا تطيعوا شيطانكم وهواكم، وعليكم بالرضا بقضا الله وحسن الاستقامة لأجل خلاصكم من أسباب العطب والوقوع في الندامة.
رزقنا الله وإياكم التوفيق والتسليم، ومن كانت له حاجة فليأت إلى الديوان بقلب سليم إلا من كان له دعوى شرعية فليتوجه إلى قاضي العسكر المتولي بمصر المحمية بخط السكرية، والسلام عن أفضل الرسل على الدوام.
وفيه أرسلوا للوالي لينبه على السقايين بنقل الماء وعدم التعرض لهم ولحميرهم.
وفي ليلة الأربعا ثالث عشرينه خرجت عدة كبيرة من العسكر، وطلب كبير الفرنساوية بونابارته أن يأخذ معه أمير الحاج ويأخذ أيضًا قاضي العسكر بجمقشي زاده وأربعة أنفار من المتعممين، وهم الفيومي والصاوي والعريشي والدواخلي وجماعة أيضًا من التجار والوجاقلية ونصارى القبط والشوام.
وفي سادس عشرينه نادوا للناس بالأمان وفتح الأسواق ليلًا في رمضان حكم المعتاد.
وفيه انتقل قايمقام من بيته المطل على بركة الفيل، وهو بيت إبراهيم بك الوالي وسكن بيت أيوب بك الكبير المطل على بركة الفيل، وانتقلوا جميعهم إلى بركة الأزبكية.
وفيه أعرض حسن أغا محرم المحتسب لساري عسكر أمر ركوبه المعتاد لإثبات هلال رمضان فرسم له بذلك على العادة القديمة، فاحتفل لذلك المحتسب احتفالًا زايدًا وعمل وليمة عظيمة في بيته أربعة أيام أولها السبت وآخرها الثلاثا، دعا في أول يوم العلما والفقها والمشايخ والوجاقلية وغيرهم، وفي ثاني يوم التجار والأعيان، وكذلك ثالث يوم ورابع يوم دعا أيضًا أكابر الفرنساوية وأصاغرهم، وركب يوم الثلاثا بالأبهة الكاملة زيادة عن العادة وأمامه مشايخ الحرف بطبولهم وزمورهم، وشق القاهرة على الرسم المعتاد ومر على قايمقام وأمير الحاج وساري عسكر بونابارته، ثم رجع بعد الغروب إلى بيت القاضي بين القصرين، فأثبتوا هلال رمضان ليلة الأربعا، ثم ركب من هناك بالموكب وأمامه المشاعل الكثيرة والطبول والزمور والنقاقير والمناداة بالصوم، وخلفه عدة خيالة عارية روسهم وشعورهم مرخية على أقفيتهم بشكل بشيع مهول وانقضى شهر شعبان وحوادثه.
فمنها أن أهل مصر جروا على عادتهم في بدعهم التي كانوا عليها، وانكمشوا عن بعضها واحتشموها خوفًا من الفرنسيس، فلما تدرجوا فيها وأطلق لهم الفرنساوية القيد ورخصوا لهم وسايروهم رجعوا إليها، وانهمكوا في عمل مواليد الأضرحة التي يرون فرضيتها، وأنها قربة تنجيهم بزعمهم من المهالك وتقربهم إلى الله زلفى في المسالك، فرمحوا في غفلاتهم مع ما هم فيه من الأسر وكساد غالب البضايع وغلوها وانقطاع الأخبار ومنع الجالب، ووقوف الإنكليز في البحر وشدة حجزهم على الصادر والوارد، حتى غلت أسعار جميع الأصناف المجلوبة من البحر الرومي.
وانقطع أثر كثير من أرباب الصنايع التي كسدت لعدم طلابها، واحتاجوا إلى التكسب بالحرف الدنية كبيع الفطير وقلي السمك وطبخ الأطعمة والمأكولات والأكل في الدكاكين، وإحداث عدة قهاوي، وأما أرباب الحرف الدنية الكاسدة فأكثرهم عمل حمارًا مكاريًا حتى صارت الأزقة خصوصًا جهات العسكر مزدحمة بالحمير التي تُكرَى للتردد في شوارع مصر، فإن للفرنسيس بذلك عناية عظيمة ومغالاة في الأجرة، بحيث إن الكثير منهم يظل طول النهار فوق ظهر الحمار بدون حاجة، سوى أن يجري به مسرعًا في الشارع، وكذلك تجتمع الجماعة منهم ويركبون الحمير ويجهدونها في المشي والإسراع وهم يغنون ويضحكون ويصيحون ويتمسخرون ويشاركهم المكارية في ذلك، كما أن لهم العناية وبذل الأموال والتردد إلى حانات الراح والتغالي في شرا الفواكه والبواطي والأقداح.
كما قال في ذلك صاحبنا الشيخ حسن العطار:
ومن طبعهم في الشرب أنهم يتعاطون لحد النشوة وترويح النفس، فإن زادوا عن ذلك الحد لا يخرجون من منازلهم، ومَن سكر وخرج إلى السوق ووقع منه أمر مخل عاقبوه وعزروه.
ومنها ترفُّع أسافل النصارى من القبط والشوام والأروام واليهود وركوبهم الخيول، وتقلدهم بالسيوف بسبب خدمتهم للفرنسيس ومشيهم الخيلا وتجاهرهم بفاحش القول واستذلالهم المسلمين، كل ذلك بما كسبت أيديهم وما ربك بظلام للعبيد، والحال الحال والمركوز في الطبع ما زال، والبعض استهوته الشياطين ومرق والعياذ بالله من الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومنها تواتر الأخبار من ابتدا شهر رجب بأن رجلًا مغربيًّا يقال له الشيخ الكيلاني كان مجاورًا بمكة والمدينة والطايف، فلما وردت أخبار الفرنسيس إلى الحجاز، وأنهم ملكوا الديار المصرية انزعج أهل الحجاز لذلك وضجوا بالحرم وجردوا الكعبة، وإن هذا الشيخ صار يعظ الناس ويدعوهم إلى الجهاد ويحرضهم على نصرة الحق والدين، وقرأ بالحرم كتابًا مولفًا في معنى ذلك فاتعظ جملة من الناس، وبذلوا أموالهم وأنفسهم واجتمع نحو الستماية من المجاهدين، وركبوا البحر إلى القصير مع ما انضم إليهم من أهل ينبع وخلافه.
فورد الخبر في أواخره أنه انضم إليهم جملة من أهل الصعيد وبعض أتراك ومغاربة ممن كان خرج معهم مع غز مصر عند وقعة إنبابة، وركب الغز معهم أيضًا وحاربوا الفرنسيس فلم تثبت الغز كعادتهم، وانهزموا وتبعهم هوارة الصعيد المتجمعة من القرى وثبت الحجازيون ثم انكفوا لقلتهم وذلك بناحية جرجا، وهرب الغز والمماليك إلى ناحية إسنا وصحبتهم حسن بك الجداوي وعثمان بك حسن تابعه.
ووقع بين أهل الحجاز والفرنسيس بعض حروب غير هذه المرة بعدة مواضع، وينفصل الفريقان بدون طايل.
ومنها أن الفرنسيس عملوا كرنتيله بجزيرة بولاق، وبنوا هناك بنا فيحجزون بها القادمين من السُّفَّار أيامًا معدودة كل جهة من الجهات القبلية والبحرية بحسبها، والله أعلم.
ثم استهل شهر رمضان المعظم بيوم الأربعا سنة ١٢١٣
وفيه أخذ بونابارته في الاهتمام بالسفر إلى جهة الشام، وجهزوا طلبًا كثيرًا وصاروا في كل يوم يخرج منهم طايفة بعد طايفة.
وفي يوم السبت عمل ساري عسكر ديوانًا وأحضر المشايخ والوجاقات، وتكلم معهم في أمر خروجه للسفر وأنهم قتلوا المماليك الفارين بالصعيد، وأجلوا باقيهم إلى أقصى الصعيد، وأنهم متوجهون إلى الفرقة الأخرى بناحية غزة فيقطعونهم ويمهدون البلاد الشامية لأجل سلوك الطريق، ومشي القوافل والتجارات برًّا وبحرًا، لعمار القطر وصلاح الأحوال، وأننا نغيب عنكم شهرًا ثم نعود وعند عودنا نرتب النظام في البلاد والشرايع وغير ذلك، فعليكم ضبط البلد والرعية في مدة غيابنا، ونبهوا مشايخ الأخطاط والحارات كل كبير يضبط طايفته خوفًا من الفتن مع العسكر المقيمين بمصر، فالتزموا له بذلك وكتبوا له أوراقًا مطبوعة على العادة في معنى ذلك وألصقوها بالطرق، وفي ذلك اليوم خرج القاضي ومصطفى كتخدا الباشا والمشايخ المعينون للسفر إلى جهة العادلية، وخرج أيضًا عدة كبيرة من عسكرهم ومعهم أحمال كثيرة حتى الأسرة والفرش والحصر، وعدة مواهي ومحفات للنسا والجواري البيض والسود والحبوش اللاتي أخذوها من بيت الأمرا، وتزيا أكثرهن بزي نساهم الإفرنجيات وغير ذلك.
وفي يوم الأحد خامسه ركب ساري عسكر الفرنسيس، وخرج أيضًا إلى العادلية وذلك في الساعة الرابعة بطالع الحمل وفيه القمر في تربيع زحل وأبقى بمصر عدة من العسكر بالقلعة والأبراج التي بنوها على التلول وقايمقام وبوسليك وساري عسكر ويزة بجملة من العسكر في الصعيد، وكذلك سواري عسكر الأقاليم كل واحد معه عسكر في جهة من الجهات، وأخذ معه المدبرين وأصحاب المشورة والمترجمين، وأرباب الصنايع منهم كالحدادين والنجارين ومهندسي الحروب وكبيرهم أبو خشبة، وأبقى أيضًا بعض أكابرهم، ثم تراسل المتخلفون في الخروج كل يوم يخرج منهم جماعة.
وفي يوم الثلاثا سابعه انتدب للنميمة ثلاث من النصارى الشوام، وعرفوهم أن المسلمين قاصدون الوثوب على الفرنسيس في يوم الخميس تاسعه، فأرسل قايمقام خلف المهدي والأغا فأحضرهما وذكر لهما ذلك، فقالا له: هذا كذب لا أصل له، وإنما هذه نميمة من النصارى كراهة منهم في المسلمين، ففحص عمن اختلق ذلك فوجدوهم ثلاثة من النصارى الشوام، فقبضوا عليهم وسجنوهم بالقلعة حتى مضى يوم الخميس، فلم يظهر صحة ما نقلوه فأبقاهم في الاعتقال.
ثم إن نصارى الشوام رجعوا إلى عادتهم القديمة في لبس العمايم السود والزرق، وتركوا لبس العمايم البيض والشيلان الكشميري الملونة والمشجرات، وذلك بمنع الفرنسيس لهم من ذلك، نبهوا أيضًا بالمناداة في أول رمضان بأن نصارى البلد يمشون على عادتهم مع المسلمين أولًا، ولا يتجاهرون بالأكل والشرب في الأسواق ولا يشربون الدخان ولا شيًّا من ذلك بمرأى منهم، كل ذلك للاستجلاب لخواطر الرعية، حتى إن بعض الرعية من الفقها مر على بعض النصارى وهو يشرب الدخان فانتهزه فرد عليه ردًّا شنيعًا، فنزل ذلك المتعمم وضرب النصراني، واجتمع عليه الناس وحضر حاكم الخطة فرفعهما إلى قايمقام، فسأل من النصارى الحاضرين عن عادتهم في ذلك، فأخبروه أن من عادتهم القديمة أنه إذا استهل شهر رمضان لا يأكلون ولا يشربون في الأسواق ولا بمرأى من المسلمين أبدًا، فضرب النصراني وترك المتعمم لسبيله.
وفي تاسع عشرينه أحضروا مراد أغا تابع سليمان بك الأغا، ومعه آخر من الأجناد من ناحية قبلي فأصعدوهما للقلعة قبل قتلهما.
وفي خامس عشرينه ورد الخبر بأن الفرنساوية ملكوا قلعة العريش، وطاف رجل من أتباع الشرطة ينادي في الأسواق أن الفرنساوية ملكوا قلعة العريش، وأسروا عدة من المماليك وفي غد يعملون شنكًا، ويضربون مدافع فإذا سمعتم ذلك فلا تفزعوا، فلما أصبح يوم الأحد حضر المماليك المذكورة وهم ثمانية عشر مملوكًا وأربعة من الكشاف وهم راكبون الحمير، ومتقلدون بأسلحتهم ومعهم نحو الماية من عسكر الفرنسيس وأمامهم طبلهم، وخرج بعض الناس فشاهدوهم، ولما وصلوا إلى خارج القاهرة حيث الجامع الظاهري خرج الأغا وبرطلمين بطوافيهما ينتظرانهم ومعهم طبول وبيارق وطوايف ومشوا معهم إلى الأزبكية من الطريق التي أحدثوها، ودخلوا بهم إلى بيت قايمقام فأخذوا سلاحهم وأطلقوهم فذهبوا إلى بيوتهم وفيهم أحمد كاشف تابع عثمان بك الأشقر وآخر يقال له حسن كاشف الدويدار وكاشفان آخران، وهما يوسف كاشف وإسماعيل الرومي كاشف تابع أحمد كاشف المذكور.
وكان من خبرهم أنهم كانوا مقيمين بقلعة العريش في صحبتهم نحو ألف عسكري مغاربة وأرنؤد فحضر لهم الفرنسيس الذين كانوا في المقدمة في أواخر شعبان، فأحاطوا بالقلعة وحاربوهم من داخلها ونالوا منهم ما نالوه، ثم حضر إليهم ساري عسكر بجموعه بعد أيام، وألحوا في حصارهم فأرسل من بالعريش إلى غزة فطلب نجدة فأرسلوا لهم نحو السبعماية، وعليهم قاسم بك أمين البحرية فلم يتمكنوا من الوصول إلى القلعة لتحلق الفرنساوية بها وإحاطتهم حولها فنزلوا قريبًا من القلعة فكبستهم عسكر الفرنسيس بالليل فاستشهد قاسم بك وغيره وهزم الباقون، ولم يزل أهل القلعة يحاربون ويقاتلون حتى فرغ ما عندهم من البارود والذخيرة، فطلبوا عند ذلك الأمان فأمنوهم ومن القلعة أنزلوهم وذلك بعد أربعة عشر يومًا، فلما نزلوا على أمانهم أرسلوهم إلى مصر مع الوصية بهم وتخلية سبيلهم، فحضروا إلى مصر كما ذكر وأخذوا سلاحهم وخلوا سبيلهم، وصاروا يترددون عليهم ويعظمونهم ويلاطفونهم ويفرجونهم على صنايعهم وأحوالهم.
وأما العسكر الذين كانوا معهم بقلعة العريش، فبعضهم انضاف إليهم وأعطوا جامكية وعلوفة، وجعلوهم بالقلعة مع عسكر من الفرنسيس، والبعض لم يرضَ بذلك، فأخذوا سلاحهم وأطلقوهم إلى حال سبيلهم، وذهب الفرنسيس إلى ناحية غزة، وفي ذلك اليوم بعد الظهر عملوا الشنك الموعود به، وضربوا عدة مدافع بالقلعة والأزبكية وأظهر النصارى الفرح والسرور بالأسواق والدور، وأولموا في بيوتهم الولايم، وغيروا الملابس والعمايم وتجمعوا للهو والخلاعة وزادوا في القبح والشناعة.
وفي يوم الأربعا توفي أحمد كاشف المذكور فجأة، وفي عصر ذلك اليوم حضر جماعة من الفرنسيس نحو الخمسة والعشرين وهم راكبون الهجن، وعلى روسهم عمايم بيض ولابسون برانس بيض على أكتافهم، فذهبوا إلى بيت قايمقام بالأزبكية، فلما أصبح يوم الخميس عملوا الديوان وقروا المكاتبة التي حضرت مع الهجانة، حاصلها أن الفرنسيس أخذوا غزة وخان يونس وأخبار مختلفة منها أنهم وجدوا إبراهيم بك ومن معه ارتحلوا من هناك، وكانوا أرسلوا حريمهم وأثقالهم إلى جبل نابلس، وقيل بل تحاربوا معهم وانهزموا.
وفي ذلك اليوم بعد العصر بنحو عشرين درجة حضر عدة من الفرنسيين ومهم كبير منهم وهم راكبون الخيول وعدة من المشاة وفيهم جماعة لابسون عمايم بيض، وجماعة أيضًا ببرانيط ومعهم نفير ينفخ فيه وبيدهم بيارق وهي التي كانت عند المسلمين على قلعة العريش إلى أن وصلوا إلى الجامع الأزهر، فاصطفوا رجالًا وركبانًا بباب الجامع وطلبوا الشيخ الشرقاوي، فسلموه تلك البيارق وأمروه برفعها ونصبها على منارات الجامع الأزهر، فنصبوا بيرقين ملونين على المنارة الكبيرة ذات الهلالين عند كل هلال بيرقًا وعلى منارة أخرى بيرقًا ثالثًا، وعند رفعهم ذلك ضربوا عدة مدافع من القلعة بهجة وسرورًا وكان ذلك ليلة عيد الفطر، فلما كان عند الغروب ضربوا عدة مدافع أيضًا إعلامًا بالعيد، وبعد العشا الأخيرة طاف أصحاب الشرطة، ونادوا بالأمان وبخروج الناس على عادتهم لزيارة القبور بالقرافتين والاجتماع، وأرسلوها إلى البلاد ونصها:
فرمان عام موجه من أمير الجيوش إلى أهالي الشام قاطبة:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، من طرف بونابرته أمير الجيوش الفرنساوية إلى حضرة المفتين والعلما، وكافة أهالي نواحي غزة والرملة ويافا حفظهم الله تعالى، بعد السلام نعرفكم بأننا حررنا لكم هذه السطور نعلمكم أننا حضرنا في هذا الظرف لقصد طرد المماليك وعسكر الجزار عنكم، وإلى أي سبب حضور عسكر الجزار وتعديه على بلاد يافا وغزة التي ما كانت من حكمه، وإلى أي سبب أيضًا أرسل عساكره إلى قلعة العريش بذلك هجم على أراضي مصر، فلا شك كان مراده إجراء الحروب معنا ونحن حضرنا لنحاربه، فأما أنتم يا أهالي الأطراف المشار إليها فلم نقصد لكم أذية ولا أدنى ضرر، فأنتم استمروا في محلكم ووطنكم مطمينين ومرتاحين، وأخبروا من كان خارجًا عن محله ووطنه أن يرجع ويقيم في محله ووطنه، ومن قِبلنا عليكم ثم عليهم الأمان الكافي والحماية التامة، ولا أحد يتعرض لكم في مالكم وما تملكه يدكم، وقصدنا أن القضاة يلازمون خدمتهم ووظايفهم على ما كانوا عليه، وعلى الخصوص أن دين الإسلام لم يزل معتزًّا ومعتبرًا والجوامع عامرة بالصلاة وزيارة المؤمنين.
إن كل خير يأتي من الله تعالى وهو يعطي النصر من يشا، ولا يخفاكم أن جميع ما تأمر به الناس ضدنا فيغدو باطلًا ولا نفع لهم به؛ لأن كل ما نضع به يدنا لا بد عن تمامه بالخير، والذي يتظاهر لنا بالحب يفلح والذي يتظاهر بالغدر يهلك، ومن كل ما حصل تفهمون جيدًا أنَّنا نقمع أعدانا ونعضد من يحبنا، وعلى الخصوص من كونِنَا متَّصِفِين بالرحمة والشفقة على الفقرا والمساكين.
بسم الله الرحمن الرحيم، ولا عدوان إلا على الظالمين. نخبر أهل مصر وأقاليمها أنه حضر فرمان مكتوب من غزة من حضرة الجنرال إسكندر برتنيه خطابًا إلى حضرة ساري عسكر دوجا وكيل الجيوش بمصر، يخبره فيه بأن العساكر الفرنساوية باتوا ليلة تسعة عشر شهر رمضان في خان يونس، وفي فجر تلك الليلة توجهوا سايرين إلى ناحية غزة فكشفوا قبل الظهر بساعة عسكر المماليك وعسكر الجزار، فلما انتبهوا له فروا هاربين ووقع بينه وبين أطراف العساكر بعض مضاربة يسيرة لم ينجرح فيها إلا شخصان من الفرنساوية ومات عسكري واحد، ومات من عسكر المماليك والجزار ناس قلايل، وحين تشاغل ساري عسكر مراد بالمضاربة والمقاتلة دخل حضرة ساري عسكر كليبر الذي كان حاكمًا بالإسكندرية وكان ساكنًا بالأزبكية إلى بندر غزة، وملكها من غير معارض له ووجدوا فيها حواصل مشحونة بالذخاير من بقسماط وشعير وأربعماية قنطار بارود، واثني عشر مدفعًا وحاصلًا كبيرًا مملوًّا بالخيام الكثيرة وجللًا وبنبات مهيئات محضرات كصنعة الإفرنج، هذا ما وقع لملكهم لغزة، وقد أخبرناكم على ما وقع في كيفية ملك العريش سابقًا، فاستقيموا عباد الله وارضوا بقضاء الله، وتأدبوا في أحكام مولاكم الذي خلقكم وسواكم والسلام ختام.
وانقضى شهر رمضان ووقع به قبل ورود هذه الأخبار من السكون والطمأنينة وخلو الطرقات من العسكر وعدم مرور المتخلفين منهم إلا في النادر واختفاهم بالليل جملة كافية، وانفتاح الأسواق والدكاكين والذهاب والمجي وزيارة الإخوان ليلًا، والمشي على العادة بالفوانيس ودونها، واجتماع الناس للسهر في الدور والقهاوي ووقود المساجد وصلاة التراويح وطواف المسحرين والتسلي بالرواية والنقول وترجي المأمول وانحلال الأسعار فيما عدا المجلوبات من الأقطار.
ومنها أن الفرنساوية صاروا يدعون أعيان الناس والمشايخ والتجار للإفطار والسحور، ويعملون لهم الولايم ويقدمون لهم الموايد على نظام المسلمين وعاداتهم، ويتولى أمر ذلك الطباخون والفراشون من المسلمين تطمينًا لخواطرهم، ويذهبون هم أيضًا ويحضرون عندهم الموايد، ويأكلون معهم في وقت الإفطار ويشاهدون ترتيبهم ونظامهم ويحذون حذوهم ووقع منهم من المسايرة للناس وخفض الجانب ما يتعجب منه، والله أعلم.
شهر شوال سنة ١٢١٣
استهل بيوم الجمعة وفي صبح ذلك اليوم ضربوا عدة مدافع لشنك العيد، واجتمع الناس لصلاة العيد في المساجد والأزهر، واتفق أن إمام الجامع الأزهر نسي قراءة الفاتحة في الركعة الثانية، فلما سلم أعاد الصلاة بعدما شنع عليه الجماعة، وخرج الرجال والنسا لزيارة القبور، فانتبذ بعض الحرافيش نواحي تربة باب النصر، وأسرع في مشيه وهو يقول: نزلت عليكم العرب يا ناس فهاجت الناس، وانزعجت النسا ورمحت الجعيدية والحرافيش، وخطفوا ثياب النسا، وأزرهن وما صادفوه من عمايم الرجال وغير ذلك، واتصل ذلك بتربة المجاورين وباب الوزير والقرافة، حتى إن بعض النسا مات تحت الأرجل ولم يكن لهذا الكلام صحة، وإنما ذلك من مخترعات الأوباش لينالوا أغراضهم من الخطف بذلك.
وفيه ركب أكابر الفرنسيس، وطافوا على أعيان البلد وهنوهم بالعيد، وجاملهم الناس بالمدارة أيضًا.
وفي أوايله وردت الأخبار بأن الأمرا المصرية القبليين تفرقوا من بعضهم: فذهب مراد بك وآخرون إلى نواحي إبراهيم بك، ومنهم من ذهب إلى ناحية أسوان، والألفي عدى بجماعته إلى البر الشرقي.
وفي خامسه قدم الشيخ محمد الدواخلي من ناحية القرين متمرضًا، وكان بصحبته الصاوي والفيومي متخلفين بالقرين، وسبب تخلفهم أن كبير الفرنسيس لما ارتحل من الصالحية أرسل إلى كتخدا الباشا والقاضي والجماعة الذين بصحبتهم يأمرهم بالحضور إلى الصالحية؛ لأنهم كانوا يبعدون عنه مرحلة، فلما أرادوا ذلك بلغهم وقوف العرب بالطريق فخافوا من المرور، فذهبوا إلى العرين فأقاموا هناك، واتخذ عسكر الفرنسيس جمالهم فأقاموا بمكانهم فتقلق هولا الثلاثة، وخافوا سو العاقبة ففارقوهم وذهبوا للقرين، وتخلف عنهم الفيومي فأقام مع كتخدا الباشا والقاضي، فحصل للدواخلي توعك فحضر إلى مصر وبقي رفيقاه في حيرة.
وفي سابعه أحضر الأغا رجلًا ورمى عنقه عند باب زويلة، وشنق امرأة على شباك السبيل تجاه الباب، والسبب في ذلك أن الفرنساوي حاكم خط الخليفة وجهة الركبية ويسمى دلوي أحضر باعة الغلال بالرميلة، وصادرهم ومنعهم من دفع معتاد الوالي فاجتمعوا وذهبوا إلى كبير الفرنسيس الذي يقال له شيخ البلد وشكوا إليه، وكان الأمير ذو الفقار حاضرًا وهو يسكن تلك الجهة، فعضدهم وعرف شيخ البلد عن شكواهم، فأرسل شيخ البلد إلى دلوي فانتهره وأمره برد ما أخذه، فأخبر أتباعه أن ذا الفقار هو الذي عضدهم وأنهى شكواهم إلى كبيرهم، فقام دلوي المذكور ودخل على ذي الفقار في بيته وسبه وشتمه بلغته وفزع عليه ليضربه، فلما خرج من عنده قام وذهب إلى كبيرهم وأخبره بفعل دلوي معه، فأمر بإحضاره وحبسه بالقلعة.
ثم أخبر بعض الناس شيخ البلد أن التعرض الذي وقع من دلوي لباعة الغلة إنما هو بإغرا خادمه، وعرفه أن خادمه المذكور مولع بامرأة رقاصة من الرميلة تأتيه بأشكالها ومن على طريقتها، ويجتمع هو وأضرابه وترقص لهم تلك المرأة في القهوة التي بخطهم ليلًا ونهارًا، وتبيت معهم في البيت ويصبحون على حالهم، فلما حبس أميرهم اختفوا فدلوا على الرجل والمرأة فقبضوا عليهما وفعلوا بهما ما ذكر، ولا بأس بما حصل.
وفي ثامنه يوم الجمعة نودي في الأسواق بموكب كسوة الكعبة المشرفة من قراميدان، والتنبيه باجتماع الوجاقات وأرباب الأشاير وخلافهم على العادة في عمل المواكب، فلما أصبح يوم السبت اجتمع الناس في الأسواق وطريق المرور وجلسوا للفرجة فمروا بذلك وأمامها الوالي والمحتسب وعليهم القفاطين والبينشات وجميع الأشاير بطبولهم وزمورهم وكاساتهم ثم برطلمين كتخدا مستحفظان وأمامه نفر الينكجرية من المسلمين نحو المايتين وأكثر وعدة كثيرة من نصارى الأروام بالأسلحة والملازمين بالبراقع وهو لابس فروة عظيمة، ثم مواكب القلقات ثم موكب ناظر الكسوة وهو تابع مصطفى كتخدا الباشا وخلفه النوبة التركية، فكانت هذه الركبة من أغرب المواكب وأعجب العجايب لما اشتملت عليه من اختلاف الأشكال وتنوع الأمثال، واجتماع الملل وارتفاع السفل، وكثرة الحشرات وعجايب المخلوقات، واجتماع الأضداد ومخالفة الوضع المعتاد، وكان نسيج الكسوة بدار مصطفى كتخدا المذكور وهو على خلاف العادة من نسجها بالقلعة.
بسم الله الرحمن الرحيم، سبحان مالك الملك يفعل في ملكه ما يريد، سبحان الحكم العدل الفاعل المختار، ذي البطش الشديد، هذه صورة تمليك الله — سبحانه وتعالى — جمهور الفرنساوية لبندر يافا من الأقطار الشامية، نعرف أهل مصر وأقاليمها من ساير البرية أن العساكر الفرنساوية انتقلوا من غزة ثالث عشرين رمضان، ووصلوا إلى الرملة في الخامس والعشرين منه في أمن واطمينان، فشاهدوا عسكر أحمد باشا الجزار هاربين بسرعة قايلين الفرار.
ثم إن الفرنساوية وجدوا في الرملة ومدينة «لد» مقدارًا كبيرًا من مخازن البقسماط والشعير، ورأوا فيها ألفًا وخمسماية قربة مجهزة جهزها الجزار يسير بها إلى إقليم مصر مسكن الفقرا والمساكين، ومراده أن يتوجه إليها بأشرار العربان من سطح الجبل، ولكن تقادير الله تفسد المكر والحيل، قاصدًا سفك دما الناس مثل عوايده الشامية، وتجبره وظلمه مشهور؛ لأنه تربية المماليك الظلمة المصرية ولم يعلم من خسافة عقله وسوء تدبيره أن الأمر لله كل شي بقضاه وتدبيره.
وفي سادس عشرين شهر رمضان وصلت مقدمات الفرنساوية إلى بندر يافا من الأراضي الشامية، وأحاطوا بها وحاصروها من الجهة الشرقية والغربية، وأرسلوا إلى حاكمها وتحيل الجزار أن يسلمهم القلعة قبل أن يحل به وبعسكره الدمار، فمن خسافة رأيه وسو تدبيره سعى في هلاكه وتدميره ولم يرد لهم جواب، وخالف قانون الحرب والصواب.
وفي أواخر ذلك اليوم السادس والعشرين تكاملت العساكر الفرنساوية على محاصرة يافا، وصاروا كلهم مجتمعين، وانقسموا على ثلاثة طوابير:
الطابور الأول توجه على طريق عكا بعيدًا عن يافا بأربع ساعات، وفي السابع والعشرين من الشهر المذكور أمر حضرة ساري عسكر الكبير بحفر خنادق حول السور؛ لأجل أن يعملوا متاريس أمينة وحصارات متقنة حصينة؛ لأنه وجد سور يافا ملآن بالمدافع الكثيرة ومشحونة بعسكر الجزار الغزيرة.
وفي تاسع عشرين الشهر لما قرب حفر الخندق إلى السور مقدار ماية وخمسين خطوة أمر حضرة ساري عسكر المشار إليه أن ينصب المدافع على المتاريس، وأن يضعوا أهوان القنبر بإحكام وتأسيس، وأمر بنصب مدافع أخر بجانب البحر لمنع الخارجين إليهم من مراكب المينا؛ لأنه وجد في المينا بعض مراكب أعدها عسكر الجزار للهروب، ولا ينفع الهروب من القدر المكتوب، ولما رأت عساكر الجزار الكاينون بالقلعة المحاصرون أن عسكر الفرنساوية قلايل في رأي العين للناظرين لمداراة الفرنساوية في الخنادق وخلف المتاريس غرهم الطمع فخرجوا لهم من القلعة مسرعين مهرولين، وظنوا أنهم يغلبون الفرنساوية، فهجم عليهم الفرنسيس، وقتلوا منهم جملة كثيرة في تلك الواقعة، وألجأوهم للدخول ثانيًا في القلعة.
لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
بسم الله الرحمن الرحيم، من حضرة ساري عسكر إسكندر برتية كتخدا العسكر الفرنساوي إلى حضرة حاكم يافا، نخبركم أن حضرة ساري عسكر الكبير بونابارته أمرنا أن نعرفك في هذا الكتاب أن سبب حضوره إلى هذا الطرف إخراج عسكر الجزار فقط من هذه البلدة؛ لأنه تعدى بإرسال عسكره إلى العريش ومرابطته فيها، والحال أنها من إقليم مصر التي أنعم الله بها علينا فلا يناسبه الإقامة بالعريش؛ لأنها ليست من أرضه فقد تعدى على ملك غيره، ونعرفكم يا أهل يافا أن بندركم حاصرناه من جميع أطرافه وجهاته، وربطناه بأنواع الحرب وآلات المدافع الكثيرة والجلل والقنابر وفي مقدار ساعتين ينقلب سوركم وتبطل آلاتكم وحروبكم، ونخبركم أن حضرة ساري عسكر المشار إليه لمزيد رحمته وشفقته خصوصًا بالضعفا من الرعية خاف عليكم من سطوة عسكر المحاربين إذا دخلوا عليكم بالقهر أهلكوكم أجمعين، فلزمنا أننا نرسل لكم هذا الخطاب أمانًا كافيًا لأهل البلد والأغراب، ولأجل ذلك أخَّر ضرب المدافع والقنابر الصاعدة عنكم ساعة فلكية واحدة، وإني لكم لمن الناصحين، وهذا آخر جواب الكتاب، فجعلوا جوابنا حبس الرسول مخالفين للقوانين الحربية والشريعة المطهرة المحمدية وحالًا في الوقت والساعة هيج ساري عسكر، واشتد غضبه على الجماعة وأمر بابتدا ضرب المدافع والقنابر الموجب للتدمير، وبعد مضي زمان يسير تعطلت مدافع يافا المقابلة لمدافع المتاريس، وانقلب عسكر الجزار في وبال وتنكيس، وفي وقت الظهر من هذا اليوم انخرق سور يافا وارتج له القوم ونقب من الجهة التي ضرب فيها المدافع من شدة النار، ولا راد لقضا الله ولا مدافع، وفي الحال أمر حضرة ساري عسكر بالهجوم عليهم، وفي أقل من ساعة ملكت الفرنساوية جميع البندر والأبراج ودار السيف في المحاربين، واشتد بحر الحرب وهاج وحصل النهب فيها تلك الليلة.
وفي يوم الجمعة غرة شوال وقع الصفح الجميل من حضرة ساري عسكر الكبير، ورق قلبه على أهل مصر من غني وفقير الذين كانوا في يافا، وأعطاهم الأمان وأمرهم برجوعهم إلى بلدهم مكرمين، وكذلك أمر أهل دمشق وحلب برجوعهم إلى أوطانهم سالمين لأجل أن يعرفوا مقدار شفقته ومزيد رأفته ورحمته، يعفو عند المقدرة ويصفح وقت المعذرة مع تمكينه ومزيد إتقانه وتحصينه.
وفي هذه الواقعة قتل أكثر من أربعة آلاف من عسكر الجزار بالسيف والبندق لما وقع منهم من الانحراف.
وأما الفرنساوية فلم يقتل منهم إلا القليل، والمجروحون منهم ليسوا بكثير، وسبب ذلك سلوكهم إلى القلعة من طريقٍ أمينةٍ خافيةٍ عن العيون، وأخذوا ذخاير كثيرة وأموالًا غزيرة، وأخذوا المراكب التي في المينة واكتسبوا أمتعة غالية ثمينة، ووجدوا في القلعة أكثر من ثمانين مدفعًا ولم يعلموا مع مقادير الله أن آلات الحرب لا تنفع، فاستقيموا عباد الله وارضوا بقضا الله ولا تعترضوا على أحكام الله وعليكم بتقوى الله، واعلموا أن الملك لله يؤتيه من يشا والسلام عليكم ورحمة الله.
فلما تحقق الناس هذا الخبر تعجبوا وكانوا يظنون، بل يتيقنون استحالة ذلك خصوصًا في المدة القليلة ولكن المقضي كاين.
وفي يوم الجمعة خامس عشره شق جماعة من أتباع الشرطة في الأسواق والحمامات والقهاوي، ونبهوا على الناس بترك الفضول والكلام واللغط في حق الفرنسيس ويقولون لهم: من كان يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر فلينته ويترك الكلام في ذلك، فإن ذلك مما يهيج العداوة، وعرفوهم أنه إن بلغ الحاكم من المتجسسين عن أحد تكلم في ذلك عوقب أو قتل، فلم ينتهوا وربما قبض على البعض وعاقبوه بالضرب والتغريم.
وفي ذلك اليوم كان التحويل الربيعي وانتقال الشمس لبرج الحمل وهو أول شهر من شهورهم، فعملوا ليلة السبت شنكًا وحراقة سواريخ وتجمعوا بدار الخلاعة نسا ورجالًا وتراقصوا وتسابقوا وأوقدوا سراجًا وشموعًا وغير ذلك وأظهر الأقباط والشوام مزيد الفرح والسرور.
وفي يوم السبت المذكور أرسلوا الأعلام والبيارق التي أحضروها من قلعة يافا وعدتها ثلاثة عشر، وفيها من له طلايع فضة كبار إلى الجامع الأزهر، وكانوا أنزلوا أعلام قلعة العريش قبل ذلك بيوم من أعلى المنارات، وأرسلوا بدلها أعلام يافا وعملوا لها موكبًا بطايفة من العسكر يتقدمهم طبلهم، وخلفهم الأغا بجماعته وطايفته والمحتسب ومدبرو الديوان، وخلفهم طبل آخر يضربون عليه بإزعاج شديد، وخلف ذلك الطبل جماعة من العسكر يحملون البنادق على أكتافهم كالطايفة الأولى، وبعدهم عدة من العسكر على روسهم عمايم بيض يحملون تلك الأعلام الكبار والبيارق المذكورة، خلفهم جماعة خيالة من كبار العسكر وآخرون راكبون على حمير المكارية، فلما وصلوا إلى باب الجامع الأزهر رتبوا تلك الأعلام، ووضعوها على أعلى الباب الكبير فوق المكتب منشورة، وبعضها على الباب الآخر من الجهة الأخرى عند حارة كتامة المعروفة الآن بالعينية، ولم يصعدوا منها على المنارات كما صنعوا في أعلام العريش.
خطابًا لأهل مصر وبولاق ومصر القديمة ونواحيها أنكم تمثلون هذه الأوامر وتحافظون عليها ولا تخالفوها، وكل من خالفها وقع له مزيد الانتقام والعقاب الأليم والقصاص العظيم، وهي المحافظة من تشويش الكُبَة وكل من تيقن أو ظننتم أو توهمتم أو شككتم فيه ذلك في محل من المحلات أو بيت أو وكالة أو رَبْع يلزمكم ويتحتم عليكم أن تعملوا كرنتيلة، ويجب قفل ذلك المكان ويلزم شيخ الحارة أو السوق الذي فيه ذلك أن يخبر حالًا قلق الفرنساوية حاكم ذلك الخط، والقلق يخبر شيخ البلد قايمقام مصر وأقاليمها ويكون ذلك فورًا.
وكذلك كل ملة من سكان مصر وأقاليمها وجوانبها والأطبا إذا تحققوا وعلموا حصول ذلك المرض يتوجه كل طبيب إلى قايمقام، ويخبره ليأمره بما هو مناسب للصيانة والحفظ من التشويش، وكل من كان عنده خبر من كبار الأخطاط أو مشايخ الحارات وقلقات الجهات ولم يخبر بهذا المرض يعاقب بما يراه قايمقام، ويجازَى مشايخ الحارات بماية كرباج جزا للتقصير، وملزوم أيضًا مَن أصابه هذا التشويش أو حصل في بيته لغيره من عيلته أو عشيرته وانتقل من بيته إلى آخر أن يكون قصاصه الموت وهو الجاني على نفسه بسبب انتقاله، وكل ريس ملة في خط إذا لم يخبر بالكبة الواقعة في خطه أو بمن مات بها إيضاحًا فوريًّا كان عقاب ذلك الريس وقصاصه الموت، والمغسل إن كان رجلًا أو امرأة إذا رأى الميت أنه مات بالكُبَة أو شكَّ في موته ولم يخبر قبل مضي أربع وعشرين ساعة كان جزاه وقصاصه الموت، وهذه الأوامر الضرورية بلزوم أغات الينكجرية، وحكام البلد الفرنساوية والإسلامية تنبيه الرعية واستيقاظهم لها فإنها أمور مخفية، وكل من خالف حصل له مزيد الانتقام من قايمقام، وعلى القلقات البحث والتفتيش عن هذه العلة الردية لأجل الصيانة والحفظ لأهل البلد والحذر من المخالفة والسلام.
ومضمون الثانية: الخطاب السابق من ساري عسكر دوجا الوكيل وحاكم البلد دسني قايمقام.
يلزم المديرين بالديوان أنهم يشهرون الأوامر وينتبهون لها، وكل من خالف يحصل له مزيد الانتقام، وهو أنه يتحتم ويلزم صاحب كل خمارة أو وكالة أو بيت الذي يدخل في محله ضيف أو مسافر أو قادم من بلدة أو إقليم أن يعرِّف عنه حالًا حاكم البلد، ولا يتأخر عن الإخبار إلا مدة أربع وعشرين ساعة يعرفه عن مكانه الذي قدم منه وعن سبب قدومه وعن مدة سفره ومن أي طايفة أو ضيفًا أو تاجرًا أو زايرًا أو غريمًا مخاصمًا، لا بد لصاحب المكان من إيضاح البيان والحذر ثم الحذر من التلبيس والخيانة، وإذا لم يقع تعريف عن كامل ما ذكر في شأن القادم بعد الأربع وعشرين ساعة بإظهار اسمه وبلده وسبب قدومه يكون صاحب المكان متعديًا ومذنبًا وخاينًا وموالسًا مع المماليك.
ونخبركم معاشر الرعايا وأرباب الخمامير والوكايل أن تكونوا ملزومين بغرامة عشرين ريالًا فرانسة في المرة الأولى، وأما في المرة الثانية فإن الغرامة تضاعف ثلاث مرات، ونخبركم أن الأمر بهذه الأحكام مشترك بينكم وبين الفرنسيس الفاتحين للخمامير والبيوت والوكايل، والسلام.
وفيه اجتمعوا بالديوان وتفاوضوا في شأن مصطفى بك كتخدا الباشا المولى أمير الحاج، وهو أنه لما ارتحل مع ساري عسكر وصحبته القاضي والمشايخ الذين عينوا للسفر والوجاقلية والتجار، وافترق منهم عند بلبيس وتقدم هو إلى الصالحية، ثم إنهم انتقلوا إلى العرين فحضر جماعة من العساكر المسافرين، فاحتاجوا إلى الجمال فأخذوا جمالهم.
فلما وصل ساري عسكر إلى وطنه أرسل يستدعيهم إلى الحضور فلم يجدوا ما يحملون عليه متاعهم، وبلغهم أن الطريق مخيفة من العرب فلم يمكنهم اللحاق به، فأقاموا بالعرين (بالعين المهملة) عدة أيام، وأهمل أمرهم ساري عسكر، ثم إن الشيخ الصاوي والعريشي والدواخلي وآخرين خافوا عاقبة الأمر ففارقوهم وذهبوا إلى القرين (بالقاف) وحصل للدواخلي توعك وتشويش، فحضر إلى مصر كما تقدم ذكر ذلك، وانتقل مصطفى بك المذكور والقاضي وصحبتهم الشيخ الفيومي وآخرون من التجار والوجاقلية إلى كفور نجم وأقاموا هناك أيامًا.
واتفق أن الصاوي أرسل إلى داره مكتوبًا، وذكر في ضمنه أن سبب افتراقهم من الجماعة أنهم رأوا من كتخدا الباشا أمورًا غير لايقة، فلما حضر ذلك المكتوب طلبه الفرنساوية المقيمون بمصر، وقروه وبحثوا عن الأمور الغير اللايقة فأَوَّلَها بعض المشايخ أنه قصَّر في حقهم والاعتنا بشأنهم، فسكتوا وأخذوا في التفحص، فظهر لهم خيانته ومخامرته عليهم، واجتمع عليه الجبالي وبعض العرب العصاة وأكرمهم وخلع عليهم، وانتقل بصحبتهم إلى منية غمر ودقدوس وبلاد الوقف، وجعل يقبض منهم الأموال، وحين كانوا على البحر مر بهم مواكب تحمل الميرة والدقيق إلى الفرنسيس بدمياط، فقاطعوا عليهم وأخذوا منهم ما معهم قهرًا وأحضروا المراكبية بالديوان، فحكوا على ما وقع لهم معه، فأثبتوا خيانة مصطفى بك المذكور وعصيانه، وأرسلوا هجانًا بإعلام ساري عسكرهم بذلك، فرجع إليهم بالجواب يأمرهم فيه بأن يرسلوا له عسكرًا ويرسلوا إلى داره جماعة ويقبضون عليه ويختمون على داره ويحبسون جماعته.
وفي يوم الأحد رابع عشرينه عينوا عليه عسكرًا، وأرسلوا إلى داره جماعة ومعهم وكلا فقبضوا على كتخدايه الذي كان ناظرًا على الكسوة وعلى ابن أخيه ومن معهم وأودعوهم السجن بالجيزة، وضبطوا موجوداته وما تركه مخدومه بكر باشا بقايمة وأودعوا ذلك بمكان بالقلعة، فوجدوا غالب أمتعة الباشا وبرقه وملابسه وعبى الخيل والسروج وغيرها شيًّا كثيرًا.
ووجدوا بعض خيول وجمال أخذوها أيضًا، فانقبض خواطر الناس لذلك، فإنهم كانوا مستأنسين بوجوده ووجود القاضي، ويتوسلون بشفاعتهما عند الفرنسيس وكلمتهما عندهم مقبولة وأوامرهما مسموعة، ثم إنهم أرسلوا أمانًا للمشايخ والوجاقلية والتجار بالحضور إلى مصر مكرمين ولا بأس عليهم.
وفيه ورد الخبر بأن السيد عمر أفندي نقيب الأشراف حضر إلى دمياط وصحبته جماعة من أفندية الروزنامة الفارين مثل: عثمان أفندي العباسي، وحسن أفندي كاتب الشهر، ومحمد أفندي ثاني قلفة وباش جاجرت، والشيخ قاسم المصلي وغيرهم، وذلك أنهم كانوا بقلعة يافا فلما حاصرها الفرنساوية وملكوا القلعة والبلد لم يتعرضوا للمصريين، وطلبهم إليه وعاتبهم على نقلهم وخروجهم من مصر وألبسهم ملابس وأنزلهم في مركب وأرسلهم إلى دمياط من البحر.
وفي يوم الاثنين نادوا في الأسواق على المماليك والغز والأجناد الأغراب بأنهم يحضرون إلى بيت الوكيل، ويأخذون لهم أوراقًا بعد معرفتهم والتضمين على أنفسهم، ومن وجد من غير وثيقة في يده بعد ذلك يستاهل الذي يجري عليه، وسبب ذلك إشاعة دخول الكثير منهم إلى مصر خفية بصفة الفلاحين.
وفي يوم الثلاثا نادوا في الأسواق والشوارع بأن من أراد الحج فليحج في البحر من السويس صحبة الكسوة والصرة، وذلك بعد أن عملوا مشورة في ذلك.
وفيه حضر إمام كتخدا الباشا ومعه مكتوب فيه الثنا على الفرنساوية وشكر صنيعهم واعتنايهم بعملهم موكب الكسوة والدعا لهم، وأنه مستمر على مودته ومحبته معهم ويطلب منهم الإجازة بالحضور إلى مصر ليسافر بصحبة الكسوة والحجاج، فإن الوقت ضاق ودخل أوان السفر للحج، وفي آخر المكتوب: وإن بلغكم من المنافقين عنا شي فهو كذب ونميمة فلا تصدقوه فقُرِيَ كتابه بالديوان، فلما فهمه الفرنسيس كذبوه ولم يصغوا إليه، وقالوا: إن خيانته ثبتت عندنا فلا ينفعه هذا الاعتذار، ثم كتبوا له جوابًا وأرسلوه صحبة إمامه مضمونه: إن كان صادقًا في مقالته فليذهب إلى جهة ساري عسكر بالشام، وأمهلوه ست ساعات بعد وصول الجواب إليه، وإن تأخر زيادة عليها كان كاذبًا في مقالته، وأمروا العسكر بمحاربته والقبض عليه.
يا أهل مصر نخبركم أن أمير الحاج رفعوه عن سفره بالحاج بسبب ما حصل منه، وأن أهل مصر علما ووجاقات ورعايا لم يخالطوه في هذا الأمر ولم ينسب لهم شيء، فالحمد لله الذي برأ أهل مصر من هذه الفتنة وهم حاضرون سالمون غانمون ما عليهم سو، ومن كان مراده الحج يؤهل نفسه ويسافر صحبة الصرة والكسوة في البحر والمراكب حاضرة والمعينون المحافظون من أهل مصر صحبة الحاج حاضرون، يكون في علمكم أن تكونوا مطمنين واتركوا كلام الحشاشين.
وفي يوم السبت غايته حضر المشايخ والوجاقات والتجار ما خلا القاضي، فإنه لم يحضر وتخلف مع مصطفى كتخدا.
وانقضى هذا الشهر وما تجدد به من الحوادث التي منها أن الفرنساوية عملوا جسرًا من مراكب مصطفة، وعليها أخشاب مسمرة من بر مصر بالقرب من قصر العيني إلى الروضة قريبًا من موضع طاحون الهوا، تسير عليه الناس بدوابهم وأنفسهم إلى البر الآخر، وعملوا كذلك جسرًا عظيمًا من الروضة إلى الجيزة.
ومنها أن توت الفلكي رسم في فسحة دارهم العليا ببيت حسن كاشف جركس خطوط البسيطة لمعرفة فضل الدايرة لنصف النهار على البلاط المفروش بطول الفسحة، ووضع لها بدل الشاخص دايرة مثقوبة بثُقَب عديدة في أعلى الرفوف مقابلة لعرض الشمس ينزل الشعاع من تلك الثقب، ويمر على الخطوط المرسومة المقسومة، ويعرف منه الباقي للزوال ومدارات البروج شهرًا شهرًا وعلى كل برج صورته ليعلم منه درجة الشمس، ورسم أيضًا مزولة بالحايط الأعلى على حوش المكان الأسفل المشترك بين الدارين بشاخص على طريق وضع المنحرفات والمزاول، ولكن للساعات قبل الزوال وبعده، خلاف الطريق المعروفة عندنا بوقت العصر، وفضل دايرة الغروب وقوس الشفق والفجر وسمْت القبلة، وتقسيم الدرَج وأمثال ذلك، لأجل تحقيق أوقات العبادة وهم لا يحتاجون إلى ذلك فلم يعاينوه، ورسم أيضًا بسيطة على مربعة من نحاس أصفر منزلة بخطوط عديدة في قاعدة عمود قصير طوله أقل من قامة قايم بوسط الجنينة، وشاخصها مثلث من حديد يمر ظل طرفه على الخطوط المتقاطعة، وهي متقنة الرسم والصناعة، وحولها معاريفها واسم واضعها بالخط السلس العربي المجود حفرًا في النحاس، وفيها تنازيل الفضة على طريقة أوضاع العجم وغير ذلك.
ومنها أنهم لما سخطوا على كتخدا الباشا وقبضوا على أتباعه وسجنوهم وفيهم كتخداه الذي كان ناظرًا على الكسوة، فقيدوا في النظر على مباشرة إتمامها صاحبنا السيد إسماعيل الوهبي المعروف بالخشاب أحد العدول بالمحكمة، فنقلها لبيت أيوب جاويش بجوار مشهد السيدة زينب وتمموها هناك وأظهروا أيضًا الاهتمام بتحصيل مال الصرة، وشرعوا في تحرير دفتر إرسالية خاصة.
واستهل شهر القعدة بيوم الأحد سنة ١٢١٣
في سادسه يوم الجمعة حضرت هجانة من الفرنسيس، ومعهم مكاتبة مضمونها أنهم أخذوا حيفا وبعدها ركبوا على عكا، وضربوا عليها وهدموا جانبًا من سورها وأنهم بعد أربع وعشرين ساعة يملكونها، وأنهم استعجلوا في إرسال هذه الهجانة لطول المدة والانتظار لئلا يحصل لأصحابهم القلق فكونوا مطمينين وبعد سبعة أيام نحضر عندكم، والسلام.
وفيه حضرت مغاربة حجاج إلى بر الجيزة فتحدث الناس وكثر لغطهم وتقوَّلوا بأنهم عشرون ألفًا حضروا لينقذوا مصر من الفرنسيس؛ فأرسل الفرنسيس للكشف عليهم فوجدوهم طايفة من خلايا وقرى فاس مثل الفلاحين، فأذنوا لهم في تعدية بعض أنفار منهم لقضا أشغالهم.
فحضر شخص منهم إلى الفرنسيس ووشى إليهم أنهم قدموا لمحاربهتم والجهاد فيهم، وأنهم اشتروا خيلًا وسلاحًا، وقصدهم إثارة فتنة فأرسل الفرنسيس إليهم جماعة ينظرون في أمرهم، فذهبوا إليهم وتكلموا معهم ومع كبيرهم وعن الذي نقل عنهم، فقالوا: إنما جينا بقصد الحج لا لغيره.
ثم رجعوا وصحبتهم كبير المغاربة وسألوه وناقشوه، فقال: إنا لم نأت إلا بقصد الحج، فقيل له: ولأي شيء تشترون الأسلحة والخيول؟ فقال: نعم لازم لنا ذلك ضرورة، فقيل له: إنه نقل عنكم أنكم تريدون محاربة الفرنساوية وتقولون: الجهاد أفضل من الحج، فقال: هذا كلام لا أصل له، فقيل له: إن الناقل لذلك رجل منكم، فقال: إن هذا الرجل حرامي أمسكناه بالسرقة وضربناه وحمله الحقد على ذلك، وإن هذه البلاد ليست لنا ولا لسلطاننا حتى نقاتل عليها، ولا يصح أن نقاتلكم بهذه الشرذمة القليلة، وليس معنا إلا نصف قنطار بارود، ثم اتفقوا معه على أن يجمعوا سلاحهم، ويقيم كبيرهم عندهم رهينة حتى يعدي جماعته ويسافروا ويلحقهم بعد يومين بالسلاح، فأجابهم إلى ذلك فشكروه وأهدوا له هدية.
فلما كان يوم السبت خرجت عدة من العسكر إلى بولاق ومعهم مدفعان ليقفوا للمغاربة حتى يعدوا البحر ويمشوا معهم إلى العادلية، فلما رأى الناس خروج العسكر والمدافع فزعوا في المدينة وبولاق ورمحوا كعادتهم في كرشاتهم وصياحهم، وأشاعوا أن الفرنسيس خرجت لقتال المغاربة، وأغلقوا غالب الأسواق والدكاكين وأمثال ذلك من تخيلاتهم، فلم يعدِّ المغاربة ذلك اليوم وعدوا في ثاني يوم ومشى معهم عسكر الفرنسيس إلى العادلية وهم يضربون الطبول، وأمامهم مدفع وخلفهم مدفع مع جملة من العساكر.
وفي يوم الثلاثا عاشره سافر عدة من عسكر الفرنسيس إلى عرب الجزيرة، فإن مصطفى بك كتخدا الباشا ذهب إليهم والتجا لهم فعينوا عليهم تلك العساكر.
وفي يوم الأربعا فرجوا عن جماعة من القليونجية وغيرهم الذين كانوا محبوسين بالقلعة، وفيهم المعلم نقولا النصراني الآرمني الذي كان ريس مركب مراد بك الحربية التي أنشأها بالجيزة وأسكنوه ببيت حسن كتخدا بباب الشعرية.
وفيه حضر ابن شديد شيخ عرب الحويطات بأمان، وكان عاصيًا فأعطوه الأمان، وخلعوا عليه وسفروا معه قافلة دقيق وبقسماط للعسكر بالشام.
وفي يوم السبت حادي عشرينه حضر «مجلون» من الناحية القبلية وصحبته أموال البلاد والغنايم من بهايم وخلافها.
وفيه عملوا كرنتيلة عند العادلية لمن يأتي من بر الشام من العسكر إلى ناحية شرق إطفيح بسبب محمد بك الألفي.
وفيه حضر الذين كانوا ذهبوا إلى عرب الجزيرة، فضربوهم ونالوا منهم بعض النيل، وأما مصطفى بك فلم تعلم عنه حقيقة حال، قيل إنه ذهب إلى الشام.
وفي خامس عشرينه وصلت مراسلة من المذكور خطابًا للمشايخ مضمونها: أنهم يعرفون أكابر الفرنسيس أنه متوجه إلى ساري عسكرهم بالشام، ويرجون الإفراج عن قريبه وكتخدايه ويتحفظون على الأمتعة التي أخذوها، فإنها من متعلقات الدولة، فلما أطلعوهم على تلك المكاتبة قالوا: لا يمكن الإفراج عن المذكورين حتى نتحقق أنه ذهب إلى ساري عسكر، ويأتينا منه خطاب في شأنه، فإنه من الجايز أنه يكذب في قوله.
وفيه ثبت أن محمد بك الألفي مَرَّ من خلف الجبل وذهب إلى عرب الجزيرة، ومعه من جماعته نحو الماية وقيل أكثر، والتف عليه الكثير من الغز والمماليك المشردين بتلك النواحي وقدم له العربان التقادم والكلف، فأرسل له الفرنسيس عدة من العسكر.
من محفل الديوان الكبير بمصر:
بسم الله الرحمن الرحيم ولا عدوان إلا على الظالمين، نخبر أهل مصر أجمعين، أنه حضر جواب من عكا من حضرة ساري عسكر الكبير خطابًا منه إلى حضرة ساري عسكر الوكيل بثغر دمياط تاريخه تاسع القعدة سنة تاريخه، يخبر فيه أننا أرسلنا لكم نقيرتين لدمياط: الأولى أرسلناها في خمسة وعشرين شوال، والثانية في ثمانية وعشرين منه، أخبرناكم فيهما عن مطلوبنا إرسال جانب جلل وذخاير إلى عساكرنا المحافظين في غزة ويافا لأجل زيادة المحافظة والصيانة، وأما من قبل العرضي فإن الجلل عندنا كثيرة والذخاير والمآكل والمشارب والخيرات غزيرة، حتى إنها زادت عندنا الجلل بكثرة، جمعناها ممارمته الأعدا فكأن أعدانا أعانونا، ونخبركم أننا عملنا لغمًا مقدار عمقه ثلاثون قدمًا وسرنا به حتى قربناه إلى السور الجواني بمسافة نحو ثمانية عشر قدمًا، وقد قربت عساكرنا من الجهة التي تحارب فيها حتى صار بينهم وبين السور ثمانية وأربعون قدمًا، بمشيئة الله تعالى عند وصول كتابنا إليكم، وقبل إتمام قراءته عليكم نكون ظافرين بملك قلعة عكا أجمعين، فإننا تهيأنا إلى دخولها، يأتيكم خبر ذلك بعد هذا الكتاب، وأما بقية إقليم الشام وما يلي عكا من البلاد فإنهم لنا طيعون وبالاعتنا ومزيد المحبة راغبون، يأتوننا بكل خير عظيم ويحضرون لنا أفواجًا أفواجًا بالهدايا الكثيرة والحب الجسيم من القلب السليم، وهذا من فضل الله علينا، ومن شدة بغضهم الجزار باشا.
ونخبركم أيضًا أن الجنرال چونوت انتصر على أربعة آلاف مقاتل حضروا من الشام خيالة ومشاة، فقابلهم بثلثماية عسكري مشاة من عسكرنا، فكسروا التجريدة المذكورة وأوقع منهم نحو ستماية نفس ما بين مقتول ومجروح، وأخذ منهم خمسة بيارق وهذا أمر عجيب لم يقع نظيره في الحروب أن ثلثماية نفس تهزم نحو أربعة آلاف نفس، فعلمنا أن النصرة من عند الله لا بالقلة ولا بالكثرة.
هذا آخر كتاب ساري عسكر الكبير إلى وكيله بدمياط، وأرسل إلينا بالديوان حضرة الوكيل ساري عسكر دوجا الوكيل بمصر المحروسة يخبرنا بصورة هذا المكتوب ويأمرنا أننا نلزم الرعايا من أهل مصر والأرياف أن يلزموا الأدب والإنصاف، ويتركوا الكذب والخراف، فإن كلام الحشاشين يوقع الضرر للناس المعتبرين، فإن حضرة ساري عسكر دوجا الوكيل بلغه أن أهل مصر وأهل الأرياف يتكلمون بكلام لا أصل له من قبل الأشراف.
والحال أن الأشراف الذين يذكرونهم ويكذبون عليهم جاءت أخبارهم من حضرة ساري عسكر الصعيد يخبر الوكيل دوجا بأن الأشراف المذكورين الذين صحبة الكيلاني قد مُزِّقوا كل ممزق، وانهزموا وتفرقوا فلم يكن الآن في بلاد الصعيد شي يخالف المراد، وسلم من الفتن والعناد، فأنتم يا أهل مصر ويا أهل الأرياف اتركوا الأمور التي توقعكم في الهلاك والتلاف، وامسكوا أدبكم قبل أن يحل بكم الدمار ويلحقكم الندم والعار، والأَوْلى للعاقل اشتغاله بأمر دينه ودنياه، وأن يترك الكذب وأن يسلم لأحكام الله وقضاه، فإن العاقل يقرأ العواقب وعلى نفسه يحاسب، هذا شأن أهل الكمال يتركون القيل والقال، ويشتغلون بإصلاح الأحوال، ويرجعون إلى الكبير المتعال، والسلام.
من محفل الديوان العمومي إلى جميع سكان مصر وبولاق ومصر القديمة، إننا قد تأملنا وميزنا أن الواسطة الأقرب والأيمن لتلطيف أو لمنع الخطر الضروري، وهو تشويش الطاعون عدمُ المخالطة مع النسا المشهورات؛ لأنهن الواسطة الأولى للتشويش المذكور، فلأجل ذلك حتمنا ورتبنا ومنعنا إلى مدة ثلاثين يومًا من تاريخه أعلاه لجميع الناس إن كان فرنساويًّا أو مسلمًا أو روميًّا أو نصرانيًّا أو يهوديًّا من أي ملة كان، كل من أدخل إلى مصر أو بولاق أو مصر القديمة من النسا المشهورات، إن كان في بيوت العسكر أو كل من كان داخل المدينة فيكون قصاصه بالموت، كذلك من قبل النسا والبنات المشهورات بالعسكر إن دخلن من أنفسهن أيضًا يقاصصن بالموت.
ومن حوادث هذا الشهر أنه حضر إلى القلزم مركبان إنكليزيان وقيل أربعة وقفوا قبالة السويس وضربوا مدافع، ففر أناس من سكان السويس إلى مصر، وأخبروا بذلك أنهم صادفوا بعض داوات تحمل البن والتجارة، فحجزوها ومنعوها من الدخول إلى السويس.
ومنها أن طايفة من عرب البحيرة يقال لهم عرب الغز جاءوا وضربوا دمنهور وقتلوا عدة من الفرنسيس، وعاثوا في نواحي تلك البلاد حتى وصلوا إلى الرحمانية ورشيد وهم يقتلون من يجدونه من الفرنسيس وغيرهم وينهبون البلاد والزروعات.
ومنها أن الكيلاني المذكور آنفًا تُوفي إلى رحمة الله تعالى وتفرقت طايفته في البلاد حتى إنه حضر منهم جملة إلى مصر، وكان أكثر من يخامر عليهم أهل بلاد الصعيد فيوهمونهم معاونتهم، وعند الحروب يتخلون عنهم، وبعض البلاد يضيفهم ويسلط عليهم الفرنسيس فيقبضون عليهم.
ومنها أنه حضر إلى مصر الأكثر من عسكر الفرنسيس الذين كانوا بالجهة القبلية، وضربوا في حال رجوعهم بني عدي، بلدة من بلاد الصعيد مشهورة، وكان أهلها ممتنعين عليهم في دفع المال والكلف، ويرون في أنفسهم الكثرة والقوة والمنعة، فخرجوا عليهم وقاتلوهم، فملك عليهم الفرنسيس تلًّا عاليًا وضربوا عليهم بالمدافع فأتلفوهم وأحرقوا جرونهم، ثم كبسوا عليهم وأسرفوا في قتلهم ونهبهم، وأخذوا شيًّا كثيرًا وأموالًا عظيمة وودايع جسيمة للغز وغيرهم من مساتير أهل البلاد القبلية لظن منعتهم، وكذلك فعلوا بالميمون.
واستهل شهر ذي الحجة بيوم الثلاثا سنة ١٢١٣
في ثانيه خرج نحو الألف من عسكر الفرنسيس للمحافظة على البلاد الشرقية لتجمع العرب والمماليك على الألفي، وكذلك تجمع الكثير من الفرنسيس وذهبوا إلى جهة دمنهور، وفعلوا بها ما فعلوا في بني عدي من القتل والنهب لكونهم عصوا عليهم، بسبب أنه ورد عليهم رجل مغربي يدَّعي المهدوية ويدعو الناس ويحرضهم على الجهاد، وصحبته نحو الثمانين نفرًا، فكان يكاتب أهل البلاد ويدعوهم إلى الجهاد، فاجتمع عليه أهل البحيرة وغيرهم وحضروا إلى دمنهور وقاتلوا من بها من الفرنساوية، واستمر أيامًا كثيرة تجتمع عليه أهل تلك النواحي وتفترق، والمغربي المذكور تارة يغرب وتارة يشرق.
وفيه أشيع أن الألفي حضر إلى بلاد الشرقية، وقاتل من بها من الفرنسيس ثم ارتحل إلى الجزيرة.
وفي سابعه حضر جماعة من فرنسيس الشام إلى الكرنتيلة بالعادلية، وفيهم مجاريح وأخبر عنهم بعضهم أن الحرب لم تزل قايمة بينهم وبين أحمد باشا بعكا، وأن مهندس حروبهم المعروف بأبي خشبة عند العامة واسمه كفرللي مات وحزنوا لموته؛ لأنه كان من دهاتهم وشياطينهم وكان له معرفة بتدبير الحروب ومكايد القتال وإقدام عند المصاف، مع ما ينضم لذلك من معرفة الأبنية وكيفية وضعها وكيفية أخذ القلاع ومحاصرتها.
وفي يوم الأربعا كان عيد النحر وكان حقه يوم الخميس، وعند الغروب من تلك الليلة ضربوا مدافع من القلعة إعلامًا بالعيد وكذلك عند الشروق، ولم يقع في ذلك العيد أضحية على العادة لعدم المواشي ولكونها محجوزة في الكرنتيلة والناس في شغل عن ذلك.
ومن الحوادث في ذلك اليوم أن رجلًا روميًّا من باعة الرقيق عنده غلام مملوك ساكن في طبقة بوكالة ذي الفقار بالجمالية، خرج لصلاة العيد ورجع إلى طبقته فوجد ذلك الغلام متقلدًا بسلاح ومتزييًا بمثل ملابس القليونجية فقال له: من أين لك هذا اللباس؟ فقال: من عند جارنا فلان العسكري، فأمره بنزع ذلك فلم يستمع له ولم ينزعه، فشتمه ولطمه على وجهه، فخرج من الطبقة وحدثته نفسه بقتل سيده، ورجع يريد ذلك فوجد عند سيده ضيفًا فلم يتجاسر عليه لحضور ذلك الضيف، فوقف خارج الباب ورآه سيده فعرف من عينه الغدر، فلما قام ذلك الضيف قام معه وخرج وأغلق الباب على الغلام، فصعد الغلام على السطح وتسلق إلى سطح آخر ثم تدلى بحبل إلى أسفل الخان، وخرج إلى السوق وسيفه مسلول بيده ويقول: الجهاد يا مسلمون اذبحوا الفرنسيس، ونحو ذلك من الكلام، ومر إلى جهة الغورية فصادف ثلاثة أشخاص من الفرنسيس فقتل منهم شخصًا وهرب الاثنان، ورجع على أثره والناس يعدون خلفه من بعد، إلى أن وصل إلى درب بالجمالية غير نافذ، فدخله وعبر إلى دار وجدها مفتوحة وربها واقف على بابها والفرنسيس تجمع منهم طايفة وظنوا ظنونًا أخر، وبادروا إلى القلاع وحضرت منهم طايفة من القلق يسألون عن ذلك المملوك، وهاجت العامة ورمحت الصغار وأغلق بعض الناس حوانيتهم، ثم لم تزل الفرنسيس تسأل عن ذلك المملوك، والناس يقولون لهم: ذهب من هنا حتى وصلوا إلى ذلك الدرب فدخلوه فلما أحس بهم نزع ثيابه، وتدلى ببير في تلك الدار فدخلوا الدار وأخرجوه من البير، وأخذوه وسكنت الفتنة وسألوه عن أمره وما السبب في فعله ذلك، فقال: إنه يوم الأضحية فأحببت أن أضحي على الفرنسيس، وسأله عن السلاح فقال: إنه سلاحي فحبسوه لينظروا في أمره وطلبوا سيده فوجدوه عند الشيخ المهدي، وأخذوا بعض جماعة من أهل الخان، ثم أطلقوهم بدون ضرر، وأخذوا سيده من عند المهدي وحبسوه، وحضر الأغا وبرطلمين إلى الخان بعد العشا وطلبوا البواب والخانجي والجيران، وصعدوا إلى الطباق وفتشوا على السلاح حتى قلعوا البلاط فلم يجدوا شيًّا، وأرادوا فتح الحواصل فمنعهم السيد أحمد بن محمود محرم فخرجوا وأخذوا معهم الخانجي وجيران الطبقة وجملة أنفار وحبسوهم أيضًا، وقتلوا المملوك في ثاني يوم، واستمر الجماعة في الحبس إلى أن أطلقوهم بعد أيام عديدة من الحادثة.
وفي ذلك اليوم أيضًا مر نصراني من الشوام على المشهد الحسيني وهو راكب على حمار فرآه ترجمان ضابط الخطة ويسمى السيد عبد الله، فأمره بالنزول إجلالًا للمشهد على العادة، فامتنع فانتهره وضربه وألقاه على الأرض، فذهب ذلك النصراني إلى الفرنسيس، وشكا إليهم السيد عبد الله المذكور فأحضروه وحبسوه فشفع فيه مخدومه فلم يطلقوه، وادعى النصراني أنه كان بعيدًا عن المشهد، وأحضر من شهد له بذلك وأن السيد عبد الله متهور في فعله، وادعى أنه ضاع له وقت ضربه دراهم كانت في جيبه، واستمر الترجمان محبوسًا عدة أيام حتى دفع تلك الدراهم وهي ستة آلاف درهم.
وفيه أرسل فرنسيس مصر إلى ريس الشام ميرة على جمال العرب نحو الثمانماية جمل، وذهب صحبتها برطلمين وطايفة من العسكر، فأوصلوها إلى بلبيس ورجعوا بعد يومين.
من الشريف غالب بن مساعد شريف مكة المشرفة إلى عين أعيانه وعمدة إخوانه بوسليك مدبر أمور جمهور الفرنساوية، ممهد بنيان السياسة بسداد همته الوفية، وبعد؛ فإنه وصل إلينا كتابك وفهمنا كامل ما حواه خطابك مما ذكرت من وصول قنجتنا، وأنك أرسلت هجانًا برفع العشور عن البن، وبذلت الهمة في شأن التصرف في نفاذ بيعه، وتأملنا في كتابك فوجدنا من صدق مقاله ما أوجب تمسكنا بوثاق الاعتماد عن تموه غياهب الشك في كل المراد.
ووجب الآن علينا تكوين أسباب المصادقة والمبادرة فيما ينظم مهمات تسليك الطرق بيننا وبينكم من الوعث وزوال المناكرة، وشهلنا الآن إلى طرفكم خمسة مراكب مشحونة من نفس بندرنا المعمورة في هذا الأوان، ولا أمكن لنا خروج هذا المقدار إلا بمشقة علاج مع سلب اطمينان التجار؛ لأن كثرة أكاذيب الأخبار أوجبت لهم مزيد الارتياب والأعذار بحيث ما بيننا وبينكم إلا العربان المختلفة رواياتهم على ممر الأزمان، وأما نحن فقد جاتنا منكم قبل هذا المكاتيب التي أوجبت عندنا من خطاب كتبكم زوال تلك الظنون والأكاذيب، فخاطِرُنا مستقر بالطمانينة من قبلكم لما ثبت عندنا من ألفاظ كتبكم، والمطلوب في حال وصول كتابنا إليكم إرسال عسكر من لديكم إلى بندر السويس لأجل حفظ أموال الناس، ويصلوا بالأبنان إلى مصر، ويبيع التجار ويزول وقف الأسباب والباس، وتهتموا في رجوعهم كذلك قبل بأوان ليكون ذلك سببًا في كثرة وفود الأبنان، وعند رجوعهم بعد المبيع من مصر إلى السويس كذلك تصحبوهم بالعسكر من طرفكم الوثيق؛ ليكونوا محافظين لهم من شرور الطريق؛ لأن هذه المرة ما أرسل إليكم هذا المقدار إلا تجربة واستخبار من أعيان التجار.
وعند مشاهدة الإكرام والاحتفال بهم في كل حال يرسلون إليك نفايس أموالهم، ويهرعون بالجلب لطرفكم ويزول الريب عن قلوبهم، ونرجو الله بهمتنا تسليك الطرقات وتنجيح المطلب وتحصيل الميراث بأحسن مما كانت من الأمان، وأعظم مما سبق في غابر الأزمان، ويكثر بحول الله الوارد إليكم من الأسباب الحجازية.
وكذلك لنا بن في المراكب فمأمولنا منكم إلقا النظر على خدامنا، وبذلك الهمة على ما هو من طرفنا، وأنتم كذلك لكم عندنا مزيد الإكرام في كل مرام، ولا يخفاك أنه ورد علينا قبلُ بأيام كتب من طرف أمير العسكر الفرنساوية محبنا بونابارته، فما كان لنا منها فتأملناه وصار إليه الجواب توصله إليه، وما كان منهما معولًا في إرساله علينا إلى نواحي الهند وابن حيدر وإمام مسكت ووكيلكم الذي في المخا، فجميعًا أصدرناها من طرفنا مع من نعتمده إلى أربابها، وإن شا الله عن قريب يأتيكم الجواب، والسلام.
تحريرًا في ثمانية عشر شهر ذي القعدة سنة ألف ومايتين وثلاثة عشر.
وبآخره قد وصل هذا الكتاب لمصر في ستة عشر يومًا خلت من شهر ذي الحجة، فيكون مدة وصوله من مكة المشرفة إلى مصر ثمانية وعشرين يومًا.
وانقضى هذا الشهر ولما يأتِ خبر صحيح عن فرنسيس الشام، وما جرى لهم أو عليهم إلا روايات لا يوثق بها ولا يصح بالتواتر منها إلا تكرار هجوم الفرنسيس على حصون عكا، ولم يتركوا من حيلهم ومكايدهم شيًّا إلا فعلوه ولم ينالوا غرضًا منها.
وانقضت هذه السنة وما حصل بها من الحوادث التي لم يتفق مثلها، ومن أعظمها انقطاع سفر الحج من مصر، ولم يرسلوا الكسوة ولا الصرة، وهذا لم يقع نظيره في هذه القرون ولا في دولة بني عثمان، والأمر لله وحده.
وأما من مات في هذه السنة ومن الأعيان ومن له ذكر في الناس
مات الإمام العمدة الفقيه العلامة المحقق الفهامة المتقن المتفنن المتبحر عين أعيان الفضلا الأزهرية الشيخ أحمد بن موسى بن أحمد بن محمد البيلي العدوي المالكي.
ولد ببني عدي سنة إحدى وأربعين وماية وألف، وبها نشأ فقرأ القرآن وقدم الجامع الأزهر ولازم الشيخ عليًّا الصعيدي ملازمة كلية حتى تمهر في العلوم وبهر فضله في الخصوص والعموم.
وكان له قريحة جيدة وحافظة غريبة يملي في تقريره خلاصة ما ذكره أرباب الحواشي مع حسن سبك، والطلبة يكتبون ذلك بين يديه.
وقد جمع من تقاريره على عدة كتب كان يقروها حتى صارت مجلدات، وانتفع بها الطلبة انتفاعًا عامًّا، ودرس في حياة شيخه سنينًا عدة، واشتهر بالفتوح، وكان الشيخ الصعيدي يأمر الطلبة بحضوره وملازمته، وكان في إنصاف زايد وتؤدة ومروة وتوجه إلى الحق.
ولديه أسرار ومعارف وفوايد وتمايم وعلم بتنزيل الأوفاق والوفق المئيني العددي والحرفي، وطرايق تنزيله بالتطويق والمربعات وغير ذلك.
ولما تُوفِّي الشيخ محمد حسن جلس موضعه للتدريس بإشارة من أهل الباطن.
ولما توفي الشيخ أحمد الدردير وَلِيَ مشيخة رواق الصعايدة، وله مولفات، منها: مسايل كل صلاة بطلت على الإمام وغير ذلك.
ولم يزل على حالته وإفادته وملازمة دروسه والجماعة حتى توفي في هذه السنة ودفن في تربة المجاورين، رحمة الله تعالى عليه.
ومات العلامة الفاضل الفقيه الشيخ أحمد بن إبراهيم الشرقاوي الشافعي الأزهري، قرا على والده وتفقه وأنجب ولم يزل ملازمًا لدروسه حتى توفي والده، فتصدر للتدريس في محله، واجتمعت عليه طلبة أبيه وغيرهم، ولازم مكانه بالأزهر طول النهار يملي ويفيد ويفتي على مذهبه، ويأتي إليه الفلاحون من جيرة بلاده بقضاياهم وخصوماتهم وأنكحتهم فيقضي بينهم، ويكتب لهم الفتاوى في الدعاوى التي يحتاجون فيها إلى المرافعة عند القاضي، وربما زجر المعاند منهم وضربه وشتمه، ويستمعون لقوله ويمتثلون لأحكامه، وربما أتوه بهدايا ودراهم.
واشتهر ذكره وكان جسيمًا عظيم اللحية فصيح اللسان.
ولم يزل على حالته حتى اتُّهم في فتنة الفرنسيس المتقدمة، ومات مع من قتل بيد الفرنساوية بالقلعة ولم يعلم له قبر.
ومات الشيخ الإمام العمدة الفقيه الصالح القانع الشيخ عبد الوهاب الشبراوي الشافعي الأزهري، تفقه على أشياخ العصر وحضر دروس الشيخ عبد الله الشبراوي والحفني والبراوي وعطية الأجهوري وغيرهم، وتصدر للإقرا والتدريس والإفادة بالجوهرية وبالمشهد الحسيني، ويحضر درسه فيه الجم الغفير من العامة ويستفيدون منه، ويقرا به كتب الحديث كالبخاري ومسلم، وكان حسن الإلقا سلس التقرير جيد الحافظة جميل السيرة مقبلًا على شانه.
ولم يزل ملازمًا على حالته حتى اتُّهم في إثارة الفتنة، وقتل بالقلعة شهيدًا بيد الفرنسيس في أواخر جمادى الأولى من السنة ولم يعلم له قبر.
ومات الشاب الصالح والنبيه الفالح الفاضل الفقيه الشيخ يوسف المصيلحي الشافعي الأزهري، حفظ القرآن والمتون وحضر دروس أشياخ العصر كالشيخ الصعيدي والبراوي والشيخ عطية الأجهوري والشيخ أحمد العروسي، وحضر الكثير على الشيخ محمد المصيلحي، وأنجب وأملى دروسًا بجامع الكردي بسويقة اللالا، وكان مهذب النفس لطيف الذات حلو الناطقة مقبول الطلعة خفيف الروح، ولم يزل ملازمًا على حاله حتى اتهم أيضًا في حادثة الفرنسيس، وقتل مع من قتل شهيدًا بالقلعة.
ومات العمدة الشهير الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طايفة العميان بزاويتهم المعروفة الآن بالشنواني، تولى شيخًا على العميان المذكورين بعد وفاة الشيخ الشبراوي، وسار فيهم بشهامة وصرامة وجبروت وجمع بجاههم أموالًا عظيمة وعقارات، فكان يشتري غلال المستحقين المعطلة بالأبعاد بدون الطفيف ويخرج كشوفاتها وتحاويلها على الملتزمين ويطالبهم بها كيلًا وعينًا، ومن عصى عليه أرسل إليه الجيوش الكثيرة من العميان، فلا يجد بدًّا من الدفع وإن كانت غلاله معطلة صالحه بما أحب من الثمن، وله أعوان يرسلهم إلى الملتزمين بالجهة القبلية يأتون إليه بالسفن المشحونة بالغلال والمعاوضات من السلع والسكر والزيت وغير ذلك، ويبيعها في سني الغلوات بالسواحل والرقع بأقصى القيمة، ويطحن منها على طواحينه دقيقًا، ويبيع خلاصته في البطط بحارة اليهود، ويعجن نخالته خبزًا لفقرا العميان يتقوتون به مع ما يجمعونه من الشحاذة في طوافهم آناء الليل وأطراف النهار بالأسواق والأزقة وتغنيهم بالمدايح والخرافات وقراة القرآن في البيوت ومساطب الشوارع وغير ذلك، ومن مات منهم ورثه الشيخ المترجم المذكور وأحرز لنفسه ما جمعه ذلك الميت، وفيهم من وجد له الموجود العظيم ولا يجد له معارضًا في ذلك، واتفق أن الشيخ الحفني نقم عليه في شي فأرسل إليه من أحضره موثوقًا مكشوف الرأس مضروبًا بالنعالات على دماغه وقفاه من بيته إلى بيت الشيخ بالموسكي بين ملأ العالم.
ولما انقضت تلك السنون وأهلها صار المترجم من أعيان الصدور المشار إليهم في المجالس تخشى سطوته وتسمع كلمته، ويقال قال الشيخ كذا وأمر الشيخ بكذا، وصار يلبس الملابس والفراوي ويركب البغال وأتباعه محدقة به، وتزوج الكثير من النساء الغنيات الجميلات، واشترى السراري البيض والحبش السود، وكان يقرض الأكابر المقادير الكثيرة من المال ليكون له عليهم الفضل والمنة، ولم يزل حتى حمله التفاخر في زمن الفرنسيس على تولية كِبر إثارة الفتنة التي أصابته وغيره وقتل فيمن قتل بالقلعة ولم يعلم له قبر، وكان ابنه معوقًا ببيت البكري، فلما علم بموته قلق وكاد يخرج من عقله خوفًا على ما يعلم مكانه من مال أبيه حتى خلص في ثاني يوم بشفاعة المشايخ، ولم يكن مقصودًا بالذات بل حضر ليعود أباه فحجزه القومة عليهم زيادة في الاحتياط.
ومات الأجل المفوه العمدة الشيخ إسماعيل البراوي بن أحمد البراوي الشافعي الأزهري، وهو ابن أخي الشيخ عيسى البراوي الشهير الذكر، تصدر بعد وفاة والده في مكانه، وكان قليل البضاعة؛ لأنه تغلب عليه النباهة واللسانة والسلاطة والتداخل، وذلك هو الذي أوقعه في حبايل الفرنساوية وقتل مع من قتل شهيدًا ولم يعلم له قبر، غفر الله لنا وله.
ومات الوجيه الأجل الأمثل السيد محمد كريم السكندري، وكريم بضم الكاف وفتح الراء وتشديد الياء مكسورة وسكون الميم مقتولًا بيد الفرنسيس.
وخبره أنه كان في أول أمره قبانيًّا يزن البضايع في حانوت بالثغر، وعنده خفة في الحركة وتودد في المعاشرة، فلم يزل يتقرب إلى الناس بحسن التودد ويستجلب خواطر حواشي الدولة وغيرهم من تجار المسلمين والنصارى، ومن له وجاهة وشهرة في أبناء جنسه حتى أحبه الناس.
واشتهر ذكره في ثغر الإسكندرية ورشيد ومصر، واتصل بصالح بك حتى كان وكيلًا بدار السعادة، وله الكلمة النافذة في ثغر رشيد وتملكها وضواحيها واسترق أهلها.
وقلد أمرها لعثمان خجا فاتحد به وبمخدومه السيد محمد المذكور، واتصل بمراد بك بعد صالح أغا فتقرب إليه، ووافق منه الغرض، ورفع شأنه على أقرانه وقلده أمر الديوان والجمارك بالثغر، ونفذت كلمته وأحكامه، وتصدر لغالب الأمور وزاد في المكوسات والجمارك ومصادرات التجار خصوصًا من الإفرنج.
ووقع بينه وبين السيد شهبة الحادثة التي أوجبت له الاختفا بالصهريج وموته فيه، فلما حضر الفرنسيس ونزلوا الإسكندرية قبضوا على السيد محمد المذكور، وطالبوه بالمال وضيقوا عليه وحبسوه في مركب.
ولما حضروا إلى مصر وطلعوا إلى قصر مراد بك، وجدوا فيه مطالعة بأخبارهم وبالحث والاجتهاد على حربهم وتهوين أمرهم وتنقيصهم، فاشتد غيظهم عليه فأرسلوا وأحضروه إلى مصر وحبسوه، فتشفع فيه أرباب الديوان عدة مرار، فلم يمكن إلى أن كانت ليلة الخميس، فحضر إليه مجلون وقال له: المطلوب منك كذا وكذا من المال، وذكر له قدرًا يعجز عنه وأجله اثنتي عشرة ساعة، وإن لم يحضر ذلك القدر وإلا يقتل بعد مضيها.
فلما أصبح أرسل إلى المشايخ وإلى السيد أحمد المحروقي، فحضر إليه بعضهم فترجاهم وتداخل عليهم واستغاث وصار يقول لهم: اشتروني يا مسلمون، وليس بيدهم ما يفتدونه به، وكل إنسان مشغول بنفسه ومتوقع لشي يصيبه، وذلك في مبادي أمرهم.
فلما كان قريب الظهر وقد انقضى الأجل أركبوه حمارًا، واحتاط به عدة من العسكر وبأيديهم السيوف المسلولة، ويقدمهم طبل يضربون عليه وشقوا به الصليبة إلى أن ذهبوا إلى الرميلة وكتفوه وربطوه مشبوحًا، وضربوا عليه بالبنادق كعادتهم فيمن يقتلونه ثم قطعوا راسه ورفعوها على نبوت وطافوا بها بجهات الرميلة، والمنادي يقول: هذا جزاء من يخالف الفرنسيس، ثم إن أتباعه أخذوا رأسه ودفنوها مع جثته وانقضى أمره، وذلك يوم الخميس خامس عشرى ربيع الأول.
ومات الأمير إبراهيم بك الصغير المعروف بالدالي، وهو من مماليك محمد بك أبي الدهب، وتقلد الزعامة بعد موت أستاذه، ثم تقلد الإمارة والصنجقية في أواخر جمادى الأولى سنة اثنتين وتسعين وماية وألف.
وهو أخو سليمان بك المعروف بالأغا، وعندما كان هو واليًا كان أخوه أغات مستحفظان وأحكام مصر والشرطة بينهما.
وفي سنة سبع وتسعين تعصب مراد بك وإبراهيم بك على المترجم، وأخرجوه منفيًّا هو وأخوه سليمان بك وأيوب بك الدفتردار، ولما أمروه بالخروج ركب في طوايفه ومماليكه وعدى إلى بر الجيزة، فركب خلفه علي بك أباظة ولاجين بك ولحقوا حملته عند المعادي، فحجزوها وأخذوها وأخذوا هجنه ومتاعه وعَدُّوا خلفه، فأدركوه عند الأهرام فاحتالوا عليه وردوه إلى قصر العيني، ثم سفروه إلى ناحية السرو ورأس الخليج، فأقام بها أيامًا وكان أخوه سليمان بك بالمنوفية.
فلما أرسلوا بنفيه إلى المحلة ركب بطوايفه، وحضر إلى مسجد الخضيري وحضر إليه أخوه المترجم وركبا معًا وذهبا إلى جهة البحيرة، ثم ذهبا إلى طندتا، ثم ذهبا إلى شرقية بلبيس، ثم توجها من خلف الجبل إلى جهة قبلي، وكان أيوب بك بالمنصورة فلحق بهما أيضًا، وكان بالصعيد عثمان بك الشرقاوي ومصطفى بك فالتفا عليهما وعصى الجميع، وأرسل مراد بك وإبراهيم بك محمد كتخدا أباظة وأحمد أغا شويكار إلى عثمان بك ومصطفى بك يطلبانهما إلى الحضور، فأبيا وقالا: لا نرجع إلى مصر إلا بصحبة إخواننا وإلا فنحن معهم أينما كانوا.
ورجع المذكوران بذلك الجواب، فجهزوا لهم تجريدة وسافر بها إبراهيم بك الكبير وضمهم وصاحبهم، وحضر بصحبة الجميع إلى مصر فحنق مراد بك ولم يزل حتى خرج مغضبًا إلى الجيزة ثم ذهب إلى قبلي، وجرى بينهما ما تقدم ذكره من إرسال الرسل ومصالحة مراد بك ورجوعه وإخراج المذكورين ثانيًا، فخرجوا إلى ناحية القليوبية، وخرج مراد بك خلفهم، ثم رجوعهم إلى جهة الأهرام وقبض مراد بك عليهم ونفيهم إلى جهة بحري، وأرسل المترجم إلى طندتا ثم ذهبوا إلى قبلي خلا مصطفى بك وأيوب بك، ثم رجعوا إلى مصر بعد خروج مراد بك إلى قبلي.
واستمر أمرهم على ما ذكر حتى ورد حسن باشا، وخرج الجميع وجرى ما تقدم ذكره.
وتولى المترجم إمارة الحاج سنة مايتين وألف، ولم يسافر به، ولما رجعوا إلى مصر بعد الطاعون وموت إسماعيل بك ورجب بك صاهره إبراهيم بك الكبير وزوَّجه ابنته كما تقدم.
ولم يزل في سيادته وإمارته حتى حضر الفرنساوية ووصلوا إلى بر إنبابة ومات هو في ذلك اليوم غريقًا ولم تظهر رِمَّته، وذلك يوم السبت سابع صفر من السنة المذكورة.
ومات الأمير علي بك الدفتردار المعروف بكتخدا الجاويشية، وأصله مملوك سليمان أفندي من خشداشين كتخدا إبراهيم القازدغلي.
وكان سيده المذكور رغب عن الإمارة ورضي بحاله وقنع بالكفاف ورغب في معاشرة العلما والصلحا، وفي الانجماع عن أبناء جنسه والتداخل في شونهم.
وكان يأتي في كل يوم إلى الجامع الأزهر ويحضر دروس العلما ويستفيد من فوايدهم، ولازم دروس الشيخ أحمد السليماني من الفقه الحنفي إلى أن مات، فتقيد بحضور تلميذه الشيخ أحمد الغزي كذلك.
واقترن في حضوره بالشيخ عبد الرحمن العريشي، وكان إذ ذاك مقتبل الشبيبة مجردًا عن العلايق فكان يعيد معه الدروس، فاتحد به لما رأى فيه من النجابة فجذبه إلى داره وكساه، وواساه واستمر يطالع معه في الفقه ويعيد معه الدروس ليلًا، وزوَّجه وأغدق عليه، وكان هو مبدأ زواجه.
ولم يزل ملازمًا حتى توفي سليمان أفندي المذكور في سنة خمس وسبعين وماية وألف، فتزوج المترجم بزوجة سيده، واستمر هو وخشداشه الأمير أحمد بمنزل أستاذهم.
وتتوق نفس المترجم للترفع والإمارة فتردد إلى بيوت الأمرا كغيره من الأجناد، فقلده علي بك الكبير كشوفية شرق أولاد يحيى في سنة اثنتين وثمانين وماية وألف، فتقلدها بشهامة وقتل البغاة وأخاف الناحية وجمع منها أموالًا، واستمر حاكمًا بها إلى أن خالف محمد بك أبو الدهب على سيده علي بك، وخرج من مصر إلى الجهة القبلية فلما وصل إلى الناحية كان المترجم أول من أقبل عليه بنفسه وما معه من المال والخيام، فسر به محمد بك وقربه وأدناه، ولم يزل ملازمًا لركابه حتى جرى ما جرى وتملك محمد بك الديار المصرية، فقلده أغاوية المتفرقة أيامًا قليلة.
ثم خيَّره في تقليد الصنجقية أو كتخدا الجاويشية فقال له: حتى أستخير في ذلك، وحضر إلى المرحوم الشيخ الوالد وذكر له ذلك فأشار عليه بأن يتقلد كتخدا الجاويشية، فإنه منصب جليل واسع الإيراد وليس على صاحبه تعب ولا مشقة غفر ولا سفر تجاريد ولا كثرة مصاريف فكان كذلك، وذلك في سنة ست وثمانين، وسكن ببيت سليمان أغا كتخدا الجاويشية بدرب الجماميز على بركة الفيل.
ونما أمره واتسع حاله واشتهر وانتظم في عداد الأمرا، ولم يزل على ذلك إلى أن مات محمد بك، فاستقل بإمارة مصر إبراهيم بك ومراد بك فكان المترجم ثالثهما، واتحد بإبراهيم بك اتحادًا عظيمًا حتى كان إبراهيم بك لا يقدر على مفارقته ساعة زمانية، وصار معه كالأخ الشقيق والصاحب الشفيق، وصار في قبول ووجاهة عظيمة وكلمة نافذة في جميع الأمور.
ولم يزل على ذلك حتى حضر حسن باشا بالصورة المتقدمة وخرج إبراهيم بك ومراد بك وباقي الأمرا، فتخلف عنهم المترجم وقد كان راسل حسن باشا سرًّا، فلما استقر حسن باشا أقبل عليه وسلمه مقاليد الأمور وقلده الصنجقية، وأضاف إليه الدفتردارية وفوض إليه جميع الأمور الكلية والجزئية، فانحصرت فيه رياسة مصر وصار عزيزها وأميرها ووزيرها، وقايد جيوشها ولا يتم أمر إلا عن مشورته ورأيه.
واجتمعت ببيته الدواوين وقلد الإمريات والمناصب كما يختار، وقرب وأدنى وأبعد وأقصى من يختار، واشتهر ذكره في إقليم مصر والشام والروم.
وأشار بتقليد مراد كاشف الصنجقية وإمارة الحاج، وسموه محمد بك المبدول كراهة في اسم مراد واشتهر بالمبدول، ونجز له لوازم الحاج والصرة في أيام قليلة، وسافر بالحاج على النسق المعتاد، وشهل أيضًا التجاريد والعساكر خلف الأمرا المطرودين، واستمر مطلق التصرف في مملكة مصر بقية السنة.
ولما استهل رمضان أرسل لجميع الأمرا والأعيان اليلكات والكساوي لهم ولحريمهم ومماليكهم بالأحمال، وكذلك إلى العلما والمشايخ حتى الفقها الخاملين المحتاجين، وظن أن الوقت قد صفا له ولم يزل على ذلك حتى استقر إسماعيل بك وسافر حسن باشا، وظهر له أمر حسن بك الجداوي وخشداشينه أخذ يناكد المترجم ويعارضه في جميع أموره وهو يسامح له في كل ما يتعرض له فيه ويساير حاله بينهم، ويكظم غيظه ويكتم قهره، وهو مع ذلك وافر الحرمة.
واعتراه صداع في رأسه وشقيقة زاد ألمه بها ووجعه أشهرًا، وأتلف إحدى عينيه وعوفي قليلًا، واستمر على ذلك حتى وقع الطاعون بمصر سنة خمس، ومات ابن له مراهق أحزنه موته، وكذلك ماتت زوجته وأكثر جواريه ومماليكه.
ومات إسماعيل بك وأمراه ومماليكه ورضوان بك العلوي، وبقي هو وحسن بك الجداوي فتجاذبا الإمارة ولم يرضَ أحدهما بالآخر، فوقع الاتفاق على تأمير عثمان بك طبل تابع إسماعيل بك ظنًّا منهما أنه يصلح لذلك، وأنه لا يمالي الأعدا فكان الأمر بخلاف ذلك.
وكره الإمارة هو أيضًا لمناكدة حسن بك له، وراسل الأمرا القبليين سرًّا حتى حضروا على الصورة المتقدمة، وقصد حسن بك وعلي بك الاستعداد لحربهم وخرجوا إلى ناحية طرا وتأهبوا لمبارزتهم، وصار عثمان بك يثبطهما ويظهر لهما أنه يدبر الحيل والمكايد، ولم يعلما ضميره ولا يخطر ببالهما ولا غيرهما خيانته، بل كان كل منهما يظن بالآخر حتى حصل ما تقدم ذكره في محله.
وفر المترجم وحسن بك إلى ناحية قبلي، فاستمر هناك مدة ثم انفصل عن حسن بك وسافر من القصير إلى بحر القلزم، وظلع إلى المويلح وأرسل بعض ثقاته فأخذ بعض الاحتياجات سرًّا، وذهب من هناك إلى الشام واجتمع بأحمد باشا الجزار ونزل بحيفا وأقام بها مدة.
وراسل الدولة في أمره فطلبوه إليهم، فلما قرب من إسلامبول أرسلوا إليه من أخذه وذهب به إلى برصا فأقام هناك وعينوا له كفايته في كل شهر وولد له هناك أولاد، ثم أحضروه في حادثة الفرنسيس وأعطوه مراسيم إلى إبراهيم باشا ساري عسكر في ذلك الوقت، فلما وصل بيروت راسل أحمد باشا وأراد الاجتماع به، وعلم أحمد باشا ما بيده من المرسومات إلى إبراهيم باشا، فتنكر له وانحرف طبعه منه وأرسل إليه يأمره بالرحيل، وصادف ذلك عزل إبراهيم باشا، فارتحل مقهورًا إلى نابلس فمات هناك بقهره.
وحضر من بقي من مماليكه إلى مصر وسكنوا بداره التي بها مملوكه عثمان كاشف وابنته التي تركها بمصر صغيرة، وقد كبرت وتأهلت للزواج فتزوج بها خازنداره الذي حضر، وهو إلى الآن مقيم معها صحبة خشداشينه ببيتهم الذي بدرب الحجر.
وكان المترجم أميرًا لا بأس به يميل إلى فعل الخير حسن الاعتقاد، ويحب أهل العلم والفضايل ويعظمهم ويكرمهم ويقبل شفاعتهم، وفيه رقة طبع وميل للخلاعة والتجاهر، غفر الله له وسامحهم.
ومات أيضًا الأمير أيوب بك الدفتردار وهو من مماليك محمد بك، تولى الإمارة والصنجقية بعد موت أستاذه، وقد تقدم ذكره غير مرة، وكان ذا دها ومكر ويتظاهر بالانتصار للحق وحب الأشراف والعلما، ويشتري المصاحف والكتب ويحب المسامرة والمذاكرة وسير المتقدمين، ويواظب على الصلاة في الجماعة، ويقضي حوايج السايلين والقاصدين بشهامة وصرامة وصدع للمعاند، خصوصًا إذا كان الحق بيده.
ويتعلل كثيرًا بمرض البواسير وسمعت من لفظه رؤيا رآها قبل ورود الفرنسيس بنحو شهرين تدل على ذلك وعلى موته في حربهم.
ولما حصل ذلك وحضروا إلى بر إنبابة عدى المترجم قبل بيومين، وصار يقول: أنا بعت نفسي في سبيل الله، فلما التقى الجمعان لبس سلاحه بعدما توضأ وصلى ركعتين وركب في مماليكه، وقال: اللهم إني نويت الجهاد في سبيلك، واقتحم مصاف الفرنساوية وألقى نفسه في نارهم، واستشهد في ذلك اليوم.
وهي منقبة اختص بها دون أقرانه بل ودون غيرهم من جميع أهل مصر، كما قال فيه الشيخ خليل المنير من قصيدة حكى فيها أمرهم، وما حصل للمترجم بقوله:
إلى آخر ما قال، وقوله (بدم الهيجاء لا غرق) يشير بذلك إلى إبراهيم بك الوالي حين ولَّى مدبرًا وغرق في البحر.
ومات الأمير صالح بك أمير الحاج في تلك السنة وهو أيضًا من مماليك محمد بك أبي الدهب، وتولى زعامة مصر بعد إبراهيم بك الوالي وأحسن فيها السيرة ولم يتشك منه أحد ولم يتعرض لأحد بأذية.
وتقلد أيضًا كتخدا الجاويشية عندما خرج إبراهيم بك مغاضبًا لمراد بك، وكان خصيصًا به فلما اصطلحا ورجع إبراهيم بك وعلي أغا كتخدا الجاويشية تقلد عليٌّ منصبه كما كان واستمر المترجم بطالًا، لكنه وافر الحرمة معدود في الأعيان.
ولما خرجوا من مصر في حادثة حسن باشا أرسله خشداشينه إلى الروم، وكاد يتم لهم الأمر فقبض عليه حسن باشا وكان إذ ذاك بالعرضي في السفر.
ولما رجعوا إلى مصر بعد موت إسماعيل بك سكن ببيت البارودي، وتزوج بزوجته وهي أم أيوب التي كانت سرية مراد بك ثم سافر ثانيًا إلى الروم بمراسلة وهدية، وقضى أشغاله ورجع بالوكالة وأخذ بيت الحبانية من مصطفى أغا، وعزله من وكالة دار السعادة وسكن بالبيت، واختص بمراد بك اختصاصًا زايدًا وبنى له دارًا بجانبه بالجيزة وصار لا يفارقه قط، وصار هو بابه الأعظم في المهمات.
وكان فصيح اللسان مهذب الطبع يفهم بالإشارة، يظن من يراه أنه من أولاد العرب لطلاقة لسانه وفصاحة كلامه، ويميل بطبعه إلى الخلاعة وسماع الألحان والأوتار، ويعرف طرقها ويباشر الضرب عليها بيده.
ثم ولي الصنجقية وتقلد إمارة الحج سنة اثنتي عشرة ومايتين وألف، وتمم أشغاله وأموره ولوازمه على ما ينبغي.
وطلع بالحج في تلك السنة في أبهة عظيمة على القانون القديم في أمن وأمان ورخا وسخا، وراج موسم التجار في تلك السنة إلى الغاية.
وفي أيام غيابه بالحج وصل الفرنساوية إلى القطر المصري، وطار إليهم الخبر بسطح العقبة، وأرسلوا من مصر مكاتبة بالأمان وحضوره بالحج في طايفة قليلة، فأرسل إليهم إبراهيم بك يطلبهم إلى بلبيس، فعرج المترجم بالحاج إلى بلبيس، وجرى ما تقدم ذكره.
ولم يزل حتى مات بالديار الشامية، وبعد مدة أرسلت زوجته فأحضرت رمته ودفنتها بمصر بتربة المجاورين.
ومات العمدة الفاضل والنحرير الكامل الفقيه العلامة السيد مصطفى الدمنهوري الشافعي، تفقه على أشياخ العصر وتمهر في المعقولات ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي ملازمة كلية، واشتهر بنسبته إليه.
ولما ولي مشيخة الأزهر صار المترجم عنده هو صاحب الحل والعقد في القضايا والمهمات والمراسلات عند الأكابر والأعيان، وكان عاقلًا ذكيًّا وفيه ملكة واستحضار جيد للفروع الفقهية، وكان يكتب على الفتاوى على لسان شيخه المذكور ويتحرى الصواب وعبارته سلسة جيدة.
وكان له شغف بكتب التاريخ وسير المتقدمين، واقتنى كتبًا في ذلك مثل كتاب «السلوك»، و«الخطط» للمقريزي، وأجزاء من «تاريخ العيني والسخاوي» وغير ذلك.
ولم يزل حتى ركب يومًا بغلته وذهب لبعض أشغاله، فلما كان بخط الموسكي قابله خيال فرنساوي يخج فرسه، فجفلت بغلة السيد مصطفى المذكور وألقته من على ظهرها إلى الأرض، وصادف حافر فرس الفرنساوي أذنه فرض صماخه فلم ينطق ولم يتحرك، فرفعوه في تابوت إلى منزله ومات من ليلته، رحمه الله.
ومات عبد الله كاشف الجرف وهو عبد إسماعيل كاشف الجرف تابع عثمان بك ذي الفقار الكبير، وكان معروفًا بالشجاعة والإقدام كسيده وأدرك بمصر إمارة وسيادة ونفاذ كلمة، واشترى المماليك الكثيرة والخيول المسومة والجواري والعبيد، وعنده عدة من الأجناد والطوايف، وعمر دارًا عظيمة داخل الدرب المحروق، ولم يزل حتى قتل يوم السبت تاسع صفر بحرب الفرنساوية بإنبابة، وكان جسيمًا أسود ذا شهامة وفروسية مشهورة وجبروت.