كالعيس في البيداء
بالقرية يتغزل الشعراء عاميهم وفصيحهم، والأدباء قصصيهم وكاتب المقالة منهم، حتى تحسب القرية ذلك الفردوس الذي ركبت المخيلة البشرية عناصره. والقرية حسناء رائعة ولكنها منتوفة. ما عليها ثياب غير أطمار كما قال الأخطل التغلبي في ذلك العلج وخابيته التي لها رداءان. واحد نسيج العنكبوت، وآخر من ليف ومن قار. نسيت وأهملت حتى تضاءلت: كتضاؤل الحسناء في الأطمار.
يتغنى الشعراء عن شوقهم إلى القرى ويحنون إلى رؤية وجهها الجهم، والقرى ليس فيها من القرى غير الخبزات والبرغلات. فأهلوها يتسكعون في ظلمات البؤس والحكومة غافلة عنها وعنهم لا يهمها غير تزيين المدن. يجودون على هاتيك بالكماليات، ويبخلون على الضيعة بالضروريات، فهي ليست غنية إلا بما وهبتها الطبيعة من هواء ونور شمس.
كأن الدولة بائع خضرة يوجه سحارته بالجيد من المحصول، إنها لا يعنيها إلا المدن فتملؤها نورًا وماء وأدوية وملاجئ ومدارس. أما القرية فلها جحيمها المقيم. فلا مواصلات ولا أطباء. يمرض الواحد منهم ويموت ولا يعلم به أحد.
هذه أعمدة كهرباء نهر البارد منتصبة على القمم المحدقة بقريتي كالجبابرة العماليق، تحمل النور من نهر البارد إلى المدينة، ونحن نعيش في الظلام. إن الجوعان يكفر بربه حين يرى القدور ملأى بالطعام، وقد ملأت رائحته خياشيمه. أفلا نكفر نحن حين نرانا في منتصف القرن العشرين وكأننا في منتصف القرن التاسع عشر؟ الكهرباء تجري على رمية حجر منا وأعمدتها الجبارة كأنها تقول لنا (زرك عينك).
أعطي امتياز الكهرباء حتى قرية معاد. فإذا به يصغر ويصغر حتى اقتصر على جبيل وعمشيت. فهل يجوز أن تبقى تلك القرى المنكودة في ظلام مراعاة لمصلحة أصحاب الامتياز.
يقول المثل: حط المكسورة على المجبورة وخل القصة مستورة. أما هم فلا يريدون إلا المجبورة ولتبق القرية في ظلماتها.
والمثل يقول أيضًا: الماء لا يمر على عطشان، أفلا يطبق هذا على البلاد التي تمر فيها خطوط كهرباء نهر البارد؟ أتمر بأرضنا ولا نقضي غرضنا؟ حقًّا إنها حالة بعيدة عن العدالة الاجتماعية. إن حالة القرية والحكومة كحالة رجل كثرت بناته فهو لا يكسو ويجهز منهن إلا التي هي على أبواب الزواج. رضينا يا سادة أن نلبس ثياب أختنا الكبيرة ولكن أين هي؟!
ففي سنة ١٩٥١ صدر قرار بمد خطوط التلفون إلى قرانا، وتقرر مدها حتى كلفت بتقديم طلب تلفون خاص لبيتي بتاريخ ٩ حزيران، فقدمته وسجل في المديرية تحت رقم ٢٠٦٢ ثم كان المطل، فراحت وزارات وجاءت وزارات ولم يشد أزرنا أحد. وأخيرًا قالوا: لا نجد المعدات قبل مد التلفون الآلي في العاصمة والمدن الكبرى، فقلنا: رضينا أن نلبس ثياب أختنا العتاق، ولكن أين هي يا جماعة؟
أيظل كل شيء حبرًا على ورق، أنظل نسقيك بالوعد يا كمون؟
أليس على الرعاة أن يعنوا بالقطيع، إن لم يكن عدلًا أو رحمة فعلى الأقل حرصًا على المنفعة. فمن يغذي المدن غير القرى، ومن يغذي الميزانية غير هذا الشعب المسكين المحروم، ومن ينتخب الذين يحكمون سعيدًا، غير أبي اللبادة والسروال؟
إنهم يتغنون بالقرية ويقول شاعرنا العامي: مشتاق أرجع عالضيعة مشتاق كتير.
خفف قليلًا من غرامك يا شاعري الحبيب، فالضيعة لم يبق فيها أحد غير العاجزين والعاجزات، أما شبابها وبناتها فصاروا في المدن خدمًا وخادمات، وموظفين وموظفات. إنهم معذورون فما تركوها إلا غصبًا عن رقابهم، لأن رزقهم فيها مقطوع.
إن مشهد هذه الأعمدة الجبارة المنتصبة قبالة وجهي قد زاد بلائي بلاء، فهي كأنها أصابع تنتصب أمام عيني قائلة: إني أمر بأرضك غصبًا عن رقبتك ولا أجود عليك بضوء شمعة.
إننا لا نتعزى في هذه الحالة إلا بقول يسوع: من له يعطى ويزاد ومن ليس له يؤخذ منه الذي له. ولكن ابن القرية هو العامل والكادح ليلًا نهارًا، وليس بالعبد البطال ليخرج إلى الظلمة البرانية.
قالوا: الجوع كافر، عندما كان يكتفي الإنسان بالقوت. أما اليوم فقد صارت هذه الضروريات أشد كفرًا من الجوع. أنعجز عن استدعاء الطبيب إذا أصاب أحدنا عارض، والتلفون مقرر منذ سنوات؟ لقد شبعنا وعودًا من أناس أرخص شيء عندهم النفوس. اسمعوا يا سادة. على أرجلنا نمشي. ومثلما عاش جدودنا مستضيئين بالفانوس نعيش، أما التلفون فلا غنى لنا عنه. إن عزرائيل متى طرق الباب لا ينتظر الجواب، ولا يمكن أن يؤخر أو يستمهل، فإما أن تضعوا في كل قريتين طبيبًا ندعوه عند الحاجة، وإما أن تعدوا لنا التلفون، ونحن لا نكلفكم مئونة تطبيبنا.
كثيرًا ما سمعنا بالنقطة الرابعة، أفلا تنعمون علينا بنقطة من هذه النقطة لنرى وجه ربنا ونموت على ضوء؟!