على هامش جلسة الثقة
يقول المثل: البكاء على رأس الميت، أما نحن وضيعتنا أصعب اتصالًا بالعاصمة منها بالصين، فهل نلام إذا عزينا بعد حين وجددنا الأحزان؟!
حكي أن صيادًا كان يرمي ولا يصيب، فتعقب ذات يوم طائرًا كبيرًا، وكان كلما اقترب من المجال فر الطائر ووقع على غصن وثبت كأنه ينتظر. ويجيء الصياد ويفر الطير، وهكذا دواليك. وأخيرًا هون الله وخال الصياد أنه يصيب إذا أطلق جفته، ولكن الطير خلص بريشه. وشاء الصياد أن يعزي نفسه فصرخ به: رح مع السلامة. تكفيك هذه الرعبة.
لعل هذا كان لسان حال المعارضة. ولكن الحكومة نجت مثل ذاك الطائر، وإذا غربلنا ونخلنا رأينا أن كل ما قيل ويقال في معارضتنا يدور حول نقطة واحدة هي الوظيفة قاتلها الله، فقد كانت منذ كانت حكومات لبنان من عهد فخر الدين إلى اليوم نقطة الدائرة والقطب الذي يدور عليه الفكر اللبناني. تحدثوا عن الفساد وما يعنون إلا فساد المأمورين، فرد عليهم رئيس الحكومة قائلًا: الفساد أنا عملته؟ الفساد موجود من ماية سنة بالبلاد.
قللتها يا سامي بك. فلو قلت أكثر لما استطاع أحد أن يكذبك فلندع التاريخ القديم، ولنراجع صفحات تاريخ الحكم في لبنان منذ قرن ونصف. أفلا نرى أن أمير لبنان كان يشتري إمارته على البلاد شراء؟ أما كان يؤدي للجزار وغير الجزار ثمن الخلعة كل عام؟ والشعب المنقسم على نفسه يرحب بقدومها بالتهاليل والزغاريد.
وما معنى الخلعة؟ إنها ثوب ملبوس من ثياب ضاهر العمر أو الجزار أو عبد الله باشا يؤمر بها على البلاد من يلبسه إياها، ثم يخلعها عنه ليجلل بها أميرًا آخر إذا زاد في ثمنها. والله يزيد في عمر من يزيد. ألم تكن الوظيفة على اختلاف درجاتها مفرقة الأحباب ومشتتة شمل الأصحاب؟ أليست هي التي فرقت بين البشيرين بشير شهاب وبشير جنبلاط؟ أما قال الجنبلاطي للشهابي: البلاد لا تسع بشيرين. فأجابه الشهابي: المكعوم يرحل.
ثم كانت بينهما معارك أدت إلى رحيل الجنبلاطي إلى الأبد. وبعد سنين دارت الدوائر فرحل أيضًا الشهابي، وصار يعرف ببشير المالطي.
ثم كانت الفتنة الكبرى التي أطاحت بإمارة لبنان، وصار لبنان أول قطر شرقي محكوم دستوريًّا يلعب اللعبة البرلمانية على نطاق ضيق، ولكنها لعبة في كل حال. كان له مجلس إدارة كالمجالس النيابية اليوم، له رئيس يحاكي رئيس المجلس النيابي اليوم، أما الكلمة العليا فللمتصرف الذي تنتخبه الدول الكبرى السبع.
وتوالى على كرسي لبنان البروتوكول ثمانية متصرفين. سمعت بأخبار داود وفرنكو ورستم، وكنت وليدًا في عهد واصا الذي قال فيه تامر الملاط:
وكنت يافعًا في عهد نعوم، وعرفت السياسة وشاركت فيها في زمن مظفر. كانت الوظيفة كقطعة الشوكولا أو البسكوتة التي يرضى بها الصبي فلا يزعج البيت، ولكن ثمنها كان كاويًا موجعًا.
فلت الملق في عهد مظفر فأخذ يعين في الوظائف الدقيقة أصحاب السوابق المحكومين بالجرائم شرط أن يؤدوا له ولزوجته وابنه المبلغ المرقوم. وصار لكل وظيفة سعر محدود لا يحسم منه شيء لأن الإقبال على الشراء كان كبيرًا جدًّا. جعل ثمن المديرية مائتين وثلاثمائة ليرة ذهبية عسملية، وثمن القائمقامية خمسمائة، إذا كانت صغرى كزحلة وجزين، وستمائة وسبعمائة إذا كانت كبرى كقائمقامية المتن وكسروان والبترون، وكان مهر رئاسة المحكمة ٢٠٠ و٣٠٠ عثمانية. وكان يؤخذ من عضو مجلس الإدارة ٤٠٠ ليرة ذهبية ليوصلوه إلى الكرسي، كما جعل ثمن مديرية مال المتصرفية ٣٠٠ ليرة.
كانوا يعينون وظائف الجندية تعيينًا، ولهذا جعلوا لكل رتبة تعريفة إذا لم يتقدم راغب. إن الثمن لا يكون إلا بالمئات الرنانة الطنانة. البكباشي بمائتين واليوزباشي ب ١٥٠، ثم ارتفعت الأسعار بسبب رواج السوق فصارت بثلاثمائة وأكثر، والقائمقامية الكبرى بألف، ورئاسة مجلس الإدارة بألفين.
وانتحل المتصرف مظفر سلطة منح لقب بك، فأنعم به على كل من يدفع، ولما درت إسطمبول بهذه الحركة كدرت المتصرف، فأصدر أمره بأن هذه الألقاب أطلقت سهوًا وأنه ألغاها، فعاد البك باش بزق.
وكذلك كان يصيب الموظفين فإنه كان يوظف الوجيه ثم يعزله، وهو في طريقه إلى مركز وظيفته. ولما تفاقم هذا الأمر طلب مواجهته أحد الأعيان وسأله إذا كان ينقل عفشه أم يذهب وحده؟ وعين أحدهم مديرًا مساءً ثم عزله صباحًا، فقال فيه — أي في المدير — أحد شعراء لبنان:
قد يكون هذا الوباء، داء حب الوظيفة، منتشرًا في كل بلدان الله، ولكن أظن أن حالتهم غير حالنا. فهناك يؤمنون أن لهم وطنًا يؤمنون به، وإن أكلوه فكما يؤكل القربان، أما نحن فنأكله بلا إيمان. إنهم يبنون وطنًا، أما نحن فنبني بيوتًا في بلد اسمه لبنان، فحالنا وحال الغرباء فيه سواء بسواء. نبيعه رأسًا برأس ولا نطمع بزيادة.
فيا أيها الناس، إن وجود الفساد لا يبرر بقاءه، كلكم اعترفتم بوجوده، وكل مناقشة جلسة الثقة دارت وستظل تدور حول الوظيفة والموظفين والملاكات. فهذه الملاكات إن شئت أن تسميها خراجات اصطناعية فلا بأس، وإذا شئت أن تسميها ثقوبًا يخرج منها ناس وتدخل ناس فلا حرج، ولكن لا تنسوا أن ثقب سد مأرب كان سبب خراب ذاك المكان. يقولون إن جرذًا أحدث ذلك الثقب فكان السيل العرم الذي قتل الناس، ترى ما عسانا نقول نحن؟!
ذكرني قول سامي بك: ما معنا وقت حتى نصرفهم — هكذا قرأت — بهذه النادرة أنَّ سامي بك سيد النكات بين الحاكمين، فليسمح لنا بواحدة من فضله. تزوج رجل امرأة وكان ذاك الرجل أجيرًا نهاريًّا، فقالت له امرأته: يا رجال ابن عمي صاحب دكان حمص، فما عليك لو ساعدته وقبضت كم قرش؟!
فاستصوب رأيها وذهب يشتغل مع ابن عمها حتى نصف الليل.
ثم مضت أيام فقالت له: ابن خالي صاحب دكان فول وسحلب، فما يضر لو غدوت إليه وساعدته حتى شروق الشمس؟ وكان ما أرادت.
وبان الهزال في الرجل فرآه صاحب له وقال له: على مهلك لا تجهد نفسك. ثم دار بينهما الحديث ففهم الرجل مصيبة صاحبه بامرأته فقال له: طلقها.
فأجابه الرجل: أهو معنا وقت حتى نطلقها؟!
حقيقة إن وقت دولة الرئيس ضيق جدًّا وشغله فوق رأسه. نحن نعرف جيدًا أن الحمل ثقيل ولكن المثل يقول: دير الحملة لحمالها.
أما حان للبيت اللبناني أن يستقر، أن ينظف، أن يكنس. فليكن شعارنا بعد اليوم المكنسة. ترى أأغلق الباب ومن ضرب ضرب ومن هرب هرب؟ أنضيع النظافة والبلد طيب وهواؤه نقي؟ لا تسمح يا بيك أن تكون وزارتك كغيرها، مراسيم تظهير لا مراسيم تطهير.
جاءوا ليقتلوا المحسوبية فجعلوا المحسوبية عصبية، وهكذا صح فيهم قول المثل: جمل موضع جمل يبرك.
مليحة سياسة اللين في غير ضعف والشدة في غير عنف، كما قال زياد. أما أن يستحيل الرفق ميوعة، والعدل محاباة، فهذا بشع، وما هكذا يكون الإنصاف ولا الإصلاح.
وأسيادنا النواب الذين لا يحضرون جميعًا حتى في جلسة الثقة لماذا زادوا راتبهم خمسمائة ليرة فصار ألفًا؟!
ألف صحة يا سيدي ولكن فليحضروا. أيظنون إذا أسمعونا صوتهم مذاعًا أنها شالوا الزير من البير؟ فهم يشكون ببعضهم في المعارضة ونحن نشك بهم أيضًا. إن ما يقبضونه هو مالنا، فليكن لنا من عملهم مقابل.
إن ما عملوه منذ أسبوعين كان يعمل مثله وأكثر المير فؤاد أرسلان والشيخ يوسف الخازن، كانا يتخاصمان تحت قبة البرلمان ويتصافحان على بابه ويخرجان متأبطًا كل منهم ذراع صاحبه.
وإذا عنفت فإني أعذر أيضًا. يريد كل نائب وكل وزير، والوزير نائب، أن يرضي ناخبيه فكيف نطلب ألا يرفع صوته. إن مطاليب الناخب لا تعد ولا تحصى، فكل ناخب رمى ورقة في صندوقة الاقتراع يظن أن له حقًّا عند النائب الذي انتخبه، وهو لا يطلب إلا وظيفة لابنه أو لابن عمه، حتى بلغني أن أحد هؤلاء طلب من أحد النواب أن يعين له ابنه خادمًا في أوتيل سان جورج.
حقيقة إن رمح مار جرجس صار قصبة، وسيفه حديدة، وحصانه حمارًا. وإذا كانت الضوضاء تؤدي إلى الفوضى فالسكوت علامة الموت. أما أن تذاع جلسة كالتي سمعنا فهذه أكثر من فوضى، لقد كانت نكبة على البيوتات.
قلت لخادمي، ولا فخر: وط صوتك حين تتكلم.
فأجابني: ولو! احسبني واحدًا من النواب.
لقد صحت في الانقلاب، الذي نتمجد كلما ذكرناه، الكلمة المأثورة: كل شيء يخلق صغيرًا ثم يكبر إلا المصيبة فهي تخلق كبيرة وتصغر.
حقًّا إنه مصيبة. فما وضعت يد على قذر حتى انبرى المكيسون والمليفون والمصوبنون والمعطرون فأخرجوه نظيفًا شريفًا.
حكي أن قائمقامًا أخذ دجاجة محشوة إلى بيته بعد المأدبة التي أقيمت على شرفه، فما قولكم دام فضلكم بقولة البرجاوي: إن زلمة فلان بلع طنبر، وبلع بغل.
رحم الله فؤاد باشا — الدالي فؤاد — الذي قال للسلطان عبد الحميد: إذا كان أبو الهدى يبلع السيف، فوزير الحربية بلع الدارعة.
قرأت أن نائبًا قال: إن الشعب لم تعد له ثقة بنوابه، فإذا كان حقًّا ما يقولون، فلماذا يبقون؟ أليهشم بعضهم بعضًا وينشروا الأعراض على صنوبر بيروت؟!
إن صنوبر بيروت لم يعد شيئًا يذكر بالنسبة للإذاعة، فغطوا (التنكة) قليلًا إذا شئتم أن تنشروا على المسامع مثل هذه الروائح الطيبة.
وعلى من يحترم نفسه من أصحاب الحصانة والمناعة أي النواب المحترمين أن يحضر كل جلسة لأنه يقبض ثمنها. ولا يفلح على الكتفين، فكتف واحدة تكفيه. عليه أن لا يغيب أبدًا إلا بعذر، وإلا فليس له أن يطالب سواه من موظفين والنقص فيه. النائب مرآة الشعب والموظفين، فلتكن هذه المرآة نقية. النائب هو الرقيب فعلى عينه ألا تغفل.
ويؤلمني جدًّا أن أذكر كلمة نطق بها قروي في مجلسي: الإخلاص اللبناني الله يرحمه.