دجاجة الاستقلال
هذه واحدة من قصص بخلاء الجاحظ الطريفة. قال قدس الله سره: كان أبو الهذيل أهدى إلى مويس دجاجة. وكانت دجاجته التي أهداها دون ما كان يتخذ لمويس. ولكنه بكرمه، وبحسن خلقه، أظهر التعجب من سمنها، وطيب لحمها، وكان يعرفه بالإمساك الشديد. فقال أبو الهذيل: وكيف رأيت يا أبا عمران تلك الدجاجة؟
قال: كانت عجبًا من العجب!!
فيقول: وتدري ما جنسها، وتدري ما سنها، فإن الدجاجة إنما تطيب بالجنس والسن. وتدري بأي شيء كنا نسمنها؟
فلا يزال في هذا، ومويس يضحك ضحكًا نعرفه نحن، ولا يعرفه أبو الهذيل. وكان أبو الهذيل أسلم الناس صدرًا، وأوسعهم خلقًا، وأسهلهم سهولة، فإن ذكروا دجاجة قال: أين كانت يا أبا عمران من تلك الدجاجة؟
وإن ذكروا بطة أو عناقًا أو جزورًا، أو بقرة، قال: فأين كانت هذه الجزور في الجزر من تلك الدجاجة في الدجاج؟ وإن استسمن أبو الهذيل شيئًا من الطير والبهائم، قال: لا والله!! ولا تلك الدجاجة.
وإن ذكروا عذوبة الشحم قال: عذوبة الشحم في البقر والبط، وبطون السمك والدجاج، ولا سيما ذلك الجنس من الدجاج.
وإن ذكروا ميلاد شيء، أو قدوم إنسان، قال: كان ذلك بعد أن أهديتها إليك بسنة، وما كان بين قدوم فلان، وبين البعثة بتلك الدجاجة إلا يوم، وهكذا كانت مثلًا في كل شيء، وتاريخًا في كل شيء. انتهى.
ذكرني بحكاية هذه الدجاجة موسم الحكي الذي خلقته الميزانية. لا عجب في هذا فاللهى تفتح اللها، وحيثما تكن الجثة تجتمع النسور. ما قرأت مناقشة، رسمية كانت أو غير رسمية، إلا قاقت فيها دجاجة أبي الهذيل الهزيلة. فهو يذكرها في كل مناسبة. يصدق هو ما يقول، ويريد أن نصدق نحن أيضًا أن دجاجته التي أهداها إلى الوطن هي فوق الكباش المعلوفة، والعجول المسمنة. ولولاها لم تكن للأمة مأدبة الاستقلال الفاخرة.
إنه يمنُّ بها، دائمًا على (مويس) ومويس بكرمه وبحسن خلقه يظهر التعجب من سمنها وطيب لحمها.
لا يعني مويس إلا أن تبيض مضيفته الوجه وتقوم بالواجب، وليتبجح الهذيليون ما شاءوا، وإذا هذروا وصخبوا رثى لهم وما زاد على القول: يا أبتاه اغفر لهم.
اللهم أبعد عنا الليلة الظلماء. ولا تدخلنا في التجارب.