بُقَّ البحصة يا شماس
كان لأحد المطارنة شماس رخيم الصوت. وكان المطران يطرب حتى يترنح حين يخدم له القداس هذا الشماس، ويرجع في التسابيح والميامر كأنه الحسون. رأى المطران في شماسه شركًا ينصبه للمؤمنين فيقبلون على سماع القداس جماهير تعج بهم الكنيسة. لذلك صبر صاحب السيادة على ما في شماسه من عيب، وحاول إصلاحه جهده.
كان عيب الشماس أنه يسب الدين، وسب الدين خطيئة مميتة. الوعظ والإرشاد لا يقومان ما اعوج من أخلاق الناس وخصوصًا متى رسخت فيهم عادة، والشماس عسي وكبر، فما الحيلة فيه إذن؟ كان المطران يرشد شماسه كل يوم ولكن السباب لا ينقص، حتى قال الشماس: يا سيدنا. لا أراني إلا نسيت، ودارت تلك الكلمة على لساني. فإذا كان عندك دواء فأنا مستعد أن أقبله مهما كان صعبًا ومرًّا.
فقال المطران: حط يا ابني في بوزك بحصة، وكلما دعتك حالة لقول تلك الكلمة تذكرك البحصة فلا تقولها.
– طيب يا سيدنا، البحصة تظل في بوزي من الآن وطالعًا.
ووضع الشماس في فمه حصاة ناعمة، ونجحت التجربة وأقلع الشماس عن السب، فشكر المطران المعجب بشماسه ربه على هذه النعمة التي صيرت شماسه لا عيب فيه.
ودعي سيادته إلى مأتم فركب البغلة، ومشى الشماس يحدوها بترانيمه الروحية التي لم تكن تنقطع إلا عندما يمرون بقرية، حتى إذا ما خرجوا منها استأنف الشماس ترتيله الذي كان يطرب المطران والبغلة معًا.
وأقيمت صلاة الجناز وتألبت الجماهير لتسمع الشماس يرتل (الحسَّاية) ترتيلًا ملائكيًّا. وبعد الدفن عاد المطران أدراجه، وفي الطريق انهل المطر ثم استحال بردًا فتضايق مقدم صاحب السيادة. وفيما كان الشماس يحث البغلة لينجو وسيده من الشئوب ذي البرد، إذا بامرأة لاطية تحت شجرة على مقربة من الطريق، تصيح بكل ما في حنجرتها من قوة: دخيلك يا سيدنا، يا سيدنا.
– سيدنا دخيلك. وقِّف عندك.
فهال المطران ذاك الصراخ الفاجع ووقف، والبرد يتساقط عليه.
وأقبلت المرأة ومعها دجاجة تقوق ولكنها قامت عن البيض، وعجزت المرأة عن ردها إلى حضنها. فرأت أن يصلي لها المطران عليها لعلها تلزم بيضها.
فهز المطران برأسه والبرد يتساقط كالملبس، وجاءت سحابة ثانية أسخى من الأولى فصارت المهمة صعبة الإنجاز. فهمز المطران البغلة وصاح: بق البحصة يا شماس.
فبقها الشماس وجاد على أم تلك الدجاجة بما تيسر من سبابه. وبعد أن شبع، عدا وراء صاحب السيادة وهو يقول: ما قلت لك يا سيدنا إن مسبة الدين في وقتها تسابيح.
وكان المطر قد خرق ثياب المطران حتى بلغ الجلد فلجأ إلى أول بيت أدركه على طريقه، وهناك نشف قليلًا ذاك البلل.
من هنا جاء قول المثل عندنا: بُقِّ البحصة، ومعناه بح بسرك المكتوم ولا تبق شيئًا مما أنت تكتمه طويلًا.
ترى لو بق أحدنا البحصة، أفلا يقول لأصحابنا من نواب وحكومة: لقد صيرتم ما تسمونه اللعبة البرلمانية لعبة حقًّا؟ إن الشعب الذي تخطبون وده قد هاله أن يصير مجلسه ندوة ابتهارات، وسباب وشتائم. وكيف يحق لكم فيما بعد أن تقاضوه حين يخل بالأمن.
إن السكرستاني يسجد للقربان كل ما مر أمامه على أعين الناس، وإن كان يرفع الكلفة متى خلت الكنيسة من البشر. فعلى الأقل اجعلوا جلساتكم سرية متى أعددتم لها بضاعة مكتوبًا عليها (سريعة الانفجار) وإلا فلا يبقى لكم وللندوة حرمة.
إنني أتعجب كيف تجعلون قبة البرلمان كقبة العهد ساعة تشاؤون. وكيف تخترقون حرمتها ساعة تريدون؟ فأي صاحب بيت يرضى أن يفعل الناس في داره مثلما يفعل في المجلس النيابي. أليست الندوة بيت الأمة التي عنها تنوبون وباسمها تحكمون.
قد تقولون: في أوربا يفعل النواب كما نفعل، ولكن تقاليد أوربا غير تقاليدنا، ونحن لم نتعود بعد تلك الحرية.
وبالقلم العريض نقول: إن الشعب، وخصوصًا الذين يرون في النائب والحاكم شخصًا عظيمًا، لا يرضيهم هذا الجدل الرخيص … قد يعجب هذه القبضايات، أما من يحبون السكينة فلا يرضون عنه وقد أعلنوا اشمئزازهم وقالوا: إن النيابة عنهم والحكم عليهم لا يكونان في (ساحة بو علي).
إن جلستكم تلك كانت فوق التمني ولم تكن بالجلسة الكيسة.
وقد تكونون أصلحتم ما أفسدتم بعد صدور هذه الكلمة، ولكنني أقول لكم: وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟
وسؤالًا واحدًا أوجهه إليكم جميعًا: ماذا أقول للتلاميذ بعد، إذا أحدثوا ما تحدثون في كل جلسة من فوضى؟
إنني عند ذاك أعجز عن تعليمهم كما ستعجزون أنتم عن القيام بمهمتكم التي تقدسونها متراضين، وتنتهكون حرمتها ساخطين غاضبين.
هذا ما نقوله لكم عند بق البحصة وسنبقّها دائمًا إن شاء الله. أما إذا بقيت في الفم فلا نقول شيئًا، وننتظر أوامر سيادته حتى تطل عليه (قرقة) جديدة …