إميل لحود
أذكر هذه الأسطورة، ولا أذكر أين قرأت حكايتها، وهي أن رجلًا كان مدبوقًا بامرأته، وإذا فارقها ظل فكره عندها. فهو يخاف على حمامته الجميلة من الصقور والغربان، وعلى قرقورته من الذئاب الخاطفة. كانت عين تلك اليمامة شاردة، تبحث دائمًا وأبدًا عن غصن نضير لتقع عليه وتسجع، فتحوم حولها الطيور، ويقضي الزوج المفتون وقته بالمطاردة والكش.
وقعد الرجل وزوجته ذات ليلة يتسامران فتذكر الرجل ساعة الفراق الأخير فقال لامرأته: وإذا مت فكم تبقَيْن بعدي مفردة؟
فصاحت والدمعة تجول بين هدبيها: الله يبعد الموت. أي رجل يحلو لي بعدك؟! لا تذكر هذا فالتفكير به يزعجني.
فضحك الرجل وقال: ومن يلومك إذا تزوجت بعدي؟! أنت ما زلت فتية.
فصاحت: قلت لك اقطع هذا الحديث، فإذا كان الزواج للشبع شبعنا. والْتَوَتْ عليه تدفن في صدره جهشة المتباكي وهي تردد هذه الكلمات متقطعة: تحرم عليَّ الرجال بعدك.
فقال الرجل: هذا كلام فارغ … فكل ما أرجوه منك يا عزيزتي هو أن لا تعقدي حبلك من جديد قبل أن ينشف تراب قبري.
وما طال الوقت حتى كانت نفس ذاك الرجل في يد باريها، وكان الدفن. ومشت المرأة خلف زوجها إلى حفرته مذرية أغزر الدمع وهم يهيلون التراب عليه، وازداد تفجعها حين عام تراب القبر في الماء.
وراحت تزور قبره يوميًّا، صباح مساء، وفي يدها مروحة تروِّح بها على ذاك القبر فتناقلت الناس خبر وفائها لزوجها، وأعجبهم منها أنها تروِّح دائمًا فوق قبره كأنها تعتقد أن الحر يؤذي الرفات.
أما المرأة فثابرت على ذلك أيامًا لتعجل بمروحتها جفاف تراب القبر، ولما تبخر الماء وتفرق شمل تلك الرمال أيقنت أنها وفت نذرها، ثم حققت ما تمنَّاه عليها المرحوم فكانت عروسًا جديدة لعريس جديد.
هذه حالة تلك المرأة أما أصحابنا (المستنوبون) فلم يمهلوا الفقيد العظيم إميل لحود حتى يدخل باب القبر ويستريح، بل كانوا يسيرون خلفه متحدثين عمن يرشحون.
حقًّا إن عشقنا الأعمى للمناصب يعمي ويصم، ويعدمنا الذوق. أما استحى هؤلاء الماشون في جنازة رجل كان ملء العيون والآذان، أن يتحدثوا في مأتمه عمن يرشحون خلفًا له؟
ما أجرأ هؤلاء الأماثل! وما أرخص الموت عندهم! وماذا ترجو البلاد من رجال فقدوا كل كياسة؟
إن النيابة في نظر هؤلاء هي كل شيء، وإذا ماتت البشرية فبحفظ القرد.
قال المتنبي في رثاء أم سيف الدولة:
أما وداع إميل فكان أحلامًا وأماني عند هؤلاء. إنهم يشبهون بهلولًا عبقريًّا في منطقتنا اسمه ملحم. ذهب ملحم هذا إلى مناحة كبيرة في ضيعة من بلاد جبيل، وكان الأكل بعد الدفن شهيًّا وكثيرًا، فأكل حتى انبشم وقال لأهل الضيعة بعد الحمدلة: دائمًا الموت عندكم، كل يوم موتة إن شاء الله.
لا أخال هؤلاء (المستنوبين المستوزرين) إلا قائلين مثل ملحم. بل يقول أكثر من هذا، ذاك الذي يتحدث عن الخلف، في مأتم السلف وهو لم يتوار بعد … أما خافوا أن يقوم من نعشه وكم من ميت قام، وخصوصًا من الذين تأخذهم نوبات كهذه. ترى لو تمهلوا قليلًا أكان فات الفوت؟!
فيا عزيزي إميل، كن واثقًا أن قول أبي فراس: سيذكرني قومي … سوف يصح فيك. قد نجد لك ندًّا في علمك وبلاغتك ونكتتك، ولكننا لا نجد رجلًا له نكهتك وطعمك. فالرجل كالأثمار وأنت كنت ثمرة شهية في بستان لبنان.
لقد استعادتك أمك إلى أحضانها فخلا الجو بعدك لمن يبيضون ويصفرون … ولكن الفراغ الذي تركته لا تملأه النفوس الفارغة، فمن لا يستطيع أن يسد فراغًا لا ينفعه فراغ يتركه سواه. لست أعزي أهلك فكلنا لك أهل، وأنت ملك الجميع، ملك لبنان.
إن حلم من كانوا يفكرون بخلفك وهم يسيرون خلف نعشك، سيستحيل كابوسًا مزعجًا عندما يصير واقعًا. فعسى أن تخيب الأيام ظني وأرى على مقعدك من يحقق قول السموأل: إذا مات منا سيد قام سيد …
إن لبنان غير عقيم، ولكن الشعب الناخب أعمى تقوده عميان، وأعمى يقود أعمى وكلاهما يسقطان في حفرة. فمتى ترتفع الغشاوة عن الأبصار والبصائر، لنرى الشخوص كما هي، ونأخذ بيد كل منها إلى المكان المعد له؟
إن لبنان محتاج إلى المخلصين له، وما أقلهم!
مسكين لبنان، فأقصى أمانينا، أن نبني لنا بيتًا في لبنان، لا أن نبني من لبنان بيتًا في العالم. وإذا ظل اللبناني يفكر ببناء بيت سكنه قبل كيان وطنه، وفي توطيد أسرته قبل أمته، فسوف يبقى لبنان حيث هو وكما هو، نأكل خبزه ولا نضرب بسيفه.