فوضى النياشين
إذا رجعنا إلى الوراء حوالي قرن، إلى سنة ١٨٦١ قرأنا فرمانًا سلطانيًّا أذيع على الشعب اللبناني، وفيه يمتن السلطان على اللبنانيين بأنه عين لهم متصرفًا، وزيره الخطير، داود باشا حامل وسام (مجيدتي الرابع) المجيدي الرابع. ومنذ نصف قرن لا أكثر كان الموسومون في لبنان يعدون على أصابع اليدين.
ففي ذلك الزمان كانوا يقيمون الولائم والأفراح عندما يمنح أحدهم وسامًا، وفي التقليد العامي الزجلي: إن وجيهًا منح وسامًا، طبعًا من آخر درجة، فأقيمت له الحفلات الصارخة، فغناه قوال مشهور بهذين البيتين:
وقد رخم الشاعر كلمتي يوسف والفراش لتصاقب القافية.
وأذكر أنه عندما جاء الوزير فيليب ملحمه حاملًا وسامًا سلطانيًّا إلى البطرك إلياس مر على طريق البترون — مار يوحنا مارون — بين حائطين من الجماهير، من شط البحر إلى رأس الجرد. وقد أنشد الشعراء البطريرك قصائد غراء عصماء، وظل قاعدًا للمنشدين مع الوزير ملحمه ساعات حتى فات وقت الغداء وجاعت الناس.
وعرفت بعد ذلك وجوهًا وأعيانًا أنفقوا ثروة محترمة ليحصلوا على وسام ورتبة ولقب. ثم أخذت قيمة النياشين تتدهور حتى سامها أخيرًا كل مفلس أدبيًّا واجتماعيًّا.
عش كثيرًا تر كثيرًا. وقد عشنا حتى رأينا ما رآه غي دي موبسان حين كتب قصته (حامل وسام). وقد ترجمتها ليرى القارئ اللبيب كيف يكون السخر.
إن هذا الطوفان العرمرم من الأوسمة التي تذري هنا وهناك تدلنا على أن لبناننا العزيز غني بأربعة أشياء: النور والهواء، والماء والأوسمة التي تمنح بسخاء حاتمي للرائح والجائي، والمغترب والمقيم. وقد تأتي ساعة ترسل فيها الأوسمة طردًا بريديًّا كالحشيش والهيرويين … وربما جاء يوم لا نرى فيه صدرًا عامرًا غير مفضض أو مذهب. فإذا كانوا اليوم يقنعون بالوسام من رتبة ضابط فسوف لا يرتضون بأقل من رتبة كومندور أو ضابط أكبر فتمتلئ الدنيا وشاحات …
كل يريد أن يكون شيئًا مذكورًا، وحب الامتياز طبيعة الإنسان، فكان من يفوته اللحم قديمًا يشبع من المرق، أي يسكج على أوسمة بطاركة أورشليم من غربيين وشرقيين.
كانت الدولة العثمانية تعطينا العصفور وخيطه، أي الفرمان والنيشان معًا. أما دول أوربا فقلما تعطي غير البراءة، واشتر أنت النيشان — على ذوقك — من فبركة سنت إتيان. وبطرك القدس اللاتيني يمنحك وسام القبر المقدس باسم الحبر الأعظم، ولكل درجة سعر لكن بشرطين: الأول أن تكون مستحقًّا، أي مجملًا بالفضائل، والثاني أن تؤدي الثمن، والسعر محدود …
أما اليوم فيا بلاش! يكفي أن يكون وسيطك وجيهًا ولو من الدرجة الثالثة حتى تنال وسامًا وكبيرًا بلا ثمن. فأنت ترقص والشعب اللبناني يحط النقود كما يقول المثل.
لا أقول ذلك حسدًا أو ضيق عين، ولكن أسفًا على شارات امتياز امتهنت. فقلما نسمع عند جيراننا خبر منح وسام، وقل من زار ديارهم وظفر بنيشان. أما عندنا، فأول ما نفكر به لإكرام زائرينا، هو أن نمنحهم من أوسمتنا. فكأن الوسام صار كالجبن، شيخ السفرة …
وأخيرًا إني أرجو من القارئ أن يطالع بإمعان هذه الحكاية التي وضعها موبسان، وفيها يصف رجلًا مقصرًا في كل ميدان يشتهي أن يكون صاحب وسام.