ديك يصلي ليلة عيد الميلاد
ولما دنا العيد استشعرت الدجاج أن الكارثة تحيق بهم. لم ينسوا مذابح السنين الماضيات وأهوالها فرأوا أن يرفعوا أبصارهم نحو العلاء ويسألوا من بيده الأعمار أن يرد عنهم الضربة التي تنزل بهم كل عام في مثل ليلة عيد الميلاد. فعلا صياحهم ورفت أجنحتهم، فقال زعيمهم الديك المرقش: تشددوا يا إخوتي، فالفزع في مثل هذه الساعة لا يجدي، فهبوا بنا نصلي.
فقالت دجاجة أكسبتها الشيخوخة خبرة: ومتى عرفنا الصلاة حتى تدعونا إليها أيها الناسك؟! فلنقاوم ما استطعنا.
فاستضحك ديك الحبش بلهجته المعهودة، فظن سرب الدجاج أن هناك بطلًا يربح المعركة إذا خاضها. صوت عريض يرسله متقطعًا، فيخيف السامع الذي لا يعرف شجاعة الديك الرومي. ثم سكت ليعود إلى مثل تلك النغمة المزعجة فقال له الديك: وبعد هذا ماذا؟!
قل، فنحن مصغون إليك. فلم يزد على شهقاته المعهودة. ولما لم يقل شيئًا قال له الديك البلدي: تفضل صل بنا فنحن خاشعون.
فقالت دجاجة في عز شبابها: هذا تنبل. لا يعرف إلا أن يتنفش ويزهى، ويخضر ويحمر، والله لا يحب المتكبرين، المتلونين. فإن كان ولا بد فأنت تصلي لأن صلاة هذا لا يفهمها الله ولا عبيده، فصوته الكريه يجلب علينا غضب الله لا رحمته.
فشقشق الديك الرومي من الغيظ وخرج من بين جماعة الدجاج، فضحكت إحداهن وقالت: إنه هو المطلوب أولًا، فليذهب حيث شاء، وفي هذا المساء تقبض روحه إن شاء الله.
ووقف الديك خاشعًا، وطفق يناجي ربه، راجيًا أن ينجى معشر الدجاج من المجزرة: يا رب الجميع، لا تسد أذنيك عن تضرعات عبيدك الدجاج، فأنت خلقتهم ضعافًا ومن حقهم أن تحميهم، ومن للضعيف غيرك يا الله؟!
إن الإنسان الذي خلقته على صورتك ومثالك، يحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء. فأية بدعة هذه خلقها ابن البشر ليأكلنا ليلة عيد ميلادك يا رسول الرحمة. أيقول بلسانه: وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة ثم يهاجمنا ليخطف أرواحنا! أما أنت قلت: أريد رحمة لا ذبيحة؟ فما لهم في هذا اليوم يذبحوننا بمئات الألوف.
أصدقوا قول واحد منهم، زعموا أنه نبي، قال في مزاميره عن الإنسان: على أعمال يديك سلطته، جعلت كل شيء تحت قدميه، الغنم والبقر جميعًا، وبهائم البر وطيور السماء، وسمك البحر السالك في سبيل المياه.
فإذا كانت تلك مشئيتك حقًّا، فأين عدالتك ورحمتك يا رب؟ هل في مخلوقاتك من يستيقظ مثلي في نصف الليل، وعند بزوغ الفجر، وفي الصباح ليسبحك ويتهلل ممجدًا عظمتك وجبروتك؟
أما أنا الذي نبهت بطرس كبير تلاميذك وأعدته إلى حظيرتك بعدما جحدك، فصار رأس تلاميذك، وعليه بنيت بيعتك؟
يدعي الإنسان أنه يحب الجمال وهل هناك أجمل مني؟ تاجي عقيقي، ومنقاري زمردي، وثوبي مخطط مقلم لم تلبس عروس أجمل منه فكيف يستحلون ذبحي؟
يقولون: إنهم يحبون الموسيقى، وهل هناك أروع من صوتي في ظلمة الليل. أما أنا الذي أبشرهم بالصباح، والصباح أمل ورجاء؟
أراض أنت أيها الحمل الوديع، عن هذه المجازر التي يستقبلون بها ميلادك كل عام؟
أهكذا يصيب من لا ينسى مواقيت صلاته مرة، فكأنه ناسك. قلت: ناسك، عفوًا، فهؤلاء النساك أيضًا لا يعفون عن دمي، كأنما عيدك عيد ديوك ودجاج ليس أكثر، وإذا لم يتمتعوا بلحومنا فلا يكون العيد على حقه.
وزاد في طين بلايانا بلة هذا البابا نويل. إنه حيث يمشي تدب الرعبة في قلوبنا فما هذه المساخر يا رب؟! أليس الأفضل والأجدى أن يعملوا عملًا واحدًا صالحًا بدلًا من هذه المظاهر التي ليست من العيد في شيء؟
عجيبة هذه البدع، الديوك لعيد ميلادك والبيض لعيد قيامتك، وأنت حمل الله الحامل خطايا العالم، أفلا تلهم هذا العالم أن يكف يده عنا وترتاح أنت من حمل خطايانا؟
يا رب، ما لنا غيرك في ضيقتنا، فاسمع صياحنا واستجب طلباتنا، أفلسنا نحن صنع يديك؟ يقولون: الابن سر أبيه، فكيف خرج هذا الإنسان، المخلوق الذي صنعته على صورتك ومثالك وليس فيه ذرة من حنانك ورحمتك؟!
إنه أناني يستمد أفراحه وملذاته من آلام غيره، فإذا أنت لم تنجدنا ظللنا ضحاياه إلى الأبد. فإليك نتضرع فارحمنا يا رب.
غدًا تمتلئ بطون الناس من لحومنا، وتنقطع ترانيمنا التي نسبحك بها كل حين، أفلا ترحم من يمجدك ليلًا نهارًا؟ وعلى كل حال إن رحمتنا أم لم ترحمنا فنحن لسنا كالبشر الذين يجحدونك في بلاياهم، ولا يذكرونك إلا حين تنعم عليهم.
كانوا فيما مضى يأكلوننا بعد قداس نصف الليل، واليوم غيروا الشريعة فصاروا يقدسون ساعة يريدون: في العصر وفي المساء وفي السهرة، فلماذا لا يغيرون عادة أكل الديوك ويريحوننا؟!
كأنهم لا يصبرون على الأكل لشراهتهم، فحللوا ما حرموه تسعة عشر قرنًا، عدلوا طقوسهم على هواهم وبقينا نحن قرابينهم.
مساكين نحن الدجاج، إننا لا نؤذي أحدًا حتى الذين يقبضون علينا ليقطعوا رقابنا. أهكذا تكون الأعياد على الضعاف الذين لا حول لهم ولا طول؟ فليِّن يا رب قلب ابنك المدلل.
ارحم يا رب عبيدك الدجاج.
فقوقت الدجاجات إعجابًا بفصاحة الزعيم، ووثقن بدنو الفرج القريب وسلامة الديوك من الذبح، لأنه يعز عليهن فراقهم. بيد أن تلك الآمال قد خابت، وما جاء المساء حتى كان في كل قن مجزرة، وأصبحت الدجاجات أرامل وإن لم يلبسن الحداد.
كنا في ذلك الزمان نصوم اثني عشر يومًا منتظرين هذا الديك الشهي، أما في زمننا الحاضر فنأكل ديوكًا ولا نصوم. كانوا يسمون الأيام الاثني عشر الصوم الصغير، ولذلك كانت ضحيته ديكًا، أما اليوم فيأكلون ولا يصومون. وإني لأعجب من هذا الديك الذي صلى يسأل ربه أن يرفع يد الإنسان عنه وعن بني جنسه، ترى أفاته أن هذا الإنسان يذبح إخوانه ولا يرحم أحدًا.
إن رسالة البشر رسالة بطون، وعبثًا يتعب إخوان المعري أن يردعوهم. أما الحيوانات الداجنة فقد ظلمتها الحضارة، فلو بقيت آبدة لنجا أكثرها بجلده وريشه، ولكنها جاورت البشر فصارت في متناول أيديهم فقصرت أعمارها، وما أشبهنا بها نحن البشر في خنوعنا!
إن تضرعك أيها الديك لا ينفعك شيئًا لأن الإنسان لا يفهم إلا شريعة القوة، وما زلت ضعيفًا فهيهات أن تسمع صلاتك.