صاحبنا الصيف
إذا كان الربيع عطرًا وزهرًا وجمالًا، فالصيف جمال وعطر وثمر. هو أرحب الفصول صدرًا ودارًا، وأوسعهم بساطًا، وأغزرهم مادة تهب الحياة، ولذلك جاء في المثل: الذي لا يصيِّف لا يشتِّي. فكأن هذا الفصل طبيب يمنحك مع علمه الدواء والشفاء.
أجل، إن الصيف مأدبة الطبيعة الكبرى، وحسبك أنه حاز أكبر شهادة من أكبر من يهمه بطنه، وهو ابن الرومي، القائل:
مع أننا نحن نقول: أيلول طرفه بالماء مبلول. لقد صدق المعري حين قال في إحدى قصائده:
وإذا اشتاق ابن الرومي ليحلِّي أضراسه، فأبو الطيب المتنبي لم يحن إلا إلى الشميم، فبعدما وصف صيف لبنان الصارم في شتائه الكافر:
عاد يقول في مجال الغزل:
وإذا هجس أبو الطيب بالجمال الأنثوي، فأبو نواس لا عروسة لشعره غير الخمرة، فقال فيها:
يقول المغني: كلنا يحب القمر. ونحن نقول: كلنا نحب الصيف، فأولادنا يترقبون قدومه لتطلق المدارس سراحهم، فيسرحوا ويمرحوا. يحتالون للعصافير بالدبق، وللحجال بالمطاردة، ويتمتعون بما في الرحلات من جمال وأنس. يطوون الكتب ليفتحوا كتاب الطبيعة الأسمى يقرءون فيه سطور الجمال الرائع والحسن البديع. فالصيف يعتق الناشئين من عبودية النظام، وهم ينتظرون مقدمه انتظار العاشق الولهان. أما المدني فيطلق عمران مدينته وما فيها من ترفيه اصطناعي ليتمتع بمحاسن الصيف في الجبال العالية، حيث تبدو له المناظر التي كان يراها على الشاشة البيضاء ولا يهفو قلبه لها إلا بمقدار ما تهيجه الذكرى.
هؤلاء هم التلاميذ. أما أهل الدساكر والدارات فينتظرون الصيف لتدر لهم بيوتهم المال ويدفعون ما عليهم في الآجال، والفلاح ينتظره ليبيع بعض غلته ويوسع بثمنها على أهله وبنيه.
أما العذارى فلهن في الصيف أمان وآمال. ومن يدري، فالدنيا قسمة ونصيب، وكما تفيض خيرات الصيف في كل مجال فقد توفق هؤلاء إلى طلاب أيدي فيظفرون بشريكة حياة تنتظر ابن الحلال. حقًّا إن الصيف فكاك المشاكل.
السائح في لبنان يصادف الناس في الصيف فرادى وجماعات حول الجداول والينابيع، وتحت الأشجار حيث يقيلون ويبيتون. وإذا سرح النظر تبدو له العرازيل والخيام، فالناس يهجرون البيوت لينعموا بنسمات الهواء الطلق. وإذا لم يستظلوا الأشجار الوارفة خرجوا إلى مصاطبهم ونصبوا أسرتهم فوق سطوحهم، ولعله من هنا جاء قولهم المأثور: بساط الصيف واسع.
وأي بساط أوسع من أن يكون العنقود مدلى فوقك، وأوراق الكرمة تظللك، والتينة حدك، والتفاحة والإجاصة على مقربة منك وفي متناول يدك، فما تكلف نفسك عناء كبيرًا. ما عليك إلا أن تمد يدك ولا بأس عليها إذا كانت غير طويلة، فالتينة هين غمز جانبها، وليست كما قال الحجاج عن نفسه. فإذا كان أبو نواس رأى صورة العريشة في كنيسة ما وجنَّ بها حتى قال في وصفها ما قال، فما تكون حالك أنت؟ لا شك في أنه يمر ببالك، حيث تمر في هذا الجبل، وتشاهد العرائش مجلوة كالعرائس، قول ابن الرومي في وصف العنب الرازقي:
فلا بدع أن رأينا اللبنانيين أشد العالمين هيامًا بفصل الصيف؛ لأنهم تجار بلا رأسمال. رأس مالهم نور وماء وهواء، وثمار يقدمها الصيف بسخاء. فيا لله ما أعجب كرم الطبيعة الخيرة! يقولون عندنا: في الصيف المئونة على العود، وأنا أعرف الكثيرين من القرويين الذين يعيشون على الثمار صيفًا، ومنهم من لا يذوق طبخًا ولا خبزًا. إن الصيف حبيبهم المفضل ومثلهم، يبين لي ولك، مبلغ حسرتهم على انقضاء الصيف إذ يقولون: لو كان للصيف أم بكت عليه.
ولولا كرم الصيف وتوسيعه على الناس لما سمعنا المثل العربي القديم: في الصيف ضيعت اللبن. أما حكاية هذا المثل فهي: كانت دختنوس بنت لقيط تحت عمرو بن عدس فكرهته لأنه شيخ. والغواني كما قال الأخطل التغلبي: فما لهن إلى ذي شيبة وطر. فطلقها وتزوجها فتى، جميل الوجه، وكان ذلك في عز الصيف. ولسوء حظها أجدبت تلك السنة فبعثت في الشتاء إلى زوجها الأول تطلب منه حلوبة حين زمجر الشتاء، فقال يوبخها ويلومها: في الصيف ضيعت اللبن: كما قال النابغة يلوم عروسة شعره:
قد يخال القارئ أن لا عمل للقروي في الصيف غير الأكل والشرب والنوم. يظن ذلك حين يسمع المطرب الأشهر عبد الوهاب يغني بصوته الحلو: يا محلى عيشة الفلاح. أما الحقيقة فلا. إن فصل الصيف عمل دائم لا انقطاع له، فهو فصل الجمع والادخار، يبدأ بالحصاد وينتهي بقطف الأعناب وعصرها، وإعداد التين للخزن مع الزبيب والجوز واللوز وما أشبه من نقل الشتاء في الليالي الثرثارة.
ينتهي جهاد حبة الحنطة في أول الصيف، ولكنها تنتظر جبهة ثانية. الطحن والخبز وآلام النار وأوجاعها، ثم العودة إلى بطن الأرض لتحيا من جديد وتحفظ نوعها الذي هو قوت الإنسان.
كانت دودة القز تنشر الحياة في القرية في أيام الربيع، أما اليوم فلم يبقَ للبنان فصل تدب فيه الحياة غير الصيف. إن كل المواسم فيه، ما عدا موسم التزحلق الذي ولد جديدًا، فكان طفلًا ميمون الطالع على أهل الجرود حتى استأنسوا بإخوانهم الوافدين على أرضهم من كل فَجٍّ عميق. أما الصيف فأرحب وأسهل، فلا هواء يقرصك، ولا برد ينقض عليك، وإذا لم تجد السرير نمت على الحصير وأنت ناعم البال تغني يا ليل.
هذي هي نعم الصيف علينا نحن أهل القرى، ففي الصيف الشمس، كانون الله الذي يدفئنا. ومن حسنات الطبيعة أن المريض المأيوس يعلل نفسه بآمال الشفاء في هذا الفصل الخيِّر، فالوجوه تضحك فيه بملء أفواهها، حتى إذا ما انقضى وبدأت أوراق الشجر تتناثر عبست تلك الوجوه الضاحكة ودب الذعر بالنفوس.
يظهر أن الإنسان يحب بطنه كثيرًا؛ ولذلك لا يثني إلا على من يطعمه من جوع. فما مدح الشعراء إلا الكرماء، وما تَغَنَّى بوصف الربيع غير شباب الشعراء، وما كان للخريف حظ إلا من شعر المتشائمين.
أما الذي يعيش على الأرض فكل آماله معقودة على فصل الصيف ليعبئ مئونته حين تندر المئونة في الحقول والبراري.
وإذا لاحظنا النملة رأيناها لا تهدأ صيفًا، بينَا لا نرى لها صورة وجه في الفصول الأخرى، فكأنها والحب على ميعاد، تدخر بلا توان ولا تبالي بالمشقة لتستريح بعدئذ. والقروي اللبناني مثلها يجمع في الصيف كل شيء حتى الحطب، وتنتهي رسالته حين يبيت الزيتون والزيت في الخوابي. وإذا كان من سكان المنطقة العالية، يقبع في بيته طول فصل الشتاء كما تقبع البزاقة في حلزونها، ويسكر بابه كما تسد هي باب قمعها. إن الجبلي والبزاقة على طرفي نقيض، فهي لا تظهر حين تسمع حس المطر، وهو ينتظر سقوط الثلج ليتوارى ويقعد حد موقدته يحلم بمواسمه العتيدة. لقد دفن الحبوب على رجاء القيامة، ومن كلامه المأثور: التعب علينا والطعمة على الله، والذي كتبه ربك يصير.
الذي لا يصيف لا يشتي هي من أقوالهم كما مر في بدء هذا المقال، ولكنهم يعنون أيضًا غير المعنى السابق، أي إن الذي لا يكد صيفًا لا يستريح شتاء. فالشتاء ولادة، والربيع فتوة، والصيف عزم وحزم وقوة، والخريف شيخوخة وهرم، وقد أدرك أبو تمام سر البقاء من نظره إلى الربيع الذي قال في وصفه:
إن الربيع هو ابن الصيف، فما ينضجه الصيف من ثمار يعيد الحياة سيرتها الأولى، فكأنها بعث موقت يحيي في نفوسنا الأمل بالبقاء. فبورك الصيف عبدًا أمينًا مؤتمنًا على حفظ النوع، يعيد إلى الأرض ما أخذ منها لتدور الحياة دورتها الدائمة.