كوافيرنا
يطالبنا نفر غير قليل بالعودة إلى معالجة الشئون الاجتماعية الأخلاقية التي هجرناها مدة، مع أنها أولى بعنايتنا لأنها حجر الزاوية في صرح المجتمع، فالإصلاح الجذري الذي ننشده ونتغنى به دربه من هنا. فإذا استصرخنا الضمير الإنساني وأيقظناه أمسى الإصلاح ممكنًا، وإلا فلا أمل ولا رجاء.
إن ضميرنا السياسي مخدَّر لا يحس ولو ثقبناه بمسمار … وقلمنا كَلَّ وجف فلم يعد يؤثر بهذه الجلود المتمسحة. قالوا: الحياء بالنظر، وأصحابنا يرون الشذوذ العنيف كأنهم يرون القاعدة المثلى التي ما ضل صاحبها ولا غوى. لا يتورَّعون عن وضع القوانين طبقًا لأشخاص معينين حتى إذا ما أجلسوهم في حضن إبراهيم، أو هووا بهم إلى أسفل سافلين، عادت تلك القوانين إلى قواعدها بعد أن قوضت ما قوضت ودكت ما دكت.
اجتهادات وحيل على القانون تجعل الأسود أبيض، والصيف شتاء على سطح واحد. إن صاحب الحق عندنا مقهور، ومن منا يجهل من يقهره! تقهره الوسائط والشفاعات التي لا يترفع عنها أحد من أصحاب النفوذ، فالتجئ إلى من يشد أزرك من رؤساء دين ودنيا واحمل منهم كتبًا ووصايا تشهد ببراءتك تفز غصبًا عن رقبة القانون، ولإرضاء هؤلاء المتاجرين باسمه تعالى تكون الدولة كبش المحرقة، كما يكونون هم تيس الخطية ومن يتمسح بهم يبرأ من ذنوبه وخطاياه. شهادات زور يؤدونها وهم لا يعرفون شيئًا من أسرار القضايا التي يتدخلون بها، غير مبالين بالشكوك التي أتت وتأتي على يدهم.
كانوا يقولون ألسنة الخلق أقلام الحق، والأصح اليوم أن نقول: أفلام الحق، لأن التمثيليات التي تعرض على مسرح العدالة خداعة كذابة. ولعل هذا هو الذي حمل شبلي الشميل، الفيلسوف الاجتماعي اللبناني على القول: رأيت الغني الشبعان يبلع الجمل ولا يتستر، والفقير الجوعان يتلصص لسرقة الرغيف الأسمر، والقانون يكافئ ذاك برفع القبعات، ويعاقب هذا بالسجن سنوات …
كما قال جبران في مواكبه:
أجل هذا هو واقع الحال. فسارق مئات ألوف الليرات يتنقل كالطاووس من بنك إلى بنك يتفقد ودائعه، ويمشي في الأرض مرحًا، وسارق الاثني عشر ألف ليرة نزعج أنفسنا لنقبض عليه في مصر والسودان ونعيده مكبلًا بالحديد.
وماذا تريد منا أن نقول بعد هذه الصراحة كلها، ولكن هل من يسمع؟! هل من يستحي؟!
إن السارق الصغير أقل من حمار لأنه لا يستطيع أن يطير برزقه، ولا أن ينقذ نفسه. فميزانيته ضعيفة لا يستطيع أن ينفق منها ما تشترى به الضمائر. أما أبطال الصناديق والخزنات ففي مكنتهم أن يرضوا ويسترضوا، فتخرج (الدعوى) من باب شرقي، والعدالة لا تزال قاعدة في قاعة الانتظار، تندب حظها وسوء مصيرها.
لقد خاب الأمل بمن رجونا عدالة على يدهم. لقد استعجلنا الحكم عليهم، فهللنا وكبرنا ولم نتعلم من الدرس الذي ألقته علينا الأيام. لم نتمهل حتى نرى ما يكون من صدق الآية: أعداء الرجل أهل بيته.
عفوًا لقد شط القلم ورحنا نشكو من الألم، مع أننا قلنا فيما مضى: إننا سئمنا تحديث من لهم آذان ولا يسمعون، ولهم أعين ولا يبصرون، ومن أصلك عوجا يا عوجا. كنا نقول فيما مضى: عوجا من سطمبول، أما اليوم فسطمبول صارت عندنا.
أرأيتني كيف أحاول الخروج من ذاك الموضوع، من كلام لا فائدة منه، فلنعالج إذن آفة من آفاتنا الاجتماعية، ونصب عليها سخطنا.
إن هذا الكذب الذي نسميه وعدًا لهو شر آفاتنا الشرقية، فالشرقي أسرع ما يكون إلى (نعم) وأبعد ما يكون عن الوفاء بوعده.
إن كلمة (تكرم) على رأس لساننا، ولكنها كلمة مقولة لا خير يرجى منها. قال الله في كتابه العزيز: مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قال ليحثنا على الصدق والوفاء بالوعد ولكن الإنسان كان كنودًا. والمثل العربي كما ورد في مقامات الحريري: أنجز حر ما وعد، وسح خال إن رعد، يرينا ما للوعد من شأن عظيم في مسير الحياة. فالوعد هو تلك القطرة الدرية التي تتعهد زهور الأماني فتفتر ثغورها، وهو روح محيية تبعث ميت الأمل الثاوي في الصدور، فكم أحيت من نفوس خنقها اليأس أو كاد يدفنها في غيابات قبور القنوط! وكم لمت من أشتات أماني لعبت بها رياح الخيبة والفشل، فبددتها كما تتبدد أوراق الخريف في يوم عاصف! إن الوعد هو ذلك الوثاق المحكم الفتل الذي يربط السواعد بالموعود، والحجة التي يخطها لسان الكريم ويسجلها بمحكمة الشرف والشهامة، فيصبح الوفاء بها واجبًا عليه.
وما الوعد غير كلمة بسيطة يلفظها الإنسان فتكون قبل النطق بها نافلة، ثم تصبح بعد ذلك فرضًا، من فاته قضاؤه فاته من الشهامة والكرامة شيء كثير. وقد كانت العرب تعد الرجل ساقطًا دنيئًا إذا خلف بوعده. وإنه لكذلك، وذاك لأنه يكون مخيرًا في تقييد نفسه بهذا القيد الذي لا تفكه غير يد الوفاء والصدق وقد قال شاعر العرب:
والمثل يقول أيضًا: وعد الحر دين. نعم إنه أكبر الديون، ومن قضى هذا الدين سما وارتفع لأنه يقضي بذلك واجبات الإنسانية ويصون مقامه وكرامته. والرجل الرجل هو من نظر وافتكر فيما وراء قوله: سأصنع كذا. حتى إذا تأكد أنه مستطيع وعد على نية الوفاء، وإلا فلم يضع هذا الغل في عنقه ويحمل نفسه أثقال المطالبة فيتوارى خجلًا وحياء عند مرأى الموعود؟ إن الوعد الكموني شين للكرام، وقد وبخ بشار بن برد ممدوحه بقوله:
وهذا المثل العباسي لا يزال على ألسنتنا فنقول: أسقيك بالوعد يا كمون.
وأولى الناس بوفاء الوعد هم الرجال لأنهم إذا تقاعسوا عن وفاء وعودهم حطوا من كرامتهم وجنوا على نفوسهم واستمطروا عليها دعاء الخائب الذي قيدوه بخيط الرجاء الواهي، وتركوه مدلى فوق جب من اليأس تقلبه رياح المطل كيفما مالت، حتى إذا ما قطعته، سقط ذاك المسكين في هوة الخيبة لاعنًا من زين له الأماني.
من لا يذكر منا كافورا الإخشيدي والمتنبي الشاعر العظيم؟ فإنه بعد ما مدح صاحب مصر ببيت، لو تمثلنا الشعر العربي، لكان هو بيتها:
ولما توارى شيخ الرجاء وتقلص، ولم يرجع الشاعر الهائم بحب الولاية ملكًا للعراقيين، عاد فهجا كافورًا هجاء مرًّا، وذلك بعد ما يئس من نيل تلك الوعود الطويلة العريضة التي أسكرته سورتها وجعلته يحلم بالأماني فيطيعه الشعر. وانقضت تلك الهجعة الطويلة وتبددت أحلام الشاعر الذهبية فراح يعير الرجل بسواده الذي تخيله مسكًا حين منَّاه، ولما ذهبت غشاوة الأماني عن عين الشاعر لم ير في كافور إلا ماضيه القاتم فقال فيه:
صدقت يا أيها الشاعر! وهذا جزاء من يخلف الوعد. يا ليت لنا لسانك لنهجو (كوافيرنا) الذين يشيدون لنا قصورًا شاهقة من الوعد، ولكنها مبنية على رمال الغايات ودون الوصول إليها عقبات من المطل والإخلاف لا تمهد.
فما أكثر وعود ناسنا وأقل إنجازها! يعدون ولا يضربون للوفاء أجلًا مسمى، ولكنهم يأخذون يتقاذفون الموعود من حين إلى حين. ويكثر عندهم في هذا المجال استعمال السين وسوف، وينورون ظلمة وعودهم بكهرباء الآمال فيأتي الموعود عند كل أجل يقذفه تيار الرجاء بنيل المرام، ولكنه يعود من حيث أتى ظافرًا بالتسويف. وهكذا يظل يجيء ويروح معللًا نفسه بالفوز وهيهات أن ينال مرامًا. يجرعونه من المطل كئوسًا أمرَّ من العلقم، يفوز منهم بحلو الكلام وينام على فراش من ريش النعام، ولكن يقظته تذهب بحلاوة الأحلام. ولطالما ذابت روح بهاء الدين زهير اللطيفة وتشكي فؤاده الرقيق آلام المطل حتى أنشد هذه الأبيات التي ترسم لنا صورة كل موعود وما يقاسيه من أوجاع الخلف. قال:
وقد سمعنا أبا فراس يناجي ليلاه، بعد ما أعياه الصبر، قائلًا:
نعم أيها الشعراء قد أصبتم، ولكن قل من يعير أقوالكم آذانًا صاغية، بل قل من يسمع لواجب الوفاء نداءه، وللموعود أنينًا يتصاعد من وراء جدران الحسرات الغليظة. لقد أصبح قومنا يتركون من يعدونه مطروحًا على حضيض الاصطبار متقلبًا على شوك الانتظار، يقاسي مضض الوعد ويتنازعه عاملا اليأس والرجاء. فما أحراكم أيها الرجال لو دققتم في وعودكم ووضعتم لها حدًّا! ألا تعلمون أن العار عليكم إذا سوفتم وما وفيتم، وليس إذا قلتم: صنعنا ما قدرنا عليه ولم نقدر. فيعود الرجل شاكرًا ملتجئًا إلى سواكم ويتدبر أمره، والله لا يترك أحدًا.
وما أحرى ذلك الرجل الذي يملأ الدنيا وعودًا عرقوبية أن يصنع ما يريد صنعه من دون أن يمني الناس بوعوده التي أرادها دليلًا على مروءته فإذا بها تنقلب شهودًا على انحطاطه إذ يخلف وعده!
فكم من الذين عادوا أصحابهم لأجل كلمة نعم التي كانت تنوب عنها كلمة لا، ولكنهم قصدوا بها توثيق عرى الصداقة والمحبة فخاب ظنهم! لا شك في أنها توطد أركان الألفة إذا وفى الواعد ولكنه إذا أخلف فلا يرى غير صدور تنقد فيها نار البغض والحقد عليه، وقد قال المثل: وعد بلا وفاء عداوة بلا سبب. وما أجمل الكريم الذي إذا قال فعل!
ومن يحاول صنع جميل مع رجل فلا يليق به أن يحمله من أثقال الصبر جبالًا، بل عليه أن يقضي له حاجته فورًا، أو يضرب أجلًا يفي به بوعده، ولا يعلله بكلمة رح وتعال، ويظل يمنيه هكذا حتى يوم القيامة.
ويا ليت قومنا يفكرون بما تجره عليهم كلمة نعم قبل أن يطلقوا سراحها، لأنها وإن تكن في أول عهدها أسيرة سجن الفم، فلا تعتم أن تصير حاكمة على الكريم، إن رقد في الظلام تخيلها مسطرة بأحرف نارية على حيطان غرفته، وتزداد كبرًا متهددة تلك الغرفة بالاحتراق إذا لم يطفها بماء الوفاء. وخير الناس من أنجز وعده ولم يترك لأحد مجالًا ليردد على مسامعه: أنا الغني وأموالي المواعيد.
كان القدماء يقولون: وعدناه فلا بد من الوفاء. أما اليوم فيقال: قذفناه.
نعم يا سيدي قذفته، أحسن الله حاله، ولقاك المخلفين الكذابين ليأخذوا بثأره منك. ألا تعلم ما قيل: وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتعليل، فكيف رضيت أن تكون لئيمًا؟! ألم تسمع أيضًا: العذر الجميل خير من المطل الطويل؟ فلماذا لم تعتذر؟
التقيت برجل من أبطال المعارك الانتخابية، وزعماء السياسة القروية، فسألته عن ابنه تلميذي ماذا يعمل، فابتسم وقال: (موعودين) وتكرر لقاؤنا وكررنا السؤال فظل الجواب كما كان، وقد شب الفتى وشاب، ولم يدخل الكتاب ليجلس على كرسي موسى.