أوانسنا وعوانسنا
دعيت فلبيت، فإذا أنا في بيت ينطح الجو، تضيع في بهوه الضيوف مهما كثرت، وغرف رحيبة يضاحك بعضها بعضًا عن بعد، وقبل أن نبلغ المقام استقبلنا السيد والسيدة وعرفانا بأولادهم، فإذا هم خمس بنات لهن أخ واحد، فقلت في قلبي: صبَّر الله قلب هذا الرجل، فمن أين يفبرك لهؤلاء الشابات عرسانًا؟! ومن يجرؤ أن يتقدم، إذا لم يكن قادرًا على هذا الحمل الذي يقطع الظهر، فهن لا يرضيهن إلا السري الأمثل، والمثري كأبيهن، وهؤلاء قلائل.
وجلسنا وجلس معي في زاوية قَصِيَّةٍ من الدار واحد عرفني وما عرفته، فشق الحديث بدون كلفة وقال: كيف رأيت هؤلاء العرائس؟
فقلت: وهل حسبتني أفتش عن عروس؟! أنا أرمل دهر لا شهر، كما قال العوام.
فأجاب: إن لم تكن لك فعندك أولاد، تفرح منهم إن شاء الله.
فقلت: الذي هو مثلنا يصلي لربه صباح ومساء: أعطنا خبزنا كفاف يومنا، ويعيش على رجاء قيامة عرق جبينه الذي يقبره في تراب الأرض، لا يخاطر بحياته وحياة بنات الناس …
فقال: وأية مخاطرة؟! كل واحدة منهن معها مليون.
فقلت: لا توجع قلبي بحديث الملايين، فذات المليون تنفق بلا حساب، ومن ينفق بلا حساب لا يعلم مصيره إلا الله. فليتزوجها من يريد أن يكون خادمًا لها، ولمليونها.
وجاءنا ثالث فقطعنا الحديث، وقضينا السهرة في أحاديث تناسب المقام. لا حاجة إلى وصف كرم المضيف ولطفه وبشاشة عقيلته، وتكلف بناته الظهور بمظهر النبل المبجل، وإن دلت حركاتهن على أن إياهما من الأوادم الطازة، ثم انصرفنا وكلنا ألسنة شكر على كرم البيت، وتحدثنا عن الثروات المفاجئة التي تنبت كالكمأة في السنين الملائمة، فبينما الذي كان يشتهي العضة بالرغيف إذا به يعوم في المحيط الأطلسي.
وبعد سنين التقيت بجليسي في تلك السهرة فذكرني بها، فقلت له: والبنات؟
فأجاب: هن في البيت.
فقلت: بيتهن أستر لهن. ومن يجرؤ على اقتحام هذا الحصن المنيع؟! فالبيت الذي يستقبل هاتيك التصاوير الزيتية الناصعة الدهان يجب أن يكون كاتدرائية.
قال الأخطل في خمرته القديمة العهد:
أما العانس فلا نجد من يشتريها بفلسين. لقد أغلوا السعر في أيام العز ورواج السوق، فبقيت البضاعة في واجهاتها وعلى رفوفها تنتظر من يسومها. وهكذا تحفل البيوت بالعوانس، ولا أمر من عيشة بنت تعنس وتبقى في بيت أبيها، فمن المسئول يا ترى عن هذه النكبة الاجتماعية؟
إنها تربيتنا، فالبنت التي هي من هذه الطبقة لا تعرف من البيت غير غرفتها والصالون، ولا تدخل المطبخ لئلا تؤذي رائحة الطعام عطرها المختار، ويعلق شيء منه بذيولها. ثم من أين لها الوقت، وهي لا تستيقظ إلا في الضحى، ولا تخرج من غرفة زينتها إلا صلاة الظهر، ثم تتغدى وتنام لتعود إلى التزين مساء، ثم تنتظر لأنها على موعد مع أترابها للتسلي بدق بريدج العشاء والسهرة الراقصة، أو الذهاب إلى السينماء.
وبعد السينماء يدور لعب البوكر حتى مطلع الفجر، فكل لياليهن ليالي قدر (بعيد الشبه).
ومن يرى هذه المشاهد كيف تحمله رجله أو يتجرأ على دخول هذه البروج الحصينة؟! وإذا رأيت في يد البنت كتابًا فلا يكون إلا رواية غرامية من العيار الثقيل، فكأنها خريج كلية حقوق يعمل (الستاج).
وهب أنه تقدم لخطبتها شاب أعمى القلب لا يقدر العواقب، فهناك البلاء وشروط المسكوب على السلطان.
سيارة كاديلاك موديل السنة الحالية، وشوفير مثل ياور سلاطين بني عثمان، وماشطات، وطاهيات، وغاسلات، وألف ضربة سخنة، في قصر من قصور ألف ليلة وليلة.
وقبل أن تكرر الزيارة لا بد من الإقدام على الخطبة، إذا ملأت عينها، وما هي الخطبة؟
خاتم برلنتي، سوليتر لا تقل حبته عن عشرة قراريط، وقرط مشلشل بالألماس، وعلبة تواليت تستحضر من باريس، وغير ذلك من التحف وليس على الكريم شرط.
وإذا تم النصيب فلحفلة الإكليل شروط، فبنت فلان ليست أحسن منها. كان في عرسها الحكام والصحفيون ومعهم المصورون، وكللها صاحب الغبطة وعلى رأسه التاج المرصع، وفي يده العكاز الذهبي، وكان شهود عقد الزواج فلان وزوجة فلان، فهي لا ترضى أقل من ذلك.
أما العرس فلا تكون حفلته إلا منقطعة النظير تذكر بحفلة زواج المأمون من بنت بوران. يجب أن تكون الهدية لكل مدعو في علبة من الفضة الخالصة، والشرط الأول ألا يذهب أحد من المدعوين بلا علبة لئلا تحكي الناس بحقنا.
بقيت ثياب العرس فهذه يجب أن تصنع في باريس، وتكون من أنفس قماش وأحدث موديل، ويجب أن ترى هي تصميم الزي وإذا اقتضى أن تسافر إلى باريس فلا مانع.
عفوًا نسينا فرش البيت. فالسجاد العجمي تحصيل حاصل، ولكن القياس، كل غرفة وسجادتها على قدها، وكذلك الدار والمائدة، أما الموبيليا فعلى العريس أن لا يبقي شيئًا عتيقًا في بيته بل يجب أن يكون كله (مودرن) وينظمه مهندس مختص. ثم لا يشتري إلا أغلى ما في السوق، وإن كان من طبقة عليا فعليه أن يوصي عليها في أوروبا حتى لا يكون لها نظير في البلد.
هذا ما تطلبه البنت. وإذا كانت مفتحة العينين، أو من اللواتي منَّ الله عليهن بشيء من الرحمة والحياء، فهناك أمها. إذا رضيت البنت فأمها لا ترضى، تعلمها الدرس اللازم يوميًّا: خذي حذرك، لا تقبلي بإنقاص شيء مما ذكرته لك. تلقي عليها المحاضرات ليل نهار خوفًا من أن تنسى شيئًا. وإذا قبلت البنت بعرس مختصر مفيد، ولم تسخ نفسها عن مال يذهب هدرًا في يوم عرس، فالأقارب والجيران والأصحاب والمعارف لا يرضون عن الاختصار. وهكذا يصح قول المثل: لا عرس بدون قرص. وإذا لم يسمعوا الكلمة وبخوهم قائلين: عيب عليكم! بنت فلان ما هي أحسن من بنتكم وأبوها ليس أغنى منكم، وعريسها دون عريسكم، ومع ذلك عملوا لها عرسًا غنى له الحادي بالوادي.
أما شهر العسل فحسابه في رأس القائمة، وقد يليه شهر دبس.
حقًّا إن مشكلة الزواج من أعقد مشاكل هذا العصر، فالشاب يراه قيدًا ثقيلًا، فيتهرب منه ما استطاع، ويظل يماطل فيه، ويؤجل حتى يلم برأسه الشيب ذاك الضيف غير المحتشم. وإذ ذاك يفتش عن أنثى تلمه، بل فلنقل عن ممرضة.
والفتاة في تشددها وفحصها العريس بالمكروسكوب: هذا طويل وهذا قصير، وهذا أسود وهذا أبيض، وهذا غني ولكنه غير متعلم، وهذا متعلم ولكنه فقير، فإذا مرض فماذا يحل بنا؟ تحل بها قاصمة الظهر وتبقى عالة على بيت أبيها.
إن هذا التشدد وتلك المطاليب تعرقل السير. فاتكلوا على الله لا على ثروة العريس ولا على مال العروس، تأملوا بالطيور كما قال المسيح: فهي لا تزرع ولا تحصد وأبوكم السماوي يقيتها.
ما رأيت في حياتي حيوانًا مهمًّا ولا رأيت بهيمة ماتت من الجوع. إن الاتكال على الثروات يهدم اللذات، والهم مرض من ليس به مرض. إن تربيتنا الناعمة لبناتنا هي سبب بقائهن في البيت. نخاف على أيديهن الرخصة أن يخشن ملمسها فلا ندعهن يعملن عملًا، فيدخلن بيوت الناس وكأنهن غريبات لم يسمعن قط بشئون البيت، فلا طبخ ولا نفخ. ولا نذكر التنظيف بأيديهن لأن هذا يسقطهن من عين من يراهن يكنسن أو يغسلن أو يشطفن أو يطبخن.
قيل لي: إن أغنياء الألمان كانوا يتبادلون بناتهم ليعودوهم على العمل البيتي كله. فبنتك تخدم في بيتي، وبنتي تخدم في بيتك، ومتى أتقنت كلٌّ منهما العمل تعود إلى بيت أبيها، حتى إذا تزوجت تصلح أن تكون ربة بيت، ولا يصح فيها قول الشاعر الشعبي، عمر لزعني:
إن تربيتنا من هذه الناحية ناقصة، فالرجل عندنا يكون عنده دزينة بنات ويستعين بالخادمات لأن الشغل في نظرنا عيب، ولا يليق ببنات البيت الشبعان. قلما تجد في أميركا خادمات ملازمات البيوت كما هي الحالة عندنا. فالخادمة تأتيك ساعة زمان، وفي وقت معين، فكأنها أستاذ في جامعة يوزع ساعاته هنا وهناك.
حدثني صديقي الأستاذ محيي الدين النصولي أنه ضاف بروفوسورًا فرآه يعاون زوجته في غسل الصحون ولا خادم عنده.
زرت يافا منذ ثلاثين سنة ١٩٢٧ فدعاني تلاميذي لرؤية تل أبيب، ودخلنا أكبر مقاهيها فإذا سعر فنجان الشاي عشرة غروش فلسطينية، ولكن المقهى خال من البشر ليس فيه أحد غيرنا، فسألت لماذا؟ فأخذ بيدي تلميذي سهيل النابلسي وأراني جموعًا لا تحصى قاعدين على الرمل، وبعضهم معهم كراسي، وكلهم يصنعون شايهم بأيديهم، وبناتهم ونساؤهم قائمات على خدمتهن حتى إذا انتهى التجهيز قعدوا جميعًا يشربون ويأكلون.
قال سهيل: العائلة الكاملة منهم تدفع نصف قرش رسم بلدية وفي عمرهم كله ما دخلوا هذا المكان لأنه غال.
وفي سنة ١٩٠٨ دعينا إلى حفلة تدشين مدرسة في وادي شحرور كان يترأسها قنصل إيطاليا في ذلك الزمان، فرأيت الحاضرات من نسائنا يلبسن أغلى الثياب وأثمن الحلي، والأحذية اللماعة التي كعبها محط كف، بينما زوجة القنصل الآتية لزيارة رسمية في بلد غريب كانت تلبس فسطانًا من الساتين وسكربينة لا كعب لها إلا قليلًا، وليس في معصمها ولا أذنها شيء من الحلي.
أجل نحن نتنافس في كل شيء، ثم نشكو الضائقة المالية. فلو ربينا بناتنا كما يربي القوم بناتهم لكانت لنا عائلة مقدسة لا تحملنا أحمالًا ثقيلة، ولما بقي في بيوتنا بنات يكن حملًا ثقيلًا على إخوتهم.
مسكينات هن العوانس. إن تفكيرهن بآخرتهن يرعبهن، ولو كن ممن يعملن ويأكلن خبزهن بعرق جبينهن، لأن هذا العرق لا بد من أن ينضب وهناك يكون البكاء وصريف الأسنان.
فلا تغتري أيتها الآنسة بعلمك ولا بمالك، فلا يخفف من أهوال الشيخوخة وفزعها إلا الزوج والبنون. من التي لا تذكر منكن ميتة الكاتبة الشهيرة مي؟ أما ماتت من الكمد ولم يعلم بها أحد.
تعلمي أيتها الآنسة لتحسني عملك البيتي، لا لتستلقي على الصفة أو تضعي رجلًا على رجل. فهذا الكسل والفتور لا يحسن ببنات اليوم، وإن رآه الأعشى من مغريات صاحبته هريرة حتى قال فيها:
فهذا الكسل غير مرغوب فيه في عصر السرعة، بل في عصر الذرة. فنحن أحوج إلى ذرة نشاط منك لنماشي أمم الأرض. إن جسمًا اجتماعيًّا نصفه لا يعمل، فهذا جسم مشلول. الحمد لله على أننا استيقظنا من نومة أهل الكهف ولم نعد نقول:
وأخيرًا شكرًا للآنسة مادلين. ن. التي أوحت إليَّ رسالتها هذا الموضوع. أما قولها: إن خطبة شباب اليوم لتقطيع الوقت والتسلية فجوابه: خذي حذرك. لا تدعيه يتسلى، فتطويل الخطبة مثل تطويل الحبل، فقصريه ما استطعت وإلا فلومك على نفسك.
حاشية: وإذا جاءك خاطب فلا تتعنتي، اطلبي السترة يا بنتي، اطلبي الحب أولًا، وتشبهي، أنت الآنسة المثقفة، حاملة الليسانس بتلك البدوية التي قالت:
اطلبي قرة العين يا نور العين. والسلام عليك ورحمة الله.