بمناسبة العام الجديد
كل عام وأنتم بخير. وبعد، فقد تعودنا أن نودع كل رائح ونستقبل كل آت حتى من الأعوام، ولكتابنا وشعرائنا بدائع وطرائف في هذا الموضوع. فالفائت — وخصوصًا من السنين — حبيب قلب ابن آدم. إنه يرى الخير كله في القديم على إطلاقه، وإن لم يكن شيئًا مذكورًا. على ألسنتنا يدور الترحم على ما فات، وفي أعيننا تحلو الذكريات، وما نحن في شيخوختنا إلا إلى قوة فارقتنا في منتصف طريق العمر، وآمال أضعناها على درب الأبد. فكأنما استقبالنا لعامنا الجديد بهذه اللهفة دليل على أننا ما كنا نصدق أننا نبلغ هذه المحطة.
سوف لا أنشر شراع الخيال، ولا أقرع طبول الفصاحة في موكب استقبال العام الجديد. فلا تهليل ولا ترحيب، ولا تمنيات ولا آمال. إن عجلة الزمن لا تنتظر زجري لتسير، ولا إيماءتي لتقف. إن تهليلي لها لا يقدم ولا يؤخر. فما فات فات، وما هو آت آت، كما قال ابن ساعدة. إن تمنياتي لا توازي ثقل حبة خردل في ميزان القدر، فلماذا أتعب نفسي بتعابير فارغة لا تنفعني ولا تنفعكم. إن عبارة كل عام وأنتم بخير، على صغرها وبساطتها، لهي أحب وأغنى دعاء في هذا المقام، على شرط أن يكون للبؤساء والمساكين شيء من الخير الذي نتمناه لكم يا سادة.
من عادة التجار أن يرصدوا حسابهم في آخر كل عام، ويعدوا للعام الجديد دفاتر بيضاء، تحمل في أولها رصيد العام الماضي من مكسب وخسارة، فينظر التاجر إلى (اليكون) إما بعين مفتوحة وإما بقلب مكسور. إننا في زمن انحصرت فيه كل القيم بالصناديق الحديدية. فإذا كان الصندوق متخمًا من كثر ما بلع وزلع فصاحبه هو ذاك الرجل، وإذا كان الصندوق غير مبشوم أحس صاحبه أنه دون جاره العائم في بحر من الثروة، بعيد القار. وفي أميركا يعرفون الرجال بما يملكون من المال، فإذا سألت عن واحد أجابوك: فلان يسوي كذا من مئات ألوف الدولارات، وهكذا صارت الثروة ميزان القيم فاقتتلنا لننال منها حصة الأسد.
حنانيك يا أخي، لا تنم على وجهك لأن مبلغًا من ميزانيتك مفقود. إن الله سيخلف عليك إن كنت أحسنت بهذا المبلغ إلى المساكين ونسيت أن تقيده. لا تدقق في دفتر الصندوق بهذه الشدة والصرامة، لتعرف أين ذهب ذلك القرش، أرجوك يا سيدي. عفوًا أرجوك يا سيد الصندوق، وأتضرع إليك لكي تعيد النظر في دفتر حساباتك لترى فيه مقدار أرقام الإحسان، وعمل الخير، وخدمة الإنسانية، أنسيت يا أخي أنك إنسان؟!!
مهلًا لا تزرع الدنيا أملًا، ورفقًا لا تعد الخطط الجهنمية لاقتناص القرش، فأنت في التقدير واللهُ في التدبير. فبدلًا من أن تستقبل عامك الجديد بالدف والعود والمزمار وتنفق على السهرات الصارخة ألوفًا، اخل بنفسك هنيهة، وارفع وجهك إلى فوق، ولو في السنة مرة. نسيت أن لك نفسًا؟! أتظل عينك في الأرض دائمًا تفتش فيها عن حطامها؟ بربك قل لي متى تشبع؟!
عند النصارى شيء يقال له: (فحص الضمير) وهذا ما يعمله المسيحي الممارس كل ليلة، فيستعرض حسنات النهار وسيئاته. وبعد أن (يقصد) إصلاح نفسه في الغد، ينام مستريحًا. وقد سمعنا الحجاج، على قساوة قلبه، يقول في إحدى خطبه: امرؤ حاسب نفسه، امرؤ راقب ربه، فهل فعلت شيئًا من هذا؟! هل ودعت عامك الذي انسلخ بفحص الضمير إن كنت مسيحيًّا؟ وهل حاسبت نفسك إن كنت مسلمًا، لترى إذا كنت زكَّيت مالك؟ معاذ الله أن أسيء الظن بك، وأقول: إنه لا يعنيك إلا أن تعرف مقدار ما جمعت؟ ومعاذ الله أن أقول: إن دفترك ليس فيه للفقير باب (إلى).
قل لي: ماذا أنفقت أمس على الطاولة الخضراء، بل ماذا خسرت زوجتك؟! ألا تستحي يا أخي من أن تلعب وأولادك على طاولة واحدة بحجة كشف البخت؟! أتصدق الورق الكذاب؟! ألا تدري أن صغار الأمور تؤدي إلى كبارها، فكيف تدفع ولدك إلى هاوية اللعب؟! قل لي: كم كانت تكاليف مأدبتك يوم العيد؟! بحياتك لا تكذب.
هل خرج من كيسك ثمن رغيف لفقير؟! هل فكرت بإعطاء شيء من ثيابك وأحذيتك العتيقة إلى العراة والحفاة من إخوانك الآدميين، يا آدمي؟!
كم دفعت بمناسبة هذا العام ثمن لعب وهدايا، وكم قطعت من الثياب الأنيقة لزوجتك وبناتك وبنيك في هذا العيد؟ ترى من هو أحوج إليها، أأولادك وأحفادك وخزائنهم ملأى بها، أم ابن جارك الحافي العريان الجوعان؟ إنه محتاج إلى رغيف ليفك ريقه ويسند قلبه، وإلى قطعة من القماش الرخيص يستر بها عورته. وكلب زوجتك المدلل — جل شأنك وشأنها — ما ضره لو عودته أكل الخبز بدلًا من البسكوت، وأكل فضلات المطبخ بدلًا من لحم الضأن وعلب السمك والدجاج، ثم أعطيت فضل ما بينهما فقيرًا ملهوفًا يأكل الخبز بعينيه ولا يمسه بيديه.
الناس — اليوم — يلجئون إلى التقنين الصارم. فلماذا لا تعود — ولو كلابك — على هذا وتحسن بما توفره إلى أخيك الإنسان. أنت غني من فضل القدر الأعمى لا كدك واجتهادك، فلماذا لا تزكي مالك وتزين غناك بالإحسان؟
إن من طالت يده بالمواهب تمتد إليه ألسنة المطالب، وأنت تعترف ولا شك بنعمة الله عليك، فلماذا لا تقضي حقوق المروءة وتفي ديونها عليك؟ إن البيت الذي لا يخرج منه شيء في سبيل الله لا بد من تسكير أبوابه إما عاجلًا وإما آجلًا.
الثمر يستحلى في أوانه، والشيء يحسن في إبانه. وهذا موسم الإحسان يا صديق الدينار، لا تقس قلبك فيقسو قلب الله عليك، فهو حين أنعم عليك كأنه اختارك دون غيرك قَيِّمًا على البؤساء والمساكين، فإن كنت لم تَقُمْ بهذا الواجب أمس فعَجِّلْ، وقم به غدًا، وخير البر عاجله.
إذا كانت محاسبة النفس واجبةً علينا كل ليلة؛ فكيف بها حين يموت عام ويولد عام! أفما يجب أن نولد نحن معه؟ وكما نعمل ميزانية تجاراتنا يجب أن نعمل ميزانية حسناتنا، لنرى ما علينا وما لنا عند الإنسانية.
أرأيت في عمرك ودهرك حيوانًا يشاركه أحد في طعامه؟! فكيف أكون حيوانًا بعدما شرفني الله فخلقني إنسانًا؟!
وهناك محاسبات كثيرة غير هذه، ولا بد من هذه المحاسبات لجميع طبقات البشر من السيد الرفيع إلى الخادم الوضيع، وما بينهما من خلق الله. فكل منهم مسئول عن عمله. الحاكم يجب أن يحاسب نفسه ليرى كيف ساس رعيته لكي يحسن إن كان ظلم وأساء، ولكي يحسن أكثر إن كان أحسن، فمجال الإحسان رحب واسع.
على الحاكم أن يحاسب نفسه عن الأيام التي ضيعها في ملاهيه وملذاته وهو يقبض ثمن تلك الأيام من الرعية، فرب يوم يضيعه (الراعي) تهلك فيه نفوس الألوف من القطيع.
إن يوم رأس السنة هو يوم الحساب الشديد لتقويم كل اعوجاج فينا، وليس هو يوم قمار وشرب وسكر، ولا يوم أكل مما رزقنا الله من الطيبات دون أن نفكر بالآخرين. أمرنا الله أن نأكل من طيبات ما رزقنا، وأمرنا أيضًا بالزكاة والإحسان، فهل تعمل يا صاحبي بواحدة من وصاياه ونترك الثانية.
فلو خففنا من هذا البطر ولو قليلًا، لننفق تكاليفه على المحرومين لأمنا شر العواقب. إن أعوام الحياة مراحل، وإذا حمدنا الله على قطعنا إحداها، فلنقدم مع الحمد قربانًا من الإحسان ليأخذ الله بيدنا ونصل آمنين إلى الواحة الكبرى، إلى بيت الجميع.
هناك ينعدم الفقر الذي هو صوت صارخ يطلب الانتقام من ثروتك. أخمد هذا الصوت بإحسانك، وترقب عامًا جديدًا يكون لك فيه إحسان جديد.
ليتك تتعود العطاء! جربه تنس لذة الأخذ. إنه لأسمى وأرفع. واليد العليا خير من اليد السفلى، والسلام عليك إن كنت محسنًا، وإلا فسلامي يرجع إلي لأنك لا تستحقه.