موسم المقامرة
لا بد من خص القمار بحديث، وقد تقول إذا كنت من المقامرين: ما لهذا الرجل وهذا الموضوع الشائك؟! إنه يفتح أبوابًا مغلقة في مطلع هذا العام. لا يا أخي، إن هذا اليوم هو يوم المقامرة العارم. وكأني أرى زوجتك تضع هذا المقال حد رأسك، إذا كنت ممن تركوا المائدة الخضراء في ساعة متأخرة من الليل لتصبحك به. وإذا كنت امرأتك من السيدات العصريات المقامرات، وأنت لست منهم، فإنني أتخيلك تقرأ هذه الكلمة بصوت جهوري لتسمعها ما كتبت لأنك لا تجسر أن تؤنبها، فهي حرة بمالها الذي جاءت به من بيت أبيها حين جاءت بيتك لتستتر تحت جناحيك.
اللهم صفحًا عن زلاتنا وقوم اعوجاجنا. فقد صار القمار سمة للناس الراقين، وصار من لا يقامر — في نظر الطبقة العليا — رجلًا غير متمدن. وقد يعذر من ينفق ماله على لذة من الملذات الدنيا، أما من يقامر فأية لذة يجد في تبديد ماله وثروته، فيمسي غنيًّا ويصبح فقيرًا بين ليلة وضحاها، إذا شاكسه الحظ. فكم من بيوت عامرة دك أساساتها القمار! أعرف رجلًا كان يملك ربع عكار، وكان له ولد وحيد أصيب بهذا الطاعون، فقال واحد لوالده: انتبه لابنك فإذا بقي على هذه الخطة (طير الدكة). فأجاب الأب: عصفور على بيدر، ماذا يأكل؟!
وبعد سنين التقيت بذاك العصفور في (سير) فإذا به منتوف الريش مكسور الجناح.
أعرف أناسًا كثيرين قامروا على ثيابهم، وأعرف آخرين عجزوا عن إيجاد المال، فباعوا عفش بيوتهم، وأخيرًا نزعوا الأبواب وباعوها. وأعرف غيرهم اقتلعوا شجر الزيتون وباعوه ليلعبوا في هذا اليوم السعيد. لا يثنيهم عن فعلتهم الشنعاء شرف، ولا يؤثر بهم لوم ولا تعنيف تاركين أولادهم عراة حفاة جياعًا.
ورأيت والدًا، وابنه كان من طلاب مدرستنا، جالسين على الطاولة الملعونة ليلة يوم (رأس السنة) فقلت: يا رجل، ماذا تفعل؟ أتقامر أنت وابنك؟!
فأجابني: ليلة وتمضي، إننا نكشف بختنا في العام القادم.
فقلت له: أتعود ابنك وتخرب بيتك لتتعلق بخرافة؟ الجد يا صاحبي لا يعرف المستقبل فكيف باللعب؟
ودارت بضع سنوات دورتها وصار الشاب في بيروت وأمسى مقامرًا من الطراز الأول. وفي الأمس — كما سمعت — باع البيت بعد موت الوالد، حين فرغ من العقارات الأخرى والمنقولات، وهكذا استعجل الفقر قبل أوانه. إذا احتال على أحد ونصب، أكل واكتسى وقامر، وإلا فيقامر بعينيه لأنه عاجز عن ذلك بيديه.
إن آفة هذا العصر تشجبها الأديان والتقاليد، ولكن الناس أعداء أنفسهم، فلا يردعهم وعد ولا وعيد، ولا سيما من تملكته عادة من العادات فإنه يصير عبدًا لها.
إنني ألفت نظر القارئ إلى مقالة للمنفلوطي، عنوانها (الكأس الأولى) ففيها العظة لمن يسمح لولده أن يلعب في (رأس السنة) ليستطلع أنباء عامه قبل أوانه.
وخير ما قرأت في ذم القمار قصيدة نجيب الحداد. فليت المبتلى بهذا الداء يقرؤها، فأنا لا أعرف القمار لأحسن وصفه، كما وصفه الشاعر.
إن القمار لخطر على العزة والكرامة، فكم رجل عبث بالأمانة ليقامر! وكم من امرأة عبثت بأقدس الأخلاق حين أفلست، فتداوت من الداء بالتي كانت شرًّا من الداء.
أضحكني أحد أصحابي حين لمته على المقامرة فقال لي: وماذا تريد؟ أنا موظف، والقمار وسيلتي للاتصال بمن هم فوقي لأوطد مركزي.
وبعد شهرين عرفت أنه زج في السجن لأنه سرق الصندوق المؤتمن عليه، وهكذا وطد مركزه فصار أمنع من الأهرام.
ويا ليت شعري كيف يؤدي واجبه على حقه من يسهر إلى الصبح؟ وبأي وجه يستقبل صاحب الأعمال من لم ينم؟ ألا يقاتل خياله كما يقولون؟!
وإذا كان المبذرون إخوان الشياطين، فالمقامرون إخوان من؟ وقد حددهم نجيب الحداد تحديدًا قاطعًا مانعًا بقوله:
اللهم كن في العون.