رسالة إلى السماء
يا سيدي يسوع المسيح
أنت قلت: اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم، وها أنا ذا قد أتيتك، وعيني في الأرض، ويدي على صدري.
ما جئت لأطلب منك شيئًا، فأنا من خيرك مكفي. أتذكر تلك المناجاة عام أول؟ فقد أقدمت بعدها متكلًا عليك فنجوت من الموت الذي كان فاتحًا فمه ليبتلعني، وها قد انقضى عام على نجاتي وجددت مثل النسر شبابي.
لقد تحدثت كثيرًا عن ميلادك، وسوف نفتش اليوم عما يعنينا قوله لك، فهل أنت مستعد أن تسمع؟ إنني لا أطلب منك غير الإصغاء فهل تنشط لذلك؟
إني أصارحك القول: لقد تعبت ألسنتنا وآذاننا وحناجرنا من الترتيل: المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام.
لست أدري ما في العلاء من مجد، أما السلام على الأرض فلا أرى أي دليل عليه سوى دول تغلي كالقدر الفائر. كل منهما يعد شبكته ليصطاد الحيتان والدلافين، وباسم السلام يقتتلون هنا وهناك وهنالك، وباسم السلام نؤيد مضطهدي السلام.
حاشاك يا سيدي أن تطلب مني أن أقول غير الحق، وأنت الذي علمتنا منذ أجيال: تعرفون الحق والحق يحرركم، فهل أكذب وأرتل معهم، وعلى الأرض السلام، وليس على الأرض إلا قنابل تزعزع أساسات المسكونة وتجعل عاليها سافلها؟
أما (الرجاء الصالح والمسرة) فما زلنا ننتظر قدومهما، وأظنهما لا يأتيان إلا معك، أما وعدتنا بالرجعة، فما لك تأخرت؟! عد يا سيد، وقوم ما اعوج من القيمين على تعاليمك.
يا سيد، يا أمير السلام. ألهم تابعيك أن يسيروا على ضوء تعاليمك لئلا يدركهم الظلام.
إنهم يقرءون وصاياك بألسنتهم وقلوبهم بعيدة عنك.
أنت قلت: يا بني أعطني قلبك. أما هم فزنادقة وذئاب يلبسون جلود الحملان. فإذا كنت حين تجلس عن يمين أبيك تقيم الخراف عن يمينك، والجداء عن شمالك، فأي مكان تعد لهؤلاء؟ أليست الجداء خيرًا منهم؟! فلا لحمهم يؤكل ولا جلدهم يسكف.
يتحدثون عن فقرك ويرفلون بالحرير والديباج كالغواني، ونتحلى مثلهن بالذهب، ونعصب رءوسنا بالطراطير ونسميها تيجانًا.
لقد صار صليبك حلية، وإكليل شوكك رمزًا يزهى به، فإذا كنت عظيمًا بميلادك فأنت أعظم منك بحياتك وموتك، وإذا لجأت إلى الخيال بحديث ميلادك، فإني لا أتجاوز تخوم الواقع إذا عظمت حياتك وموتك.
أنغني (على الأرض السلام.) ولا نخجل؟! أنترنم بالمجد لله في العلاء ونحن نزحف على بطوننا كالأفاعي، أنفرح ونتهلل في ذكرى ميلادك وأمس أجرينا الدماء أنهارًا؟
أنسيت أن فلسطين أنبتتك وقلت أسمى الشعر الإنساني في سهولها ووهادها وعلى شواطئ بحيراتها. لقد كانت حياتك فيها أروع قصيدة، أفلا ترثي لها وتشفق عليها؟
إن الذين صلبوك هم الذين يضطهدون اليوم أتباعك ويقتلونهم غدرًا وظلمًا ويناصرهم مؤمنون بتعاليمك ينتسبون إليك، فتعال يا سيد.
ومصر ما ذنبها؟ إذا كان يهود فلسطين أساءوا إليك، فمصر آوتك حين هرب بك أبوك وأمك من وجه هيرودوس. لقد ذقت يا سيد قسوة المستعمر، فلو لم يهربوك من وجه هيرودوس لكان قضي عليك، ومع ذلك لم تنج من بيلاطس، الذي قضى بصلبك وغسل يديه ليقول: إني بريء من دم هذا الصديق.
إنهم المستعمرون يا سيد. فهم هم في كل زمان ومكان، جئت لتنقذ شعبك ظلمهم وتعديهم، فتآمرت عليك السلطتان وكانت النكبة الفاجعة.
إن وطنك لا يزال تحت نير الاستعمار رازحًا، فهل من مجير؟
قال فيك شاعر من مصر:
لقد أعدت عليك ما قال لعلِّي أستنهض همتك فتقول لأتباعك في الغرب: قفوا يا جماعة ما هكذا علمتكم! وإلا فاطووا إنجيلي ولا تقرءوه، فما نفع علم لا يعمل به.
أجل يا سيد، إن تعاليمك هنا وفي جارتنا القارة الأوربية قد شاخت، وقد تكون في أميركا لا تزال شابة، ولكن المصلحة تشوبها.
أما علمت: لا تفعلوا بالناس إلا ما تريدون أن يفعله الناس بكم؟ أما قلت: من ضربك على خدك الأيمن فحول له الأيسر، ومن سخرك ميلًا امش معه ميلين، ومن طلب رداءك فأعطه ثوبك؟ فما بال هؤلاء يضربون الآمنين ويقتلونهم بالآلاف؟
اليوم لم تعد القضية قضية ضرب كفوف، بل قضية إبادة واستئصال. فانظر ماذا تفعل، فالاتكال عليك، وعلى ممثلك على الأرض، ولكنه لا يزال كالذي بنيت بيعتك عليه لا يملك إلا سيفًا أو سيفين، وهو يعمل بعدما جرد من سلاحه بقولك لذلك التلميذ: اردد سيفك إلى قرابه، فمن أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.
فما الحيلة إذن في الذين يأخذون البريء بذي الذنب ويدعون أنهم مسيحيون.
أراهم لا يحفظون من إنجيلك إلا قولك: ما جئت لألقي سلامًا بل حربًا. ولكن على الباغي دارت الدوائر، فقد نجونا بفضل ولسن، وأيزنهاور من الاستعمار السياسي، وببركة دمك وصليبك سننجو من الاستعمار الاقتصادي. أما (أصحابنا) فقل لهم كي يعملوا بما يعلمون ولا يحملوا الناس أحمالًا ثقيلة لا يحركونها بإحدى أصابعهم.
قل لهم: دعوا السلام في الأسواق والجلوس في صدور المجالس، واذهبوا بشروا برسالتي جميع الأمم.
ليذكروا قولك: كنت جوعانًا فأطعمتموني، وليطعموا الناس من أموال حبست عليهم. قل لهم: ليس عيد الميلاد عيد أكل الديوك وشرب الخمور المعتقة، ولكنه جعل لكي يتذكروا أخا الرب. أتعرف لماذا نأكل الديوك في ذكرى ميلادك؟ لكي لا يذكرنا صياحها بمن أنكرك. بطرس تاب، أما هؤلاء فلا يريدون. إنهم يأكلونها فراريج قبل أن تصيح، والويل لهم متى صاحت الديوك. لا بد من الصياح لأن الفجر قريب جدًّا. وقد لاح مفتوق من الشرق أشقر.
قل لوكلائك عندنا يكفونا شرهم، فأنت في غنى عن نصرتهم. إذا كنت في معركة المحاكمة لم تدافع عن نفسك بكلمة، فقل لهؤلاء من جميع الطبقات: لا تكلفوا خاطركم، فأنا في غنى عن محاماتكم ودفاعكم، فليكن فيكم محبة قدر حبة خردل لتعيشوا سعداء آمنين.
يتعزون بخطبتك على الجبل، ولكن اقرأ تفرح جرب تحزن. فأسيادهم يعطون ما لقيصر ليأخذوا ما لله … على طول، فلا حاجب ولا بواب ولا محاسب، الدفتر في أيديهم وهم الخصم والحكم، فقل لي متى نرى وجهك ليحدث الانقلاب الرائع. لقد عتقت البشرية فتعال جددها. أما قلت لتلاميذك كما روى إنجيل متى: أنتم الذين اتبعتموني في (التجديد) تجلسون على اثني عشر كرسيًّا متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده.
تعال اجلس يا سيد ونحن نقعد على الأرض ولا شرط لنا إلا التجديد.
أما قال شاوول الذي اضطهدك ثم صار بولس الرسول حين اتبعك، أما قال في رسالته لأهل رومية: لا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم.
إننا نريد تجديد الملح، وتجديد الخمير، وإلا فمن يستحقك منا أيها المجدد العظيم؟!
أنا حامل صليبي وتابعك منذ خلقت، وإني أتعذب لأجل تطهير تعليمك، فإذا دعوتك للعودة إلينا فبحياتك لا تحسب كلامي تطفلًا وتنتهرني كما انتهرت بطرس قائلًا لي: اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس.
وهنا أضم صوتي إلى صوت بولس القائل في رسالته إلى العبرانيين: وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضًا للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه.
أما قياصرة اليوم فلا يرتضون بما يعطون، بل هم يعطون أنفسهم من مال المساكين ويأكلون البيضة والتقشيرة، وإخوتك ينامون في العراء على ريق بطونهم. كانت الضرائب في أيامك محسوسة ملموسة، أما اليوم فسحر القياصرة عجيب غريب.
إذا شئت أن أزودك بكل ما عندنا من أخبار، فلو بقيت عامين لا أعمل غير كتابة هذه الرسالة فهيهات أن أنتهي. وقد حدث عندنا شيء جديد هو المراقبة، فالأفواه مكمومة والأفواه ملجومة وفطانتك كفاية، أنا لا أدري في المراقبة شيئًا غريبًا، فقد تعودتها منذ صباي وتعلمت كيف أنفذ من المضيق، ثم من يراقبني ويحول بيني وبين مخاطبة سيدي يسوع المسيح، ألا يحق لنا أن نتحدث مع ربنا؟!
تساءلت يا سيد: من يقول الناس إني أنا، وهذا دلني على أنك تهتم لما يقال. أما لو عدت اليوم ورأيت أن (الرعاة) لم يعد يهمهم حكي الناس لتعجبت وأعطيت جيلنا آية أخرى عن حوت يونان لأن جلودهم صارت أسمك من جلده.
تذكر جيدًا رسائل بولس، أول صحافي عالمي في التاريخ القديم، وعندنا اليوم ما يشبهها ويسمونها جرائد ومجلات وقد منحوها لقب السلطة الرابعة، ولكن المسيطرين ينتقصون من قدرها ليخففوا من وطأة كلامها عليهم، ولو فكر هؤلاء لما حاولوا. إنهم يجهلون أنك أنت السيد المسيح، ابن الله الوحيد، سألت تلاميذك عما يقوله الناس عنك؟ ولكن (حكي) الناس لا يؤثر إلا بالناس ولهم خلق، أما أولئك فلهم النبوت والمساس.
قلت لنا: لا تدينوا لئلا تدانوا. وهم لا تهمهم الدينونة، ولو كانت في وادي يوشافاط كما وعدت، ووعدك صادق بلا ريب.
قلت: أخرجوا العبد البطال إلى الظلمة البرانية، فيا ترى ماذا أعددت لعبيد غير بطالين ولكنهم يعملون دائمًا في السر، وإذا عجزوا عن قطع الأعناق يقطعون الأرزاق؟
قلت: أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضيكم. وهم يبغضون من أحسن إليهم. وقلت: ليس من يقول: يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل إرادة أبي الذي في السماوات، وها هم قد تركوا الثنتين في هذا الجيل الشرير الفاسق.
حذرتنا من الباب الواسع وهم لا يدخلون إلا منه، أما الباب الضيق فقد ضربت عليه العنكبوت بنسجها. وحتى الآن لم يَرِثِ الودعاءُ الأرض والحزانى لم يَتَعَزَّوْا. أما ملكوت السماوات الذي وعدت به المساكين فعلمه عندك يا ساكن الأعالي، فهل دخل عليك أحد منهم؟
وحذرت من صنع الصدقة قدام الناس لئلَّا يضيع الأجر. أما في هذا الزمن فلا تُوصِ حريصًا، فما أقل من يتصدق سرًّا أو علانية.
اعذرني يا سيد على طول لساني، فهكذا خلقني أبوك السماوي، وقد خسرت أكثر أصدقائي. إنني أعمل مشيئتك لأن خاصتك لا يصلحون ما بأنفسهم من اعوجاج إلا إذا قومناهم بسيف النقد.
وإلى اللقاء في ملكوتك، أقبل جراحك الخمسة، أنا الذي أكلت جسدك المقدس صغيرًا، فلا تأكلني النار.
هكذا كنت أرتل مع جدي في ختام قداسه، جعل الله النهاية خيرًا.