كنوز مرصودة
كثيرة هي الفرص التي تفلت من أيدينا ولا نكترث لها. حكي أن زائرًا دخل متحفًا رأى فيه بين تماثيل الآلهة تمثال إله وجهه مغطى بالشعر وأجنحته على قدميه، فسأل: ما اسم هذا الإله؟ فأجابه النقاش: هو الفرصة. فقال: ولماذا هو مخبئ وجهه؟ فأجابه: لأن الناس قلما يعرفونه حين يجيء إليهم. فقال: ولم أجنحته على قدميه؟ فأجابه: لأنه يذهب حالًا، وإن ذهب فلا أمل لأحد باللحاق به.
ويقول مثل لاتيني: إن الفرصة لها شعر في مقدمة رأسها. وأما في مؤخرته فهي صلعاء، فإذا أمسكت بناصيتها قبضت عليها. أما إذا أفلتت منك، فإن جوبيتر نفسه لا يقدر أن يقبض عليها ثانية.
قال شاعر إنكليزي:
فأول ثروة يجب أن نغتنمها هي الفرصة، وكثيرًا ما نتأسف على فواتها لأنها لا تسنح مرتين، فعلينا ألا نحجم ولا نتردد. ليكن شعارك دائمًا: فلنبدأ بالعمل من هذه الدقيقة، ومن يباشر حالًا ينجح دائمًا. نحن عرضة للتجربة كل ساعة، فلنثبت في أعمالنا ولا نتنقل من موضوع إلى موضوع، وإن فعلنا فإننا لا نظفر بشيء.
قال نابليون: النصر لمن هو أشد ثباتًا. تأمل الشجرة فإنها تعمل عامًا كاملًا لتعطيك زهرة عطرة جميلة، أو ثمرة شهية. اعلم يا صديقي، أن الأعصاب التي لا ترتخي، والعين التي لا تكل، والفكر الذي لا يتشتت هي التي تنجح دائمًا.
فاعمل بثبات، فالثبات هو الذي عمل عجائب الدنيا السبع. إنك ستكون رجلًا عظيمًا إذا ثبت ولم تغير عزمك لأول عقبة تقف في سبيلك. كان الأقدمون يمثلون الإله هرقل ملفعًا رأسه بجلد أسد، ومخالبه مجموعة تحت ذقنه، ليدلوا بذلك على أننا إذا تغلبنا على مصائبنا فإن تلك المصائب تصير أعوانًا لنا.
أنت والحمد لله، بألف خير، لا ينقصك إلا الرغبة والإرادة القوية. تشبه بإبرهيم لنكلن: ولد في كوخ خشبي، ولم يتح له الدخول إلى المدارس ولا الحصول على كتب، ولا الدرس على معلم ولا غير ذلك من الوسائل العادية، تمثله وهو شاب طويل، نحيف غريب الشكل يقطع الأشجار ويبني كوخه الخشبي. يتعلم الحساب واللغة على نفسه في المساء، وعلى نور الموقدة. ثم صار بعد ما علم نفسه بالمشقة رئيسًا للولايات المتحدة، وأعتق أربعة ملايين نفس من قيد العبودية.
قد تقول لي: مشاغلي كثيرة، وأنا أقول لك: الوقت كثير إذا أحسنا التصرف به، وسأخبرك عن بعض أعظم الأعمال التي أنشئت في أوقات الفراغ. إن الوقت قليل إذا أنفقناه في الثرثرة واللهو، وقال وقلت. أما إذا تدبرناه برغبة وإرادة فإنه يزيد كثيرًا عن حاجتنا.
كثيرًا ما نقول في البيت: ما بقي إلى وقت الأكل إلا خمس أو عشر دقائق، فلا وقت لعمل شيء الآن. أما الحقيقة فهي أن أعمالًا كثيرة عظيمة أتمها فتيان فقراء في فضلات زهيدة من الوقت.
إن ملتن صاحب (الفردوس المفقود) كان معلمًا ومستخدمًا في بعض أعمال الحكومة ككاتب سر، فكان ينظم أناشيده الخالدة في بضع دقائق يختلسها من خلال أعماله المتراكمة.
وبقي غلادستون طول حياته يحمل في جيبه كتيبًا يطالع فيه كلما سنحت له دقيقة فراغ. إن ساعة تنتزع كل يوم من ساعات اللهو، وتستعمل في ما يفيد تمكن كل امرئ ذي مقدرة عقلية أن يتضلع من علم بتمامه. وساعة واحدة تمكنك من مطالعة عشرين صفحة مطالعة تمعن وفهم، وإذا ثبت على هذا العمل عامًا تطالع سبعة آلاف صفحة أي ثمانية عشر مجلدًا كبيرًا في السنة. إن هذه الساعة التي تحصل عليها بسهولة فائقة تصير من هو غير معروف، شهيرًا، ومن هو غير نافع مفيدًا. إن هذه الساعة تحول الحياة الفارغة إلى حياة حافلة بالأعمال المفيدة، فنابليون لم يكن يسمح لنفسه بالنوم أكثر من أربع ساعات. وحياة رافائيل القصيرة التي لم تتجاوز السبعة والثلاثين عامًا عبرة لمن يعتذرون عن تضييعهم حياتهم عبثًا، وحجتهم أنهم ليس لديهم وقت.
قال شيشرون: إن ما يخصصه غيري من الوقت للولائم واللهو أخصصه أنا لدرس الفلسفة.
إن أشد ما في إضاعة الوقت من الضرر هو خسارة القوة، فالأعصاب تصدأ بالبطالة. إن للعمل نظامًا، أما الكسل فليس له نظام.
قال فرنكلين: إذا كنت تحب الحياة فلا تضع الوقت سدى، لأن الوقت هو المادة المصنوعة منها الحياة.
قد تقول يا عزيزي، إنه لم يذكر الأخلاق في كلامه! بلى، إن كل ما حثثتك على عمله لا يدرك إلا بالأخلاق المتينة، وقلما وجدت رجلًا يمشي على الخطة التي رسمتها لك إلا وهو صاحب أخلاق رفيعة. فالأخلاق قوة ونفوذ، وهي تقف خلفنا لتحمي ظهرنا في كل معترك.
وأخيرًا أوصيك بالتدقيق وإتقان العمل، ففيهما تبلغ ما تصبو إليه من شهرة وثروة. فالتدقيق هو أخو الاستقامة التوءم. قال إمرسون: إذا كان امرؤ يجيد تأليف كتاب، أو إنشاء خطبة، أو صنع مصيدة للفأر إجادة يمتاز بها على جاره، فإن الناس يشقون طريقًا نافذًا إلى بيته، ولو بنى منزله في الغابات.
فأتقن إذن كل عمل تقوم به، ففي هذا فلاحك ونجاحك، ولا تضع الدقيقة التي قيل من أجلها: الوقت من ذهب. إن كل ما ترويه الأساطير عن الكنوز المرصودة، ما هو إلا رمز يعرض لنا من فرص لا نغتنمها، فتذهب ولا تعود.