بقرة وعنزة
تأدبوا يا قضاة الأرض. هكذا صاح النبي داود في المزمور الثاني. والحكم ملح الأرض، هكذا جاء في المثل. فمتى كانت لنا ضمائر حية عدلنا واطمأنَّت قلوبنا واستراحت نفوسنا القلقة، ولهذا خلقت الموازين والسجلات.
إن في أعماق شخصيتنا يستقر ذلك الشيء الذي تواضع الناس على تسميته ضميرًا أو وجدانًا، وهذا الضمير يقوى ويشتد إذا ظل الإنسان يدفع نفسه في طريقه إلى التسامي. الضمير تخلقه فينا تربيتنا الأولى، ولكننا إذا أهملناه وتركنا محاسبة أنفسنا وتصامَمْنَا عن سماع صوته، مات رويدًا رويدًا وقضينا حياتنا في سكرة لا نستفيق منها إلا في السكرة الكبرى، سكرة الموت.
إذا أراد واحد مِنَّا أن يمتدح رجلًا ويثني على استقامته قال: فلان صاحب ضمير، وفلان ضميره حي، كأنهم يعتبرون الطمَّاع غير العادل ميت الضمير.
قد راقبت الحيوانات الداجنة فوجدت في تصرفات بعضها، أثرًا للضمير أو الوجدان. فالكلب أو الهر إذا أخذ خلسة ما لا يحق له أخذه، بدا عليه القلق والاضطراب حين يراه صاحبه متلبسًا بالجريمة.
وما الإقرار بالجنايات الكبرى إلا من عمل الضمير، ولولا ذلك لا يعترف مجرم بما جنت يداه. وما العدالة البشرية إلا بنت الضمير، تلك الجرثومة التي تجعل من الإنسان ملاكًا بشريًّا، ومتى نمت فيه جعلته فوق البشر.
كان مكتوبًا على تاج كسرى أنوشروان أربع آيات عرفت بآيات التاج، والآية الأمامية هي هذه: العدل يدوم وإن دام عمَّر، والآية الورائية: الظلم لا يدوم وإن دام دمَّر. فحسب الملك العادل أنه لا يحتاج إلى جنود تحميه وينام ملء عينيه.
ومن حكايات الفرس أن ملكهم أنوشروان ذهب ذات يوم في رحلة يصطاد، ولما حان وقت غدائه افتقدوا الملح فلم يجدوه، فأمر أحد غلمانه أن يذهب إلى قرية قريبة ويجيء بالملح، ثم أوصاه أن يشتريه بحقه، ولا يأخذه مجانًا؛ لئلا يحيق الخراب بالقرية.
فقال الوزير: أبحفنة ملح تؤخذ بلا ثمن تخرب القرية؟
فقال كسرى: هكذا بدأ الظلم في الدنيا، بدأ قليلًا جدًّا، ثم تمادى الحاكم فيه حتى بلغ الحد الذي نراه.
وحكي عن مار أفرام السرياني أنه كان سميك الذهن يقرأ ليل نهار ولا يعلق بذاكرته شيء. فيئس من نفسه وقنط. وفي ذات يوم مر ببئر فرأى أثر الحبل في (خرزة) البئر، وقد حزها حزًّا عميقًا حتى كاد يبريها، فسأل امرأة كانت تملأ جرتها عما فعل بالخرزة هكذا، فأجابته: الحبل يا أفرام.
فعاد أفرام أدراجه وحمل كتابه إلى البرية حيث اتخذ له مقعدًا على صخرة قائمة على كتف واد. وهناك ظل يدرس سنوات، ولكن بقرة لجاره كان يسرحها فتأتي وتعكر عليه وحدته بخوارها، وبينا هي على شفير إذا بأفرام يصيح بها صيحة ردد الوادي صداها فاضطربت البقرة واختل التوازن فتدهورت إلى الوادي وفكت رقبتها.
وجاء صاحبها يندب حظه وبقرته التي كانت كل رزقه. وراح أفرام يساعده على سلخها وتقصيبها محاولًا بذلك طمس معالم جريمته.
وخلا لأفرام الجو زمنًا وكان له الهدوء الذي أراد بعدما قضى على البقرة. وتفتقت براعم مواهبه فصار ذلك الشاعر المسكوني. ولكن جناية ارتكبت وكان أفرام واحدًا من المتهمين فزج في السجن. وطال الحبس فأخذ أفرام يناجي ربه متذمرًا من الظلم؛ لأنه بريء مما اتهم به.
وطالت الصلاة والنجوى، والسجن لم تنفتح أبوابه، وأفرام يتألم ويصرخ إلى ربه يسأله الفرج. وفي هدأة الليل بينما كان المسجونون يغطون في نومهم ركع أفرام يتضرع إلى ربه بحرارة ويبكي وينتحب ويقول: أنت تعلم يا رب أنني بريء، فكيف تتركني في ضيقي. أنا مظلوم يا رب، أنا لم أسفك دمًا كما اتهموني، فمد يدك يا الله وافتح باب حبسي. انتشلني من جب العذاب كما انتشلت يوسف، وأنقذني كما أنقذت دانيال.
أنت وحدك تعلم أني بريء من هذه التهمة فنجني إذن. أين قدرتك يا الله؟ أيقتل الناس بعضهم بعضًا ويجازى عبدك.
وبينا كان أفرام في معمعة هذه الابتهالات إذا به يسمع هاتفًا يقول له: والبقرة يا أفرام!! فأصغى أفرام إلى الهاتف وهو متعجب كأنه يتساءل، فإذا به يسمع من يقول ثانية: نعم، البقرة التي قتلتها يا أفرام، وشاركت صاحبها في سلخها كأنك لم تقترف إثمًا.
فتذكر أفرام جريمته وخر إلى ذقنه يبكي. استيقظ ضميره وعرف أنه يكفر عن ذنب قديم كان نسيه، ولكن الله لا ينسى.
واستحال سجن أفرام إلى هيكل توبة فنظم في استرضاء ربه من شعر الكفارة شيئًا كثيرًا. قبل سجنه بريئًا، وأخيرًا تطهرت نفسه، واعترف المجرم بجنايته وخرج أفرام من سجنه خروج الذهب من النار.
وفي حكاياتهم أمثلة كثيرة على العدل ومحاسبة الله ملوك أرضه عما فعلوا في عباده. حكي عن عبد الله بن عمر أنه حينما اقتربت المنية من والده سأله متى يراه بعد موته؟ فقال عمر: أراك يوم القيامة إن شاء الله.
فقال عبد الله: وددت لو أراك قبل ذلك.
فقال عمر: إذن تراني في المنام بعد يومين أو ثلاثة.
ومات الإمام العادل ومضت الليالي الثلاث ولم ير عبد الله أباه، وبعد اثني عشر عامًا جاءه في المنام فسأله ابنه عبد الله: أما قلت لي يا أبت، إنني أراك بعد ثلاث ليال من موتك؟
فقال عمر: لم يكن لي الوقت يا بني، كان ربك يحاسبني عن جسر تهدم أثناء فتح العراق ولم يصلحه العمال وقد عثرت به عنزة فكسرت ساقها.
الله الله … فكم من رقاب تفك في هذا الزمان، وكم من نفوس تزهق بسبب إهمال العمال، وليس من أحد يحاسب نفسه حتى كاد العدل أن يتوارى.
وقد قرأت في أيام الصبا، حكاية يونانية كتبت لحث الناس على العدالة. قيل: إن العدل ساد في إحدى المناطق الرومانية حتى كان القاضي يحضر إلى مجلسه ويتربع فيه، ثم لا يمثل أحد بين يديه فيرجع إلى بيته. وأخيرًا أذاع أنه مقيم في بيته، فإذا شاء أحد أن يرفع إليه ظلامة فما عليه إلا أن يشد حبل الجرس، فيخف القاضي إلى استقباله وسماع شكواه.
وانقضى الشتاء ولم يدع القاضي أحد. وجاء الربيع فنبت العشب حول حبل الجرس فغطاه. وفي ذات يوم سمع القاضي صوت الجرس، فخرج ليرى من الطارق، فإذا هو بغل خلي سبيله ليرعى. البغل مهزول ما عليه غير جلد منشور على عظم. عمل حتى أدركته الشيخوخة، ولما لم تبق منه بقية ألقى صاحبه حبله على غاربه وصرفه من الخدمة، وظل القاضي يفتش عن صاحب البغل حتى وجده، ولما مثل بين يديه حكم عليه وأجبره على إطعام بغله.
إنها حكايات، وقد تكون أساطير، ولكنها كيفما دارت بها الحال، تعلمنا درسًا ساميًا.
كلنا نطلب العدل، وقلما نجدنا عادلين في أعمالنا. فالعدل يجب أن يسود في كل مكان. في البيت، في الشارع، في الهيكل، في المحكمة. لا يطلب العدل من الحكام — وحدهم — بل علينا نحن جميعًا، أن نكون عادلين، وقديمًا قالوا: لو أنصف الناس استراح القاضي.