شبابنا الحائر
انقضى موسم الشهادات وانتهى كما ينتهي كل موسم في إبانه، فإلى الذين خرجوا من معارك الامتحان سالمين غانمين نقدم تهانينا. وإلى الذين خانهم الحظ — كما يزعمون — تعازينا بأسف غير عميق. أما قال الحكيم العامي: إن فاتك عام فاستبشر بغيره. فإلى العمل الجدي أيها الإخوان، فالرجل المنتظر هو من يقع ويظل ثابتًا حيث هو.
ستظفر يا أخي بشهادة إذا انصرفت إلى الكتاب، ولم تتلفت إلى هنا وهناك، ولم يكن وكدك في الصيد منذ اليوم، دع أخبار ابن أبي ربيعة التي يفرضها عليك المنهاج، واقرأها عملًا بالواجب ولا تعمل بها. ولكن ما لنا وللمنهاج فأنتم شباب اليوم ترمون إلى أبعد من عمر، تراسلون الفتيات الأوروبيات وتنتظرون الجواب قبل موعد الدرس. وإذا أبطأ عليكم فتشتم عن عنوان ثان وكتبتم إلى التي تعرض بضاعتها على كل قارئ، وقعدتم تنتظرون ساعي البريد لعله يفتح لكم باب الفرج، ومن أين تدخل الشهادة التي تنتظرون.
من ينكر حب هذه البقعة اللبنانية للعلوم والآداب. فمنذ عصور ودهور، وبيوت العلم تشاد فيه. واليوم ألسنا نرى على كل قمة مدرسة تطاول قممه الشاهقة، وفي كل بطحاء دور علم مفترشة كلكلها كما قال الأخطل في عبد الملك، وفي كل مدينة عددًا عديدًا من المدارس تكاد تضاهي الحوانيت والمخازن عدًّا. أما العاصمة فلا تسل عن معاهدها فقد أصبحت أكثرها كليات ولم يعد يرضى أصحابها باسم مدرسة، وكل هذه الدور محشوكة بالطلاب حشكًا تزاحم بعضها بعضًا لتحصل على أكبر عدد ممكن من الطلاب والطالبات.
لا يدرج الطفل عندنا حتى يحبسه والده بين جدران مدرسة، وهناك يطوي الأيام وينشر الأعوام. يظل يخرج من المدرسة ثم يعود إليها إلى أن تقبل السنة الأخيرة، وينال شهادته النهائية التي يحسبها ثروته العظيمة. تتمثل له آلاف الدنانير كارجة بين سطورها، ويرى كل حرف من حروفها يضارع أشهق قصور إسبانيا، وعلى هذه الآمال يخرج من المدرسة إلى مدرسة الدهر.
في موسم الشهادات تفعل المدارس كما يفعل المزارع تمامًا. هذاك يكوم حنطته المدروسة على بيدره، والمدارس تغربل محصولها أولًا. تغربله وتصدره إلى العالم أكياسًا. وذوو الشباب تملأ صدورهم الآمال بالغد، فقد أنفقوا الكثير مما يحبون حتى رأوا في يد ابنهم هذا السلاح الثقافي الذي يقاتل به في حرب المعاش. يتخيل الأب كل حرف من شهادة ابنه مبلغًا ضخمًا من المال، وأنه متى تخرج الصبي يقبر الفقر.
ها قد طارت الطيور بأرزاقها ولكن إلى أين؟ أفلت الصبي من القفص فانزاح برقع الوهم عن عينيه فنظر إلى العالم مدهوشًا وتمثل لعينه حرج موقفه، فبهت ووقف وقفة المتحير إذ لاح له نور مستقبله الضئيل. الآن درى أن الشهادات كالأوراق المالية. فبقدر ما وراءها من الذهب المرصوف في خزائن الدولة، تكون قيمتها الحقيقية، وها هو يعرض ما في يده في الأسواق والله أعلم بالمصير.
فماذا يصنع يا ترى؟ أيتعلم فن الطب؟ ربما أنه لا ينجح وأمه لا ترضى، لأن الطب يقتضي تحصيله الزمن الطويل، وهي مستعجلة حتى تفي الديون وإلا راح البيت وبستان الليمون وكرم الزيتون.
هل يدرس علم الحقوق؟ فعمه وأبوه لا يرضيان. عرفا أن البعض قد دنسوا هذه المهنة الشريفة حين اتخذها وسيلة لابتزاز أموال الأيتام وتحميل الناس أحمالًا ثقيلة.
أيكون مدرسًا وهو يعرف ما كان يكابده أستاذه من الأتعاب وإعمال الفكرة ليبين له غوامض دروسه ناهيك أن الراتب طفيف، ولربما أنه لا يجد مدرسة يدرس بها؛ لأن التدريس صار حرفة من ليس له حرفة، والرواتب كمشاريع الحكومة توضع في المناقصة. وجنابه لا يقنع بالقليل، وأهم من كل ذلك أن بضاعته قليلة وهو غير واثق من نفسه.
أيرضى بعمل عند أحد التجار مدة ليختبره؟ لا. لأن والده أنفق عليه ثروته حتى تعلم هذه العلوم وهو أيضًا لا يطيق أن يكون مرءوسًا. وإن رضي بتأسيس محل تجاري يعارضه والده وعمه وابن عم أمه زاعمين أن بعض التجار يبيعون الذمة والضمير ويلجئون أخيرًا إلى الإفلاس ليأكلوا مال الناس. وقبل وبعد فمن أين له رأس المال؟
أما الوظيفة فقد حاول إدراكها فما أدرك إلا غبارها، إنها كالنعامة ومن أين له خفة الرجل؟ وجد خلف كل كرسي ألفًا من أمثاله، وكيف يصل وهو مقطوع الظهر؟ فالخلاصة إذا عزم الشاب على عمل ما يصادف أمامه من المصاعب جبالًا فيطرق مدة طويلة دون أن يفتح الله عليه.
أما إذا غضب الله عليه ومال من صغره إلى الشعر والكتابة فهناك النجاح العظيم، وكيل المال المد بالمد. إنه يقضي حياته سابحًا في البحر (الطويل) مسترسلًا إلى (المجاز المرسل) طامعًا بالدر من بحر (الوافر) (هازجًا) في أودية النجاح، وإذا أعياه الوزن ففي (الشعر المنثور) نثار الدر والعسجد. وهكذا يعود خائبًا؛ لأن مدرسته لا يعنيها النظر إلى شئون الحياة، فما علمته غير النظريات والعصر عصر العمل. ما تعلم غير أدب وبحوث اجتماعية تنأى به عن المهن التي تطعم خبزًا. لقد غرست المدرسة في نفسه ما غره منها، فأصبح يرى العمل مهانة تحط من قدر شهادته التي لا يليق بها غير كرسي واسع يترهل عليه.
يدخل الفتيان المدارس وفي نيتهم الهرب من كل حركة يدوية. يرون في الصنائع عارًا عظيمًا إذا لم يكتب لهم النجاح في العلوم، وتطمح أنظارهم إلى المراكز التي ألقيت عهدتها إلى رفاقهم الناجحين، فيقفون عن العمل ويأخذون يقيسون الشوارع عرضًا وطولًا، يمسون على أمل ويصبحون على فشل، وربك أعلم بالنهاية.
فيا أيها الشاب الغيور إذا كنت تطمع بمركز رفيقك، فلماذا لم تتشبه به أيام كان يسهر ليحصل، وأنت منبطح على (طبقتك) لا تبالي بالدرس خوفًا على صحتك الغالية، وعملًا بقول المثل (حمار طيب خير من فيلسوف ميت). ألم تتمخض بك أمك المدرسة بضع عشرة سنة نظيره، وإذا بك أنت تولد مسخًا ويا للأسف. أما سمعتما شروح معلم واحد فما هذا التفاوت بينكما؟ لقد صدق المثل الإنجيلي بك، فأنت كالعذارى الجاهلات تذهب اليوم إلى العرس ومصباحك لا زيت فيه!
وإن قلت: كان رفيقي ذكيًّا مجتهدًا فنحن نعذرك على هذا، ولكنا نلومك على البطالة، فدونك الصنائع إذ لا بد من أن تجد حرفة توافق ذوقك. ليست الصنائع تحط من شأنك (زادك الله علاء) فكل عمل محلل هو شريف، أما العار (يا صاحبي) ففي البطالة. أما سمعت المثل الذي يردده أبوك وجدك على مسمعك. اشتغل بنحاسة وحاسب البطال.
فلماذا نطمح حيث لا يحمد الطمع، ونقنع حيث تضر القناعة. أتقنع من العلوم بالقشور وتطمع بلباب الرواتب الضخمة، هذا هو الجهل الفاضح ورابع المستحيلات. إنك ترى العمل الصغير محطًّا من قدرك السامي؛ لأنك تعودت الترف وهذا هو النقص في تربيتنا البيتية. تخلع كل يوم بذلتين، ولكل حصة من النهار عندك ملبوس، وقد صح فيك قول الحريري: ألبس لكل حالة لبوسها. خبرني عن عدد قمصانك وربطات رقبتك، ومناديلك وجواربك، وبوطاتك اللماعة وغير اللماعة.
وهنا فليسمح لي الآباء أن أعنفهم. فهم الذين أوصلوا أولادهم إلى ضيق اليد، أرادوا أن يكبروا نفوسهم بالملبوس، فأضاعوا الفلوس ورموا بهم في هذه الهوة.
لقد عاشوا صغارًا مدللين ثم درجوا (مدلوعين مهروقين) وشبوا اتكاليين وعاشوا في ظلنا منعمين.
خبرني لبناني هاجر وعاد إلى الوطن غانمًا قال: كنت أتاجر بالثياب الجاهزة متنقلًا من مزرعة إلى مزرعة في أرياف البرازيل، أبيع العمال فيها بالدين، وأقبض في نهاية الشهر من صاحب المزرعة، والمزرعة هناك مقاطعة كبيرة. فقلت: لا بد من تقديم هدية لابن هذا السيد، فاشتريت طقمًا من الجوخ الممتاز وحملته إليه في آخر الشهر. فما رآه الخواجه حتى صاح: ما هذا؟ قلت: طقم للمحروس خورخي، اشتريته له خصيصًا لأنني لا أبيع إلا ثيابًا عمالية من الكتان الأسمر.
فقال: يا صاحبي، هذا ليس ملبوس ابني، لا أريد أن يتعود ابني لبس الجوخ فتيًّا؛ لئلا يعرى شيخًا. ضب الطقم وبعه ممن تشاء. ثم نده ابنه فجاء، وقال له: نق طقمًا من هذه الثياب. فانتقى واحدًا. وهكذا جبر خاطري ولم يرد أن يعود ابنه (الجخَّ) صغيرًا، فعاد الفتى إلى مراقبة الألوف من عمال مزرعة أبيه والعمل معهم، ولم يضع فرصة الصيف.
أما نحن فنرى القعود هو الحرفة الشريفة، وأن الفلاح والخادم والعامل ليسوا بشرفاء. وهذا الداء فاشٍ بين طلاب المدارس، ولهذا إذا رفع الله مرءًا بماله أو وظيفته لا يرجع إلى عمله القديم إذا عانده الدهر. يا حبَّذا لو كان التلامذة عندنا يشتغلون كابن هذا المزارع المليونير أو كالتلامذة الأميركيين. وهنا أذكر حكاية قرأتها في إحدى الصحف منذ نصف قرن: أقبلت المواسم في بعض جهات الولايات المتحدة، فاضطر الفلاحون إلى ازدياد الفعلة لحصاد المزروعات فنشروا إعلانًا يقولون فيه: إنهم يدفعون أجرة الحاصد في النهار خمسة دولارات — هذا قبل الحرب الأولى — فما طرق هذا الخبر مسامع طلبة الكليات، وكلهم أبناء بيوت غنية حتى تسابقوا إلى العمل وحصل كل منهم نصيبه.
أما نحن فقد قتلتنا القنفشة، ديوك حبش، إذا علونا فترًا تسامينا كيلومترًا. فنحن نزوج أولادنا وننفق عليهم ولا ينفصلون عنا. وهم يفصلونهم عنهم متى رشدوا، ويكون البيت مثابة لهم إذا شاءوا ولكن ببدل. إن ابن تيودور روزفلت ترك ثروة أبيه ولم يتكل عليها، وأراد هو أن يكوِّن مستقبله كما كوَّن أبوه مستقبله. أما نحن فلا يفارقنا هَمُّ أولادنا، يرافقنا حتى نغمض أعيننا آخر إغماضة. قد سمعت واحدًا بلغ السبعين يبكي أباه الميت الذي جاوز التسعين قائلًا: يا أبي. وصِّ أصحابك فيَّ.
وقال لي أحد أصدقائي وهو أديب كبير عندما زار مكتبي، سمعته يتأوه فقلت: ما لك؟! فأجاب: بعت من مكتبتي كتبًا نفيسة بألف ليرة ذهبية حتى زوجت الصبي.
فقلت له: لو كنت أميركيًّا لما عناك أمره، ولما أخرجت كتبًا كانت هي أساس شهرتك ومنها أتت ثروتك الفكرية.
فقال: وليتك تعلم ماذا صار فيما بعد!
فأجبته: دعني يا سيدي من ماذا صار! صار أن الأب يحب ابنه، والابن يحب زوجته، والزوجة هي وذمتها، وحسبك الله يا محمد!
فبفتيان العالم الجديد فليتشبه طلابنا، وبآبائهم فليقتد آباؤنا. ولعله من هنا قد جاء إخفاق المتعلمين المهاجرين حتى سمعنا أن فلانًا الذي تخرج في الكلية الفلانية هو في حالة من الفقر يرثى لها، والمعاز الأمي الذي لا يعرف الألف من العصا، صار في غربته صاحب دور وقصور، ومزارع ومعامل، وشركات ضخمة. هذا الجاهل يطأ الشوك بأخمصيه غير مبال بالصعاب، وذاك — وهو صاحب الشهادة المتنعم في نشأته — تنفخه العظمة الكاذبة ولا يبالي إلا بتركيز القبة وربطة الرقبة والنظر في المرآة ليرى إذا كانت منسجمة مع ثوبه وبوطه وكلساته.
إن النجاح موقوف على العمل، أي عمل كان، ونحن لا عمل ولا ثبات. دأبنا الشكوى من ضيق البلاد، وبطء الحركة، غير عارفين الحقيقة كطفل أصيب بوجع في جسمه، فأخذ يشير طورًا إلى رأسه، وحينًا إلى معدته، فلم هذا الكسل؟! أليس من الواجب على كل شاب، إن غنيًّا أو فقيرًا، أن يجتهد في هذا العصر الذي لا يعيش به الإنسان إلا لنفسه؟ فمجد الأجداد (رحمة الله عليهم) قد دفن معهم، والمستقبل أسد هصور يزأر في غاب الحياة، وهل يقنص الأسد غير الأسد.
فيا عزيزي الشاب الحائر، اسأل الله أن يهبك عملًا تؤديه لا ملكًا تقتنيه. المدارس تُعَلِّمُ القراءة والكتابة، والكليات تدلنا على ما سنفتش عنه ممَّا نحتاج إلى معرفته، وأنت تتعلم لتحسن تأدية عملك على حقه، وهنا سر النجاح.