شهوة الحكم
في هذه المحطة التي أقف فيها كل عام لأودع عامًا وأستقبل آخر، وقفت اليوم لا لأقيم حفلة كوكتيل كما يفعل غيري بهذه المناسبة، بل وقفت فنظرت إلى أشباح الماضين، ثم استطردت إلى المقابلة بين الأمس واليوم.
أنظر إلى ناس اليوم فأراهم غير الذين عرفتهم في شبابي. فالموظفون، مثلًا، كانوا غير بطرين ولا أشرين، ظلوا متواضعين لأنهم كانوا أغنياء فأفقرتهم الوظيفة، وليس لهم مورد غير معاشهم، ولأن ميزانية ذلك العهد كانت كبركة اليمونة لا تزيد ولا تنقص كما يقولون. وزيادة ربع قرش على مال الأعناق أو الأرزاق كانت تقيم البلاد وتقعدها. أما ميزانية هذه الأيام فكالعجين المخمر يطف على حفافي المعجن فتزداد ملايين بعد الملايين. والمعاشات والدرجات تقفز قفز القبابيط في اليوم القائظ.
وهذا الموظف الحديث النعمة الذي يظن أنه رب ثان على الأرض، يخر على أقدام من هم فوقه ليحظى بالتحية ممن هم دونه. فلولا حبه الظهور لاكتفى بما يقبض ولم يلوث يده، وهذا الجيش العرمرم من الموظفين ماذا يكفيه؟ فلولا وظيفته التي يستغني عن خدماتها لكنا نأكل ويأكل، وننتقل وينتقل بربع التكاليف التي نرزح تحتها الآن.
إن هذا الثوب الفضفاض الذي فصلوه في ساعة طمع وكلب هو الذي سبب هذا العسر والغلاء. كان معاش النائب خمسين ليرة فصار خمسماية، ثم جمز جمزة واحدة إلى الألف، وقس على هذا الوظائف الأخرى عالية وواطية. أما العدد فيزيد وينقص حسبما تقضي الأهواء والأغراض.
والولائم لا أول لها ولا آخر، حكومية وشعبية. الحكومة تنفق من كيس الشعب والشعب بطران لا يقتصد، يتشبه بعضه ببعض والتشريفات الشرقية هي طاعون الميزانية. علينا أن نزور ونزار، وعلينا أن نودع ونستقبل، وفي الحالتين لا بد لنا من إنفاق الملايين لنكون قمنا بواجب ضيوفنا الأعزاء. كل هذا لم تقع عليه عيني في فجر عمري المديد.
إن هذه التقاليد الشرقية، وهذا التقنفش هو الذي أورثنا هذا الضيق. فماذا يضير الضيف لو زارنا وزرناه برفع الكلفة دون أن تهتز الأرض للقائه؟ ترى ألا يصل بالسلامة إلى المكان المقصود إذا لاقته مفرزة من الجنود وأخذت سلامه فصيلة ولم تحشد القوى كلها؟!
ثم ألا يشبع إذا أكل ثلاثة ألوان، عدا الحلوى والفواكه! والمشروب الوطني؟! ألا يصلح لشرب الأنخاب ويساعد على افترار عن الثغر كما تساعد الويسكي والشمبانيا؟! إن كأس خمرة لبنانية معتقة تعبئ الرأس أكثر من الشمبانيا الفرنسية وبنت عمها الويسكي والسكوتشية، ومع ذلك يقول المغني:
رحم الله المصلح بنجامين فرنكلن الذي قال: كم من ضيعة ضاعت حين تركت النساء المغزل في سبيل الشاي، وحين ترك الرجال المحراث في سبيل الكأس، أجل إن القرية اللبنانية خلت من سكانها تقريبًا، فالخوف والجهل والمرض متآمرون على سلامتها، يتصلون بالمكسيك تليفونيًّا، والقرية التي تبعد ربع ساعة عن شط البحر لا تتصل بالطبيب ولا تعرف إلا وجه الجابي والمباشر.
فعلى الرءوس أن يكونوا قدوة للشعب ويقللوا من إسرافهم الذي يتشبه به صغار الموظفين، وما أكثر الموظفين في لبنان. تقطع سرة المولود اللبناني على اسم الوظيفة، وقد ينذر لها في البطن كما نذر شمشون الجبار لله. هكذا تحلم الأم اللبنانية بمستقبل ابنها، فليت موسى بدل بعض وصاياه العشر لتصلح للتطبيق في لبنان. لا تشته وظيفة غيرك. لا تشته مال الشعب الذي وكلتك به الحكومة.
عفوًا إذا شبهنا الموظف بشمشون الجبار. وأي جبار يبلغ السماء طولًا مثل الموظف، فهو يرى نفسه فوق الناس، يزار ولا يزور ويعاد ولا يعود، ومن المخطئ يا ترى؟! هو أم نحن الذي نفتقده في كل مناسبة؟ إذا حزن عزيناه، وإذا استوحى طرنا إليه وحشدنا قوانا لتأييده. كان بالأمس أديبًا كيسًا فما عدا مما بدا حتى نرى منه هذا التزنبر! لقد أصابنا معه ما أصاب ذلك اللبناني مع مشايخ ضيعته. كان في ضيعة من لبنان فلاح مكفي، تعشق مسايرة (المشايخ) حتى الوله، واستطيب مذاكرتهم التي تثير الضحك على ما فيها من العبر. فأخذ يتعشى قبل الغروب ليأتي بيوتهم ملس الظلام، ثم لا يعود منها حتى يتدهور الليل.
وكثيرًا ما كان المشايخ يزأرونه ولا يحس، ويقابلونه بفجاجة ولا يشعر. يستحلي حديثهم، ولو تماجنوا به وتنادروا عليه، وما كان يهتم في حضرتهم إلا بأن يقول كلمة جرت العادة في قولها عندنا للشاربين: هنيئًا يا سيدي، أو هنيئًا لمن شرب، أو صحة وعافية، بحسب مراتب الناس.
وأخيرًا تعود المشايخ رؤية هذا الضيف، فألفوه، وتغير نظرهم فيه حتى صار في عين نفسه كأنه واحد منهم، فطيف بالشراب عليهم جملة، ذات ليلة، فأدى صاحبنا مهمة: هنيئًا يا سيدي، لكل واحد منهم. ثم جاءت نوبته فشرب وأجال نظره فيهم فإذا هم في شغل عنه. ورأى أن يتنحنح ففعل، ثم أحَّ، ثم سعل. وما من يلتفت، فانشق صدره من الغيظ حتى عدا طوره وقال لهم: محسوبكم شرب يا مشايخ! فأجابه أحضرهم نكتة وألذعهم نادرة: (كل عمره يشرب). فكركروا جميعًا في الضحك، ولم يفز صاحبنا منهم بكلمة (صحة) حتى بعد استجدائها.
فمن الملوم يا ترى؟ ألسنا نحن الملومين لأننا أعطينا هؤلاء الناس أكثر مما لهم. ألم يكن سامي بك الصلح على حق حين قال: (إنه سيقترح على الحكومة تغيير اسم الموظف باسم خادم الشعب حتى تسير قضايا الدولة والشعب في الطريق المستقيم).
فما معنى كلمة الوظيفة التي اشتق منها اسم الموظف؟ هي طعام ورزق محددان يتناولهما المستعمل ممن استعمله، ومن يأكل طعامك وجبت عليه خدمتك. إذن الموظف خادم أمين شريف يأخذ الجراية في حينها فيأكل رغيفه بعرق جبينه، وعليه أن يتم الأعمال في مواقيتها. أما الموظف الذي يريد أن يسميه سامي بك خادمًا فقد سماه المعري، منذ ألف سنة، أجيرًا.
الملبوس لا يعمل القسوس. فالبابا كان يوقع فيما مضى عبد عبيد الله، والبطاركة والأحبار وغيرهم يوقعون الحقير والفقير، والكردينال مري دلفال، وزير الفاتيكان على عهد بيوس العاشر، وقع لي: خادمكم المطيع.
كأن سامي بك، وهو أستاذ الشرق اللبناني الأعظم، يريد أن يحدَّ من أرستقراطية الموظف وغطرسته حين فكر بهذا الاسم، ولكن أي موظف؟ ذاك الذي يتغطرس ويتفرعن، ويتسلطن كديك الحبش؟!
أليس هذاك الذي قذفته سخرية القدر إلى دور الحكومة فجلس على طنافسها، بعدما كانت قوائم كرسيه من خشب الحور الخام، ومقعدها حبال قش فتلت فتل شزر!
ومن ينتفخ كضفدع لافونتين؟ أليس ذاك الذي جاء السراي ببنطلون كأن قفاه خريطة جغرافية للخطوط الحديدية، ثم صار حين امتدت يده إلى المال السائب يبدل كل يوم حلة؟!!
أليس ذاك الذي جاء منتعلًا بوطًا مفلطحًا كأنه خف جمل، مرقعًا كمداس أبي القاسم الطنبوري، ثم صار اليوم من زبائن النجار وباتا، وأشهر الماركات المسجلة؟!!
أليس ذاك الذي كان يفترش أرض غرفته، وإن استراح نام على سرير ثرثار، كان يفر من تلك الزريبة مع الفجر لئلا يفاجئه أحد فيها، ولكنه صار بنعمة (الأمانة) من زبائن أشهر مصانع الموبيليا، ومخازن السجاد العجمي، وكل ذلك بفضل الغفلة وسوء التربية؟
أليس ذاك الذي كان كابن الإنسان ليس له مكان يسند إليه رأسه، فصار صاحب دار وعقار وسيارة وخدم، وهو إذا شبع من راتبه الشهري عري، وإن اكتسى جاع؟
لا بأس بتسمية الموظف سيدًا، إذا كان أمينًا، أما أن نسميه خادمًا، ويده طويلة، فهذا والله، كثير عليه يا بيك!
فمن المسئول عن هذه الكبرياء العارمة عند الموظفين، أليست النظم الحكومية التي جعلت درجة رؤساء الجامعات رابعة عشرة حين زارنا عظيم من عظماء الشرق؟ ألم يأتوا بعد آخر موظف؟
وفي أي مناسبة دعي واحد من رجال الفكر إلى تلك المآدب التي هي من مال المكلف اللبناني، فكأن لبنان كان موظفًا في مطاوي تاريخه ولم يكن فكرًا. فساعة يريدون يتحدثون عن الإشعاع وكأنهم هم راديوم المعرفة الذي لا ينقطع إشعاعه، وساعة يريدون يطفئون القناديل إلى حين كما تفعل عجائز القرية في تساعية الميلاد، أو جمعة الآلام، حين يحضرن الصلاة في الكنيسة.
قلت: فوق أنهم لم يدعوا أحدًا إلى مأدبة حكومية على وجه التعميم، مع أنني عرفت أنهم دعوا مرة شاعرنا العظيم بشارة الخوري — الأخطل الصغير — إلى مأدبة ما، ولكنهم حددوا له ثوبًا بعينه. فكأن بشارة لا يكون بشارة الخوري إلا إذا لبس الفراك أو الردينكوت. نسوا أنه كسا لبنان من قريضه حلة لا تبلى ولا تخلع.
نحن غرباء في وطننا يتمتع غيرنا بما نغذي به الصندوق من ضرائب ظاهرة ومستورة، ولا نحصل على رغيف نفك به ريقنا.
ستر الله علينا وعلى حكومتنا التي أصابنا معها ما أصاب يوسف ساسين العاقوري مع رئيس دير ميفوق في ذلك الزمان. زار الشيخ يوسف ذاك الرئيس فوجده مهموكًا باستقبال سيدة جليلة اسمها أم حنا، فلم يبال بالشاعر العامي، فنام الشاعر تلك الليلة على مضض. وفي الغد صعد إلى الخورس وخدم القداس لرئيس الدير فأعجب بصوته وحسن ترنيمه. ولما بلغ (فلنقف حسنًا بأجمعنا) صرخ الشيخ يوسف ببيت نظمه هو على ذلك الوزن فقال:
فهل نعجب بعد هذا إذا رأينا حركة سير الدولة لا تتعرقل إلا عند التعيينات والمناقلات. فالتوظيف قوام الدولة عندنا. أقول الدولة وأعني ما أقول، فلم يقر لنا وطن بعد. وهل نعجب إذا رأينا هذا التهافت على الوظائف؟ تصور أن واحدًا خفيف العقل قعد مرة قدامي في إحدى الحفلات، وشاء أن يعتذر عن تصدره فقال: لا تؤاخذني. بحكم الوظيفة.
ويا ليتك تعرف ما هو، كاتب صغير، قضى في المدرسة سنوات وظل يكتب أيضًا أيظًا. ولكن وراءه لحية كالتي وصفها ابن الرومي، استطاعت أن تجلسه على كرسي سيقانها من قصب، فصار (ابن حكومي) كما تقول والدته.
هذه نتفة من ذكرياتي يوم مولدي، وعش رجبًا ترى عجبًا.