لا يحولون ولا يزولون
قيل لي: أما أنا فما زرت أوروبا ولا غيرها. إنهم هناك يعينون في المخازن الكبرى مستخدمًا (برسم البهدلة) فكل تقصير مع الزبائن ينسب إليه ويصب عليه الخواجه جام غضبه حين يشكو إليه أحد إبطاء أو تأخيرًا. وكذلك فعل بنو إسرائيل حين صبوا تمثالًا سموه (تيس الخطية) فكانوا يتمسحون به ليحمل خطاياهم عنهم، ثم يذبحونه ليبرءوا من ذنوبهم. وهكذا نحن نعيب زماننا والعيب فينا، فلو تطهرنا من عنعناتنا عمليًّا لا قوليًّا، اختفت أعراض الطائفية التي هي كالعر — الجرب — يكمن حينا ثم ينتشر. إن وباء الطائفية منتشر اليوم أكثر منه في كل زمان، والطائفية عندنا.
ندعي نحن أننا من أبناء عصر النور، وأن المرحومين جدودنا عاشوا في الظلمات، ولكننا إذا قسنا أنفسنا بهم رأينا أنهم كانوا أكثر تساهلًا منا. كان جدي يتمون ويتبضع كل عام من طرابلس، ولم يكن يطيب له شراء مئونته وحوايج بيته إلا من عند الحاج مصطفى. فلا ينتصف شهر آب ويأتي عيد السيدة وهو ميزان الأسعار عند القدماء حتى يتحرك موكب الدواب ويركب الخوري بغلته ويسير في الطليعة، حتى إذا ما بلغ أبواب المدينة مشط لحيته ونفض عنه غبار الطريق، ثم يتوغل فيها حتى يحط الرحال بباب مخزن الحاج مصطفى، فتتشابك اللحى وتتهادى كالمراوح، ويموج القاووق والعمامة كهرمين صغيرين، ويرى من في السوق حاجًّا طرابلسيًّا وكاهنًا مارونيًّا جبليًّا يتعانقان ويتصافحان بشوق. ولا يأتي المساء حتى يحل الخوري ضيفًا مكرمًا في بيت الحاج. يصلي كلاهما صلاته في حينها، وصلوات الخوري الماروني خمس كصلاة المسلم. الصبح والظهر، والعصر والمساء، والليل. حتى إذا ما انتهت صلاتهما استأنفا الحديث. وبعد يومين ثلاثة يفرغ جدي من تعبئة المئونة وتمشي القافلة على خيرة الله طلوع النجمة، وتمسي في عبرين لتكون في الغد، عند انتشار النهار، في عين كفاع.
وفي إحدى السنوات افتقد جدي كيسه عند عودته من طرابلس فلم يجده، فضفقت الخورية كفًّا على كف، وصاحت يا خراب البيوت. اقطع الشك يا خوري حنا. فقلب الخوري جيوبه لها ونفض كمره فلم يعثر على شيء، فقعد كئيبًا يفحص ضميره ويتذكر. المبلغ غير قليل، وهو الحيلة والفتيلة كما تقول العوام. وظلت الخورية واقفة واجمة، وأخيرًا انفجرت فزجرها الخوري قائلًا: المال الحلال لا يضيع.
ومر شهران والمال الحلال لم يرجع والليرات الذهبية ظلت في غربتها. وجاء موسم الزيتون فغدا الخوري ليقدس ويذهب إلى القطاف. وبينا كان يدور في الكأس رأى رأسًا عليه لفة امتد من الباب وارتد، فخال أنه شبه له. وانتهى القداس وما خرج الخوري من الباب حتى رأى نفسه أمام مسلم يسلم عليه بوقار ودالة. وتعارفا أخيرًا وقال الرسول لجدي: صاحبك الحاج مصطفى يسلم عليك، أرسلني حتى أسلمك هذه الأمانة.
وعاد الكيس والليرات واغتبطت الخورية: يسلم دين لحيتك يا حاج مصطفى! وأراد الخوري أن يكرم الرسول الذي يمشي ثلاثة أيام ذهابًا وإيابًا فأبى الرسول قائلًا: أجرتي واصلة لي من الحاج، حرم عليَّ أخذ بارة واحدة منك وهو يسلم عليك ويقول لك: ما وجد طريقة أمينة حتى يرسل إليك حلالك قبل الآن.
وامتنع الرسول حتى عن الزاد، لأنه مزود من الحاج فصح قول الشاعر: ويأتيك بالأخبار من لم تزود. وكان جدي — رحمه الله — والحاج مصطفى، كلما روى لنا تلك القصة، يقول: العلة في البشر لا في الدين.
لقد سبقنا الأجانب في كل شيء حتى الصلاة، فإنك تقرأ صلاتهم فتراها عمومية ولا تشعر بأثر طائفي فيها، وكذلك لباسهم فهو لا يشير إلى لون من ألوان الملل والنحل، أما نحن فالثياب تفرقنا، والأسماء تميزنا، والصلوات وألحانها تدل على كل ملة وطائفة، وخصوصًا في لبنان هذا الكوكتيل الغريب العجيب.
يخترع العلماء اليوم آلات ليدرسوا بها الشمس عن قرب، فهلا حاول أحد هؤلاء الجهابذة اختراع آلة تدرس لبنان وطوائفه.
الفلكيون يكتشفون نجومًا جديدة وكواكب جديدة إلا أقمار لبنان وكواكبه ونجومه، فهم في كل فلك يسبحون. ففي فلكنا السياسي الطائفي كوم ثريات، وموازين، ومجرات، ودبب كبار وصغار، كما في الفلك تماما. ترى إذا أجلنا فكرتنا وفتشنا أبعاد نظام فلكنا السياسي الطائفي، ألا نعثر على نجم أو نجوم جديدة تضيء لنا في الليلة الظلماء؟
ترى أي فرق بين لبنان العصر العشرين وبين لبنان القرن التاسع عشر والثامن عشر. كانوا يسمون ذلك العصر إقطاعيًّا لأن كل مقاطعة كانت لواحد، واليوم يقتطع النواب البلاد باسم النيابة والنظام البرلماني، فتطلق أيديهم في مناطقهم ويتصرفون كأنهم في عهد الإقطاع. ناهيك أن رجال السياسة هم هم، كأنهم حجارة الداما. ترى أليس في البلاد سواهم!؟ وإذا قلت هذا قالوا لك الطائفية.
أمنا يا سيدي. إنها الطائفية، ولكن في الطوائف غير هؤلاء. هل ورثوا الحكم والوظائف مع ما ورثوا من عقارات؟ استند الشارع إلى الطائفية ليحد من طغيان ملة إلى ملة، ولم يقل بالطائفية لتظل مقدرات الدولة في يد بيوت معلومة لأنهم توارثوا الوظائف كابرًا عن كابر.
إنها، والله، إقطاعية لا طائفية، ففي كل طائفة رجال كثيرون فلم لا نجربهم؟ والشباب لماذا لا نمرنهم؟ على الأقل الطائفية تقول بالمساواة بين الطوائف في الوظائف ولا تقول بالحصر والاحتكار. لقد جربنا من جربنا من الناس فلماذا لا نجرب غيرهم؟
وإذا كان لبنان دولة ديمقراطية علمانية حقًّا، فأين الوجوه الشعبية الجديدة التي تطل علينا؟
تتغير رجالات دول الأرض في استمرار، فأسماء تغيب وأسماء تبدو ثم تختفي إلى ما لا نهاية له، إلا عندنا في هذه البقعة من الأرض، فإن رجالها في متاريسهم ثابتون، والثابت وجههم ووجه الله.