سوس وقراد
تنكر نابليون وركب جواده لنزهة، فأقبل بعد مسير بضعة عشر ميلًا، على فلاح عملاق مكب على مجرفته يسوي بها الأرض، فحياه الإمبراطور وسأله: أتغل لك هذه الأرض ما يكفي عيالك؟
فأجابه الرجل: الأرض كريمة وفية يا سيدي، تدفع الدين أضعافًا.
– ولكنها مزرعة صغيرة جدًّا يا شيخي!!
فابتسم الفلاح وقال: والأرض كالرجال لا تقاس بالطول والعرض. صدقني، إذا قلت لك، أوفِّر كل عام نحو ألف فرنك، مع أن عائلتي أحد عشر.
فتعجب نابليون وصاح: كيف؟!!
فقال الفلاح: حياتي يا سيدي، قلع وزرع. لا أستريح ولا أدع الأرض تستريح. من الزرع إلى الضرع، ومن الدجاج إلى الأرانب، ومن الغنم إلى الخنازير. ثم لا تنس التدبير، فحكمة المرأة نصف المحصول. عندي فرس، إن لم يكن كريم الأصل كحصانك، فهو أنفع منه. يفلح ويطحن، ويجر المركبة، ويسرج للركوب. وعندي — أجلَّ الله شأنك — كلب صيد يملأ البيت لحمًا. ولي أيضًا جار رضا أعاونه ويعاونني، يومًا بيوم وأسبوعًا بأسبوع. الأولاد الكبار يعملون معي، والصغار يتعلمون مجانًا، ومجانًا أيضًا نطبب ونداوي.
– يظهر أنك راضٍ عن الكورسكي.
فصوب الفلاح إصبعه صوب السماء وصاح: لا تقل الكورسكي. قل يعيش الإمبراطور.
فابتسم نابليون وهتف: يعيش الإمبراطور.
فقال الفلاح: الآن شرحت صدري. ثم التفت صوب بيته وصاح: هيلين، يا هيلين، هاتي لنا قنينة نبيذ لنكرم الزائر الكريم. ثم كانت منادمة لطيفة شربا فيها نخب الإمبراطور. وأخيرًا عرف نابليون الفلاح بنفسه، وسأله — بعد أن أجازه — ألا يبوح بسره لأحد قبل أن يرى الإمبراطور مرة ثانية.
وبعد العشاء، عمر مجلس الإمبراطور بأركان حربه كالعادة، فقال لهم: عندي جائزة قدرها خمسمائة ليرة لمن يرسم خطة لاستغلال مزرعة لا تزيد مساحتها عن ثلاثة هكتارات، وتكفي غلتها عيلة عددها أحد عشر شخصًا، ويوفر صاحبها ألف فرنك كل سنة. فقعد الأركان يحكون رءوسهم طول السهرة، فلم يخرج منها شيء.
لم يفت المارشال ناي — رئيس الأركان — أن مولاه الإمبراطور رأى تلك المزرعة في نزهته أمس فبكر إليها. أمطر صاحبها وابلًا من الأسئلة فما ظفر منه بغير الابتسامة الحائرة وهز الأكتاف. ولما لجأ إلى المال تمت له الصفقة بخمسين دينارًا انتقاها الفلاح من بين مائة، ثم باح بسره، ورسم المارشال الخطة وأحرز الجائزة.
وجاء نابليون المزرعة بعد الغد، وعنف الفلاح لأنه لم يف بالعهد، وأفشى السر قبل أن يراه مرة ثانية، فضحك الفلاح وقال: خمسين مرة رأيتك يا مولاي. ثم أخذ يريه الدنانير المرسومة عليها صورة نابليون واحدًا بعد واحد، فأعجب نابليون بذكاء هذا المواطن الساذج.
تذكرت هذه الحكاية لما قرأت في جريدة (الفكر) الأردنية، موازنة مثالية وضعتها لموظف عنده أربعة أولاد، وراتبه ثلاثون دينارًا أردنيًّا، أي ٢٦٥ ليرة لبنانية. عصرت الجريدة تلك الموازنة أشد عصر، وقترت على الموظف ما استطاعت، وظل العجز الشهري ثمانية دنانير وثلثي الدينار، فاقترحت على قرائها مشاركتها في بحث المعضلة لعلهم يرفهون عن الموظف المسكين.
حقًّا، إن الأرض تفرق على شبر!! فكم من موظف حقير عندنا، راتبه أقل من راتب الموظف الأردني، وعيلته كعائلة الفلاح النابليوني عددًا، ومع ذلك يشكو الكظة والبشم، كان ومن عنده ينامون على الحصير، فصاروا بعد أن تعلق هذا القراد بجسم الدولة، على سرر مصفوفة متكئين عليها متقابلين، وإذا سألت من أين؟! ذكروا لك سمكات المسيح وخبزاته.
ليتهم يعلمون أن العث مهما رتع في الصوف، ومهما انتفخ وتفلطح يظل دودة حقيرة، والسحق أمامه ولو بعد حين.