صُنع الجزيئات: تلك الأشياء الخفية
أومأ رقيب الشرطة إلى النادل، طالبًا خمر الشعير لنفسه وزجاجةً صغيرة منها لصديقه، ثم مال للأمام في ثقة سائلًا إياه:
– هل صادفتَ يومًا تلك «الجزيئات» أو سمعت قولًا عنها؟
– نعم بالطبع.
– هل سيدهشك أن تعرف أن «نظرية الجزيئات» تمارس تأثيرها في دائرة دالكي؟
– حسنًا … نعم ولا!
– إنها تُحدِث دمارًا مروِّعًا! ونِصْف الناس مصابون بها، إنها أسوأ من مرض الجُدري!
– ألا يمكن أن يعالجها طبيب المستوصف أو يدرِّسها المعلمون المحليون، أم هل تعتقد أنها أحد الشئون التي يجب أن يهتم بها حاكِم البلدة؟
– إن الأمر برُمَّته في يد مجلس المقاطعة (هكذا أجاب بلهجة حازمة).
– يبدو هذا الأمر معقدًا للغاية!
في الحقيقة، لقد كتب فلان أوبريان أقصر المقدمات عن الجزيئات، وكان أكثر براعة وجاذبية في حديثه مني. لقد أراد ذلك الرجل أن يقدِّم معرفته العلمية ببساطة، وكأنه يناقش أمرًا مثل محصول البطاطس أو الحالة السيئة للطرق خارج العاصمة الأيرلندية دبلن. ويمكننا الإفادة بقدر أكبر من تلك الحكمة التي يتقاسمها رقيب الشرطة فوتريل مع صديقه ميك في فندق متروبول الذي يقع في الشارع الرئيسي بمدينة دبلن، وتتجلى في الحوار التالي:
– هل درَسْت من قبل «نظرية الجزيئات» حين كنت صغير السن؟ كان هذا سؤال فوتريل، فأجاب ميك قائلًا: لا، ليس بالتفصيل.
– يا للأسف الشديد! هذه جريمة شنيعة، ومفاقمة عويصة! (هكذا قال فوتريل في حدة)، ولكنني سأشرح لك هذا الموضوع … إن كل شيء لدينا يتكون من جزيئات صغيرة في داخله، وهي تتطاير حولنا في دوائر متحدة المركز، وكذلك في أقواس وقطاعات ومسارات أخرى متنوعة أكثر من أن نتمكن من الإتيان على ذكرها جميعًا، ولا تبقى كما هي مطلقًا ولا تستقر، ولكنها تدوم وتحوم قريبًا وبعيدًا ثم تعود مجددًا، فهي تتحرك طوال الوقت، هل تفطن لما أقول؟ إنها الجزيئات!
– أعتقد أنني أفهمك!
– إنها بالغة النشاط والحيوية مثل عشرين شيطانًا من الجن يتراقصون فوق شواهد القبور! ولنأخذ الخروف كمثال: فما الخروف إلا ملايين من «الجزيئات» الصغيرة التي تدور وتدور — حاملةً صفات الخِراف — في حركات تشنجية معقدة … كأنه وعاء يغلي بما فيه!
ما هو الخروف؟ هذا السؤال البسيط (في كثير من مظاهره) كافٍ جدًّا لجعل العلماء منشغلين لمئات السنين، وسيستمر كذلك لسنوات كثيرة قادمة؛ فعِلْم الجزيئات يعطي إجابة مضمَّنة في سلسلة هرمية من الإجابات. إنه معنيٌّ بتلك الملايين من «الجزيئات»، والخروف توليفة من أنواع كثيرة من الجزيئات، وهي عشرات الآلاف من الأنواع المختلفة، التي لا تقتصر على الخِراف بالطبع، وإنما توجد كذلك في البشر وفي العُشب وفي السماء والمحيطات.
لكن العلم — الذي يبحث عن مستويات من الفهم أكثر عمقًا — لا يترك الأمور على عواهنها. أليست جزيئات الخروف مكوَّنة من ذرات؟ أَوَليست الذرات مكوَّنة من دقائق دون ذرية مثل الإلكترونات والبروتونات؟ أَوَليست تلك الدقائق مكوَّنة بدورها من دقائق دونها مثل الكواركات والجلوونات؟ فمَنْ ذا الذي يمكنه التكهن بما تحتويه من أسرار داخل حدودها الدقيقة المبهمة؟
– إن الجزيئات نظرية معقدة جدًّا، ويمكن إثباتها بعلم الجبر، ولكن قد تحتاج إلى حسابها تدريجيًّا، باستخدام المساطر وجيوب التمام وأدوات أخرى مألوفة، ثم في نهاية الأمر لن تصدق ما أثبتَّه مطلقًا. إذا حدث هذا، فَسَيَتَعَيَّن عليك أن تعود إلى الوراء، حتى تصل إلى وضعٍ تستطيع أن تصدق فيه الحقائق والحسابات التي لديك تمامًا على أساس ما وَرَدَ في كتاب الجبر، ثم تستمر مجددًا من ذلك الوضع بعينه إلى أن تحصل على الصورة الكاملة، وقد صدقتها تمامًا دون أن تخلِّف وراءك الشذرات التي لم تصدق إلا نصفها أو أي شك في رأسك يؤرِّقك كأنك تبحث عن زر قميصك تحت أغطية سريرك!
– هذا حقيقي جدًّا! هكذا أجاب ميك بثقة.
إنه حقًّا لَأَمرٌ معقَّد أن تبحث في ماهية الجزيئات إذا أردتَ أن تبدأ سُلَّم العلم من درجة أكثر انخفاضًا (أو لِنَقُلْ أكثر عمقًا) ثم تصعد لأعلى. ويكون هذا ضروريًّا إذا أراد المرء أن يفهم تمامًا الأسباب الكامنة وراء سلوك الجزيئات؛ ومن ثمَّ أسباب إظهار المادة لتلك السلسلة المميزة من الخصائص، أيًّا كانت المادة: خروفًا أم صخرة أم لوحًا من زجاج النوافذ أم غير ذلك. ولكن الكثير من العلماء الذين يبحثون في الجزيئات ليسوا في حاجة إلى الاكتراث بكلِّ ما في علم الجبر؛ إذ يمكن بصفة عامة اختصار مضامينه في قواعد أساسية عن كيفية تفاعل الجزيئات فيما بينها. كانت الصناعة الكيميائية مشروعًا مزدهرًا قبل أن تجد الكيمياء نصيبها من علم الرياضيات؛ ومن ثم يمكننا القول إن الجزيئات لن تؤرِّقك على أي حال.
ماذا عن الجدول الدوري؟
من العجيب أن فلان أوبريان حين اقتبس ذلك الجواب الذي دار بين الرقيب فوتريل وميك من كتاب «أرشيف داكلي»، ونَقَلَه إلى الرواية الأكثر شهرة بين رواياته — التي تسمى «الشرطي الثالث» (ونُشرت بعد وفاته في عام ١٩٦٦) — قد عمد إلى حذف عبارة «نظرية الجزيئات»، وكتب بدلًا منها «نظرية الذرات»، وهنا يكمن مربط الفرس؛ الغموض الذي يكتنف ما صُنعت منه الأشياء: أهي الذرات أم الجزيئات؟ وهنا يعطينا الكيميائيون أجوبةً مختلطة. إن الشفرة الأيقونية لديهم هي الجدول الدوري، وهو عبارة عن قائمة من اثنين وتسعين عنصرًا طبيعيًّا (أُضيفَ إليها بعض العناصر الاصطناعية غير المستقرة)، مرتَّبة على نسق يساعد الكيميائيين على الإفادة منها. إن أشهر كتاب «عن» الكيمياء هو ذلك الذي أسماه الكيميائي والكاتب الإيطالي بريمو ليفي «الجدول الدوري»، والذي يتحدث عن العناصر؛ تلك اللبنات البنائية للمادة، وهو بهذا يقوِّي الانطباع بأن الكيمياء تبدأ بتلك الشبكة غير المنتظمة في شكلها من الرموز. حين كنت تلميذًا بالمدرسة كانوا يشجعونني على تعلُّم فن الاستظهار كي أتذكر العناصر التي في الصفين الأول والثاني في الجدول، وهما الأكثر أهمية، ولكن في مرحلة تالية من التعلم كان يتعين عليَّ في علم الكيمياء أن أحفظ الجدول الدوري كله، وأستظهره من ذاكرتي، بحيث أعرف أن الإيريديوم يقع فوق الكوبالت، وأن اليوروبيوم ينحصر كالشطيرة بين السماريوم والجادولينيوم. ومع ذلك فإنني أشك أن تقع عيني يومًا على السماريوم (وإن كان اليوروبيوم يلتمع متوهجًا من شاشات التليفزيون لدينا).
العناصر: في كتاب «الجدول الدوري» لبريمو ليفي
هناك ما يُعرف بالغازات الخاملة في الهواء الذي نتنفسه، وهي تحمل أسماءً إغريقية عجيبة متفاوتة في اشتقاقها، وتعني «الجديد» و«الخفي» و«غير النشط» و«الغريب»، وهي في الواقع خاملة جدًّا، ومستقرة في حالتها هذه لدرجة أنها لا تدخل في أي تفاعل كيميائي، ولا تتحد مع أي عنصر آخر؛ ولهذا السبب بالذات لم تُكتشَف على مدى قرون عدة. ولكن في وقت قريب نسبيًّا في عام ١٩٦٢، نجح عالم كيميائي دءوب بعد جهود طويلة وبارعة في إجبار غاز الزينون (أي الغريب) على الاتحاد لمدة قصيرة جدًّا مع غاز الفلور الشديد الشراهة والنشاط، وبدا هذا العمل الرائع استثنائيًّا للغاية، حتى إن هذا العالِم حصل على جائزة نوبل.
عنصر الصوديوم فلز سريع التحلل، وهو لا يعتبر من الفلزات إلا من خلال المعنى الكيميائي لهذه الكلمة، وليس بالمعنى اليومي الدارج، فهو ليس صلبًا ولا حتى قابلًا للطرق، بل إنه لين مثل الشمع، وهو لا يلمع، أو لِنَقُلْ إنه يلمع فقط إذا تم حفظه بعناية فائقة غير عادية، وإلا فإنه يتفاعل في لحظات معدودة مع الهواء، فتتكون عليه قشرة جافة قبيحة الشكل، وهو يتفاعل بسرعة أكبر مع الماء، بل ويطفو فوقه (هل تتخيل فلزًّا يطفو على الماء؟!) ويتراقص حينئذٍ بجنون مطلِقًا غاز الهيدروجين …
في أحد الأيام وزنتُ جرامًا من السكر في بوتقة من البلاتين (وهو معدن ثمين جدًّا) لحرقه على النار، فتصاعدت في الهواء الملوث في معملي رائحة السكر المحترق التي نعرفها في مطابخنا، ولكن بعد هذا فورًا زاد لهيب النار فتكونت رائحة مختلفة كثيرًا؛ رائحة معدنية تشبه رائحة الثوم، وهي غير عضوية بالطبع، ولا يمكن أن تكون عضوية، ولاكتشاف هذا يلزم أن يتمتع الكيميائي بحاسة شم سليمة. وعند هذا الحد يصعب أن يخطئ المرء، فما عليك سوى أن ترشح المحلول، وتضيف إليه أحد الأحماض، وتأخذ المادة المتكونة وتمرر فيها غاز كبريتيد الهيدروجين فيتكون راسب أصفر، وهو الأندريد الزرنيخي (اللامائي)، باختصار إنه الزرنيخ الذي يسمى الماكيولينوم. إنه الزرنيخ السام المذكور في الحكايات المروية عن ميثراداتس ومدام بوفاري وغيرهما.
إلا أن علم الكيمياء تحدَّث بشكل عفوي فقط عن خصائص العناصر، ويمكن أن يُقدِم علم الجزيئات على تجاهل الكثير منها إن لم يكن أغلبها. ينتمي الجدول الدوري بالفعل إلى ذلك الحقل الذي تتحول الكيمياء عنده إلى فيزياء، والذي يجب عنده أن نستعين بعلم الجبر وجيوب التمام كي نفسر سبب تكوين ذرات العناصر لتلك الاتحادات بعينها التي تسمَّى الجزيئات. يُعد هذا الجدول واحدًا من أكثر الاكتشافات جمالًا وعمقًا في القرن التاسع عشر، ولكن حتى اختراع علم ميكانيكا الكم على يد علماء الفيزياء في القرن العشرين، لم يكن يَسَعُ المرءَ سوى النظر إليه باعتباره شفرة غامضة، أو نوعًا من لوحات القص واللصق التي تذكِّرنا بأن العناصر تأتي في صورة عائلات، وأن أفراد كل عائلة منها يملكون ميولًا متشابهة.
لَعلِّي أكون متعجلًا إذا استغنيت عن الحديث عن الجدول الدوري، فعلى الأقل يجب ألا أفعل هذا دون أن ألتزم بأجندة عمل خاصة.
وهكذا اقتربت المهمة من نهايتها، بل إن أحد الكتَّاب في مجال العلوم، ويدعى جون هوجران، كتب في كتاب «نهاية العلوم» يقول إن هذا يعني أن علم الكيمياء أيضًا قد انتهى منذ أن حصل على ختم التصديق من نظرية الكَم. والمعنى المتضمن في عدة كتب أخرى أكثر حداثة عن مستقبل العلوم هو أن ذلك العلم الذي يظهر غيابه في الوقت الحاضر، قد استُهلك من كلتا نهايتيه؛ فعلى مستواه الأساسي قد تحول إلى فيزياء (بما فيه ذلك الفرع العلمي العظيم، الذي تجاهله الناس، المسمَّى فيزياء المادة المكثفة، والذي يبحث في كيفية سلوك المادة الملموسة)، وعلى مستواه الأكثر تعقيدًا صار الآن حقلًا لعلماء الأحياء، الذين بسطوا حدود عالمهم بحيث صار يشمل الميكانيكا الجزيئية للخلية.
إن الكيمياء هي علم الجزيئات وتحولاتها. بعض الجزيئات موجودة فعلًا وتنتظر منا أن نعرفها … ولكن توجد جزيئات أخرى كثيرة في علم الكيمياء صنعناها نحن في المعمل … في قلب [الكيمياء] يوجد جزيء مصنوع، إما بعملية طبيعية وإما بيدٍ بشرية.
وأحسب أن الجامعات التي تُخفي أقسام الكيمياء لديها تحت لافتة «العلوم الجزيئية» تسلك على الأرجح المسار الصحيح، فهذا ببساطة يطلق العِنان للجدول الدوري، ويدع الكيميائي حرًّا لأن يسمو إلى عالمٍ من صناعة الأشياء، عالمٍ غير أفلاطوني يتم فيه تصميم الجزيئات وصناعتها كي «تؤدي» وظائف معينة، مثل علاج حالات العدوى الفيروسية أو اختزان المعلومات أو تقوية الجسور وتدعيمها.
فهل يعني هذا أن العلوم الجزيئية سيئة؟ بالطبع لا … ولكن يعني أنها صندوق يعج بالاحتمالات، وهي احتمالات رائعة ملهمة وإبداعية، وقد تكون فظيعة أو مخيفة؛ منها أشياء دنيوية، ولكنها مفيدة، وأشياء شاذة، وأشياء يصعب فهمها. وقد تساعد العلوم الجزيئية الناس يومًا ما في الحصول على كبد جديدة. وقد رسم الفنانون رافائيل وروبنز ورينوار لوحاتهم باستخدام الجزيئات، فالجزيئات هي أصل الحياة.
التركيب الاصطناعي (التخليقي) ورواية توماس بينشون: «قوس قزح الجاذبية»
تعود أصول مادة إيميبولكس جي إلى بحث مبكر أَجْرَته شركة دوبون الكيميائية. إن علم تصنيع المواد البلاستيكية له تقاليد عظيمة ومسار أساسي، تتحكم فيها شركة دوبون وأحد العاملين بها ويدعى كاروترز، ويشتهر بأنه «التخليقي العظيم». وكانت دراسته الكلاسيكية عن الجزيئات الكبيرة قد امتدت عبر عقد العشرينيات وأوصلَتْنا مباشرة إلى عصر النايلون، الذي لا يقتصر على كونه متعةً لجسد الإنسان المرفَّه وشيئًا ملائمًا للمتمرد المسلح، ولكنه في الوقت نفسه يُعد إيذانًا بانطلاقة قوية لعصر البلاستيك؛ بأن الكيميائيين لم يعودوا تحت رحمة الطبيعة، بل يمكنهم أن يقرروا الآن الخصائص التي يحتاجونها للجزيئات، ثم يمضون قدمًا ويقومون ببنائها تخليقيًّا … وبهذا يمكن تركيب أيِّ مادة مطلوبة ذات وزن جزيئي كبير حسب الطلب وتشكيلها كيميائيًّا في شكل حلقي متغاير الحلقات، والإمساك بها ونَظْمها في سلسلة باستخدام حلقات البنزين أو الحلقات الأروماتية الأكثر «طبيعية». تلك السلاسل تعرف باسم البوليمرات الأروماتية المتغايرة الحلقات، وكان أحد تلك السلاسل الافتراضية، التي خرج إلينا بها العالم جامف قبل اندلاع الحرب مباشرة، قد تم تعديله فيما بعدُ ليصير الإيميبولكس جي.
ما هي الجزيئات؟
والسؤال الآن: هل كل شيء يتألف من جزيئات؟ الإجابة: ليس بالضبط؛ فجميع المواد (إلا داخل بعض البيئات الفيزيائية الفلكية الغريبة) تتكون من الذرات، ولكن الذرات لا تتشكل دائمًا في صورة جزيئات. (ولا يمكنني أن أحدد إن كان فلان أوبريان قد حوَّل كلمة الجزيئات التي وردت على لسان الرقيب فوتريل إلى كلمة ذرات لأنه كان يفهم — أو لم يكن يفهم — الفارق بينهما.) معظم الذرات شديد التفاعلية — فلديها ميل للارتباط مع ذرات أخرى — وتُعد الجزيئات تجمعات من الذرات قد ارتبطت سويًّا في شكل اتحادات قد تحتوي على أي شيء، وقد تصل أعدادها إلى ملايين عدة.
تتخذ بعض العناصر النقية صورًا جزيئية، والبعض الآخر لا يفعل هذا، وكقاعدة عامة تقريبية نقول إن الفلزات مثل الحديد غير جزيئية، بينما اللافلزات جزيئية؛ فالنيتروجين المتجمد، على سبيل المثال، يتكون من جزيئات، يحتوي كلٌّ منها على ذرتين. وفي الفسفور تكوِّن الذرات مجموعات جزيئية من أربع، وفي الكبريت يمكن أن ترتبط الذرات في حلقات جزيئية من ثمانٍ. قد يبدو من الظلم بعض الشيء ألا نجد وسيلة، بمجرد النظر للمادة، تُعلِمنا إن كانت وحداتها البنائية الأساسية هي ذرات أم اتحادات جزيئية من الذرات، لكن لا وجود لهذه الوسيلة. (لكن ليس من العسير على العلماء أن يكتشفوا ذلك على أي حال.)
وهكذا يعتبر الجزيء مفهومًا مائعًا غير محدد تمامًا؛ إذ يعتمد بالأساس على مسألة الحجم. لماذا إذن نتجشم العناء لتمييز الجزيئات بأي حال بدلًا من الاكتفاء بالحديث عن المادة بصفة عامة؟ أعتقد أن السبب هو أن الجزيئات هي الوحدات الأصغر من المادة «ذات المعنى» في علم الكيمياء؛ فمن خلال الجزيئات، لا الذرات، يمكن أن يحكي المرء قصصًا في العالم تحت المجهري. إن الجزيئات بمنزلة الكلمات، والذرات هي الحروف فحسب. بطبيعة الحال، أحيانًا ما يشكل حرف واحد كلمة كاملة، ولكن أغلب الكلمات هي تكتلات محدودة من حروف متعددة رُتِّبَت في نظام معين، وكثيرًا ما نجد أن الكلمات الأطول توصل معانيَ أكثر براعة ودقة. وفي الجزيئات، كما في الكلمات، يكون للنسق الذي تترتب به الأجزاء المكوِّنة أهميتُه؛ فكلمتا «كلمات» و«لكمات» مثلًا تختلفان في المعنى تمامًا رغم أنهما مكونتين من الحروف عينها.
يحدث بعضٌ من أعجب القصص التي تحكيها الجزيئات في الكائنات الحية، ولكن لسوء الحظ أنها يمكن أن تكون صعبة الفهم؛ فكثير من الكلمات تكون طويلة وغير مألوفة، فتكون الجمل المكونة منها غامضة. لا ينفك الكيميائيون يخترعون كلمات جزيئية جديدة فتزداد اللغة اتساعًا، وبعض هذه الألفاظ الجديدة يكون فيها شيء من الطرافة، وبعضها يتيح لنا أن نحكي حكايات لم نكن لنستطيع صياغتها قبل اختراع «الكلمة» المعنية. وفي حالات أخرى، تسمح لنا «الكلمة» الجديدة بأن ننقل بطريقة بسيطة معنًى معينًا كان يتم نقله سابقًا بطريقة ملتوية.
وإنه لَأمرٌ رائع أن يتلاءم المجاز اللغوي مع العالم الجزيئي. ونحن نسمع اليوم كثيرًا عن «لغة الجينات»، وآمل أن أوضح أن هذه مجرد واحدة من اللغات التي تتضمنها الجزيئات. إلا أن ما أقوله يتجاوز كونه مجازًا لغويًّا وحسب؛ إذ توجد بالفعل «معلومات» داخل الجزيئات، تمامًا مثلما توجد معلومات داخل الكلمات، وسأوضح هذا في الفصل السابع.
بالإضافة إلى هذا، فإن استخدام نموذج على أساس معلوماتي لشرح العلوم الجزيئية يُعد أمرًا مهمًّا بحيث يدعو إلى وجود شرح سريع الاستجابة على أساس حواري، بدلًا من الأسلوب الآلي الذي كان متبعًا ومؤيدًا في الأزمان الماضية. يتحدث علماء البيولوجيا الخلوية بشكل متزايد عن جزيئات بروتينية «يتكلم» بعضها مع بعض، كما يتحدث علماء الفيزياء المهتمون بعلوم المادة عن وجود سلوك «تعاوني» و«جماعي» للجزيئات، وهذه ليست تصورات خيالية حمقاء غامضة مقصودًا بها أن تبدو العلوم محببة أكثر للناس (وإن كان هذا التأثير في حد ذاته ليس ضارًّا)، وإنما هم يتحدثون عن الإدراك المتزايد لذلك الرقي البهي والتعقيد الجميل للسلوك الجزيئي، الذي يكون جماعيًّا بصفة عامة ونادرًا ما يسير على نحو خَطِّيٍّ.
آمل أن هذا الأمر لم يكن ضارًّا، ولكن ذكَّرني البعض بهذه الأخطار في محاضرة عامة حضرتُها مؤخرًا عن التضاعف الجزيئي، وكان أول سؤال من الحاضرين في القاعة هو: «هل هذه الجزيئات واعية؟» مع اعتبار أن المتحدث كان يتكلم عن منظومة جزيئية تخليقية تُحاكِي (بطريقة بدائية جدًّا) بعضَ خصائص الكائنات الحية، فإنني أفترض أن هذا كان تساؤلًا يمكن تفهُّمُه، وأعتقد بالفعل أن الإجابة هي «لا»، لو أراد المرء أن يحافظ على أي تعريف فعَّال ذي معنًى لذلك المفهوم الغامض لكلمة «الوعي». ولكن بمجرد أن نبدأ في إضفاء الصفات البشرية على الجزيئات، فإننا نستدعي عددًا من المعاني ذات الصلة، وقد يكون هذا أمرًا مفيدًا وقد لا يكون. كثير من الناس يرفضون مفهوم «الجينات الأنانية» على سبيل المثال؛ لأنه يحمل مضامين أخلاقية. (يطلق ريتشارد دوكنز على هذا اسم «العلم الشعري»، ويمكنني إدراك ما يعنيه بهذا، ولكن الحالة الشعرية في تلك الآلية قد تتكدر بفعل رداءة ذلك المجاز، كما يراه البعض.) إن فكرة «تعاوُن» الجزيئات و«تواصُلها» ليست أساسًا لأي فلسفة طبيعية، ولكن من المعقول أن نخمِّن أنه في العلوم الجزيئية على الأقل قد يؤدي منظور العالم الأوتوماتيكي الخطي في النهاية إلى جَعْلنا نبدو مثل الفلكيين القدامى الذين كانوا يُؤَوِّلون حركات الأجرام السماوية من منظور مركزي أرضي؛ محاولين إقحام الملاحظات في قالب غير سليم.
الشكل والحجم
إن المهنة التي درستها في المدرسة، والتي أبقتني على قيد الحياة حتى الآن، هي مهنة الكيميائي. لا أعرف إن كانت لديك فكرة واضحة عنها، ولكنها تشبه مهنتك قليلًا؛ كل ما هنالك أننا نركِّب إنشاءات دقيقة ونفكِّكها … طالما كنتُ كيميائي تركيبات؛ واحدًا من أولئك الذين يصنعون المركَّبات التخليقية، أي الذين يبنون التراكيب حسب الطلب.
لا يزيد عرض جزيء صغير مثل جزيء الماء عن ذرات قليلة، وهو حوالي ثلاثة أعشار النانومتر (علمًا بأن النانومتر يساوي واحدًا على مليون من الملِّيمتر)، أما الجزيء المذكور في كتاب بريمو ليفي فهو أكبر من جزيء الماء بمرات عدة (ولا يمكن أن يحدد المرء عدد تلك المرات بالضبط؛ لأن ما رسمه ليفي كان مجرد قطعة من الجزيء، الذي يستمر طوله إلى يمين الصفحة ويسارها).
من تبعات ذلك المقياس الصغير للجزيئات أن الأشياء تَحْدث بسرعة كبيرة للغاية في عالم الجزيئات. وحين نسمع أن الجزيئات يمكن أن تدور عشرة مليارات مرة في الثانية، نتخيل أنها بالتأكيد تدور بسرعات تفوق الخيال، إلا أن الجزيئات صغيرة جدًّا لدرجة أنها حتى لو تحركت بسرعات معتدلة نسبيًّا، يمكنها أن تقطع مسافات قياسية جزيئيًّا في لحظة واحدة؛ فتحتاج ذرات جزيء الأكسجين لأنْ تتحرك بسرعة حوالي متر في الثانية لتكمل عشرة مليارات دورة في الثانية!
هنا نصل إلى أحد الاعتبارات المهمة عند التحدث عن الجزيئات؛ وهو اعتبار يعقِّد الأمر كله، ويقضي بأنه لا توجد طريقة «مُثلى» لرسم تلك الجزيئات. وقد يقول قائل: حسنًا، لا تهتم بالأشكال التخطيطية، لماذا لا تُظهِر الجزيئات بشكلها «الحقيقي»؟ بيد أن هذا أمر مستحيل؛ إذ لا توجد طريقة لالتقاط صورة فوتوغرافية لجزيءٍ ما بنفس طريقة التقاطنا لصورة قط أو شجرة. وليست المسألة راجعة إلى صعوبات تكنولوجية وحسب، فليست المشكلة أننا نفتقر في الوقت الحاضر إلى مجهر أكبر أو كاميرا يمكنها استكشاف تلك الأشياء الصغيرة، بل الواقع هو أن آليات الرؤية تجعل من المستحيل أن «نرى» جزيئًا (أو ذرة) على «حقيقته» الواقعية.
أظن أن هذا من الأسباب التي جعلت الناس يجدون صعوبة في فَهْم كُنْهِ الجزيئات، وجعلت رسومًا توضيحية — كالرسم المبيَّن أعلاه — تنفِّر القراء من كتب العلوم. ويبدو من السخف أن نتحدث بصورة ملموسة عن جسيمات لا تقتصر على كونها أدق من أن تُرى عمليًّا، بل إنها كذلك أَدقُّ من أن تُرى من حيث المبدأ. والأشياء التي لا يمكن رؤيتها تكتسب هالة من الخيال، وكأنها مجرد خرافة وأوهام.
والسؤال الآن: كيف كنا نعرف بالفعل أشكال هذه الجزيئات من قبلِ التقاط تلك الصور؟ إن بعض الأدلة المؤكدة أدلة تجريبية. فحتى رغم أن الجزيئات صغيرة جدًّا وأصغر من أن يمكن استيضاحها بالضوء المرئي، فمن الممكن «رؤيتها» بإشعاع له طول موجي يساوي حوالي عُشر النانومتر، وهو ما يناظر الأشعة السينية، وعن طريق جعل الأشعة السينية ترتد عن البلورات، من الممكن أن نستنتج أماكن وجود الذرات الداخلة في تركيبها؛ هذا يعني أنه إذا أمكن جَعْل مادةٍ ما في صورة بلُّورية، مع تكدس جزيئاتها بطريقة منظمة، فهذه التكنولوجيا التي تسمى التصوير البلوري بالأشعة السينية، يمكنها أن تُمِيطَ اللثام عن بِنية الجزيئات.
من الناحية النظرية، يجب أن نكون قادرين على رؤية الجزيئات المفردة بمجهر الأشعة السينية الذي يركِّز الأشعة السينية كما نركِّز نحن الضوء في المجهر البصري العادي. لكن عمليًّا يكون من الصعب جدًّا أن نركز الأشعة السينية رغم أن العلماء على وشك التمكن من عمل ذلك. في الوقت الحالي يمكننا الاكتفاء باستخدام المجهر الإلكتروني؛ حيث يجري إمرار حزمة من الإلكترونات لترتدَّ عن العينة، ويتم تركيزها في بؤرة لصنع صورة. ويمكن أن تعمل الإلكترونات كموجات أيضًا، وباستخدام الموجات الإلكترونية يمكننا أن نصنع صورًا لجزيئات كبيرة جدًّا (نسبيًّا) مثل البروتينات أو الدِّي إن إيه. هذه الصور ليست تفصيلية بدرجة تكفي لإظهار الذرات المفردة، ولكنها تعطي انطباعًا بالشكل العام للجزيئات.
تعتبر نظرية الكم عن البنية الجزيئية نظرية معقدة جدًّا، وحتى أفضل أجهزة الكمبيوتر لا يمكنه حل معادلاتها إلا بصورة تقريبية، ولكن من الممكن حاليًّا تقدير تراكيب الجزيئات المتوسطة الحجم بدرجة معقولة من الثقة. وتُظهر المقارنةُ بين التكهنات المتعلقة بتراكيب الجزيئات وبين تلك التراكيب التي تم التوصل إليها باستخدام التصوير البلوري بالأشعة السينية؛ توافقًا جيدًا، إلا أنه حتى الآن لا توجد طريقة مُرْضية للتكهن بأشكال كثيرٍ من الجزيئات الكبيرة التي توجد في الخلايا الحية. وفي هذه الحالات تصير طريقة التصوير البلوري بالأشعة السينية صعبة أيضًا؛ إذ من الصعب أن نفكَّ نمط الأشعة السينية المرتدة عن بلورة تحتوي على تلك الجزيئات، وأيضًا لأنه في حالات كثيرة تستعصي تلك الجزيئات على تكوين بلورات على الإطلاق. إن الخلايا الحية مليئة بالجزيئات التي لا نعرف أشكالها.
إنها عقبة كَئُودٌ تمنعنا من فهم كيفية أداء جزيئات الحياة لوظائفها؛ هذا لأن شكل الجزيء هو مفتاح سلوكه. وعلى العكس من شعار المصممين، نقول إنه في حالتنا هذه، الوظيفةُ تتبع الشكل.
ثمة تعقيد آخر، وهو أن الجزيء لا يشغل بُعْدين فقط، البعدين العاديين لصفحةٍ ما، وإنما يحتل الأبعاد المكانية الثلاثة كلها.
صنع الجزيئات
في نهاية المطاف، نحن لا نجيد عملية التجميع. ونحن في الواقع مثل أفيال أُعطيت صندوقًا مغلقًا يحتوي على كل الأجزاء المفككة من ساعة مثلًا؛ فنحن شديدو القوة والصبر، ونهز الصندوق في كل اتجاه بكل قوتنا. بل ربما نسخِّن الصندوق؛ لأن التسخين وسيلة أخرى للهز. حسنًا، في بعض الحالات، إذا لم تكن الساعةُ شديدةَ التعقيد، أو إذا استَمْرَرْنا في رج الصندوق، فقد ننجح في لمِّ شمل أجزائها …
قد يكون اختيار كلمة «عضوي» غريبًا بعض الشيء؛ فالجزيئات التي «يتلاعب» بها الكيميائيون العضويون كلها تقريبًا ليست نواتج لكائنات من الطبيعة، وإنما هي منتجات معملية. وهذا المصطلح مصطلح تاريخي، فقد كان علم الكيمياء العضوية في وقتٍ ما في الماضي هو دراسة الجزيئات المشتقة من الكائنات الحية، وهذه من الواضح أنها كربونية أساسًا. لكن لماذا الكربون بالذات؟ لأن ذرات الكربون تكاد تكون فريدة بين العناصر من حيث قدرتها على الارتباط معًا في هياكل ثابتة لها أشكال معقدة من حلقات وسلاسل طويلة، وشبكات متفرعة.
لم يكن لدى كيميائيي القرن التاسع عشر إلا القليل من الإدراك لكيفية صنع جزيئات عضوية جديدة. كانوا يستطيعون تعديل الجزيئات التي تقدمها الطبيعة، مع تفتيت بعض الأجزاء عن الهيكل الكربوني وإبدال أجزاء أخرى بها، ولكن تغيير الهيكل نفسه كان أكثر صعوبة عليهم. وكانت المشكلة أكثر صعوبة بسبب أنه لم تكن لديهم سوى فكرة بسيطة عن التراكيب الحقيقية للجزيئات التي أرادوا صنعها، ومن قبيل العجب أن طرق «الهز والخبز» أتت بثمار لا بأس بها، وأمدتنا بأوائل المنتجات التخليقية من البلاستيك والأصباغ والعقاقير.
وإذا بدأنا من حيث بدأ بعض أولئك الكيميائيين، يمكننا أن نرى حقيقةَ عمليةِ بناء الجزيئات، وسبب صعوبتها الشديدة، وسبب رغبتنا الشديدة في بنائها. في منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر، كان الكيميائي الألماني أوجست فلهلم هوفمان يعمل في لندن، ووجَّهَ تلميذَه النجيب ويليام بيركن، الذي كان في سن المراهقة، إلى صنع مركَّب الكينين من مكونات تقطير قطران الفحم. الكينين مستخلَص طبيعي من شجرة الكينا، وكان يُستخدم في علاج الملاريا، وكان قطران الفحم يتكون كراسب أسود لزج بكميات كبيرة في مصانع الغاز التي أُنشئت في مستهل ذلك القرن في أعقاب استحداث الإضاءة بالغاز. لم يكن الأمر واعدًا، ولكن هوفمان وآخرون اكتشفوا أنه عن طريق تقطير قطران الفحم يمكن أن نفصل منه مركَّبات عضوية عطرية (أروماتية) غنية بالكربون، مثل البنزين والتولوين والزيلين والفينول.
وهكذا فإن التجربة التي أجراها بيركن في معمل تم تجهيزه بمنزل والديه في شرقي لندن لم تنجح، ولكنها أنتجت مادة تشبه الوحل، لونها كلون الصدأ، وهي مألوفة لعلماء الكيمياء العضوية. إلا أن بيركن الشاب المتحمس لم يستسلم، فأعاد التجربة مستخدِمًا مركَّبًا عضويًّا يسمى الأنيلين بدلًا من الألايل تولويدين، وفي هذه المرة كانت المادةُ المُوحِلةُ سوداءَ اللون، ولكن حين أذابها في مذيبات ميثيلية، نَتَجَ عن ذلك لون أرجواني رائع، وابتهج بيركن حين اكتشف أنه يمكن أن يصبغ الحرير. وهكذا اكتشف أول صبغة أنيلين؛ فأنشأ مصنعًا مع أخيه وأبيه لصنع هذه المادة، وسرعان ما تم إنتاجها بكميات كبيرة في بريطانيا وفرنسا. كانت هذه علامة على بداية هذا المجال الذي لم يقتصر على صناعة الأصباغ التخليقية، ولكن اتسع ليشمل كل صناعة الكيميائيات الحديثة، فلقد بدأ الكثير من شركات الكيميائيات المعاصرة مثل باسف وسيبا جايجي وهوشت كمنتجين لأصباغ الأنيلين.
وبحلول الربع الأخير من القرن التاسع عشر صارت أعمال تركيب الجزيئات العضوية أقل عشوائية، وقد استنتج أوجست فريدريش فون كيكوليه في عام ١٨٥٧ أن ذراتِ الكربون رباعيةُ التكافؤ؛ أي إنها تميل لتكوين أربع روابط. وفي عام ١٨٦٥ افترَض أن البنزين، الذي تنتمي إليه جميع جزيئات قطران الفحم الأروماتية، يحتوي على حلقة من ست ذرات من الكربون، وهي فكرة مهيمنة منتشرة في الكيمياء العضوية. وفي عام ١٨٦٨ قام الكيميائيان الألمانيان كارل جريبه وكارل ليبرمان بتركيب جزيء الأليزارين، الذي يُعزى إليه اللون الأحمر للصبغ المستخرج من جذر نبات الفُوَّة. كان هذا من أهم الأصباغ الطبيعية من الناحية التجارية، وقد جعلت عملية التركيب هذه — التي أجراها جريبه وليبرمان — هذا الصبغ الاصطناعي متاحًا بسعر أرخص بكثير من الطبيعي.
يعد تركيب الأليزارين علامةً بارزة على طريق صنع الجزيئات لسببين؛ أولًا: أنه تحقق بتعديل مخطط للمادة البادئة (مركَّب آخر من مركَّبات قطران الفحم الأروماتية يسمى الأنثراسين) بدلًا من طبخ المكونات أملًا في تحقيق أفضل النتائج. كان لدى الكيميائيين بعض المعرفة التي لم تقتصر فقط على الصيغة الكيميائية للأنثراسين، ولكن شملت أيضًا بِنْيته الكيميائية، التي عرفوا أن لها علاقة ببنية الأليزارين. (في الحقيقة لقد خمنوا البنية الخطأ، ولكن لحسن الحظ أنْ تَبيَّن أن هذا الأمر لا أهمية له.) ويُطلِق علماء الكيمياء العضوية على هذا النوع من الإجراءات التي يتحول بمقتضاها جزيء بادئ — بشكل ممنهج وتدريجي — إلى المنتج المطلوب عبارةَ «التخليق المتعقل».
ثانيًا: عن طريق صنع جريبه وليبرمان للأليزارين في المعمل؛ فقد أظهرا أن الكيمياء العضوية قادرة على منافسة إنتاج الطبيعة، فقد صار من الممكن صنع الجزيئات التي نجدها في الكائنات الحية، والتي يسميها الكيميائيون اليوم «المنتجات الطبيعية».
هل كان الصبغ التخليقي الأحمر الذي صنعه جريبه وليبرمان بكمية قليلة، ثم أنتجته مصانع الكيماويات بالأطنان لاحقًا؛ مطابقًا لصبغ نبات الفوة الطبيعي؟ الجواب هو: نعم ولا؛ فالمستخلص الذي يتم الحصول عليه بصورة تقليدية من جذر نبات الفوة هو خليط من مركَّبات عدة مختلفة. والأليزارين هو الجزيء الملوِّن الرئيسي، ولكن الخلاصة تحتوي أيضًا على مركَّب قريب الصلة به اسمه الفرفرين، الذي يتسم باللون البرتقالي (رغم اسمه الذي يعطي في الإنجليزية الانطباع باللون الأرجواني). وقد أنتجت العمليةُ التي حوَّلت الأنثراسين إلى الأليزارين التخليقي أيضًا العديدَ من النواتج الثانوية، وأغلبها جزيئات لها تراكيب مشابهة جدًّا للأليزارين. كان بيركن أحدَ الكيميائيين الذين اكتشفوا في مستهل عقد السبعينيات من القرن التاسع عشر ما لا يقل عن أربعة من النواتج الثانوية في الأليزارين المُنتَج صناعيًّا، وكان هناك الكثير من المنتجات الأخرى، بلا شك، ولكن بكميات أقل.
وهكذا، فبينما كانت جزيئات الأليزارين المنتجة تخليقيًّا مطابقة لتلك المستخرجة من جذر الفوة، فقد كانت مادة الصبغ التخليقية الحقيقية مختلفةً عن الصبغ الطبيعي، وكان الاثنان في صورة غير نقية. وهذا ينطبق فعليًّا على جميع المركَّبات «الطبيعية» التي يتم تخليقها صناعيًّا؛ لأن جميع العمليات التخليقية التي يستخدمها خبراء الكيمياء العضوية تتولد عنها نواتج ثانوية. هذا لا يعني بالضرورة أن الكيماويات التخليقية أفضل أو أسوأ من نظيراتها المستخرجة من مصادر طبيعية؛ فكلتاهما يرجح أن تكونا غير نقيتين بدرجةٍ ما، ولكن الكيميائيين يُثمِّنون النقاء كثيرًا، ويُمْضون وقتًا طويلًا في تخليص منتجاتهم من الشوائب. وعلى النقيض من هذا، فإن الخلاصات الطبيعية هي خلائط معقدة، ما لم تَجرِ معالجتها من أجل فصل مكوناتها.
لم تكن القيمة التجارية للمواد المشتقة من مركَّبات قطران الفحم مقتصرة على الأصباغ؛ فقد استخدم بول إرليخ — وهو عالم وطبيب ألماني — الأصباغَ التخليقية الجديدة في عقد السبعينات من القرن التاسع عشر لصبغ الخلايا؛ مما يسهِّل دراستها تحت المجهر. وقد لاحظ أن بعض الأصباغ تقتل الخلايا البكتيرية التي امتصتها، بما يوحي باحتمالات علاجية، وبدأ في تخليق مركَّبات صبغية لاختبارها كعقاقير، وبهذه الطريقة تَوصَّل في عام ١٩٠٩ إلى صِبْغٍ مُحْتَوٍ على الزرنيخ — يسمى سالفارسان — يمكنه قتل البكتيريا التي تُسبِّب مرض الزهري، وقد كان هذا العقَّار أول علاج حقيقي لذلك المرض القاتل منذ العصور الوسطى التي استُخدم فيها الزئبق، وكانت هذه بداية العلاج الكيميائي الحديث.
وبعد هذا بتسعة عشر عامًا اكتشف ألكسندر فلمنج البنسلين، وهو مركَّب يُنتجه نوع من الفطر، ويقتل البكتيريا. كان هذا أول مضاد حيوي، وقد حقق ثورة في مجال الطب الجراحي بأن قلل كثيرًا قابلية إصابة الجروح بالعدوى. وهناك الكثير من المنتجات الطبيعية الأخرى لها تأثيرات فسيولوجية نافعة؛ فحمض الساليسيليك على سبيل المثال، يُستخلص من لحاء شجرة الصفصاف، ويتميز بخصائص مسكِّنة للآلام ومطهِّرة، كما يوجد جزيء ذو صلة وثيقة به يدخل في تركيب الأسبرين، الذي تنتجه شركة باير الألمانية منذ عام ١٨٩٩. ويواصل الكيميائيون وعلماء الطب التنقيب في ترسانة الجزيئات التي توفرها لهم الطبيعة للحصول على عقاقير فعالة؛ ومن ثم للتوصل إلى طرق لتخليقِ ما يفيد منها.
ومن بين الجزيئات التي اكتسبت شهرة في السنوات الأخيرة ذلك المركَّب المسمَّى باكليتاكسيل، والذي يُعرف أكثر باسمه التجاري «تاكسول». إنه منتج طبيعي من شجر الطقسوس الباسيفيكي، وتَبيَّن في عقد الثمانينات من القرن العشرين أن له فاعلية كبيرة في منع انقسام الخلايا، مما يجعله فعالًا كعامل مضاد للسرطان؛ إذ إن السرطان ناتج عن تكاثرٍ للخلايا خارجٍ عن السيطرة. وقد صدَّقت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية عليه كعلاج لسرطان الثدي والرئة والمبيض والبروستاتا. ولكن الطقسوس الباسيفيكي لا يمثل مصدرًا يمكن الركون إليه؛ إذ إن كل شجرة منه لا تُنتج سوى ملِّيجرامات قليلة من المركَّب، ويجب أن يتم استخراجه من اللحاء، وبهذا تموت الشجرة لا محالة. ومن المعلوم أن تلك الشجرة مهددة بالانقراض، ومن الممكن أن تختفي عن الوجود قبل أن يتم الوفاء بالاحتياجات العالمية من التاكسول؛ ومن ثم، فهناك احتياج للتاكسول التخليقي.
كما لك أن تتوقع، من المعقول أكثر أن تتقدم قليلًا كل مرة؛ ففي البداية يمكنك ضمُّ قطعتين، ثم إضافة قطعة ثالثة، وهكذا. يحتاج الأمر إلى قدر كبير من الصبر [أكثر من مجرد الهز والخبز]، ولكنك في الواقع ستصل إلى مبتغاك. وفي معظم الأحوال يكون هذا هو أسلوبك المُتبع.
إن عملية تخليقية كهذه يجب أن يتم التخطيط لها بحرص، وأكثرُ طرق هذا التخطيط شيوعًا هو ما ابتكره العالم الأمريكي إلياس جيمس خوري الحائز جائزةَ نوبل، والذي أسماه: «التحليل التخليقي الارتجاعي»، وكما يدل الاسم فإنك تعمل بشكل ارتدادي من المنتج الذي تم إنهاؤه، وكأنك تعيد تفكيك نموذج من الجزيء. وفي كل خطوة تقوم بتكسير عدد من الروابط حتى يمكنك معرفة كيفية صياغتها؛ ومن ثم، عندما يحين وقت أداء العملية في الاتجاه الطبيعي تكون قد عرفت بالفعل كيفية عمل كل رابطة. تكمن البراعة في إجراء العملية في اتجاهها العكسي وصولًا إلى نقطة البداية من المواد الأولية — أجزاء الهيكل الكربوني — المتاحة لديك، أو التي يمكنك بسهولة تخليقها من مركَّبات متوافرة لديك.
في حالة التاكسول، نجحت مجموعتان في عمل هذا؛ ففي عام ١٩٩٤ تَمكَّن فريق يعمل في معهد سكريبس للأبحاث في كاليفورنيا، يقوده كيه سي نيكولاو، ومجموعة أخرى تعمل تحت إشراف روبرت هولتون في جامعة ولاية فلوريدا، من وصف العمليات التخليقية المتعددة الخطوات بفاصل زمني قدره أسبوع فيما بينهما. لا توجد طريقة فريدة لصنع جزيءٍ ما بهذا التعقيد، كما لا توجد بالفعل طريقة هي «المثلى»؛ فلقد لوحظ ظهور مسالك بديلة عديدة. لكن تظل الطرق كلها شديدةَ التعقيد لدرجة تجعلها لا تصلح للإنتاج الواسع النطاق، وفي الوقت الحالي يتم إنتاج التاكسول بشكل «شبه تخليقي» من مركَّب وسيط يوجد في إبر شجر الطقسوس، الذي هو بمنزلة تاكسول نصف مبني. ويمكن إكمال عملية التخليق بكفاءة عالية نسبيًّا في المعمل، كما يمكن إزالة الإبر دون قتل الشجر.