العلامات الحيوية: جزيئات الحياة
إنني لا أعتزم الإجابة عن هذا السؤال. فأنا في الحقيقة أشك في إمكانية الإجابة عنه إجابةً وافيةً على الإطلاق؛ لأننا نعرف إحساسنا بأننا أحياء، تمامًا مثلما نعرف ما هو الاحمرار المتوهج، أو ما هو الألم، أو الجهد، ومع ذلك لا يمكننا وصف هذه الأشياء بأي لفظ آخر من الألفاظ.
إن الحياة نمط من العمليات الكيميائية، ولهذا النمط خصائص معينة، ويتمخض عنها نمط مماثل، كما يفعل اللهب، ولكنها تنظم نفسها، وهذا ما لا يفعله اللهب … ومن ثم، حين قلنا إن الحياة نمط من العمليات الكيميائية، فقد قلنا شيئًا حقيقيًّا ومهمًّا … ولكن إذا ادَّعينا أن بإمكان أحد منا أن يصف الحياة بشكل كامل في هذه السطور، فسيكون هذا بمنزلة محاولة لاختزالها في صورة آلية ما، وهذا ما أعتقد أنه ضرب من المستحيل.
هل الحياة مجرد جزيئات تعمل معًا في حالة من التعقيد تتصف بأنها رهيبة ولكنها قابلة للتفسير من حيث المبدأ؟ أم إنها أشد تعقيدًا؟ إننا لا نعرف. يتبنى العلماء نهجًا يبدأ من أسفل ويتجه إلى أعلى؛ إذ يفترضون أبسط الافتراضات ويعملون فقط على الفرضيات القابلة للاختبار. لا نعرف بعدُ إن كان هذا سيؤدي في النهاية إلى نقطة يكون العلم بعدها عاجزًا عن التقدم، لكن لا تبدو أمامنا نقطة كهذه. ويبدو من المحتمل أن الحياة — التي يمكننا أن نعرِّفها بشكل فضفاض على أنها كائن يمكنه أن يتكاثر، وأن يستجيب لبيئته، ويستخلص منها أسباب العيش — مكوَّنةٌ فقط من جزيئات وعلاقات تربط بين هذه الجزيئات. في الحقيقة، يبدو هذا مرجحًا بشدة. ولا يجب أن يفتَّ هذا الأمر في عضدنا، بل على العكس قد يكون رائعًا؛ ففكرة أن حزمة من الجزيئات أنتجت لنا مسرحية «الملك لير» قد تجعل العالم يبدو مكانًا ساحرًا!
ولستُ أظن مع ذلك أن يكون العقل البشري (فضلًا عن العجائب التي يدبرها) قابلًا على الإطلاق لأن «يُفسَّر» من المنظور الجزيئي، تمامًا مثلما لا تُفسَّر مسرحية «الملك لير» من منظور الأبجدية اللغوية وحسب. معظم العلماء لا يعتقدون هذا أيضًا. إن الظواهر الطبيعية متسلسلة هرميًّا على نحو تصاعدي، فلا يمكن فهم جميع الأشياء عن طريق تدبرِ ما يحدث على درجة واحدة منها فقط؛ إذ مهما عرفتُ عن الطريقة التي تعمل بها دوائر الترانزستور، فلن أستطيع أن أستنبط من هذه المعرفة السبب الذي يجعل جهاز الكمبيوتر الخاص بي يتعطل؛ وإذا بذرتُ بذورًا ولم تنبت، فسيكون من الأفضل لي أن أبدأ بالتفكير في المحتوى الغذائي ودرجة الرطوبة والحرارة لتربتي من أن أجري تحليلًا جينيًّا للبذور؛ فالكثير من المهارة العلمية يعتمد على معرفة أين تنظر في ذلك الترتيب التصاعدي؛ ومن ثم معرفة ما هو ذو صلة بك وما هو غير ذلك.
من المهم توضيح تلك النقطة قبل أن نستكشف جزيئات العالم الحي؛ لأن وجهة النظر الجزيئية لعلم الأحياء غالبًا ما تُقَيَّم باعتبارها اختزالية، أي محاوَلة لشرح كل وجهٍ من وجوه الحياة على المستوى الجزيئي للجينات. هذا بحقٍّ يكون في بعض الأحيان أفضل وسيلة للتقدم في هذا المجال؛ فالجزيئات هي على أي حال أصغرُ وحداتٍ عاملةٍ تعتمد عليها الحياة. ولكن إذا سلمنا، كما يفعل معظم العلماء، بأننا عن طريق هبوط سلم الحياة إلى عالم الحياة الدقيقة، يكون علينا أن نغفل مجموعة كاملة من الأسئلة والأجوبة عن الحياة (مثل: ما هو الوعي؟) فحينئذٍ لا يبدو أن هناك شيئًا يثير الاعتراض في هذا الهبوط.
في الحقيقة، أدى هذا السبيل بنا إلى فهمٍ أوضحَ لطبيعتنا الأساسية؛ إذ ساعدتنا البيولوجيا الجزيئية على ملء الفجوة الكبيرة في نظرية تشارلز داروين الثورية؛ وهي قضيةُ آليةِ الانتقاء الطبيعي. كما أنه مَنَحَنَا ولو فكرةً طفيفة عن كيفية ظهور الحياة في عالم الوجود على كوكبٍ من الغازات والصخور والماء، كما أنقذ أرواحًا وخفف الكثير من الآلام والمعاناة، وساعدَنا على فهم السبب في أن الأدوية لا تنجح في كل الحالات كما نتمنى، ولماذا أدى الاستخدام غير المسئول للمضادات الحيوية إلى توليد جراثيم عظيمة الضرر، وكيف يفعل فيروس الإيدز أفعاله الشنيعة. لقد أصبحت دراسة جزيئات الحياةِ العِلمَ الرئيسي في النصف الثاني من القرن العشرين، وتبدو جاهزة لأن يكون لها أثر أكبر في حياتنا في المستقبل، ولربما هي ذلك الحقل من العلم الذي لم يَعُد فيه اكتساب بعض المعرفة نوعًا من الترف.
القوة الحيوية
إن السبب وراء معظم الظواهر التي تحدث في داخل الجسم الحيواني يقبع في العمق مختفيًا عن أنظارنا، لدرجة أننا لن نجده بالتأكيد. ونحن نسمي هذا السبب الخفي «القوة الحيوية»، ومثل كثيرين غيرنا ممن كانوا قبلنا — وحاولوا دون جدوى توجيه اهتمامهم الواهم إلى هذه الفكرة — نحن أيضًا نخترع «كلمة» لا يمكننا أن نربط بها أي فكرة.
إن «قوة الحياة» هذه لا تنتمي إلى الأجزاء المكوِّنة لأجسادنا، ولا هي متأصلة فيها، وهي ليست قوة بسيطة كذلك، ولكنها نتاج العمل التبادلي لأدوات الجسم وبقاياها …
هذا هو المفتاح؛ فلا يتعلق فهم الأساس الجزيئي للحياة كثيرًا بإدراك ماهية الجزيئات، بقدرِ ما يتعلق بما تفعله كلٌّ منها مع غيرها؛ فليست الطبيعة الجزيئية للحياة صالة عرض للتحف، وإنما هي تحفة في حد ذاتها. في الفصول القادمة سأتعرض بالوصف لبعض الخطوات، وأريد هنا أن أقدِّم باختصار بعضًا من الخصائص.
في زمن هالدين، لم يكن من الغريب اعتبار الحياة سلسلة من التحولات الكيميائية التي تجري كأنها في شبكة من الآنية الزجاجية المعملية. وقد آمن العلماء وقتها بأن مفتاح الأمر كله هو الأيض؛ أي كيفية الحصول على الطاقة من الطعام. ولكن لا يمكنك الحصول على كائن كامل عن طريق وضع جميع المكونات الجزيئية المنقَّاة للخلية. في المقابل تهتم وجهة النظر الحديثة عن البيولوجيا الجزيئية بعملية «التنظيم» من حيث الزمان والمكان؛ فكيف تترتب جزيئات الحياة فيما بين أجزاء الخلية؟ وكيف تنتقل هنا وهناك؟ وكيف تتواصل كي تنسِّق أنشطتها؟ يمكننا أن نطرح الآن هذه الأسئلة؛ لأنه أصبح بإمكاننا أن نفحص الخلية الناشطة على المستوى الجزيئي، مع أخذ قياسات ولقطات للجزيئات وهي تعمل؛ وهكذا تصير الخلية مجتمعًا سكانيًّا.
إلا أن هذا المجتمع يتَّسم بالتعقيد الشديد. ليست البيولوجيا الجزيئية في مثل صعوبة الفيزياء النظرية؛ فمفاهيمها ليست غير مألوفة ولا تجريدية ولا عويصة رياضيًّا، وإنما تنشأ الصعوبة من تداخل العديد من العوامل في وقت واحد. إننا نشعر بالدهشة والصدمة حين يصيب خللٌ ما أحوالَ آلياتنا الجزيئية، ولكن ما يثير الدهشة أكثر هو أن تلك الآليات تعمل من الأساس! وهي تمارس عملها لأنها صُممت كي تصمد في وجه تقلبات العالم؛ فهناك نقاط تفتيش وآليات تأمين وخطط دعم، وحفظ للسجلات بعناية، ولا توجد آلية من صنع الإنسان تضاهي الخلية من حيث التعقيد والتنظيم.
من المهم أن نضع في اعتبارنا أن الخلية هي مجتمع من الآلات الأوتوماتيكية، التي ليست لها إرادة، ولا بصيرة ولا ذاكرة ولا تتسم بالإيثار (ولا بالأنانية بالمعنى المفهوم). وكثيرًا ما تتعاون بشكل رائع لدرجةٍ تجعلنا ننسى هذا الأمر. في المقابل، قد تتصرف الخلايا بشكل لا يمكن التنبؤ به؛ لأننا لا نعرف إلا القليل عن كيفية عملها؛ فقد تعيش ونحن نتوقع لها الموت، أو قد تتفاعل تجاه أحد العقاقير القوية بطرق غير متوقعة مطلقًا.
تعمل البيولوجيا الجزيئية عند مستوى الخلية، وقلما تكترث بالكائن الحي ككل. والخلية هي «ذَرَّة الحياة»؛ إذ لا يمكنك أن تجد شيئًا حيًّا أصغر من الخلية. (أما الفيروسات فهي استثناء مثير للجدل؛ إذ هي أكبر قليلًا من الجينات، ولها أغلفة تحيط بها، ولكن لا يمكنها التكاثر دون أن تسطو على آلات الخلايا التي تصيبها بالعدوى.) لكن وجهة النظر هذه لا ينبغي أن تقف في طريقنا؛ فبإمكاننا أن نفهم قدرًا عظيمًا من احتياجاتنا كبشر في ضوءِ ما يجري في خلية واحدة؛ فالخلية البشرية تحتاج للأكسجين والسكر لتصنع جزيئات جديدة، ولتتكاثر؛ مما يجعلنا قادرين على أن نتنفس ونأكل. تبدأ النبضات العصبية عند مستوى الخلية، ويتم تركيب أنسجتنا — من جلد وشعر وعظم وعضلات — جزيئًا بجزيء داخل الخلية، ونحن نخرج فضلاتنا للتخلص من نفايات الخلية، كما نصاب بالقشعريرة أو نعرق لتثبت درجة حرارة خلايانا. وهناك أسئلة كثيرة جدًّا عن طريقة أداء أجسامنا لوظائفها، ويمكن معالجتها على أساس البيولوجيا الجزيئية، والكثير من هذه الأسئلة مثير للاهتمام.
العاملون داخل الخلية
يعزو هالدين إلى إنجلز الافتراض القائل بأن الحياة هي «طريقة وجود البروتينات». (كان هالدين اشتراكيًّا، ولكنه لم يكن يقرأ لإنجلز من أجل دراسة علم الأحياء.) وهذه المقولة الحيوية تفترض أن البروتينات حية بشكل متأصل فيها، وهي فكرة يلفظها هالدين. بيد أنه لا يعترض على فكرة أن «البروتينات» هي مادة الحياة.
البروتينات هي مواد موجودة في كل أرجاء الخلايا الحية، وكثيرٌ منها يوجد في شكل إنزيمات، وهي جزيئات تحفِّز عمليات التغير الكيميائي؛ إذ تسرِّع الإنزيماتُ التفاعلاتِ الكيميائيةَ بعوامل قد تصل إلى ملايين عدة من المرات؛ ومن ثم تضمن ألا تكون تلك التفاعلات بطيئة بشكل يضر بالجسم. وقد تم اكتشاف الإنزيمات من دراسات عن التخمر، وكلمة «إنزيم» يونانية الأصل ومعناها «في الخميرة»، وقد وُجد في أواخر القرن التاسع عشر أن الإنزيمات يمكن استخراجها من خلايا الخميرة وتنقيتها، ومع هذا تبقى قادرة على إحداث التخمر رغم أنها حينئذٍ لم تَعُد جزءًا من كائن حي. وقد ساعد هذا الاكتشاف على التوصل إلى أن كيمياء الحياة تعمل حسب نفس الأسس التي تحكم كيمياء المواد غير الحية.
إذا افترضنا أن الخلية مدينةٌ ما، فالإنزيمات هي العاملون فيها. ولكي تستمر الخلية في عملها، يتم استيراد مواد خام وتحويلها إلى أشياء مفيدة، وتقطن الإنزيمات في المصانع الخلوية التي تمارِس هذا العمل. ومن الأوجه العجيبة لهذه الصناعة الإنتاجية أنها تتضمن مصانع لتصنيع العاملِين أنفسهم؛ فالإنزيمات أيضًا يتم تجميعها على خط الإنتاج.
ليست كل البروتينات إنزيمات؛ فبعضها يمارس دورًا تركيبيًّا لتكوين أنسجة الجسم، وبعضها يؤدي دور قوة الشرطة بالخلية، وبعضها يحمل الأمتعة جيئة وذهابًا في خدمة مكُّوكية بروتينية تجري على مسارات بروتينية، وبعضها يشغِّل البوابات المؤدية إلى الخلية؛ إذ تجلس في غشائها الخارجي كي تفتح البوابات وتغلقها في استجابة مطيعة للتعليمات التي تتلقاها. وهناك ما يقرب من ٦٠ ألف نوع مختلف من الجزيئات البروتينية في الخلايا البشرية، وكلٌّ منها يضطلع بمهمة عالية التخصص.
إن الكثير من الإنزيمات تبدو في شكلها مثل حبة فاصولياء عليها عُقَد، مع وجود شق في المنحنى الداخلي، وفي هذا المنحنى يجري العمل كله؛ إذ يمارِس الجزيءُ عمليةَ التحفيز هناك. بعض البروتينات تمارِس مهامها في مجموعات؛ فتعمل «كوحدات فرعية» ضمن تجمُّع متعدد البروتينات. ويعد إنزيم سينثاز التريبتوفان الذي يوجد في البكتيريا واحدًا من أولئك؛ إذ يتم بناؤه من أربع وحدات فرعية قابلة للانفصال، ويعمل هذا الإنزيم على تركيب جزيء التريبتوفان الصغير، الذي يُعَد ضروريًّا لجميع الكائنات. لا يمتلك البشر هذا الإنزيم؛ ومن ثم يتعين علينا أن نحصل على التريبتوفان الذي يلزمنا جاهزًا بأن نأكل الكائنات التي تكونت هذه المادة في أجسامها.
وكما يدل هذا المثال، فإن الإنزيمات وغيرها من البروتينات تُعطى أسماءً تكشف عن وظائفها؛ فإنزيم ديهيدروجيناز الكحول ينزع ذرة هيدروجين من جزيء الكحول (أي إنه يقوم بمهمة تسمى نزع الهيدروجين)، ويعمل إنزيم سينثاز ثلاثي فوسفات الأدينوسين (إيه تي بي سينثاز) على تخليق جزيء ثلاثي فوسفات الأدينوسين. ولكن ليست كل أسماء البروتينات واضحة هكذا؛ فالهيموجلوبين، الذي يحمل الأكسجين في مجرى الدم اشتُق اسمه من الكلمة اليونانية «هيم» بمعنى «دم» فضلًا عن احتوائه على بروتين يسمى «جلوبين»، وجزيئاته كروية الشكل. والميوجلوبين، الذي يعطيه الهيموجلوبين حمولته من الأكسجين في النسيج العضلي، اشتق الجزء الأول من اسمه (ميو) من كلمة يونانية معناها عضلة. هناك أسماء أخرى أكثر غرابة، منها الإيلاستين؛ وهو بروتين مرن يوجد في كثير من الأنسجة المرنة القابلة للانثناء بالجسم، مثل الأوعية الدموية والحبال الصوتية. وهناك اليوبيكيتين؛ وهو بروتين يوجد في كل مكان بالجسم؛ لأنه يلعب دورًا أساسيًّا في عملية ضرورية في جميع أنحاء الجسم، وهي تدمير البروتينات غير المطلوبة.
يمكن تفكيك بنية البروتين أكثر من هذا من الناحية المفاهيمية. تتكون السلسلة الجزيئية من مجموعات صغيرة مميزة من الذرات، المرتبطة معًا في تتابع مثل حبات المسبحة حول الخيط. كانت هذه المجموعات قبل ذلك جزيئات منفصلة تسمَّى «الأحماض الأمينية»، وثمة عشرون نوعًا من الأحماض الأمينية في البروتينات الطبيعية، ويرتبط الحمض الأميني في السلسلة الجزيئية بالذي يليه عن طريق رابطة تساهمية تسمى «رابطة ببتيدية». كلا الجزيئين يطرحان عنهما قليلًا من الذرات غير الجوهرية لصنع هذه الرابطة، وما يتبقى — وهي رابطة أخرى في السلسلة — يسمى «الفضالة». وأما السلسلة نفسها فتسمى «عديد الببتيد».
وأي خيط من فُضَل الأحماض الأمينية هو مادة عديدة الببتيد، ويمكننا صنعها بأنفسنا بمجرد تسخين خليط من الأحماض الأمينية، ولكن لا يمكننا صنع البروتين بهذه الكيفية؛ ففي البروتين لا يكون ترتيبُ الأحماض الأمينية على طول السلسلة — أيْ «تتابُعُها» — عشوائيًّا؛ فالتتابع يتم انتقاؤه (أي بالانتقاء الطبيعي، حسب المفهوم الدارويني) بحيث تنضغط السلسلة وتنثني في الماء متخذة ذلك الشكل الكري للبروتين المحدد سلفًا، مع وضع جميع أجزاء السلسلة في أماكنها الصحيحة. يمكن إتلاف هذا الشكل عن طريق تسخين البروتين، وهي عملية تسمى «تغيير طبيعة البروتين». ولكن الكثير من البروتينات تستعيد انثناءها تلقائيًّا متخذة نفس البنية الكروية عند تبريدها. بتعبير آخر نقول إن السلسلة لديها ذاكرة من نوعٍ ما عن شكلها المنثني.
ما زالت تفاصيل «عملية الانثناء» هذه غير مفهومة بالكامل؛ بل هي أحد الألغاز المهمة التي لم يتم حلها في مجال البيولوجيا الجزيئية. ولكننا نعرف على أيِّ حالٍ ما الذي يمسك سلسلة عديد الببتيد في شكلها المتماسك في جزيء البروتين، وبإمكان أجزاء كثيرة من السلسلة أن تكوِّن روابط ضعيفة فيما بينها تسمى «روابط الهيدروجين». هذه الروابط تقوي تماسك السلسلة في شكلها المكوَّن من ملولبات ألفا وملاءات بيتا، ويتم ربط بعض أجزاء السلسلة معًا بروابط أقوى تتكون بين ذرات الكبريت، التي تتدلى من «فُضَل» الحمض الأميني سيستئين، وبعض الفُضَل تكون غير قابلة للذوبان نسبيًّا في الماء، وهذه تميل للتجمع معًا في قلب كريَّة البروتين، محاطة بأجزاء من السلسلة تكون أكثر قابلية للذوبان في الماء؛ ومن ثم، البنيةُ المنثنيةُ الناتجةُ تعتمد على خصائص الفُضَل المختلفة، وأين توجد على طول السلسلة، بتعبير آخر، تعتمد على تتابعها. ويمكنك القول بأن الجزيئات البروتينية يتم تصنيعها برفقة تعليمات الانثناء الخاصة بها.
ولكن كيف «تَعرف» آلاتُ الخلية، عند صنع بروتينٍ ما، الترتيبَ الذي يجب أن تنتظم به الأحماض الأمينية معًا؟ هذا هو دور الحمض النووي دي إن إيه (الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين)؛ إذ يتم تشفير تتابع كل بروتين في الجسم داخل جزيئات الدِّي إن إيه الموجودة في كل خلية. تقوم البروتينات بكل العمل (أو معظمه)، بينما يجلس الدِّي إن إيه بشكل سلبي في انتظار أن تتم قراءته، عندما تنشأ الحاجة للبروتين.
تُكتَب معلومات الدِّي إن إيه بلغة مختلفة عن معلومات البروتين، ولكن بوسع الخلية أن تترجِم فيما بين الاثنين. والدِّي إن إيه هو خيط آخر مكون من وحدات جزيئية أصغر — فهو «بوليمر» آخر — ولكنَّ لَبِناته البنائية مختلفة؛ إذ فضلًا عن الأحماض الأمينية، فإنه مكوَّن من جزيئات تسمى «النيوكليوتيدات». ويُعَد الدِّي إن إيه مكتبة من البِنَى البروتينية المكتوبة بحروف من «تتابعات النيوكليوتيدات» (انظر الفصل السابع)، وتكون المعلومات اللازمة لصنع كل بروتين — تقريبًا — مُشفَّرة في مخطط من الدِّي إن إيه يسمى «الجين».
في الخلايا البشرية تكون مادة الدِّي إن إيه مكدَّسة في شكل حُزَمٍ تُسمَّى «الكروموسومات». ولصنع البروتين، يجري فك شفرة جزء الدِّي إن إيه المحتوي على الجين المقابل وقراءته. وفي الواقع، البروتينات لا تُصنَع في النواة، ولكن في مكان آخر في الخلية يسمى الشبكة البلازمية الداخلية، وهي شبكة معقدة كالمتاهة من القنوات الغشائية. يتم «نسخ» الجين أولًا إلى جزيء قريب الشبه بالدِّي إن إيه، يسمى آر إن إيه (الحمض النووي الريبوزي)، وتنتقل جزيئات الآر إن إيه من النواة إلى الشبكة البلازمية الداخلية؛ حيث تتم «ترجمتها» إلى بروتينات، ثم يجري ترحيل البروتينات إلى الأماكن التي تحتاج إليها بالجسم؛ ومن ثم يجب أن تكون جزيئات الخلية قادرة على التواصل والتنقل.
يتم تنظيم العملية كلها بحيث لا تُصنَع البروتينات بشكل عشوائي، ولكن عند الحاجة إليها فقط؛ فلو كانت الخلية تَصنع جميع البروتينات بصفة مستمرة وَفق هواها، فسرعان ما ستتعطل. وقد نشأ الفهم الأساسي لكيفية حفاظ الخلية على النظام بين أجزائها ومكوناتها من الدراسة العملية التي أجراها عالِما الكيمياء الحيوية الفرنسيان فرانسوا جاكوب وجاك مونود في ستينيات القرن العشرين؛ إذ أظهرا أن الجينات تنظِّم بعضها بعضًا، فتعمل على تشغيل أو تعطيل نفسها عن طريق مجموعة البروتينات التي تشفرها؛ على سبيل المثال، بعض الجينات التي تشفِّر البروتينات المستخدمة في الخلية (وتسمى «الجينات البنائية») تُقرَن ﺑ «جينات تنظيمية» تشفِّر البروتينات الكابحة. وحين يتم تشغيل الجين التنظيمي، يجري تركيب البروتين الكابح، الذي يرتبط بالجين البنائي، مانعًا إياه من «التعبير عن نفسه» (أي مانعًا نَسْخه وترجمته إلى البروتين الخاص به). وقد أطلق جاكوب ومونود على هذه الأجزاء المنظمة من الدِّي إن إيه اسم «الأوبيروتات»، وهي مجرد مَثَل واحد على أن الخلية تَستعمل ما يشبه الشبكة العنكبوتية من التفاعلات بين الجينات والبروتينات المختلفة. وقد تمكَّن علماء البيولوجيا الجزيئية في وقتنا الحالي من فك طلاسم كل تتابع النيوكليوتيدات في الدِّي إن إيه البشري تقريبًا، ولكنهم لم يتمكنوا من وضع تصور لخريطة الشبكة العنكبوتية المذكورة، إلا لأجزاء قليلة جدًّا منها.
التطور الجيني
لقد فتح العلم الجزيئي للجينات صندوقًا من الأسرار؛ إذ لم يقتصر على أنه ساعد في تفسير دخائل ألغاز الحياة، ولكنه طرح تساؤلات صعبة تتعلق بالسلوكيات والأخلاقيات البشرية، وفتح مجالات جديدة من التكنولوجيا المثيرة للجدل. كما أحدث هذا العلم تطورًا ثوريًّا في فهمنا للتطور، والكيفية التي نحن عليها.
إن الجينات هي «عُملة» الوراثة؛ فهي ميراث لا مفر منه من آبائنا. إن الفكرة القائلة بأن الصفات تنتقل من الأبوين إلى الذرية فكرة قديمة جدًّا وبدهية أيضًا، ولكنها صارت أكثر رسوخًا عن طريق العمل الذي أجراه القَس وعالم الأحياء النمساوي جريجور يوهان مندل في القرن التاسع عشر؛ إذ قادته تجاربه عن انتقال الصفات الوراثية لنبات البسلة لأنْ يفترض أن هناك عوامل مادية دقيقة تتوسط عملية الوراثة، منتقلة من الآباء إلى الأبناء. وسرعان ما صار واضحًا أن هذه «العوامل»، التي سمِّيت الجينات فيما بعد، هي جزيئية في طبيعتها، ولكن طوال النصف الأول من القرن العشرين كان الكثير من العلماء يظن أنها جزيئات بروتينية. كان هالدين كما عرفنا يشاركهم في هذا الاعتقاد، إلى أن جاء فرانسيس كريك وجيمس واطسون، وتوصلا إلى تركيبة الدِّي إن إيه في عام ١٩٥٣، فظهر وضع جديد أجبر الجميع على اعتبار الدِّي إن إيه — لا البروتينات — المادة الجزيئية للوراثة، ونسيج الجينات.
وضع هذا الاكتشافُ التطورَ على أساس جزيئي متين، فما تحصل عليه البويضة المخصبة من الوالدين ليس جسمًا سابق التكوين، وإنما مجموعة من التعليمات الجينية لخطة جسمانية. والتغيرات التطورية التي تحدث ببطء من جيل إلى جيل هي نتيجة لتغيرات في البنية الجزيئية للجينات الوراثية. يتم نسخ الدِّي إن إيه حين تنقسم الخلية، ولكن هذا لا يحدث بشكل مثالي دائمًا؛ ومن ثم قد يكون الدِّي إن إيه الذي يحصل عليه الطفل من أبيه وأمه مزيجًا معيبًا بقدر طفيف من جيناتهما. بصفة عامة لا تكون تلك العيوب ذات أهمية، وأحيانًا ما تكون ضارة (ولكن لاحظ أن معظم الأمراض الوراثية هي نتاج «وراثة» الطفل لجين معيب، وليست لاكتساب خطأ نتيجة النسخ العشوائية). في أحوال نادرة جدًّا يكون للطفرة الجينية تأثير مفيد، بحيث تجعل الكائن أفضل تسلحًا في معركة البقاء. قد تكون تلك الميزة طفيفة للغاية، ولكن التطور يتقدم من خلال تلك الخطوات الشديدة الدقة؛ إذ إن الميزات الدقيقة تؤدي إلى نجاح إيجابي أعلى؛ ومن ثم إلى زيادة بطيئة في نسبة وجود جين طافر بين أفراد التجمع السكاني.
ما يعنيه كل هذا هو أن الجينات بمنزلة سجل جزيئي للتطور. كان لكلٍّ من البشر والأرانب سلف مشترك له مجموعات الجينات عينها، والفارق الذي يوجد الآن بين المجموعتين الكاملتين الكليتين من الجينات الخاصة بكلٍّ من البشر والأرانب (أي «الجينوم» الخاص بكلٍّ منهما) يعكس التباعد الذي يُعزى إلى تراكم الطفرات الوراثية. وهذا يمكِّن العلماء من أن يعيدوا بناء التواريخ التطورية — ليستنتجوا النظام الذي تباعدت فيه الأنواع بعضها عن بعض — وذلك من البنية الجزيئية للجينات. في السابق، كان يتعين على علماء الحفريات أن يقوموا بهذه الاستنتاجات على أساس أشكال الأجسام أو العظام، أما الآن فلديهم مقياس جزيئي كَمِّي للتغيرات التطورية أكثر سهولة.
عالم الآر إن إيه
ولكن ما الذي جاء من قبل؟ إن التعايش التكافلي الجزيئي الذي بموجبه يقوم الدِّي إن إيه بتشفير البروتينات، وتساعد البروتينات الدِّي إن إيه على أن يؤدي وظيفته ويتضاعف؛ لَهُوَ أمر شديد التعقيد حتى في البكتيريا. ولا يمكن أن تكون البروتينات ولا مادة الدِّي إن إيه قد جاءتا إلى الوجود تلقائيًّا من فتات جزيئات عضوية مبعثرة في أنحاء البحار والبحيرات في الأرض القديمة؛ فتراكيبها شديدة التعقيد بما يؤكد أنها لم تتشكل عشوائيًّا. وأسهل لنا أن نفهم (من حيث المبدأ على الأقل) فترة اﻟ ٣٫٨ مليار عام من التطور من أقدم أنواع البكتيريا أو الطحالب إلى يومنا هذا من أن نفهم كيف حدث — ربما على مدى مئات قليلة من آلاف السنين — أن تغيرت الأرض من كوكب قاحل إلى كوكب يحتضن الحياة.
افترض علماء الكيمياء الكثير من النظريات المبتكرة التي وفقًا لها ربما تحولت المكونات غير العضوية للأرض الوليدة، مثل الميثان وثاني أكسيد الكربون والنشادر والماء والنيتروجين، إلى الأحماض الأمينية والسكريات المطلوبة لصنع جزيئات الحياة. لكنها كلها غير مؤكدة، ولم تنتصر أي نظرية عن الأصل الكيميائي للحياة. ولكن ما زالت الصعوباتُ الفكرية في التقدم من مرحلة الصخور والغازات والماء إلى أنماط أولية من الجزيئات الحيوية أصغرَ من تلك المتعلقة بتحويل هذه الكتل البنائية إلى خلايا تمارس وظائفها ومليئة بالبروتينات والدِّي إن إيه. الأمر أشبه بمعضلة الدجاجة والبيضة؛ فكلٌّ من البروتينات وحدها والدِّي إن إيه وحده يكون بلا فائدة.
الطريقة المفضلة للخروج من هذه الأحجية هي أن نحوِّل الاهتمام تجاه ذلك الوسيط المتواضع؛ الآر إن إيه، الذي يحمل المعلومات الجينية إلى آلات تركيب البروتينات. إن الآر إن إيه أكثر تنوعًا في أنشطته من الدِّي إن إيه، وفي ثمانينيات القرن العشرين اكتُشفت جزيئات من الآر إن إيه في الخلية يمكنها أن تعمل كعوامل حفازة لعملية إعادة تنظيم نفسها. إن الجينات البشرية تقابل قدرًا كبيرًا من الدِّي إن إيه «المُهمَل» الذي تحتاج أن تتخلص منه قبل أن يتسنَّى قراءة الرسالة بوضوح (انظر الفصل السابع). وهذا الدِّي إن إيه المُهمَل يجري نسخه إلى آر إن إيه، ولكن يتم التخلص منه قبل أن يُترجَم الآر إن إيه إلى بروتين. وعملية الحذف هذه تجري إلى حد كبير بالاستعانة بالإنزيمات، ولكن بعض جزيئات الآر إن إيه يمكن أن تؤدي هذه العملية بغير مساعدة، وهذه تسمى «الريبوزيمات»؛ مما يعكس حقيقة أنها تُظهر ميولًا شبه إنزيمية.
أثناء تسعينيات القرن العشرين، وسَّع علماء الكيمياء الحيوية من إدراكهم لقدرات الآر إن إيه. وباستخدام تقنيات التكنولوجيا الحيوية التي استُحدثت للتعامل مع الدِّي إن إيه وإعادة كتابته، نجحوا في تخليق جزيئات آر إن إيه اصطناعية يمكنها إجراء جميع صنوف العمليات الكيميائية، مثل ربط النيوكليوتيدات بعضها ببعض أو تكوين روابط بين ذرات الكربون. وتُظهِر هذه الدراسات أن الآر إن إيه متنوع الأنشطة لدرجة تكفي لإحداث الكثير من التحولات الكيميائية التي تعدُّ ضرورية كي تبدأ الحياة. باختصار، الآر إن إيه يمكن أن يعمل كحامل للجينات، وأيضًا كعامل شغال.
ومن ثم ألفينا الكثير من العلماء الباحثين في أصل الحياة يفترضون وجود حقبة زمنية يسمونها «عالم الآر إن إيه»، كانت موجودة قبل ظهور ذلك النشاط المزدوج للبروتينات والدِّي إن إيه. لا يزال جزيء الآر إن إيه شديدَ الصعوبة في صنعه في ظروف يمكن مقارنتها بما كان عليه الحال في الأرض الوليدة، ولكن عالم الآر إن إيه يكسر ذلك المأزق الذي تفرضه الاعتمادية المتبادلة بين البروتينات والدِّي إن إيه؛ ومن ثم يتيح رابطة مفاهيمية بين تكوُّن الجزيئات العضوية الصغيرة، وظهور الخلايا البدائية الأولى.
الحياة الاصطناعية
لو استطعنا في نهاية الأمر أن نفهم أصل الحياة — ليس بالضرورة كيف بدأت بالفعل، ولكن على الأقل كيف «يُحتَمَل» أن تكون قد بدأت — فهل يمكننا حينئذٍ أن نعيد إجراء هذه العملية في المعمل؟ هل يمكننا أن نخلق الحياة من لا شيء؟
لدينا من المعلومات عن الأساس الجزيئي للحياة ما يكفي كي يكون الباحثون قادرين على أن يتفكروا في متطلبات بناء خلية اصطناعية. قد يبدو هذا الاحتمال مثيرًا للخوف؛ فماذا لو صنعنا خلية كانت لديها القدرة على التكاثر أكثر بكثير من الخلايا «الطبيعية»؟ هل ستحتل العالم كأنه غزو من كائنات فضائية؟
إن ما تحقق في مجال التطور الموجَّه والفيزياء الحيوية الغشائية يجعل تخليق الخلايا الحية البسيطة هدفًا يمكن تخيُّله، إن لم يكن حقيقة يمكن التنبؤ بها.
إنهم يفترضون أن بالإمكان إنشاء «خلية في حدها الأدنى» من ريبوزيمات خُصِّصت لهذا الغرض، وقد لوحظ بالفعل وجود نسخة بدائية من ريبوزيم يمكنه تجميع الآر إن إيه (ومن ثم يمكنه أن يضاعف نفسه). هذه الخلايا يمكن أن تُغلَّف بأغشية اصطناعية تشبه الأغشية الخلوية، ولكن لديها القدرة على النمو والانقسام، وقد صنع لويزي تلك «الأغشية المتضاعفة». وربما تنجح «الخلايا الأولية» المتضاعفة في تطوير جزيئات آر إن إيه قادرة على تركيب أحماض أمينية لتتجمع في شكل بروتينات. ويقول الباحثون إن هذا إن تحقق فسوف يسمح لنا بأن «نعيد تشغيل شريط التطور المبكر».
على الذين يتنبئون بوجود أغراض فظيعة لتلك التجارب أن يضعوا في أذهانهم أن من السخف أن يسلك العلماء هذا المسلك الشديد الوعورة لإنتاج بعض الأسلحة المميتة، بينما يمكن بالفعل وبسهولة نسبية صنع أسلحة كيميائية وبيولوجية فتاكة. ومع ذلك، من المستحيل أن نعرف لأي مدًى يمكن أن تصل بنا تلك الأبحاث! تلك هي حقيقة العلم الجزيئي؛ فهو مجال إبداعي يعطينا شيئًا ملموسًا في مقابلِ ما بُذل من جهود. وهنالك تكمن كل البراعة الفنية، وكل الروعة وكل الخطر. وفي نهاية الأمر، لن نحصل إلا على الجزيئات التي نستحقها.