المهمة الشاقة: صنع مواد من جزيئات
إن الجزء الأصعب في رحلات الفضاء (بغض النظر عن الضجر والخطر) هو مغادرة الأرض؛ فإذا وصل الصاروخ إلى الفضاء وخوائه، وتَحرَّر من تأثيرات الجاذبية القوية، فستكفيه قوة دفع صغيرة لإبقائه متحركًا باستمرار وبلا توقف تقريبًا؛ ومن ثم فإن معظم الوقود الذي يستهلكه الصاروخ يحتاجه لمجرد أن يفلت من جاذبية الأرض، وهذا الوقود والمحركات التي تحرقه يعزى إليهما الجزء الأكبر من كتلة الصاروخ. ولا زلتُ أذكر رحلات أبولو إذ كان الصاروخ يغادر الأرض سامقًا كالبرج ويعود وما تبقَّى منه سوى كبسولة صغيرة.
إذا تمكَّنا من إطلاق سفينة فضائية من خارج الغلاف الجوي للأرض فستقل حمولتها كثيرًا. وقد بيَّن آرثر سي كلارك في روايته «ينابيع الفردوس» الكيفية التي يمكن أن يحدث بها هذا؛ فقد افترض إنشاء «مصعد فضائي»؛ إذ تدور محطة في مدار ثابت حول الأرض، بحيث تكون مرتبطة بالأرض بكابل طويل فائق القوة، ويتم نقل المعدات الفضائية والمسافرين في رحلات مكوكية باستخدام ذلك المصعد وصولًا إلى المحطة الفضائية، ثم يمكن نقل كل ذلك إلى الفضاء باستخدام جزء يسير من احتياجات الوقود الذي كان يُستهلَك في حالة الإطلاق من الأرض.
ولكي تكون المحطة في مدارها مرتبطة بسطح الأرض، سنحتاج إلى كابلات أقوى من أي شيء لدينا في الوقت الحالي، ويجب أيضًا أن تكون خفيفة الوزن، فلو كانت الكابلات من الصلب فسيكون وزنها ثقيلًا جدًّا.
ليس علينا تدبر فكرة مصعد الفضاء الخيالية لتفسير سبب احتياجنا إلى مواد تكون قوية، وشديدة التحمل، ومضادة للتآكل، وخفيفة الوزن … إلخ. ولكن سيناريو كهذا يثير التساؤل بشأن المدى الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان في مجال تحسين خواص المواد. إن تلك الكابلات الفضائية الفائقة القوة توضع أيضًا في الاعتبار لإطلاق الأجسام إلى الفضاء، فيما يشبه عملية القذف بالمقلاع يكون فيها الجسم المطلوب إطلاقه مرتبطًا بكابل مؤقتًا يوصله بقمر صناعي يدور حول الأرض. ويجب أن تكون تلك الكابلات أو الحبال خفيفة الوزن وقوية في الوقت نفسه. كما أن هناك عددًا لا يحصى من الاستخدامات الأخرى الأكثر واقعية لتلك الكابلات القوية، مثل تعليق الجسور وربط منصات الحفر بقاع البحر.
طالما كانت الألياف القوية متاحة لدينا، ومن حسن حظنا أن الطبيعة تمدنا بها بوفرة، مثل الحرير والقنب والخشب والشَّعر. في مرحلةِ ما قبل الثورة البلشفية في روسيا كان الحرير يُستخدم للوقاية من طلقات الرصاص، ويجري استخدام حرير اصطناعي الآن لنفس الغرض.
إن عصر البلاستيك (أو اللدائن) الذي بدأ بحماس في مستهل القرن العشرين قد استحدث الألياف التخليقية، مضيفًا إياها إلى ما هو موجود من الألياف الطبيعية، وتلك الألياف الاصطناعية لها مزايا وعيوب. صُنعت أوائل أنواع البلاستيك بطريق التجربة والخطأ، أما البلاستيك الحديث فهو على العكس؛ إذ يتم تصميمه على المستوى الجزيئي وفق التطبيقات التي سيُستعمل فيها. وفي هذا الفصل المَعْنِي بالنواحي الجزيئية للمواد سوف أركِّز مناقشتي على الألياف، سواء الطبيعية أو تلك التي من صُنع الإنسان؛ إذ إنها تقدم بعض الأمثلة الرائعة والتصويرية عن كيفية تأثير التراكيب الجزيئية على نوع خصائص المواد التي يهتم بشأنها المهندسون.
إلا أن التفاعل بين العلوم الجزيئية وهندسة المواد أوسع نطاقًا من هذا بكثير؛ فقد صُممت جزيئات يمكن تحويلها إلى موادَّ سيراميكية شديدة الصلابة وقادرة على تحمل درجات الحرارة العالية، وهذه تُستخدم في الهندسة الجوية الفضائية وصناعة التوربينات وتوليد الطاقة. كما توجد موادُّ صُنعت من جزيئات (لا سيما البوليمرات) مصممة بهدف توصيل الكهرباء والْتقاط النبضات الضوئية وتوجيهها وتحويلها، وغربلة جزيئات أخرى، وحماية الأسطح من التآكل أو التلوث. وهذه المواد تتضمن موادَّ خامًا «ذكية» تستجيب لتغيرات البيئة، ويمكن أن تعمل على نحو مستقل كمفاتيح تحويل وصمامات ومضخات. ولا شك أن تأثيرَ المواد ذات الأساس الجزيئي على مجال الطب عظيمٌ، بل ومن المتوقع أن يصير أكثر أهمية على نحو متزايد؛ فهي تمنحنا الأطراف والأعضاء والأنسجة الصناعية وأجهزة إعطاء العقاقير، والخيوط القابلة للتحلل بيولوجيًّا للجراحة، وأجهزة الاستشعار لمراقبة الحالة الصحية للجسم. ويومًا ما سوف تمكِّننا الهندسة الجزيئية من استنبات كُلْية جديدة أو قلب جديد بدلًا من العضو التالف.
كابلات الجسم
إن الفكرة القائلة بأن أجسادنا هي كتلة من تجمعات خلوية من البروتينات لا تتفق مع واقع خبراتنا؛ فنحن نشعر بأنفسنا على أننا تركيبة من المواد والأنسجة؛ من الجلد والعظام والعضلات والشعر والأظفار. ولهذه البنية من المواد خصائص ضرورية تجعلنا نتفاعل مع عالمنا؛ فالطبقة الخارجية من الجلد هي مجرد كسوة تتكون من خلايا مبرمجة على الموت بمجرد أن تكوِّن النسيج، ونفس الشيء ينطبق على الشعر الذي يحقق العزل للجسم، وعلى الأظفار التي تعد بقايا تطورية لمخالب حيوانية كانت في الماضي تخمش وتمزق. وتتكون العظام والأسنان في معظمها من مادة غير عضوية صلبة؛ فوسفات الكالسيوم. وأغلب هذه المواد يتم تجديده باستمرار أثناء حياتنا، بينما لا يحدث هذا للبعض الآخر، مثل بروتينات عدسة العين.
تمارس هذه المواد الطبيعية في الجسم أدوارًا ميكانيكية، وتحافظ على سلامتنا البنيوية؛ فهي بمنزلة اللبنات والعوارض والكسوة الخاصة بمبنًى ما؛ إذ تحمي العمال من العناصر الخارجية، وتُئْوي كل الأشياء الضرورية من أسلاك وأنابيب توصيل مطلوبة لأداء العمل كالمعتاد. يتكون الكثير من المواد البنيوية بالجسم من البروتينات، وهذه البروتينات البنيوية — بخلاف الإنزيمات — لا يتعين عليها أن تمارس أعمالًا كيميائية دقيقة، ولكن لا بد ببساطة أن تكون (على سبيل المثال) متينة أو مرنة أو مضادة للماء. نظريًّا، هناك الكثير من المواد الأخرى إلى جانب البروتينات قد تكفي لأداء هذه المهمة؛ وبالفعل، فإن النباتات تستخدم السليولوز (وهو بوليمر سكري بالأساس) لصنع أنسجتها. إلا أن أعجوبة البروتينات تتمثل في أنها شديدة التنوع؛ إذ يمكن نسج سلاسلها الجزيئية في ألياف قوية تكون متقاطعة أو متشابكة، وتُكوِّن المادة الخلوية الصلبة في القرون والمخالب، أو تشكِّل «ملاءات» مرنة. فضلًا عن هذا، فإن المواد الخام التي تُصنَع منها البروتينات توجد بكثرة في الخلايا. ولأن البروتينات يتم تشفيرها داخل الجينات، فإن الخصائص الجزيئية التي تُكسِب البروتين البنائي خواصه الميكانيكية يمكن تعديلها بدقة ثم إعادة إظهارها كما ينبغي.
يعتبر الكولاجين أكثر أنواع البروتين البنائي وفرة في الجسم البشري؛ حيث يشكِّل نحو ربع الكتلة الإجمالية للبروتين. وهو بروتين بسيط نسبيًّا؛ إذ تحتوي جزيئاته الشبيهة بالسلاسل في أغلبها على نوعين من الأحماض الأمينية؛ هما الجلايسين والبرولين. يشكل الجلايسين كل ثالث رابطة في السلسلة، فيما يقبع البرولين وأحماض أمينية أخرى (لا سيما اللايسين) في المنتصف. بعض وحدات البرولين تكون معدلة كيميائيًّا، بأن أضيفت إليها ذرة أكسجين، وهذا يحدث من خلال تفاعل يدخل فيه فيتامين ج؛ ولهذا يحتاج الجسم إلى هذا المركَّب للحفاظ على سلامة الأنسجة. ويؤدي نقص فيتامين ج إلى الحالة المعروفة بالإسقربوط، والناتجة عن الكولاجين التالف الذي لم يتم استبداله.
ومع ذلك، فإن لُيَيْفات الكولاجين ليست شديدة القوة في حد ذاتها؛ لأن الجزيئات ليست مترابطة أو متشابكة معًا. ولكن تحتوي أنماط أخرى من الكولاجين على حزمٍ مترابطةٍ عرضيًّا من اللُّيَيْفات الدقيقة متحدةٍ في شكل نوع من الشبكة الصلبة، وهذا يُنتج الغشاء الذي يفصل الطبقات الخارجية من الجلد عن الطبقات الداخلية.
على النقيض من التشابك غير المنتظم في النسيج الضام، تحتوي قرنية العين على لُيَيْفات كولاجينية مكدسة جنبًا إلى جنب في ترتيب منتظم، وهذه اللُّيَيْفات شديدةُ الصغر لدرجة تجعلها لا تشتت الضوء؛ مما يجعل مادة القرنية شفافة تمامًا. والتصميم الأساسي — الذي يتكرر كثيرًا في الطبيعة — هو أنه عن طريق التلاعب بالتركيبة الكيميائية، والأهم، بالترتيب الهرمي لنفس الجزيئات الأساسية، يمكن استحداث أنواع مختلفة عديدة من الخصائص المادية.
وكذلك فإن الكولاجين تتشكل منه المادة المرنة المتينة للأوتار والأربطة العضلية، ومادة العاج الداعمة للأسنان. ولكن البروتينات التي في المناطق الخارجية من الجسم — أيْ في الجلد والشعر والأظفار، فضلًا عن قرون الحيوانات وحوافرها وأظلافها — تكون من نوع مختلف؛ إذ تتكون هذه الأنسجة في أغلبها من مادة الكيراتين، وهو نوع آخر مركَّب هرميًّا. وهنا أيضًا في حالة الكيراتين تلتف السلاسل الجزيئية في شكل لوالب، وهذه تتجمع أزواجًا في شكل خيوط ملتفة مزدوجة اللوالب، ويلتف كل اثنين من هذه الخيوط معًا في شكل «لفة فائقة» تسمى اللُّيَيْفة الأولية، وتتركب كابلات الكيراتين الأولية من مجموعات من ثماني لُيَيْفات أولية. تكون هذه الألياف محاطة بشبكة من بروتينات شبيهة بالكيراتين غير منتظمة تترابط تقاطعيًّا مع ذرات من الكبريت، وكأنها كابلات من الفولاذ مطمورة في الخرسانة، وهذه الروابط التقاطعية تحدد قوة المادة؛ فالشعر والأظفار تكون أكثر امتلاءً بالروابط التقاطعية من الجلد، والشعر المتموج أو المجعَّد يمكن فرده بتكسير بعض هذه الروابط التقاطعية الكبريتية لجعل الشعر أطوع وأسهل تصفيفًا.
يعتبر الشعر من الألياف الطبيعية النافعة، ولكن معظم المواد المصنوعة من بروتينات الكولاجين والكيراتين تتشكل بدلًا من هذا في شكل ملاءات (كما في الجلد) أو كتل (كما في القرون والحوافر)، ولديها تركيبة ليفية على المستويين الجزيئي والمجهري؛ إذ إن من الأسهل للآلية الإنتاجية في الخلايا المفردة أن تُصنِّع هذه التراكيب من أن تصبَّ لَبِنات صلبة على سبيل المثال. ويعيد الجسم توظيف هذه الألياف الدقيقة في أشكال أخرى.
أعاجيب الحرير وخيوط العنكبوت
تصنع العنكبوت الحرير لاستعمالات كثيرة، وتكسبه صفة مختلفة في كل حالة. يتم غزل الخيوط الأساسية لشبكة الحرير العنكبوتية من نوعية حبال السحب القوية، بينما تُستخدم أنواع الحرير الأخرى في صنع ألياف داعمة، وخيوط تربط الشبكة بالفرع أو الرافدة، وخيوط لتثبيت الفريسة، وخيوط لتقميط اليرقات النامية، وهلم جرًّا. وجميع هذه الحرائر تتكون من سلاسل بروتينية تسود فيها الأحماض الأمينية من أنواع الجلايسين والألانين والسيرين، ولكن التوليفة المحددة من المكونات يتم تكييفها حسب استعمال الحرير.
وتلك الملاءات المنتظمة والصلبة نسبيًّا يمكن أن تتكدس بعضها فوق بعض لتصنع شبه بلورات بروتينية دقيقة ثلاثية الأبعاد. في ألياف الحرير تكون شبه البلورات هذه مجهرية؛ إذ قد تمتد فقط لمسافة تساوي جزءًا من عشرين مليون جزء من المليمتر في أي اتجاه. وبعد المناطق شبه البلورية، تستمر السلاسل البروتينية لتشكل مناطق أقل تنظيمًا، تتشابك فيها معًا؛ ومن ثم يعد الحرير أشبه بتركيبة من بلورات دقيقة مبعثرة في أنحاء مادة بينية بروتينية أكثر مرونة؛ وهو يشبه العظم قليلًا، فيما عدا أن البلورات في حالة الحرير لا تكون من المعادن ولكن من البروتينات ذاتها.
توجد في المناطق البلورية من بروتين الحرير بصفة عامة تتابعاتٌ متكررةٌ بانتظام من الأحماض الأمينية؛ ففي ألياف شرنقة دودة الحرير من نوع «بومبيكس موري»، على سبيل المثال، يتكرر التتابع جلايسين-ألانين-جلايسين-ألانين-جلايسين-سيرين على طول السلاسل، وفي المناطق غير المنتظمة يكون التتابع غير منتظم.
ألياف الحرير غير قابلة للذوبان في الماء؛ إذ ستكون قليلة الفائدة لو كانت تذوب لمجرد تعرضها لندى الصباح. إلا أن العنكبوت تغزل خيوطها الحريرية من محلول مائي من جزيئات بروتينية؛ ومن ثم يتحقق ذلك العمل الإعجازي الفذ المتمثل في تحويل جزيء قابل للذوبان إلى جزيء غير قابل للذوبان في الماء. هذا التغيُّر في الذوبانية هو نتاج لتغيُّر في طريقة تكوين السلاسل عضويًّا؛ إذ تُنتج العنكبوت بروتين الحرير في غدده الحريرية، وفي هذه المرحلة يكون البروتين لا يزال قابلًا للذوبان في الماء، ويمر المحلول البروتيني المائي من الغدة متجهًا نحو مخرج في جسم العنكبوت يسمى «المغزال». في أثناء هذه الرحلة يفقد المحلول الحريري محتواه المائي ويصبح أكثر تركيزًا، وتبدأ السلاسل في الارتباط معًا بروابط هيدروجينية، وحين يغادر الحرير فتحة المغزال يكون معظم الماء قد تم التخلص منه وتشكِّل السلاسل ملاءات بيتا. وبمجرد أن تكون الجزيئات قد تكدست معًا بإحكام في هذه المناطق البلورية، يصير من العسير على جزيئات الماء أن تنفذ فيما بينها؛ ولذا تكون ألياف الحرير صلبة بالضرورة ولا تذوب في الماء.
لم يستطع خبراء العلوم الجزيئية حتى الآن تصميم بوليمرات صناعية لها هذا النوع من البنية الهرمية؛ إذ إن من الصعب جدًّا التحكم في الطريقة التي تتكدس بها الجزيئات معًا على عدة مستويات مختلفة في وقت واحد. صحيح أن البنية الجزيئية للبوليمرات التخليقية — ما تحويه من ذرات وما تتصف به من نظام وترتيب في الفراغ — يمكن الآن تحديدها بدقة، إلا أن «برمجة» هذه الجزيئات لكي تتجمع مكوِّنة أنواعًا معينة من التشكيلات، أو لتترابط تقاطعيًّا عند مواقع معينة، هي أمر آخر.
ومع ذلك يَعرف كيميائيو البوليمرات الآن حِيَلًا كثيرة لإدخال خصائص معينة بطريقة هندسية في المواد التي يعالجونها بما يجعلها صلبة أو لينة، على سبيل المثال، أو قادرة على تكوين ألياف قوية. في عام ١٨٣٩ اكتشف تشارلز جوديير طريقة يستطيع بها أن يحقق الترابط التقاطعي للجزيئات البوليمرية للمادة الصمغية المستخرجة من نوع من أشجار الغابات الاستوائية البرازيلية يسمى «هيفيا برازيليينزس»، عن طريق تسخين تلك المادة مع الكبريت. وهذه العملية المسماة «الفلكنة» هي عملية تقسية خاصة، تُحوِّل الصمغ اللين إلى ذلك الشكل المرن القابل للمط الذي نسميه «المطاط».
يتكون الصمغ المطاطي في معظمه من بوليمر هيدروكربوني يسمَّى بولي أيسوبرين، وهذا تتكون سلاسله فقط من ذرات كربونية مترابطة معًا، مع اتصال بعض ذرات الهيدروجين بها. والكثير من منتجات البلاستيك التي تصنع الآن على نطاق واسع، مثل البولي إيثيلين والبولي بروبيلين والبولي ستيرين، هي أيضًا بوليمرات هيدروكربونية صنعت من منتجات تكرير البترول. ولكن المطاط الخاص بإطارات الشاحنات مطاط طبيعي؛ إذ يبقى من الصعب جدًّا أن يُصنَع بطريقة تخليقية.
حتى منتصف القرن العشرين، كانت عملية ربط الجزيئات الهيدروكربونية الصغيرة معًا لصنع السلاسل البوليمرية التخليقية تتم عشوائيًّا؛ مما يُنتِج أنماطًا مختلفة كثيرة من السلاسل: فبعضها قصير، وبعضها طويل، وبعضها متفرع، وبعضها مستقيم. ولأن بنية السلاسل تحدد كيفية تكدسها معًا، ولأن هذا التكدس يحدد خصائص المادة المنتَجة؛ فإن هذا القصور في التحكم يعني أن كيميائيي البوليمرات لم يكن بوسعهم أن يفعلوا إلا القليل لضبط هذه الخصائص. وبينما يتيح التحكم البنيوي الدقيق للطبيعة صنع عدة مواد تبدو مختلفة من نفس المادة الخام، فإن الكيميائيين يحصلون على نفس نوع البلاستيك في كل مرة. ولكن في خمسينيات القرن العشرين، تم استحداث عوامل حفازة خاصة حققت تحكمًا أكبر في البنية الجزيئية للسلاسل، ومن ثم في طريقة تكدسها معًا؛ وهذا يعني على سبيل المثال إمكان تحضير البولي إيثيلين بشكل جديد صلب عالي الكثافة له مدًى أوسع من الاستعمالات، يتفوق بصفاته هذه على الشكل الأقدم، الأكثر ليونة والأقل كثافة، بما أتاح استعماله على سبيل المثال لصنع طبول صلبة، وزجاجات صلبة للتعبئة، أو مواسير وألواح صلبة في الإنشاءات وسائر الأغراض الهندسية.
هاتان الصورتان تختلفان في درجة الانتظام المتعلقة بتكدس السلاسل البوليمرية معًا؛ أيْ في درجة بِلَّوْرِيَّتِها. وكما هو الحال في الحرير، فإن زيادة درجة البلَّورِيَّة (أي درجة التبلور) تجعلها أكثر صلابة ومتانة، كما تجعل المادة أكثر كثافة وأقل ذوبانية، وهي صفات مستحبة للألياف القوية. وتنشأ القوة العالية لأن تكدُّس السلاسل الجزيئية بطريقة أكثر تقاربًا وانتظامًا يجعلها تتلاصق بشكل أكثر إحكامًا.
ومن ثم، فإن من التحديات الأساسية عند صنع ألياف بوليمرية صلبة تحسينَ اصطفاف الجزيئات؛ إذ إن تكوُّن أي بوليمر من جزيئات مستقيمة السلسلة (بمعنى أن تَكُون كل سلسلة على حدة مستقيمة غير متفرعة) يُكْسب هذا البوليمر القدرةَ على جعل السلاسل الجزيئية ككل تنتظم وتصطف معًا. ولكن في حالة الحرير يساعد على حدوث هذا ميلُ السلاسل للترابط معًا لصنع ملاءات بيتا البلورية. بتعبير آخر، السلاسل نفسها لديها نوع من «تعليمات التراصف» المبرمجة داخلها، فهل يمكننا صنع بوليمرات اصطناعية مثل هذه؟
نعم يمكننا هذا في الحقيقة؛ فالسلاسل البروتينية في الحرير تتراصف معًا بسببِ قوَى التجاذب بين الوحدات في السلاسل المختلفة، بما يتيح للسلاسل أن تتشابك معًا مثل «السحَّاب» المغلق، كما توجد علاقات مشابهة متبادلة بين سلاسل طائفة من البوليمرات التخليقية تعرف بالأراميدات، التي تصنع منها ألياف الكيفلر الشهيرة التي تنتجها شركة دوبون.
تعد ألياف الكيفلر من أفضل المواد المرشحة لربط محطة فضائية؛ إذ تمتاز بقوة شد توتري أكبر مما يتميز به الفولاذ، مع كونها أخف وزنًا بكثير. وتُستخدم هذه الألياف ضمن الحبل المقوَّى في الإطارات المطاطية، وكمادة أساسية في صنع الملابس الواقية من الرصاص، وكمادة مقوية في التركيبات الصلبة المستخدمة في الهندسة الجوية الفضائية، وحتى ككابلات محبوكة تُستخدم لتثبيت آلات الحفر والتنقيب عن البترول.
ولكن حتى عند المقارنة وزنًا بوزن، نجد الحرير لا يزال أقوى؛ فالدرجة العالية من تراصف السلاسل الجزيئية في الخيط الحريري لا تأتي فحسب من حقيقة أنها تترابط جزئيًّا في وجود المحلول، بل الأمر المهم — والأهم — هنا أن المحلول البروتيني أثناء تدفقه لأسفل خلال الممر الخارج من غدة الحرير في العنكبوت تجاه المغزال، تتراصف سلاسله البوليمرية في اتجاه تدفق السائل، تمامًا كما تدفع الريح الشعر وتجعله مشدودًا على استقامته. تحدث نفس العملية أيضًا أثناء إطلاق خيط الحرير من فتحة المغزال، وهي تسمى «التراصف المستحث قَصِّيًّا» (إذ إن السائل المتدفق يتعرض لما تسمى قوة القصِّ أو القوة القاصَّة).
وهكذا، رغم أن من الممكن صنع بروتينات شبيهة بالحرير بشكل اصطناعي، فإنَّ صنع خيوط حرير حقيقية منها هو أمر آخر تمامًا. فإذا أمكن بَثْق ليفةٍ ما بشكل ميكانيكي من محلول بروتين حريري (طبيعي أو اصطناعي) تمامًا مثل جذب خيطٍ ما من غراء لزج، فلن تكون الليفة بنفس قوة الخيط الحريري الحقيقي ومتانته. ويعتقد بعض الباحثين أنه لن يكون بالإمكان الحصول على حرير اصطناعي يمكن مقارنته جيدًا بالمادة الطبيعية، إلا إذا أمكن صنع آلة دقيقة تضاهي مغزال العنكبوت لتنتج ذلك الحرير.
تستخدم حالة التراصف المستحث قصيًّا في عملية صناعية لإنتاج ألياف شديدة القوة من البولي إيثيلين؛ إذ تُسحب الألياف من مادة شبه هلامية ضمن خطوات معقدة تَنتج عنها درجة عالية جدًّا من التراصف للسلاسل البوليمرية. وهذه الألياف، التي تسمَّى أحيانًا «السلك الصاروخي»، هي أقوى حتى من الكيفلر، وهي — بخلاف الكثير من المواد العضوية — شديدةُ الثبات كيميائيًّا؛ مما يجعلها مناسبة أكثر لاستعمالها في الخيوط الجراحية الطويلة الأمد.
جينات المادة
ثمة طريقة لصنع بوليمر حريري اصطناعي؛ وهي أن نجلب جينات منتجة للحرير، وندخلها في البكتيريا باستخدام آليات تكنولوجية حيوية؛ فالحرير، تمامًا مثل أي بروتين آخر، يتم تشفيره جينيًّا في الدِّي إن إيه؛ إذ يتحدد تتابُع أحماضه الأمينية على طول السلاسل بواسطة تتابع مقابل من وحدات نيوكليوتيدية في أحد الجينات في كروموسومات العنكبوت. بتعبير آخر، العنكبوت لديها مخطط جزيئي لصنع البوليمر. (ولكن لاحظ كيف أنه بسبب تعقيدات عملية الغزل، لا يكون هذا المخطط وحده كافيًا لصنع خيوط حريرية جيدة!)
إن قدرة الكائنات الحية على تعيين التركيبة الجزيئية لبوليمر ما بدقة تامة هي قدرة مذهلة تحسد عليها. تتيح التكنولوجيات التخليقية الحديثة للكيميائيين قدرًا كبيرًا من التحكم في تركيبة سلسلةٍ ما؛ فعلى سبيل المثال يمكنهم صنع بوليمرات مهجنة عن طريق التطعيم بسلاسل جانبية من نوع كيميائي معين على سلسلة رئيسية من نوع آخر، أو عن طريق التبادل بين لَبِنات نوع معين من الوحدات، ولَبنات نوع آخر على طول سلسلة واحدة. ولكنَّ صُنع بوليمر ما قد يكون طوله آلاف الوحدات، وفيه تتكرر الكثير من الوحدات المختلفة في تتابع من التعقيد الاعتباطي — ولكن مع بقاء كل سلسلة جزيئية في المادة متطابقة — هو أمر بعيد للغاية عن قدراتنا التخليقية الحالية. وبتعبير لغوي مناظر، نقول إن أحدث ما لدينا من بوليمرات اصطناعية أشبهُ بأحرف منفردة مبعثرة، في حين أن البوليمرات الطبيعية تشبه الجُمَل الكاملة ذات المعنى.
تتيح التكنولوجيا الحيوية لنا التمكن من فصل الجينات من جزء من الدِّي إن إيه الخاص بأحد الكائنات ثم لصقها بالدِّي إن إيه في كائن آخر. والكائن المتلقي حينئذٍ (في حالة سير العملية على ما يرام) يعامل الجين الجديد كأنه يخصه هو، ويستخدم آليات ذلك الجين المتعلقة بالنَّسخ والترجمة لصنع البروتين المقابل. وإن من الآمال الواعدة المهمة، التي تعتبر من وجهة نظري أقل إثارة للجدل، في حقل التكنولوجيا الحيوية، أن يجري نقل جينات بشرية إلى البكتيريا، وهذه بدورها يمكن إكثارها في صهاريج تخمير لصنع البروتينات المطلوبة في الطب. ولكن بعض علماء البلمرة أدركوا أن هذا يعد أيضًا وسيلة لصنع مواد أساسها البروتينات.
هيكل الخلية
توجد بالخلايا شبكة من الألياف، وهي أكثر صلابة من تلك البروتينات البنيوية التي تشبه الحبال، والتي تسمى الكولاجين والكيراتين. وشبكة الألياف المذكورة هذه تسمى «الأنيبيبات الدقيقة»، وهي تُؤَمِّن مسارات شبه عصوية تنقل الآلات الجزيئية عن طريقها العبوات المطلوب نقلها في أنحاء الخلية. كما أن الأنيبيبات الدقيقة بمنزلة «سقالات» تستعين بها الخلية لتغير شكلها؛ فهي على سبيل المثال تتيح للأميبا أن تمد قدمًا من أقدامها الكاذبة. كما أن الزوائد الخلوية الشبيهة بالشعيرات، التي تسمى الأهداب، والتي تبرز من الخلايا الطلائية في القناة التنفسية للإنسان لتدفع المخاط الطارد للشوائب والميكروبات إلى خارج الجسم، وكذلك الأسواط التي تستخدمها البكتيريا لتدفع نفسها بحركات لولبية في سائلٍ ما؛ كل هذه أيضًا من الأنيبيبات الدقيقة.
وجدير بالذكر أن عقَّار التاكسول المضاد للسرطان (انظر الفصل الأول) يعمل عن طريق إعاقة عملية الانقسام الفتيلي؛ ومن ثم إيقاف تكاثر الخلايا السرطانية، فهو يعوق عملية تفكيك الأنيبيبات الدقيقة التي تعتبر ضرورية لها أثناء بحثها المحموم بعضها عن بعض من كلا النجمين. لسوء الحظ أن التاكسول له نفس التأثير على الخلايا السليمة، ولكن نظرًا لأن الخلايا السرطانية تنقسم بسرعة أكبر، فإنها تنال الضربة الأقوى من جانب هذا العقَّار.
الأنابيب الكربونية
حتى حلول تسعينيات القرن العشرين، لم يكن ثمة تفكير، إلا القليل، في اتجاه فكرة صنع ألياف تخليقية قوية من جزيئات أنيبيبية؛ فمن السهل نسبيًّا أن تربط جزيئات صغيرة معًا في سلاسل، ولكن الأمر يصير أكثر صعوبة بكثير فيما يتعلق بالأنابيب.
ولكن في عام ١٩٩١ اكتشف خبير ياباني في علم المجاهر، يدعى سوميو إيجيما، يعمل في شركة إن إي سي بمدينة تسوكوبا نوعًا من الجزيئات الأنيبيبية يمكن بواسطتها صنع أقوى ألياف عَرَفَها الإنسان. وتلك التراكيب التي تسمى أنابيب النانو الكربونية يمكنها أن تجمِّع أنفسها من بخار من الكربون المفتت.
وفي عام ١٩٩٠ اكتُشفت طريقة لصنع الفوليرينات بكميات كبيرة لأول مرة، وكانت تشمل إمرار شحنة كهربائية بين قضيبين من الجرافيت (الذي يُعَد كربونًا نقيًّا). أدت طاقة الشرارة إلى تبخير بعض الجرافيت، فارتبطت ذرات الكربون معًا عند تبريد البخار مكونة الكربون ٦٠ وأقفاصًا كربونية أخرى. ولكن حين استخدم إيجيما الياباني ظروفًا مختلفة قليلًا في مولِّد الفوليرين الذي لديه، وجد شيئًا جديدًا حين فحص الفتات السناجي تحت المجهر الإلكتروني.
تتكون جُدُر أنابيب النانو من الكربون النقي الذي تترتب ذراته في شكل ملاءات من حلقات سداسية، وهي نفس بنية الجرافيت، فيما عدا أنه في أنابيب النانو تكون الملاءات ملتفَّة في هيئة أسطوانات، وعند طرفَي الأنبوبة تلتوي الملاءات في شكل أغطية طرفية مسطحة. إننا في العادة نَعتبر الجرافيت مادة ضعيفة، وهو على أي حال يُستخدم في صنع أقلام الرصاص؛ لأن جَرَّه على الورق يزيل منه بعضًا من الكربون الأسود، ولكن هذا الضعف هو نتيجة لأن الملاءات المسطحة من الكربون يكون ارتباط بعضها ببعض ارتباطًا رخوًا، لدرجة أنها يمكن أن تنزلق بعضها فوق بعض. أما الملاءات المفردة التي تكون فيها الذرات مرتبطة بإحكام، فيُتوقع أن تكون شديدة القوة بقدر يضاهي الماس في واقع الأمر. وحين تكون هذه الملاءات شبه الجرافيتية مرتبطة معًا جزئيًّا بروابط كيميائية، كما هي الحال في ألياف الكربون التقليدية، فإن المادة تكتسب نصيبًا كبيرًا من القوة والصلادة.
تعتبر أنابيب النانو الكربونية ذروةَ ما تم التوصُّل إليه من ألياف الكربون؛ إذ تتكون الأنابيب من ملاءات لا تنفصم من كربون شبيه بالجرافيت. يُتوقع أن تكون لها قوة توترية (شدِّية) أكبر من الماس، وأكبر أيضًا من ألياف الكيفلر، ومن الحرير، أو أي ألياف أخرى طبيعية أو اصطناعية قد تخطر على بالك. وقد أدرك هذا الأمرَ عالِمٌ يُدعى ريتشارد سمولي من جامعة رايس بمدينة هيوستون الأمريكية — وهو أحد مكتشفي الفوليرينات — فافترض أنه لو أمكن بناء ما يسمى «مصعد الفضاء»، فبإمكان أنابيب النانو الكربونية أن تثبته بالأرض!
ولكن توجد عقبة هنا؛ فحتى الآن لا يمكن تكبير حجم أنابيب النانو إلى طول يزيد عن كسر من الملِّيمتر، وهذا لا يعد طولًا كبيرًا، كما أن قياس القوة الحقيقية يكون أمرًا صعبًا، وإن كانت بعض التجارب على المستوى المجهري قد أكدت، بشكل غير نهائي، أن هذه الأنابيب قوية وصلدة جدًّا بالفعل. (هل في مثل قوة الماس وصلادته؟ لا يزال هذا غير مؤكد.)