في مسألة الأيض: الجزيئات والطاقة
تخيل لو كانت السيارةُ ذاتُ المحرك مثلَ جسم الإنسان؛ بحيث لا تستمر في السير بسرعتها القصوى إلا لمسافات قصيرة فحسب، وهكذا لا يستطيع سائقها أن يقودها على الطريق بسرعة تزيد عن ٨٠ ميلًا في الساعة مثلًا (لنَقُل هذا بأمانة)؛ إذ لن يستطيع عمل ذلك إلا في رحلة مسافتها نصف ميل إلى بعض المحال التجارية. وكلما تَعيَّن عليه القيادة لمسافة أبعد، صار عليه أن يسير بسرعة أبطأ، حتى لا تُستهلك السيارة سريعًا. (لعلك قدتَ أنت أيضًا، مثلي، سيارات لها تلك الصفات!)
هذا السؤال يقودنا إلى الآليات الجزيئية التي تُشغِّل الجسم، والتي تُعرف بالعمليات الأيضية. بطرق كثيرة، يكون الأيض وليس التضاعف التكاثري هو ما يعطي أفضل تعريف عملي للحياة. قد يقول علماء البيولوجيا التطورية إننا نعيش كي نتكاثر. ولكن الحقيقة غير ذلك؛ فالبشر لا يحاولون التكاثر طوال الوقت، حتى أكثرهم إقبالًا على المغامرات الغرامية. ولكن لو توقفت أجسادنا عن الأيض، ولو لدقيقة واحدة أو اثنتين، فسنقضي نَحْبنا لا محالة.
جسَّ يدك تجدها دافئة (فإذا لم تجدها كذلك، فجرِّب إبطيك أو لسانك)؛ ففي المعتاد تكون أجسادنا أدفأ من الوسط المحيط بها. وسواء أكُنَّا مستيقظين أم نائمين تبقى أجسامنا محتفظة بدرجة حرارة طبيعية تعادِل ٣٧ درجة مئوية تقريبًا. وهناك وسيلة وحيدة فقط لتحقيق هذا، وهي أن تستمر خلايانا في إنتاج الحرارة باعتبارها ناتجًا ثانويًّا للأيض. فليست الحرارة هي المقصد هنا، ولكنها مجرد أمر لا سبيل لتجنبه؛ لأن كل ما يحدث من تحوُّل للطاقة من صورة لأخرى يبدد بعضًا من الحرارة بهذه الكيفية. وعملياتنا الأيضية معنية أساسًا بصنع الجزيئات، فلا تستطيع الخلايا أن تبقى على قيد الحياة دون أن تستمر في إعادة بناء نفسها؛ إذ تصنع أحماضًا أمينية جديدة للبروتينات، ودهونًا جديدة للأغشية الخلوية، وأحماضًا نووية جديدة حتى يمكنها أن تنقسم. ولا يمكن أن تتوقف عجلات الخلية عن الدوران ما دمنا أحياءً، ودوران العجلات يستهلك طاقة.
ومن ثم فإن مجتمع الخلية يشبه الرؤية التقليدية للمجتمع إبان الثورة الصناعية؛ إذ تسوده ثقافة التصنيع، ويُكرَّس جانب كبير من قوة العمل لتوليد الطاقة. هناك المئات، بل الآلاف من مصانع الطاقة في كل خلية من خلايا أكبادنا؛ حيث يكون إنتاج الطاقة على أشُده، وهي تشبه الطواحين الشيطانية السوداء في رواية ويليام بليك «أورشليم»؛ إذ تنتج نفايات إلى جانب الأشياء المفيدة، إلا أن الخلايا لديها بصفة عامة سبل أكثر فعالية لضمان عدم تلويث نفسها.
ولأن إنتاج الطاقة ضروري للحياة، يمكن أن تكون دراسة آليات الأيض أمرًا مقلقًا، فإننا نرى كم أن الحياة هشة، فإذا فسدت هذه العملية الحيوية أو تلك، فسيتعطل نظام الجسم كله، تمامًا كما تقوم بِنيتُنا الاجتماعية على أساس عدم توقف الإمداد بالكهرباء والغاز (ناهيك عن الهواء النقي والماء الكافي). وإنها لشهادة على القدرة الإبداعية للتطور أنه استطاع أن يشكل آلة (وأستميحك عذرًا عن هذا التشبيه المجازي التنويري) لها من قوة البأس ما يجعلها تدور لثمانية عقود تقريبًا — بمشيئة الله — قبل أن تصاب أجزاؤها بالتعطل أو العطب المستديم.
في نيران الطاقة
ولكن دعنا نبدأ بشيء من التبسيط، أو على الأقل بما يبدو لنا نوعًا من التبسيط. في خمسينيات القرن التاسع عشر ألقى العالم البريطاني مايكل فاراداي في المعهد الملكي بلندن سلسلة من المحاضرات عن «التاريخ الكيميائي لشمعة». فلقد شاء أن يبيِّن أنه في ضوء لهب الشمعة المتوهجة يستطيع المرء أن يقرأ العلم الكيميائي بكامله كما كان مفهومًا وقتئذٍ، بل وما هو أكثر من الكيمياء؛ إذ قال: «ليس هناك باب أفضل، أو أكثر رحابة، تستطيع منه أن تدخل إلى دراسة الفلسفة الطبيعية.»
بالنسبة إلى العين المدربة، من شأن أي ظاهرة طبيعية أن تعمل عمل حبة الرمل في قصة ويليام بليك؛ بأن تكون نافذة إلى الكون اللانهائي. وستفعل الشمعة هذا لا سيما في لندن القرن التاسع عشر، حين لم يكن يتعين على المحاضرات أن تكون مبهرة بصريًّا. في الحقيقة أنا لا أعرف تفاصيل كيفية عمل محرك الاحتراق الداخلي، ولكني أعرف أنه لا يختلف كثيرًا عن كيفية احتراق الشمعة، فهو يَستخدم الأكسدة — أي خليطًا من بعض الوقود القابل للاشتعال مع الأكسجين الموجود في الهواء لإنتاج الحرارة — ومن ثم في حالة الشمعة إنتاج الضوء.
وحتى احتراق شمع البرافين هذا، لا يزال غيرَ مفهوم من حيث جميع تفاصيله المعقدة، ومن المؤكد أن هناك الكثير من الأوجه المهمة في هذه المشكلة التي لم يعرفها فاراداي، إلا أن فكرة الاحتراق هي فكرة جميع العمليات الكيميائية التي تولِّد الطاقة. وأقول — بادئ ذي بَدء — إنها عملية انحدارية.
إن الثقافة العامة تعتبر الإنتروبيا معادلة للفوضى، مع أنها ليست شيئًا سيِّئًا؛ فالإنتروبيا في أي نظام هي مقياس لعدد الطرق التي يمكن بمقتضاها أن يعاد تشكيل أوضاع الذرات دون أي فارق ملحوظ. إذا جاء شخصٌ ما إلى مكتبي، وأعاد خلط فوضى أوراقي إلى أكوام مختلفة، فمن المحتمل أنني لن ألاحظ هذا، ولكن إذا أعاد ترتيب جميع الأوراق إلى منظومة ملفات منظمة بعناية، وهو ما كان مجرد حلم لي، فسرعان ما سأدرك هذا التغيير. وبصفة تقريبية أقول إن الأنظمة المنضبطة لها أشكال غير مميزة أقل — أيْ تتسم بدرجة إنتروبيا أقل — مما هو الحال في الأنظمة الفوضوية.
ومن ثم فالقانون الثاني هو بالفعل تعبير عما يلي: من المحتمل أكثر أن تتقدم منظومةٌ ما من حالة أكثر انضباطًا إلى أخرى أقل انضباطًا؛ فقط لأن هناك المزيد من الحالات الأخيرة مقارنة بالأولى. وحين يتعامل المرء مع أنظمة تحتوي على تريليونات لا حصر لها من الجزيئات، تتحول هذه القضية الاحتمالية إلى شبه يقين. ويُعد القانون الثاني قانونًا لمجرد أن انتهاكه أمر غير مرجح لدرجة كبيرة للغاية.
ولكن بطبيعة الحال أحيانًا ما تتجه الأمور بالفعل إلى المزيد من النظام؛ فبخار الماء يتكثف إلى رقاقات ثلجية متناسقة سداسية الرءوس، ويمكننا أن نخرج ونرتب كومة من الحجارة لنشكل منها منزلًا، ولا يُقبَض علينا لانتهاك القانون الكوني. هذا الأمر صحيح، ولكنه لا يمثل انتهاكًا لمبدأ أن الإنتروبيا لا بد أن تزداد؛ لأن القانون الثاني ينطبق على الكون إجمالًا. فمن الممكن الحصول على النظام، ولكن على حساب زيادة في الفوضى في موضع آخر؛ مما يتعذر تعويضه. وفي العادة، يُدفَع هذا التعويض في صورة حرارة. نعم يمكننا أن نبني حائطًا بالعمل اليدوي الشاق، ولكن حين نفرغ سنكون قد أطلقنا من الحرارة الجسدية ما يكفي لزيادة الحركات الحرارية الفوضوية للأوساط المحيطة بنا، وبما يكفي لأن تبقى كفة الإنتروبيا راجحة؛ فالنظام يُكتسب من خلال الفوضى.
تحافظ الخلايا الحية على نظامها في مواجهة مقتضيات الإنتروبيا. وقد أدى هذا بعالِم الفيزياء إرفن شرودنجر لأنْ يفترض في كتابه «ما هي الحياة؟» أن الجواب يكمن في المفهوم الغائم إلى حدٍّ ما «الإنتروبيا السلبية»، التي تستخلصها الكائنات الحية من الأوساط المحيطة بها. يبدو هذا بما يثير الشك أشبه بمذهب حيوي أُلبس ثوب الدِّيناميكا الحرارية، ولا يزال المرء يصادف اليوم كلامًا عن الإنزيمات «كأدوات مضادة للإنتروبيا». ولكن لا شيء خاصٌّ أو غامضٌ فيما يتعلق بآليات الحياة، ولْتَجِسَّ يدك (أو إبطك أو لسانك) مجددًا، فأنت حين تقوم بهذا لا تفعل شيئًا سوى ضخ بعض الإنتروبيا إلى بيئتك.
قلتُ سابقًا إن التغير الكيميائي له اتجاه انحداري، ولكن أحيانًا ما يبدو في اتجاه تصاعدي. وتعتبر الإنزيمات بصفة خاصة بارعة في توجيه الجزيئات تصاعديًّا، رغم أن هذا يمكن أن يحدث في العالم غير الحي كذلك. ولكن في هذه الحالات يتم دفع هذا الانعكاس في الاتجاه بعملية انحدارية أكثر نشاطًا؛ إذ يمكنك أن تجذب جسمًا ما لأعلى منحدر إذا ربطته — عن طريق بكرة — بجسم ثقيل الوزن يتحرك لأسفل المنحدر. وهكذا يرتفع الثقل الأخف وزنًا مع نزول الأثقل. وعلى حد قول الكيميائي بيتر أتكنز: «عند فهم الكيمياء الحيوية … نسعى خلف الأوزان الثقيلة التي تعمل على نحو بارع من خلف شاشات خفية غامضة.»
يتعلق إنتاج الطاقة في الكيمياء الحيوية لدرجة كبيرة برفعِ أكبرِ قدرٍ ممكن من الأوزان لأعلى قبل أن يصل وزن ثقيل واحد إلى نهاية سقوطه. بالنسبة إلى الحيوانات، وكذلك البشر، يكون هذا الوزن الثقيل هو الطاقة المختزنة في الجزيئات (الغذائية) التي نأكلها.
أو يمكننا تشبيه الأمر بمحاولة ترويض أحد الأنهار للحصول على الطاقة الكهرومائية؛ فالماء سيواصل السقوط مهما فعلنا له، ولن يرتفع من تلقاء نفسه لأعلى الجبل، ويكون هدفنا إذن أن نغتنم أكبر قدر ممكن من طاقة المسقط المائي. ويُعَد هذا أحد الفروق الأساسية بين محطات توليد الطاقة بجسم الإنسان وبين لهب الشمعة مثلًا، فحين يشتعل شيءٌ ما تكون النار خارج نطاق السيطرة، وكل ما نحصل عليه هو الضوء والحرارة، ولكن في أجسامنا يحدث الاحتراق في شكل تتابُع — متدرج ومُسيطَر عليه بإحكام — من الخطوات، ويتم سحب بعض الطاقة الكيميائية وتخزينها في كل مرحلة.
السكر المحترق
تحرق محطة الطاقة وقودًا مثل الفحم أو البترول أو الغاز، ولكن هذا الاحتراق أكبر بكثير من كونه موقدًا مشتعلًا على نطاق كبير؛ فهو مجرد وسيلة لها غاية؛ إذ تُستخدم الحرارة في تحويل الماء إلى بخار، ويعمل ضغط البخار على دفع التوربينات؛ فتدور التوربينات وتدور معها ملفات سلكية بين أذرع مغناطيسات هائلة مما يُنتج تيارًا كهربائيًّا يسري في الأسلاك. وتتبدل الطاقة؛ من كيميائية إلى حرارية إلى ميكانيكية إلى كهربائية. ولكل منشأة صناعية ترسانة هائلة من الآليات التنظيمية وآليات السلامة؛ فهناك فحوصات يدوية لأجهزة قياس الضغط وللسلامة التركيبية للأجزاء المتحركة، كما توجد أجهزة استشعار أوتوماتيكية لإجراء القياسات؛ فالأجهزة الآمنة من الإخفاق تجنبنا أخطاءً كارثية.
وعملية توليد الطاقة في الخلية تشبه تلك العملية في تعقيداتها، ولا يمكن بوصف مختصر أن نوفي تلك المنظومة الرائعة حقها بشكل عادل؛ إذ تبدو الخلية كأنها تفكر في كل شيء، وأن لديها أدوات بروتينية للضبط الدقيق لكل شيء.
المدخلات الرئيسية للاحتراق هي الوقود والأكسجين، وبالنسبة إلى الخلايا هي الغذاء وهواء التنفس. فإذا حُرمت الخلايا من الأكسجين فإن لهيبها ينطفئ. وربما نحرق الغذاء حرقًا طفيفًا قبل أن نبتلعه، وهذا يتم بعمليات الطهو وتجهيز الطعام التي تنتج مركَّبات تسعد حاسة الذوق لدينا. ولكن كل شيء نأكله من قطعة الشوكولاتة إلى ورقة السبانخ إلى شريحة اللحم يجب أن يتكسر، ويتفكك إلى وقود أكثر تجانسًا. وهذا يحدث من خلال الهضم؛ حيث تقوم الإنزيمات في المعدة والأمعاء بتحليل مأكولاتنا إلى مكوناتها الجزيئية الأساسية.
توجد تشكيلة من المكونات الغنية بالطاقة في الطعام، وهذه يمكن تصنيفها أساسًا إلى الكربوهيدرات والدهون والبروتينات؛ أما الكربوهيدرات فهي بوليمرات تتكون من جزيئات من سكر الجلوكوز ترتبط معًا في سلاسل طويلة، وأما الدهون (الشحوم) فيمكن أن تتحلل إلى جزيئات تسمى الأحماض الدهنية والجلسريدات الأحادية (مثل الجلسرول) أثناء العملية الهضمية. تنتج الدهون قدرًا من الطاقة يزيد بمرتين عما تنتجه كتلة مماثلة من الكربوهيدرات، ويحصل القلب منها على ٦٥ بالمائة من طاقته.
يمكن فصل الروابط بين المجموعات الفوسفاتية في تفاعل يشمل الماء؛ ولهذا السبب يسمَّى التحليل المائي (أي «التفكيك بالماء»). وكل مرة يحدث فيها تحلل لإحدى الروابط بالماء يحدث انطلاق للطاقة، ويؤدي إطلاق سراح مجموعة الفوسفات الخارجية إلى تحويل ثلاثي فوسفات الأدينوسين إلى ثنائي فوسفات الأدينوسين (إيه دي بي)، وإذا انشقت عنها مجموعة فوسفات ثانية، فإن المركَّب يتحول إلى أحادي فوسفات الأدينوسين، وهاتان العمليتان الفاصلتان للروابط تنطلق منهما كميتان مكافئتان من الطاقة.
الهضم الجيد
تبدأ عملية تفكيك الطعام بمجرد دخوله الفم؛ إذ يحتوي اللعاب على إنزيمات هاضمة تسمى إنزيمات الأميلاز التي تبدأ في تفكيك بوليمرات الكربوهيدرات إلى جلوكوز؛ ولهذا السبب يبدأ المرء في الإحساس بأن الطعام صار أحلى مذاقًا بعد مضغه. في الخضراوات تتركب الكربوهيدرات القابلة للهضم في معظمها من النشا، ويعتبر السليولوز الموجود في جُدُر الخلايا النباتية من البوليمرات الجلوكوزية، ولكنه مقاوم لهجوم إنزيمات الأميلاز.
وفي المعدة، يتلقى الطعام معالجة أكثر شدة، فهنا يحدث إفراز لحمض الهيدروكلوريك الذي يجعل للعصائر المَعِدِيَّة خاصية أكَّالة مثل حمض البطاريات. ويعمل الحمض المَعِدي على تفكيك لفات البروتينات الجزيئية التي في الطعام؛ مما يجعلها مهيأة للتفكيك بفعل إنزيم يسمَّى الببسين.
إلا أن المعدة في حقيقتها ما هي إلا حجرة تخزين للطعام غير المهضوم؛ إذ تبدأ عملية التفكيك الفعالة في الأمعاء الدقيقة؛ حيث تدفع إليها المعدة بمحتوياتها، وتمتزج بالعصارة المعوية تشكيلة من إنزيمات قوية دقيقة متخصصة في أعمال الهدم. فبينما تهاجم إنزيماتُ الأميلاز الكربوهيدراتِ، تحلِّل إنزيماتٌ أخرى ما في الطعام من بروتينات ودهون وأحماض نووية، ثم يتم امتصاص الفتات المهضوم من خلال بطانة الأمعاء، لِيَمُرَّ إلى الأوعية الدموية والليمفاوية، التي توزع هذه المواد الغذائية إلى أنحاء الجسم. وتتشكل هذه البطانة من ثنيات دقيقة وبروزات مجهرية أصبعية الشكل تسمى «الزغب الدقيق»، الذي يزيد مساحة سطح الأمعاء كثيرًا جدًّا لضمان امتصاص المواد الغذائية بكفاءة. ولو بسطنا سطح الأمعاء الدقيقة في الإنسان لوجدنا أنها تغطي مساحة ملعب تنس.
تُنتَج الإنزيمات الهاضمة في البنكرياس، وهي غدة ذات قنوات تصب في الأمعاء الدقيقة. ولكن جزيئات تلك الإنزيمات القوية يجري بناؤها لكي تفكك نفس الجزيئات التي صُنعت منها خلايانا ذاتها، فكيف يتأتى ألا تدمر أنسجتنا؟
يتم تصنيع الإنزيمات مع ارتباطها بمقبض أمان جزيئي يجعلها غير نشطة. في صورتها تلك تسمى «مولدات الإنزيم»، ولا تنفك عنها أداة الأمان هذه (التي تتركب من جزء من سلسلة بولي ببتيدية) إلا حين تصل إلى الأمعاء أو المعدة، ويحدث هذا من قِبَل إنزيم آخر بُنِيَ لهذا الغرض. تغطي بطانةَ القناة الهضمية المعوية طبقةٌ من المخاط، تحميها من الإنزيمات الهاضمة. ولو صارت تلك الطبقة الواقية رقيقة جدًّا، لاستطاعت العصائر الأكالة أن تؤثر في الأنسجة المكشوفة، فتحدث القرحة.
يجري تفكيك محتويات المعدة على مدى ساعات عدة بعد تناول الوجبة، ولكن الجسم يحتاج للتزود بالوقود حتى بعد اكتمال الهضم؛ لذا فإنه يكدس مخزونات بالجسم حتى يمكنه أن يسحب منها عند اللزوم. يتكون حوالي عُشر كتلة الكبد وحوالي ١ بالمائة من كتلة العضلات من مادة تسمى الجلايكوجين، وهو بوليمر جلوكوزي متماسك وشديد التفرع. وتعكف خلايا الكبد والعضلات على صنع الجلايكوجين من بعض السكر الذي تستقبله، فتخزنه في شكل حبيبات صغيرة، قُطر كلٍّ منها حوالي واحد على أربعة آلاف من المليمتر، وتلك هي غرف خزانة المؤن الخاصة بالخلية.
لو هبطت كمية السكر في مجرى الدم لما دون مستوًى معين، فسيعرف الجسم أن الوقت قد حان ليبدأ السحب من مخازن الجلايكوجين، فانخفاض مستويات السكر يحفز على تكوين هرمونين في البنكرياس، هما الجلوكاجون والإبينفرين، اللذان يخبران الخلايا بأن تبدأ في تحليل ما فيها من جلايكوجين إلى جلوكوز.
أما الزيادة الكبيرة للسكر في الدم فتطلق منظومة تحذيرية مختلفة، تحث على تكوين هرمون في البنكرياس يسمى الإنسولين، والإنسولين هو بمنزلة إشارة للخلايا لكي تبدأ في تحويل الجلوكوز إلى جلايكوجين؛ أي تخزينه بدلًا من حرقه. والإنسولين باعتباره دلالة على وجود فيض من الوقود في الدم، يعطي أيضًا إشارة للخلايا لكي تركز على عملية التصنيع، على سبيل المثال صنع البروتينات والدهون (وهما يشكلان مخزون وقود آخر للطوارئ) بدلًا من توليد الطاقة.
والإنسولين هرمون ببتيدي (يشبه البروتين)، ويتم تشفيره وراثيًّا. وقد يحدث خلل شائع نسبيًّا في الرسالة الجينية يؤدي إلى إنتاج جزيء سابق على تكوين الإنسولين (ويسمى البروإنسولين؛ أيْ ما قبل الإنسولين)، لا يستطيع الإنزيم التصنيعي للإنسولين تحويله إلى الإنسولين ذاته بالطريقة الطبيعية. ويعد هذا الإخفاق في صنع الإنسولين أحد الأسباب الرئيسية لداء البول السكري؛ ويعني أن المرضى بهذا الداء يتعين عليهم أن يتلقوا جرعات منتظمة من هرمون الإنسولين لتنظيم مستويات السكر في دمائهم.
دورات ودورات
تجري عملية حرق السكر على مرحلتين، تبدآن بتحويله إلى جزيء يسمى البيروفات في عملية تُعرف بالتحليل السكري (أو «انشقاق السكر»). تشمل هذه العملية تتابعًا من عشر خطوات تحفزها الإنزيمات، وتعمل الخطوات الخمس الأولى منها على شق الجلوكوز إلى نصفين في عملية تصاعدية، يشغِّلها استهلاك جزيئات ثلاثي فوسفات الأدينوسين؛ بحيث تقل شحنة الطاقة في جزيئين منها متحولين إلى ثنائي فوسفات الأدينوسين مقابل كل خطوة شق لجزيء من الجلوكوز. ولكن تحول فتات الجلوكوز الناتج إلى بيروفات هي عملية انحدارية تسمح لثلاثي فوسفات الأدينوسين بأن يتكون من جديد من ثنائي فوسفات الأدينوسين، ويتم صنع أربعة جزيئات من ثلاثي فوسفات الأدينوسين بهذه الكيفية، بحيث يكون ثمة مكسب إجمالي مقداره جزيئين اثنين من ثلاثي فوسفات الأدينوسين مقابل كل جزيء يُستهلك من الجلوكوز. وهكذا تشحن عملية التحليل السكري بطاريات الخلية.
ودورة حمض الستريك هي تتابُع من ثمانية تفاعلات تحفزها الإنزيمات، تحول الأسيتيل كو إيه أولًا إلى حمض ستريك؛ ومن ثم إلى جزيئات أخرى مختلفة، انتهاءً بجزيء يسمى الأوكسالو أسيتات. وهذه النهاية هي بداية جديدة؛ إذ يتفاعل الأوكسالو أسيتات مع الأسيتيل كو إيه لصنع حمض الستريك. وفي بعض خطوات الدورة يتولد ثاني أكسيد الكربون كناتج ثانوي، وهو يذوب في مجرى الدم ويُحمل معه إلى الرئتين ليُطرد مع هواء الزفير، وهكذا نجد في الواقع أن الكربون الذي كان في جزيئات الجلوكوز الأصلية ينتهي به الحال إلى المنتج النهائي، وهو ثاني أكسيد الكربون، مكملًا بهذا عملية الاحتراق.
كذلك تنطلق من هذه الدورة إلكترونات. ونقول على سبيل التقريب إن دورة حمض الستريك ترسل تيارًا كهربائيًّا إلى جزء مختلف من الميتوكوندريون، وتُستخدم هذه الإلكترونات في تحويل جزيئات الأكسجين وأيونات الهيدروجين الموجبة الشحنة إلى ماء، وهي عملية مطلِقة للطاقة، ويتم اقتناص الطاقة واستخدامها في صنع ثلاثي فوسفات الأدينوسين بوفرة.
وهناك المزيد من الدورات داخل الدورات. إن الإن إيه دي إتش لا يمنح إلكتروناته مباشرة للأكسجين، ولكن هذه العملية الانحدارية تجري في مراحل عدة، وكلٌّ منها يُدفَع إلى شحن بطاريات الميتوكوندريون. يحيط بالميتوكوندريون غشاءٌ خارجي منفذ نسبيًّا؛ من خلاله تدخل المكونات الخام التي تزوِّد دورة حمض الستريك بالوقود، وغشاء داخلي غير منفذ، شديد الالتواء، ومرصَّع بجزيئات إنزيمية. وفي داخل الغشاء الداخلي يتخلى الإن إيه دي إتش عن إلكتروناته إلى واحد من تلك الإنزيمات الغشائية؛ ومن ثم تنقل الإلكترونات إلى سلسلة من بروتينات أخرى، وفي النهاية تصل الإلكترونات إلى بروتين غشائي يسمى أوكسيداز السيتوكروم سي، الذي لديه موقع لربط جزيئات الأكسجين، وهو الإنزيم الذي ينقل في نهاية الأمر الإلكترونات إلى الأكسجين.
وموقع ربط الأكسجين هذا في إنزيم أوكسيداز السيتوكروم سي يمكن أن يربط جزيئات — أو أيونات — صغيرة أخرى معينة بقوة أشد حتى من قوة ربط الأكسجين؛ مثل السيانيد وأول أكسيد الكربون، وإذا حدث هذا فلن تستطيع الإلكترونات بعدها أن تصل إلى الأكسجين؛ ومن ثم يتوقف هذا الجزء من الآلية عن الدوران، ويؤدي تعطُّل هذه العجلة الدوارة إلى تعطُّل آلية الميتوكوندريون ككل — أي إن دورة حمض الستريك تتوقف — ولن تكون هذه المنظومة بعدها قادرة على إنتاج ثلاثي فوسفات الأدينوسين، ويحدث إنهاك للخامات الأساسية الموجودة خلال دقائق؛ ولذا يعتبر السيانيد وأول أكسيد الكربون من السموم الناقعة، التي يمكن أن تسبب الموت السريع بالاختناق. ونفس الشيء ينطبق على أي مواد تعطل البروتينات الداخلة ضمن سلسلة نقل الإلكترونات من الإن إيه دي بي إلى أوكسيداز السيتوكروم سي، وتتضمن هذه المواد بعضًا من أشد السموم فتكًا؛ فهذا الجزء بالذات من الآلية الخلوية المنتجة للطاقة حساس لأي هجوم.
تعمل البروتينات الغشائية في سلسلة نقل الإلكترونات على تمرير محصولها انحداريًّا إلى التالي في الخط، وتستخدم بعضًا من الطاقة المنطلقة في ضخ أيونات الهيدروجين من داخل الغشاء الداخلي إلى خارجه. وهكذا، مع تقافز الإلكترون من أحد البروتينات إلى الذي يليه يزداد تركيز أيونات الهيدروجين في الحيز الموجود بين الغشاءين الداخلي والخارجي.
وهذا التزايد يشبه شحن البطارية، وذلك الفارق في تركيز أيونات الهيدروجين عبر الغشاء، وما يترتب عليه من فارق في الشحنة الكهربائية بين المنطقتين، يشبه الفارق في الجهد الكهربائي — أي هبوط الفولطية — الذي بين قطبَي البطارية. أو يمكنك النظر إلى البروتينات الغشائية بوصفها مضخات تدفع الماء رجوعًا لأعلى الجبل كي تصل إلى خزان يمكن استخلاص الطاقة منه بترك الماء يسقط لأسفل مجددًا.
وهكذا، فإن عملية التحليل السكري، ودورة حمض الستريك هما نوعان متباينان للغاية من العمليات الأيضية؛ فإحداهما لا هوائية والأخرى هوائية. تعتبر عملية التحليل السكري مستقلة بذاتها لدرجة كبيرة؛ إذ تحتاج إحدى خطواتها إلى الإن إيه دي، الذي يُصنَع عادة ضمن دورة حمض الستريك، ولكن يمكن بدلًا من ذلك توليده مجددًا لا هوائيًّا عن طريق تحويل البيروفات إلى لاكتات. تبدو العمليتان لدرجة كبيرة مثل نوعين مستقلين من المسارات الأيضية مجتمعين سويًّا.
وهما كذلك بالفعل. يعتقد العلماء أن الميتوكوندريا كانت في الماضي السحيق كائنات بكتيرية منفصلة، وهي نظرية تدعمها الحقيقة القائلة إن لديها الدِّي إن إيه الخاص بها، والمتميز عن «المكتبة» الجينية الرئيسية التي في نواة الخلية (انظر الفصل الثاني). ومن المعتقد أنه منذ نحو مليارَي عام دخلت الميتوكوندريا في علاقة تكافلية (أي اعتمادية تعاونية) مع كائنات وحيدة الخلية كان الأيض لديها لا هوائيًّا باستخدام المسار التحليلي السكري.
في هذا الزمن تقريبًا، أدى انتشار الطحالب الخضراء (وهي من النباتات البدائية) إلى زيادة حادة في كمية الأكسجين في جو الأرض، وقبل تلك الآونة كان ثمة القليل نسبيًّا من الأكسجين في الهواء، وكانت البكتيريا الشبيهة بالميتوكوندريا قادرة على «تنفس» الأكسجين باستخدام دورة حمض الستريك. وقد نشأ التكافل بين الخلايا اللاهوائية والخلايا الهوائية لأن اللاهوائيات كانت تصنع البيروفات، الذي كانت الهوائيات تستخدمه للوقود، بينما أنتجت الهوائيات الإن إيه دي للمساعدة على دفع عملية التحليل السكري لدى اللاهوائيات. وفي نهاية الأمر ابتلعت اللاهوائيات تلك الكائنات الهوائية لتتحول إلى خلايا مفردة مركَّبة تتنفس الأكسجين. وبقية القصة — كما يقولون — هي من التاريخ المعروف.
أما الفطريات — كالخميرة — فلم تتخذ هذه الخطوة مطلقًا، فلا تزال من اللاهوائيات التي تحلل السكر وتعيش عليه. ولكن خلايا الخميرة بدلًا من أن تحول البيروفات إلى لاكتات فإنها تحولها إلى إيثانول. تلك هي عميلة التخمر، التي منها نشأ فهمنا كله للنشاط الإنزيمي. وهذه العملية تولد أيضًا غاز ثاني أكسيد الكربون، الناتج النهائي لعملية الاحتراق، الذي تنطلق فقاقيعه من صهاريج التخمير في أنحاء العالم.
شيءٌ ما في الهواء
يدخل الأكسجين الجسم من خلال الرئتين، ولكنه ليس شديد الذوبان في الدم؛ ومن ثم لا يمكن حمله إلى الميتوكوندريا اعتمادًا على ذوبانيَّته. (على عكس ذلك فإن ثاني أكسيد الكربون له درجة ذوبانية تكفي لجعله يشق طريقًا من الخلايا خلال مجرى الدم وصولًا إلى الرئتين). يُحمَل الأكسجين بواسطة خلايا الدم الحمراء المعبأة بذلك النوع من الجزيئات البروتينية المسمى الهيموجلوبين، الذي يتميز بشراهة قوية للأكسجين. وخلايا الدم الحمراء مُسخَّرة تمامًا لأداء وظيفتها تلك. فهي، خلافًا لسائر الخلايا، لا تحتوي على دي إن إيه ولا آر إن إيه، ولا أجزاء مقسمة، ولا إنزيمات أخرى تقريبًا؛ فهي أساسًا أكياس من الهيموجلوبين. فجميع الآلات الجينية والإنزيمية اللازمة لصنع هذا البروتين تُطرد خارج الخلية في اللحظة الأخيرة السابقة على نضجها.
جدير بالذكر أن لون الدم الأحمر مشابه لِلَون الصدأ، الذي هو سمة مميزة للحديد. وفي قلب جزيء الهيموجلوبين تقع ذرات الحديد، مثبتة في مصائد جزيئية محكمة، تسمى البورفيرينات، وهذه البورفيرينات المعبأة بالحديد تُعرف بمجموعات «الهيم»، وهي تمتص الضوء الأخضر المزرقَّ بشدة؛ ولذا تبدو حمراء زاهية. يحتوي كل جزيء من الهيموجلوبين على أربع مجموعات من الهيم؛ حيث توفر ذرات الحديد مواقع ارتباط لجزيئات الأكسجين.
والهيموجلوبين، باعتباره ناقلًا للأكسجين، يجب أن يكون قادرًا على ربط حمولته بإحكام، على أن يكون قادرًا على إطلاق سراحها مجددًا، فكيف يمكنه أن يفعل كلا الأمرين؟ يَستخدم الهيموجلوبين حيلة ماهرة غالبًا ما تُستخدم حين يتعين على البروتين أن يعدل سلوكه بمجرد أن يربط جزيئه المنشود. ويمكننا القول ببساطة إن كل جزء من البروتين يمكنه أن «يَشعر» بما يجري في جزء آخر.
في الأوعية الدموية بالرئتين، حيث يكون الأكسجين وفيرًا، يُصدر ارتباط جزيء من الأكسجين بمجموعة من الهيم تنبيهًا من خلال البروتين الذي يحث مجموعات الهيم الثلاث الأخرى على أن تلتقط الأكسجين كذلك. يتخلى الهيموجلوبين عن أكسجينه أساسًا في الأنسجة العضلية؛ حيث ينقل جزيئات الأكسجين إلى الميوجلوبين، وهو بروتين آخر رابط للأكسجين، بل إن له ميلًا أشد للارتباط بالأكسجين. وبمجرد أن يؤخذ جزيء الأكسجين من الهيموجلوبين، تحدث «هزة» عكسية ترخي قبضة مجموعات الهيم الثلاث الأخرى على حمولتها، فتطلق الأكسجين بسهولة أكبر، وتلك «الهزات» — وهي بفعل تغيرات صغيرة ولكن مهمة، في الشكل المنثني للسلسلة البروتينية — تسمى «الحركات التفارغية».
جميع الفقاريات وكثير من اللافقاريات يُنقَل الأكسجين في أجسامها باستخدام الهيموجلوبين، رغم أن الشكل المحدد للبروتين يختلف بين الأنواع المختلفة منها. تَستخدم المفصليات والرخويات نوع بروتين آخر رابط للأكسجين يسمى الهيميرثرين، الذي يحتوي أيضًا على الحديد ولكنه لا يوجد ضمن مجموعة هيمية. والهيميرثرين له لون قرنفلي مائل للبنفسجي حين يُشحن بالأكسجين، ولكنه يصير عديم اللون حين يفقده. بعض اللافقاريات البحرية تستخدم معدنًا فلزيًّا آخر لنقل الأكسجين، ويسمى البروتين الرابط للأكسجين لديها الهيموسيانين، ولونه أزرق؛ مما ينم عن وجود فلز النحاس فيه. وتلك الحيوانات هي ذوات الدم الأزرق الحقيقية في البحار والمحيطات.
الطاقة في ورقة النبات
إن جوَّ الأرض الغني بالأكسجين هو نتيجة لنشاط النباتات، وهو يعد ناتجًا ثانويًّا لعملية التمثيل الضوئي، التي هي الاستخدام البيولوجي لطاقة الشمس في صنع جزيئات مادية. ونظرًا لوقوع النباتات والبكتيريا الممارسة للتركيب الضوئي عند قاعدة الهرم الغذائي، فإن جميع صور الحياة على الأرض تقوم بالأساس على طاقة الشمس. فلولا النباتات لهلكنا؛ إذ سنُحرَم حينئذٍ من رغيف عيشنا اليومي، وتهلك ماشيتنا جوعًا في مراعيها القاحلة.
التمثيل الضوئي عملية بيولوجية موغلة في القدم؛ إذ كانت الطحالب تمارس تلك العملية منذ ما لا يقل عن ثلاثة مليارات ونصف المليار سنة، حين كانت قارات العالم حديثة التشكُّل ولم تكتسِ بالخضرة بعدُ. كانت هذه الكائنات هي أول المخلوقات الذاتية التغذية (أو «الذاتيات التغذية») تصنع جزيئاتها من أشياء لا تزيد عن الضوء والماء والكربون الموجود في الهواء إلا قليلًا. وبمقتضى هذه العملية يُسحب نحو ٦٠ مليار طن من الكربون كل عام من ثاني أكسيد الكربون الجوي ليُحوَّل إلى كتلة حيوية غنية بالطاقة. وبعضٌ من هذه الكتلة الحيوية نأكله أو نحرقه أو نُدخله في تصنيع المنازل والمناضد أو نطعمه للحيوانات أو نصنع منه الورق، أو ننسج منه الملابس. وكثير منها يتساقط فتحلله الكائنات الدقيقة لينطلق مجددًا إلى الجو كمركَّبات كربونية طيارة. وعلى مدى الزمن الجيولوجي، يُدفن بعضه، وينضغط متحولًا إلى فحم، أو يتحلل متحولًا إلى نفط أو غاز طبيعي.
هناك أوجُه تَشابُه عدة بين عمليتَي الأيض الهوائي والتمثيل الضوئي؛ فكلتاهما تتكونان من عمليتين جزئيتين محددتين لهما أصول تطورية منفصلة؛ وهما عبارة عن تتابع خطي من التفاعلات مقرون بتتابع حلقي لإنتاج الجزيئات التي تحتاجها هاتان العمليتان. ويتمثل الجسر الواصل بين عمليتَي التحليل السكري ودورة حمض الستريك في جزيء الإن إيه دي الناقل للإلكترونات؛ يتم وصل العمليتين الفرعيتين في التمثيل الضوئي عن طريق دوران جزيء مماثل تقريبًا، هو فوسفات الإن إيه دي (إن إيه دي بي).
تجري العملية الأولى عند سطح غشاء متعدد الطيات داخل البلاستيدة الخضراء، يسمى الغشاء الثايلاكويدي. وكل غشاء ثايلاكويدي على حدة يكون مرصعًا بمجموعات من الجزيئات التي تسمى «الأجهزة الضوئية»، توجد فيها جزيئات ممتصة للضوء تسمى «الأصباغ الضوئية»، وهي التي تبدأ التفاعلات التي تدار بطاقة الضوء. وفي قلب كل جهاز من الأجهزة الضوئية، وهو ما يسمى «مركز تفاعل التمثيل الضوئي»، يقع جزيء يسمى الكلوروفيل أ. وهذا الجزيء يمتص الضوءين الأحمر والأزرق بقوة، مُبقيًا على الضوء الأخضر؛ ومن ثم يكون مسئولًا عن اللون الأخضر لأوراق النبات كما نراه بأعيننا.
حين يستقبل الكلوروفيل الطاقةَ الضوئية، فإنه يصبح «مُثارًا»، مثل شجرة تفاح حين تهزها. والكلوروفيل في حالته المُثارة تلك يكون أقل قدرةً على التمسك بإلكتروناته الخارجية، فيتحرر أحدها، وهذا الإلكترون المتحرر يتم إمراره لأحد الإنزيمات. وبمجرد أن يكتسب الإنزيم إلكترونَين من الكلوروفيل «المهتز» يكون بإمكانه أن يحوِّل أيونًا موجب الشحنة من الإن إيه دي بي إلى إن إيه دي بي إتش، وحينئذٍ يتم تعويض الكلوروفيل ذي الإلكترون الناقص بإلكترونات أُخذت من جزيئات مائية في تفاعل آخر مُدار بالطاقة الضوئية. يجري تكسير الماء إلى أيونات هيدروجين وأيونات أكسجين وتتحد ذرات الأكسجين المفردة في جزيئات يتكون كلٌّ منها من ذرتين من الأكسجين، وهذه يطلقها النبات من خلال فتحات في سطح ورقته تسمى الثغور.
أما الإلكترون المأخوذ من الماء فيتم إمراره إلى الكلوروفيل على طول سلسلة من الجزيئات المطمورة في الغشاء الثايلاكويدي، وكل خطوة نَقْل هي عملية انحدارية تطلق طاقة، وبعضٌ من تلك الطاقة يحث على ضخ أيونات الهيدروجين إلى الفراغ الداخلي للغشاء الثايلاكويدي، وهذا الاختلال في التوازن يتم استغلاله حينئذٍ كمصدر للطاقة من جانب جزيئات سينثاز ثلاثي فوسفات الأدينوسين المبيتة في الغشاء، والتي تؤدي عملها الدوار كالطاحونة في تحويل ثنائي فوسفات الأدينوسين إلى ثلاثي فوسفات الأدينوسين.
إلا أن مهمة التمثيل الضوئي لا تنتهي بمجرد شق جزيئات الماء وإنتاج ثلاثي فوسفات الأدينوسين كمصدر للطاقة والإن إيه دي بي إتش كمصدر للإلكترونات، بل إن هذين المكونين يتم إطلاقهما إلى السائل الموجود خارج الغشاء الثايلاكويدي، الذي يسمى «المادة البينية»؛ حيث يحفزان تفاعلات دورة كالفن-بنسون التي تحول ثاني أكسيد الكربون إلى سكر. تسمى هذه العمليات «التفاعلات المظلمة»؛ لأنها لا تحتاج إلى الضوء مباشرة. وفي عام ١٩٦١ نال الكيميائي الأمريكي ملفين كالفن جائزة نوبل بسبب استنتاجه لمعظم هذا التتابع من التفاعلات.
يهتم الكيميائيون في الوقت الحالي بتصميم أنظمة جزيئية اصطناعية تتشبَّه بالبلاستيدات الخضراء من حيث استخدام ضوء الشمس لتحفيز عملية التركيب الكيميائي. وقد عمل فريق في جامعة ولاية أريزونا الأمريكية على محاكاة البلاستيدة الخضراء في تراكيب تخليقية تشبه الخلية شكلًا (وحجمًا) تسمى الأجسام الدهنية (أو الليبوسومات)؛ وهي عبارة عن أغشية كروية مجوفة مصنوعة من جزيئات دهنية. وقد طعَّم الباحثون الأغشية الليبوسومية بتجميعات جزيئية مصممة تمارس نفس مهمة مراكز تفاعلات التمثيل الضوئي، مستخدِمة طاقة الضوء لضخِّ أيونات الهيدروجين في داخل تجاويف الليبوسومات.
وقد أدخل الباحثون جزيئات سينثاز ثلاثي فوسفات الأدينوسين في الليبوسومات، وهذه تطلِق أيونات الهيدروجين وتصنع ثلاثي فوسفات الأدينوسين. وهم يأملون في إمكان استغلال الطاقة المختزنة في ثلاثي فوسفات الأدينوسين لأغراض التخليق الكيميائي، على سبيل المثال لإجراء بعض التفاعلات الكيميائية الحيوية المفيدة صناعيًّا.
في النهاية: الانفجار
الجلوكوز وشمع الإضاءة (مادة هيدروكربونية) كلاهما عبارة عن «طاقة كامنة مجسدة»؛ ويؤدي تكسير روابطهما بالأكسجين إلى إطلاق الطاقة في صورة حرارية (ما لم يتم تحويلها إلى صور أخرى). ولكن يبحث بعض الكيميائيين عن جزيئات تعبئ طاقةً أكبر وأقوى، فما مقدار الطاقة التي يمكن اختزانها في جزيء ما؟
كان ألفريد نوبل يشغل نفسه بهذا السؤال في القرن التاسع عشر، والنتيجة المثيرة للمفارقة — أن ثروته التي جمعها من اختراعه للدِّيناميت هي التي منها يجري تمويل جائزته السنوية للسلام — معروفة جيدًا. لم يكن ما اخترعه نوبل هو اكتشاف جزيء غني بالطاقة، ولكن وسيلة لتعبئة مادة متفجرة موجودة بالفعل في صورة تكون أقل قابلية لأن تنفجر في وجه الإنسان.
إن أقدم مادة متفجرة هي البارود، والبارود خليط من الكبريت والنِّتر (نترات البوتاسيوم) والفحم النباتي، وقد اختُرع في الصين حوالي القرن الحادي عشر الميلادي. وقد انتشر في الغرب مع قليل من التغيير (ومع آثار سلبية فظيعة) حتى القرن التاسع عشر، حين بدأ العلماء في كشف اللثام عن طرق لصنع انفجارات أشد؛ ففي عام ١٨٤٥ اكتشف الكيميائي السويسري كريستيان شونباين النيتروسليولوز؛ وهو مركَّب صُنِع بمعالجة ألياف القطن (السليولوز) بحمضَي النيتريك والكبريتيك. كان هذا أول بوليمر شبه تخليقي؛ أي إنه منتَج من كلٍّ من الطبيعةِ وفنِّ الكيمياء، وقد تم تطويره فيما بعد إلى «السليولويد» والبلاستيك الصلب والرايون، وهو أول «حرير اصطناعي». ولكن النيتروسليولوز كان أيضًا متفجرًا، وصار يعرف بقطن المدافع.
كان من الصعب السيطرة على الطبيعة العنيفة لقطن المدافع، وأدَّت المحاولات المبكرة لتصنيعه إلى وفيات عديدة. وفي عام ١٨٤٧ تَوصَّل الكيميائي الإيطالي أسكانيو سوبريرو إلى تخليق مادة خطرة بدرجة مشابهة سمِّيَت النيتروجلسرين. بدأ ألفريد نوبل دراسة هذا المركَّب في عام ١٨٥٩ محاولًا التوصل إلى وسيلة لجعله مستقرًّا إلى حين تفجيره عمدًا، وعكف على هذا الأمر بإصرار رغم حدوث انفجار في عام ١٨٦٤ أطاح بأخيه الأصغر وقتله. وقد وجد نوبل أن مزج النيتروجلسرين بمادة طينية تسمى كيسلجور أنتج متفجرًا شبيهًا بالمعجون يمكن تداوله بأمان، وأسماه «الدِّيناميت». وفي عام ١٨٧٥ استحدث نوبل الجلجنايت أو «الجيلاتين المتفجر»؛ وهو خليط شبيه بالهلام من النيتروجلسرين وقطن المدافع، وكان أقوى من أيٍّ من المادتين على حِدَة.
كل هذه المركَّبات هي مواد عضوية تحتوي على مجموعة النتر (أو النيترو)؛ وهي ذَرَّة نيتروجين ترتبط بذرتَي أكسجين. وتَنتج الطبيعة المتفجرة لمركَّبات النيترو من حقيقة أن ذرات النيتروجين تستعيد اتحادها لتكوِّن جزيئات من النيتروجين عند إشعال المواد. هذه الجزيئات لديها روابط مستقرة جدًّا، ولكن يُنتج تكونها قدرًا كبيرًا من الطاقة. في الوقت نفسه تحفز ذرات الأكسجين عملية الاحتراق؛ مما يسمح لها أن تَحدث بسرعة كبيرة. وقد تركزت عملية استحداث متفجرات أقوى أساسًا على مسألة التوصل إلى طرق لتعبئة المزيد من مجموعات النيترو في أحد المركَّبات العضوية. وتُعَد مادة آر دي إكس، أو السيكلونايت، المستخدمة في صناعة السلاح في يومنا هذا، نتاجًا لتحسين مادة التِّي إن تي في هذا الصدد. وأشد المتفجرات قوةً التي تُنتَج حاليًّا هي مركَّب غني بالنيتروجين يسمَّى إتش إم إكس، وهو اختصار لعبارة معناها «متفجر شديد الانصهار».
في مستهل عام ٢٠٠٠ تم ابتكار مركَّب نيترو معبأ بطاقة أكبر على يد كيميائيين في جامعة شيكاجو الأمريكية، وسمِّي أوكتانيتروكيوبان (أي ثُماني مكعب النيترو). وهو يتكون من مكعب من ثَماني ذرات من الكربون، ترتبط بكلٍّ منها مجموعة نيترو، وهذه الجزيئات لا تقتصر على أنها شديدة الغنى بالنيتروجين، بل إن الشكل المكعب هذا يعني أن الروابط بين ذرات الكربون شديدة التوتر، ويسهل كسرها وتفجيرها. من المفترض أن تكون الجزيئات المدمجة قادرة على أن تتراكم معًا في صورة بلورية معبأة بكثافة عالية، ولم تُنتج التجارب الأولية هذه الصورة العالية الكثافة، ولكن تتوقع الحسابات أنه إذا أمكن صنعها فستتميز بمحتوًى متفجر من الطاقة أكبر — جرامًا بجرام — من أي مادة متفجرة غير نووية معروفة للبشر.
ويبدو أن ما أوصى به ألفريد نوبل مِن مَنْح جائزة باسمه كان نابعًا من شعوره بالندم بسبب ما حدث من استخدام لاختراعه في تطبيقات وأغراض قاتلة ومدمرة. من الواضح أنْ ليس كل الكيميائيين يشعرون بهذه الطريقة حيال أبحاثهم المتعلقة بالأسلحة، ووجهة نظري الشخصية في هذا الصدد — التي تحتمل المناقشة — أن هذه الأبحاث وأمثالها هي صورة من سوء السلوك العلمي. ولكن الأهم من هذا أن إجراء الأبحاث على المواد الشديدة الانفجار يُظهر أن الأبحاث العلمية لا تنقسم بدقة تامة إلى عمل علمي لا أخلاقي «خالص» وعمل علمي أو تكنولوجي «تطبيقي» قذر وقابل للمساءلة والمحاسبة اجتماعيًّا؛ فقد كان صنع مادة الأوكتانيتروكيوبان عملًا فذًّا من الناحية التقنية، وقد تم تمويله من قِبل وزارة الدفاع الأمريكية.
إن المتفجرات تكشف اللثام عن الوجه المزدوج للعلوم الجزيئية، إذ هي جزء من متعة هذا العلم، فكل الكيميائيين الناشئين تقريبًا سعوا لعمل تلك التفاعلات الانفجارية التقليدية التي يمكن أن يُجريها المرء في معمل المدرسة. إنني أعرف عالمًا محترمًا واحدًا على الأقل، طُرد من مدرسته بسبب تدميره لها بالكامل تقريبًا (وهو الآن يُجري دراسات عن الآثار المجدبة التي تحدثها الشهب والنيازك العملاقة للأرض). إلا أن ما فصل بين هذه التجارب الانفجارية الوامضة وبين تدمير درسدن وهامبورج لم يكن سوى خطوة صغيرة، ويا لها من خطوة خطيرة!