المحركات الدقيقة المفيدة: المحركات الجزيئية
ليس من المعهود أن تتسبب الخُطَب التي تُلقى بعد تناول طعام العشاء في الأحوال العادية في إطلاق الثورات، ولكن ريتشارد فاينمان — الذي طُلب إليه إلقاء خطاب أمام قسم الساحل الغربي بالجمعية الفيزيائية في عام ١٩٥٩ — لم يكن فيزيائيًّا عاديًّا، بل كان واحدًا من أكثر العقول العلمية إبداعًا في القرن العشرين في فترةِ ما بعد الحرب، ولا يزال الكثيرون يذكرونه في العالم على نطاق واسع كعازف لآلة البونجو، وكمدبر للمقالب، ومحطم للخزائن الحديدية، وأحد أكثر الشخصيات استعصاءً على الفهم في العلوم الحديثة.
كان خطاب فاينمان في عام ١٩٥٩ خفيفًا في مظهره، ولكنه جاد في فحواه، وقد أعطاه عنوانًا هو «هناك متسع كبير في القاع»، وكان يتحدث عن الهندسة في نطاقات الحجم الشديدة الدقة التي لا يمكن رؤيتها. قال فاينمان: «ما أردت أن أتكلم بشأنه هو مشكلة التعامل مع أشياء صغيرة والسيطرة عليها.» واستمر فاينمان قائلًا إنه لم يقصد بكلمة «صغيرة» أنها «محركات كهربية في حجم ظفر أصبعك الصغرى»، بل يقصد أنها في مثل صغر الذرات.
إن الكيميائي يفعل شيئًا غامضًا حين يريد أن يصنع جزيئًا. فهو يرى أنه حصل على ذلك الخاتم السحري أو تلك الحلقة الكيميائية؛ ولذا فإنه يخلط هذا بذاك، ويرجُّ المزيج، ويعدِّل هنا وهناك، وفي نهاية هذه العملية الصعبة عادة ما ينجح في تركيب ما أراد.
ويمكنك أن ترى أن وجهة نظر عالِم الفيزياء فيما يفعله الكيميائيون ليست أكثر حنكة بكثير من وجهة نظر رجل الشارع، ولكن توصيف فاينمان لا يختلف كثيرًا عن ذلك الذي طرحه بريمو ليفي وهو يشرح كيف يبني الكيميائيون الجزيئات كما يبني المهندسون الجُسور (انظر الفصل الأول). ومع ذلك، فإن الكيميائي تَعوَّد تقليديًّا على اعتبار الجزيء مادة؛ شيئًا يمكن بَلْوَرَتُه ووَضْعُه في زجاجة، أما الفيزيائي من الناحية الأخرى، فإنه يرى الجزيء مثل شيء إنشائي، كأحد مكونات محرك آلي.
كان فاينمان بالأساس يتساءل إن كان بمقدور الفيزيائيين أن يفعلوا ما يفعله الكيميائيون، ولكن مع ارتداء قبعة مهندس. فهل يمكننا أن نبني جزيئًا عن طريق دفع الذرات إلى أماكنها واحدة واحدة؟ لم يكن أحد في عام ١٩٥٩ يفكر في هذا الأمر سوى شخص ذي خيال سحري مثل فاينمان.
إلا أنه لم يكن يصدر تخمينات غير مبنية على أساس؛ فحتى في تلك الآونة، كان واضحًا أن التكنولوجيا آخذة في الصغر أكثر وأكثر. أدى اختراع الترانزستور في أربعينيات القرن العشرين إلى تضاؤل مقياس الإلكترونيات؛ فالصناديق الكبيرة المليئة بالأنابيب المفرغة حلت محلها أجهزة مدمجة تحتوي على دوائر «حالة مصمتة» صُنعت من وحدات الترانزستور السليكونية. كان جهاز الراديو الترانزستور المحمول على كل شاطئ أمريكي، وصار المهندسون ماهرين بشكل متزايد في صنع مكونات آلية دقيقة، ربما بالقدر الذي يتجاوز كثيرًا حدود إدراك فاينمان. ولأنه كان يأمل أن يقدم حافزًا صغيرًا يدفع به تكنولوجيا التصغير للأمام، فقد عرض جائزتين بألف دولار مَوَّلهما بنفسه: واحدة لصنع محرك إلكتروني لا يزيد قياسه عن ١ / ٦٤ من البوصة من جميع جوانبه، والأخرى لِنَقْل المعلومات التي على صفحة كتاب عادي وكتابتها على مساحة مقياسها ١ / ٢٥٠٠٠ من الصفحة الأصلية. لعل فاينمان كان يتوقع أن تبقى أمواله في أمان على مدى سنوات قادمة، ولم يكن يتخيل أن يأتي شخصٌ ما — وكان مهندسًا يدعى ويليام ماكليلان — ليجيب أول هذين التحديين في غضون أشهر قليلة.
وبدأ الباحثون يتساءلون إن كان هذا الأسلوب «من أعلى لأسفل» عمليًّا بتلك المقاييس؛ فالمكونات التي بهذا الصغر تكون أقرب في الحجم للجزيئات (الجزيئات المتوسطة الحجم أصغر بمائة مرة) منها لرقاقات السليكون التي يمكنك أن تمسكها وتراها في يدك، فهل يجب إذن أن نبدأ في صنع أشياء من أسفل لأعلى؛ أي انطلاقًا من الجزيئات المفردة؟
ليست لدينا تلك الملاقط الصغيرة التي كثيرًا ما نحلم بها ليلًا كما يحلم الظمآن بينابيع الماء، والتي تتيح لنا أن نلتقط قطعة دقيقة ونمسك بها بإحكام وأمان ونلصقها في الاتجاه السليم على القطعة الأخرى التي ركَّبناها بالفعل. فلو كانت لدينا تلك الملاقط (ولعل هذا يتحقق يومًا ما)، فربما نأمل أن نبدع بعض الأشياء المحببة التي لم يخلقها أحد إلا القوي القدير، لا أقول ضفدعة أو ذبابة، ولكن على الأقل ميكروبًا أو جرثومة فطرية.
وجد فاينمان كذلك إلهامًا في الأجهزة الجزيئية والصنائع البيولوجية «التي تُستخدم فيها القوى الكيميائية بطريقة رتيبة تكرارية لإنتاج جميع أنماط التأثيرات الغريبة (ومن بينها المؤلف نفسه).» أدرك فاينمان أنه توجد بالفعل آلات جزيئية في عالم البيولوجيا، وفي عام ١٩٥٩، ما إن وصل هذا الكلام إلى آذان علماء البيولوجيا حتى رفضوه باعتباره مجرد محاولة من عالِم فيزيائي أحمق ليفرض وجهة نظره الشخصية في حقل من الواضح أنه لا يعرف عنه شيئًا. ولكن اليوم نجد علماء البيولوجيا يَسعدون تمامًا بالحديث عن البروتينات بوصفها آلات جزيئية.
يلقي هذا الفصل نظرة على بعضٍ مِن أهم تلك الأشياء، وهي الجزيئات البروتينية التي تخلق الحركة؛ وهي محركات جزيئية غالبًا ما تسمى البروتينات الحركية. إن المحرك الصغير الذي فاز بجائزة فاينمان يعتبر عملاقًا أخرق عند مقارنته بها، وكأننا نقارن بين ديناصور هائل يمشي بتثاقل وبرغوث خفيف الحركة. إن الأهمية البيولوجية للبروتينات الحركية كبيرة لدرجة لا يمكن حصرها؛ فلولاها لما استطعنا تحريك عضلة واحدة، ولا استطاعت الطيور أن تُحلِّق في السماء، ولا استطاعت الأسماك أن تجوب البحار، ولا استطاعت حتى البكتيريا أن تتحرك، وأسوأ من هذا أن الخلايا لن يمكنها الانقسام؛ ومن ثم فلن يكون ثمة تكاثُرٌ؛ فمن دون الجزيئات التي تدفع الحركة لن تكون هناك حياة.
إلا أنه في نظر ميكانيكا العالَم الجزيئي تقول البروتينات الحركية شيئًا آخر؛ إذ تظهر أن الهندسة على المقياس الجزيئي أمر ممكن، فبإمكاننا أن نخفض مقياس الأفكار المألوفة لدينا من العالم اليومي العادي إلى عالم الجزيئات. وليست البروتينات الحركية فريدة في هذا الشأن، ولكنها تُظهر الفكرة بوضوح نادر. سوف أشرح كيف يمكننا أن نحقق أهدافًا مماثلة ببساطة عن طريق صنع محركاتنا الجزيئية حسب الطلب، وهذا يقودنا إلى الحلبة التي اتجه نحوها حديث ريتشارد فاينمان، إلى أول مَعْلَم واضح على الطريق: تكنولوجيا النانو؛ أي التكنولوجيا على مقياس الأشياء المتناهية الدقة التي تقاس بالنانومتر، وهي مسافات يمكن أن نقيسها بالجزيئات.
زحف الداينين ومشي الكينيزين
إنَّ شَكْل الجزيء ليس ثابتًا إطلاقًا؛ فهو يتذبذب دائمًا ويهز أجزاءه السائبة. وتُعَد الحركة الميكانيكية خاصية منتشرة في العالم الجزيئي.
ولكن بصفة عامة، إما أن تكون الحركات الجزيئية عشوائية، مثل الحركة الملتوية المتعرجة لسلسلة بوليمرت تطفو في محلول؛ وإما أن تكون هادئة قريبة من الصفر، مثل ذبذبات تتحرك جيئة وذهابًا لرابطة كيميائية. ما نحن بحاجة إليه من محرك أصلي — على النقيض من هذا — هو الحركة مع نزعة اتجاهية؛ وهو ما يمكن أن نَصِفَه بالحركة الهادفة.
من المعروف أن المحرك يستهلك وقودًا، ويمكنك اعتبار هذا ثمنًا لا مفر منه للحركة المنضبطة، وهي ضريبة يفرضها القانون الثاني للدِّيناميكا الحرارية. أما الحركة الجزيئية العشوائية من الناحية الأخرى فيمكن الحصول عليها مجانًا، من الاهتزاز الجزيئي المشوش الذي يسمى الحرارة.
إن أجسامنا تنجز أنماطًا كثيرة من حركات النقل الموجهة؛ على سبيل المثال، تسبب حركة الأهداب الخلوية — وهي زوائد شعرية الشكل تبطِّن المسالك التنفسية للرئتين والقصبة الهوائية — تحرُّكَ طبقة من المخاط من بطانة الرئتين لأعلى تجاه الحلق، حيث تتراكم في صورة بلغم، وهذا المخاط يلتقط القاذورات؛ ومن ثم فإن التخلص منه يُبقي الرئتين نظيفتين. وكي يتحرك هذا المخاط لأعلى لا يمكن أن تكتفي الأهداب بمجرد التقلب هنا وهناك، ولكن يجب أن تنفذ تتابعًا متناسقًا من الحركات، مثل ذراعي السباح. فهي تصنع «ضربة قوية» تشبه السوط تتبعها «ضربة استرجاع» زاحفة بطيئة. بعض الكائنات الوحيدة الخلية التي تسمى الطلائعيات تَستخدم الأهداب بالفعل على أسطحها الخلوية لكي تسبح في الماء.
ولكي يتحرك الهدب، «تمشي» الأنيبيبات الدقيقة بعضها فوق بعض؛ فكل جزيء داينين لديه «رِجل» تنثني بواسطة تفاعل يستهلك ثلاثي فوسفات الأدينوسين. الداينين أساسًا هو إنزيم يفكِّك ثلاثي فوسفات الأدينوسين، ويغير الشكل نتيجة لهذا. أيضًا يحتاج هذا التفاعل إلى أيونات الكالسيوم لإطلاقه، ويتم التحكم في الحركة بفعل إشارات عصبية تطلق عملية حقن الكالسيوم في الهدب.
ونظرًا لأن جزيئات الداينين تبرز جميعًا في الاتجاه نفسه، فإنها تجذب أحد الزوجين المتماثلَين الأنيبيبيَّين الدقيقَين فوق الآخر حين تنثني. وعندما تريد الجزيئات أن تستقيم مجددًا، تعود الأنيبيبات الدقيقة لمواضعها الأصلية. ولكي تتولد الحركة للأمام، يفصل كل جزيء من الداينين نفسه من الأنيبيبة الدقيقة الثانية قبل أن تتم الاستقامة، ثم يعيد ارتباطه لإنجاز «ضربة القوة» التالية. ويستطيع الداينين أن يفكِّك ثلاثي فوسفات الأدينوسين، وأن يتحول إلى الحالة المنثنية فقط حين ترتبط «قدمه» بأنيبيبة دقيقة أخرى.
وهكذا فإن حركة زحف الأزواج المتماثلة بعضها فوق بعض تشبه عمل السقاطة؛ إذ تولِّد دورة ارتباط الداينين وانثنائه وانفصاله ثم استقامته الحركةَ في اتجاه واحد. ولكن نظرًا لأن نهايات الأنيبيبات الدقيقة تكون مثبتة بقاعدة الخيط المحوري، فإن هذا الانزلاق للواحد فوق الآخر يسبب انثناء الهدب. ومع التناسق السليم للحركات الانزلاقية، فإن الهدب ينثني أولًا بهذه الطريقة ثم بتلك بعد ذلك، ويبدو أن التناسق يأتي من اثنتين من الأنيبيبات الدقيقة المتجهة لأسفل في مركز الخيط المحوري، وإن لم يكن من المفهوم حتى الآن كيفية تحقيق ذلك.
يلعب الداينين دورًا عامًّا أوسع في عالم الخلية؛ إذ هو أحد المحركات التي تحرك الأشياء هنا وهناك. فخلايانا تشدها من الداخل شبكة من الأنيبيبات الدقيقة كقضبان السكك الحديدية، ومن وقت لآخر تحتاج الخلية لأن تعيد ترتيب أجزائها، وهي التراكيب الغشائية المسماة «العضيئات»، وعند التصاق الداينين بالجدار الغشائي يمكنه أن يجذب العضيء على طول المسارات.
هذه المسارات أحادية الاتجاه، فنهايات الأنيبيبات الدقيقة ليست متكافئة، ومن نهاية واحدة منها فقط — تسمى النهاية الموجبة — يمكن إضافة جزيئات التيوبيولين أو حذفها (انظر الفصل الثالث). دائمًا ما يتحرك الداينين تجاه الطرف الآخر — النهاية السالبة للأنيبيبة الدقيقة التي تقع تجاه مركز الخلية — وحين تنقسم الخلية إلى خليتين يجذب الداينين الطقمين المزدوجين من الكروموسومات على طول الأنيبيبات الدقيقة لمغزل الانقسام الفتيلي (انظر الفصل الثالث) حاملًا إياهما تجاه مركزي الخلايا الوليدة الناشئة المقابلة.
ولكي يتم النقل على طول الأنيبيبات الدقيقة في الاتجاه الآخر (الموجب) يُستخدم نوع مختلف من البروتينات الحركية (أو المحركات) يسمى الكينيزين. لعل الكينيزين هو أكثر الجزيئات المسببة للحركة شبهًا بالبشر؛ إذ إن لديه ساقين وله «مشية» متهادية، مقارنة بالداينين الذي يزحف بساق واحدة كأنه دودة صغيرة. والكينيزين أيضًا يشغِّله تفاعل يستهلك ثلاثي فوسفات الأدينوسين، ويغيِّر شكل البروتين.
يعتبر الكينيزين رجل البريد للخلية؛ إذ يوصِّل الطرود بين كل عُضيئة وأخرى؛ مثلًا، يجب إرسال البروتينات من نقطة تصنيعها (الشبكة البلازمية الداخلية) إلى أجزاء الخلية التي تحتاج إليها، فيتم تعبئتها داخل كرات غشائية صغيرة تسمى حويصلات النقل، ويحمل الكينيزين إحدى حويصلات النقل على طول الشبكة الأنيبيبية الدقيقة، وصولًا إلى العنوان الصحيح.
القوة العضلية
الانقباضات والارتخاءات العضلية هي التي تمنحنا القدرة على المشي. والعضلات الهيكلية تحرِّكنا في اتجاهات متضادة، ويمكنها عن طريق الانقباض والانبساط أن تتحكم في كل شيء بدءًا من الحركات الرقيقة لأصابع عازف البيانو، وحتى حركة الفخذين القوية لأحد الرياضيين.
العضلة الهيكلية واحدة من المواد الجزيئية الهرمية الطبيعية (انظر الفصل الثالث)؛ فهي تركيبة ليفية من حزم داخل حزم داخل حزم. تكون الخلايا العضلية المنفردة شديدةَ الاستطالة وتحوي كابلات كثيرة الخيوط، نُسجت من خيوط تسمى اللُّيَيْفيات العضلية. وداخل البنية التحتية الجزيئية المعقدة لهذه الخيوط تسكن أسرار الانقباض العضلي.
إذا نظرنا إلى اللُّيَيْفة العضلية من خلال المجهر فسنجد أنها مميزة بعلامات، هي أشرطة فاتحة وداكنة متفاوتة العرض، وهذه الأشرطة تكسب العضلة الهيكلية مظهرًا مخططًا عند النظر إليها بقوة التكبير العظمى؛ ولهذا السبب تعرف أيضًا بالعضلة المخططة. يتكرر تتابُع الأشرطة دوريًّا على طول خيط اللُّيَيْفة العضلية، وكل وحدة تكرارية منها تسمى «قسيمة عضلية»، وتُعطى الأشرطة المختلفة داخل كل قسيمة عضلية اسمًا بسيطًا — مثل الشريط إيه، والمنطقة إتش، وهكذا — يَشِي بأنه لم يكن لدى أيِّ شخص أدنى فكرة عن دلالتها حين رُصدت لأول مرة.
هذه الحركة للشعيرات بعضها فوق بعض يدفعها البروتين الحركي المسمى «الميوسين»، وهو بروتين رفيع طويل تلتوي في داخله سلسلتان لولبيتان إحداهما حول الأخرى. وعند كلتا النهايتين تنتهي السلسلتان في رأسٍ كمثريِّ الشكل، وتتجمع جزيئات الميوسين في حزم تسمى شعيرات الميوسين، وتتشابك كل نهاية من الشعيرة مع رءوس الميوسين مثل مخروط يبرز من حزمة من الذرة.
تخضع العملية برمتها للتحكم الإرادي، وتبدأ حين تأتي نبضة عصبية من المخ، وتخبر العضلة بأن تنقبض أو ترتخي. تُعَد بروتينات التروبوميوسين والتروبونين التي على شعيرة الأكتين بمنزلة مفاتيح تشغيل. وترتبط العضلات «سلكيًّا» بالمخ عن طريق خلايا عصبية تسمى العصبونات الحركية، والأعصاب الواصلة بينهما هي أشبه بأسلاك «ملتحمة» بطريقة كيميائية حيوية بالسطح الخارجي لِلِّيفة العضلية. وعند وصول إشارة كهربائية إلى نهاية العصبون الحركي فإنها تحث على انطلاق أيونات من الكالسيوم من شبكة من الأنابيب — تسمى الشبكة البلازمية اللحمية — التي تمتد خلال الفراغات التي بين اللُّيَيْفات العضلية داخل الليفة العضلية. يتم اقتناص أيونات الكالسيوم هذه من جانب جزيئات التروبونين التي على شعيرة الأكتين؛ مما يحث على تغيير شكلها. وهذا بدوره يسبب جذب خيوط التروبوميوسين، التي تلوي عقد الأكتين اللولبي المزدوج وتدير «خرزات» الأكتين. وهذا الدوران هو الذي يكشف المواقع على الأكتين التي يرتبط بها الميوسين. وهكذا يحتوي التركيب بأكمله على آلية نقل جزيئية رائعة لتحويل الانقباض بين وضعَي التشغيل والإيقاف.
الملقَط الجزيئي
في الماضي، تعيَّن على العلماء أن يستنبطوا كل ما عرفوه عن الجزيئات من قياسات أُجريت على عدة مليارات منها دفعة واحدة. لكن هذا الإجراء يمكن ألا يكون صحيحًا؛ لأننا لا يمكن دائمًا أن نكون موقنين بكيفية ارتباط هذه القياسات بخصائص الجزيئات المفردة، تمامًا كما أن الضوضاء الصادرة من ملعب لكرة القدم أو قاعة مسرح لا تنمُّ عن أي شيء من الأحاديث المفردة التي تجري بين الناس هناك. إلا أن ما حدث من تقدُّم في التقنيات التجريبية التي مكَّنت من إجراء دراسات على الجزيئات المفردة — عن شكلها، وكيفية تفاعلها فيما بينها، وكيفية تحركها — قد فتح الباب خلال العقدين الماضيين على عالم جديد تمامًا من الدراسات الجزيئية. لقد بدأنا توًّا في معرفة شيء عن الجزيئات نفسها.
من الاختراعات المهمة في هذا العصر اختراع ملقط لمعالجة الجزيئات وتداولها؛ وهي نفس الأداة التي تمنَّاها بريمو ليفي. وأهم شيء عن هذا الملقط ليس أنه شديد الصغر، ولكن أنه غير ملموس حرفيًّا؛ فهو مصنوع من الضوء، ويسمى الملقط البصري. وهو يحتجز الأشياء في حزمة ضوء قوية جدًّا، ويسمح للباحثين بأن يجيبوا عن مختلف الأسئلة التي يمكن أن يوجهها المرء عن المحركات الآلية، مثل: ما مدى كفاءتها؟ ما مقدار الحمل الذي يمكن أن تتحمله؟ ما سرعة تحركها؟
إن التفاعل بين الضوء والإلكترونات في الجزيئات يمكن أن يخلق قوة، وهي نوع من «الضغط الضوئي» على جسمٍ ما. فإذا كان هذا الجسم صغيرًا بدرجة كافية، وكان الضوء قويًّا بدرجة كافية، فإن هذا الجسم يمكن تحريكه باستخدام تلك القوة. وفي حالة الملقط البصري تُحْدث نقطة التقاطع بين حزمتين أو أكثر من حزم أشعة الليزر بقعةً من الضوء الشديد السطوع، ويتعرض الجسم الصغير الواقع داخل هذه المساحة الساطعة لضغط ضوئي من جميع جوانبه؛ مما يمنعه من التحرك في أي اتجاه، فيتم الإمساك به في مصيدة بصرية بين «فكَّي» ملقط أشعة الليزر. فإذا تحركت حزم الأشعة، فإن الجسم يُجذَب معها.
يمكن قياس القوة المتولدة عن بروتين حركي واحد (محرك جزيئي) عن طريق إما شد ذلك المحرك وإما شد الجسم الذي يحركه (ولْيكنْ شعيرة أكتين مثلًا) إلى خرزة لدنة مجهرية مثبتة بين «فكَّي» الملقط الضوئي. وتعمل الحركة المتولدة عن هذا المحرك على شد الخرزة بعيدًا عن مركز المصيدة بمقدار يتناسب طرديًّا مع القوة المتولدة.
تصميم المحركات
من أبرز الشخصيات المبشِّرة في حقل تكنولوجيا النانو كيه إريك دريكسلر، وهو عالِم مستقل يرأس «معهد البصيرة» في كاليفورنيا. وقد لعبت رؤية دريكسلر — التي تدور حول آلات تجميع روبوتية جزيئية يمكنها أن تركِّب أي آلة جزيئية (بما فيها آلات التجميع الروبوتية نفسها) ذَرة بِذَرَّة — دورًا مؤثرًا في إدراك عامة الناس للفوائد المرجوة من تكنولوجيا النانو (ولأخطارها كذلك). لكن العلماء أقل ترحيبًا بهذا الأمر؛ إذ يُظهر بعضهم القلق من فشل فكرة دريكسلر عن آلات تجميع الذرات في وضع حساب للحرارة التي لا مفر من انطلاقها عند تجميع الذرات. فضلًا عن هذا، فإن أشكال الجزيئات كثيرة ومتفاوتة، ولكنها ليست عشوائية، فلا ضمان لأن يكون مخطط معين بالمقياس الجزيئي لمكون مختص بتكنولوجيا النانو متفقًا مع نظام مستقر يمكن تحقيقه من الذرات.
وقد بدأ دريكسلر تحديد إطار لأفكاره في عام ١٩٨٦ في كتابه «محركات الإبداع»؛ حيث كان أبطال الكتاب (وخصومهم في بعض الأحيان) روبوتات مُنشَئون بتكنولوجيا النانو. ولكن من حيث ما هو ممكن تكنولوجيًّا بالفعل، فإن المحرك الجزيئي المصنوع منذ البداية بقابليته للتحكم، يكون في قرارته آلة إبداعية، وإن كانت بدائية. فباستخدام هذا الجهاز يمكن نقل القضبان والعوارض بمقاييسها الجزيئية وغيرها من أجزاء البناء والتركيب إلى أماكن تكون فيها جاهزة للالتحام والتجميع.
وفي حين تحصل البروتينات الحركية (أو المحركات) على طاقة تشغيلها من ثلاثي فوسفات الأدينوسين، يعتقد بعض الباحثين أن المحركات الجزيئية التخليقية يمكن تشغيلها بالطاقة الضوئية. وفي عام ١٩٩٩ ابتكر فريق من الكيميائيين يقوده بِن فرينجا في جامعة جرونينجن بهولندا محركًا جزيئيًّا دوَّارًا، يدور فيه داسر باتجاه واحد مدفوعًا بطاقة الضوء. وقد استخدموا عملية الأيسومرية (التجازئية) الضوئية؛ وهي عملية التحول المتبادل لصورتين مختلفتين من جزيءٍ ما (وتسمى تلك الصور الأيسومرات أو المتجازئات) يكون لهما نفس التكوين الكيميائي مع اختلاف الشكل.
والنتيجة الكلية لهذه العملية الرباعية الخطوات هي أن تصنع إحدى ريشتَي الرفاص دورة كاملة بالنسبة إلى الأخرى في اتجاه مقدَّر سلفًا. وإذا ظل الجزيء على درجة حرارة فوق ٦٠ درجة مئوية وعُرِّض لإشعاع مستمر من الضوء فوق البنفسجي فإنه يدور برفق، فيصير بهذا محركًا جزيئيًّا يشتغل بالطاقة الضوئية.
صُنع جهاز دوار آخر بأيدي روس كيلي ومساعدوه في كلية بوسطن؛ إذ أنشَئوا جزيئًا يتكون من رفاص ثلاثي الريشات يرتبط عن طريق محور دولابي بمكبح، وهذا المكبح بدوره يعوق دوران الرفاص. فمن دون المكبح يدور الرفاص عشوائيًّا في أيٍّ من الاتجاهين. كان الباحثون يهدفون إلى استخدام المكبح لقصر حركة الرفاص على اتجاه واحد فقط، وذلك بإجراء سلسلة من التفاعلات الكيميائية بين الريشة والمكبح، ولكنهم لم يتوصلوا حتى الآن لطريقة لدفع رفاصهم لأكثر من ثلث دورة كاملة.
كلا الجهازين مُفرِطا التبسيط ولم يتسنَّ تسخير أيٍّ منها لأداء مهمة مفيدة، لكنهما يُظهران لنا مبدئيًّا كيف يمكن إنشاء محركات جزيئية. يبدو تتابُع صُنْع الروابط الكيميائية وكسرها — المطلوب لتحريك محرك كيلي — عملًا مرهقًا، ولكننا على أي حال نحتاج إلى تتابع مماثل لإحداث حركة خطية باستخدام الكينيزين والميوسين. ويمكن على المقياس الجزيئي أن تحدث هذه الأشياء بسرعة تكفي لإعطاء مظهر الحركة السلسة.
تكنولوجيا النانو الطبيعية
أمام المحركات الجزيئية التخليقية طريقٌ طويلٌ قبل أن يمكن مقارنتها بالبروتينات الحركية الطبيعية، فهل من المعقول إذن أن نحاول بناءها من لا شيء؟ أم هل يمكن بدلًا من هذا أن نكيف البروتينات الحركية كي تحقق غايات تكنولوجيا النانو؟ وقد استطاع بعض الباحثين عزل بروتينات حركية من الخلية وتعديلها كيميائيًّا بحيث يمكنها أداء مهام جديدة.
وفي جامعة ولاية واشنطن بمدينة سياتل الأمريكية استخدمت فيولا فوجل ومساعدوها الكينيزين لدفع الأنيبيبات الدقيقة فوق الأسطح في اتجاه معين مُختار. فألصقوا جزيئات الكينيزين على سطح مغطًّى بمادة بوليمرية تسمَّى بولي تترا فلورو إيثيلين، الشهيرة أكثر باسم التفلون، تلك المادة المانعة للالتصاق. ووضعت طبقة التفلون عن طريق حك كتلة من تلك المادة فوق السطح المطلوب تغطيته؛ حيث تكتسب طبقة البوليمر حزوزًا وأضلاعًا في اتجاه الحك. يُعتقد أن سلاسل البوليمر تصطف بمحاذاة هذه الأضلاع، وتلتصق جزيئات الكينيزين بالأضلاع بشكل تفضيلي؛ بما يعني أنها تكوِّن صفوفًا موجهة، وتعمل هذه الصفوف كمسالك خطية يمكن إمرار الأنيبيبات الدقيقة عن طريقها؛ فتمر جزيئات الكينيزين عبر الأنيبيبات على التوالي، الواحدة تلو الأخرى مثل فرقة الدلاء (التي تمر عبرها الدلاء من شخص لآخر لإطفاء حريق). في الخلايا تكون جزيئات الكينيزين هي المتحركة والأنيبيبات هي «الثابتة»، ولكن في هذه التجارب تكون البروتينات المحركة مثبتة إلى السطح؛ ومن ثم تعمل حركات مشيها على دفع الأنيبيبات الدقيقة.
إن دراسات كهذه تحفز العلماء الطامحين لاستخدام المحركات الجزيئية في تحريك الجزيئات هنا وهناك بطريقة تخضع للتحكم، وهو ما يضفي بُعدًا جديدًا على عملية التخليق على المقياس الجزيئي. لم يَعُد يتعين على العلماء أن يعتمدوا على تجوال الجزيئات عشوائيًّا وعلى المصادفة التي تحدث لجزيئات تطفو في المحلول، بل يمكنهم بدلًا من هذا أن يوجهوا تلك الجزيئات بدقة إلى حيث يريدون لها أن تذهب. ولأن الطبيعة قد ابتكرت لنا بالفعل تشكيلة مدهشة من الآلات الجزيئية لتلك الأغراض؛ فإنني أتوقع أن يستفيد علماء تكنولوجيا النانو بشكل متزايد في المستقبل من الآلة الخلوية بدلًا من أن يكتفوا بمحاولة تصميم أدوات على أسس أولية. وهذا لا ينطبق فقط على توليد الحركة الميكانيكية، ولكن أيضًا على مجالات مثل توليد الطاقة، وأجهزة الاستشعار ومعالجة المعلومات. وربما نرى حينئذٍ اندماجًا بين علم الأحياء وفروع من العلم كانت في الماضي تعتبر مختلفة تمامًا، مثل الهندسة الميكانيكية والإلكترونية. ولأننا نعتقد أن هذا الاندماج ستنجم عنه نتائج لم يكن أيٌّ من تلك الحقول العلمية ليحققها من تلقاء نفسه، فبإمكاننا إذن أن نطلق على هذا الاندماج الناتج اسم «الهندسة التوافقية الحيوية».