الكمبيوتر الكيميائي: المعلومات الجزيئية
في النهاية يظل السؤال عينه ماثلًا أمامنا: ما هي الحياة؟ لن أجيب عن هذا السؤال، أو على الأقل لن أجيب عنه هنا، ولكن إجابة شرودنجر عن الإنتروبيا السالبة (انظر الفصل الرابع)، رغم كل مثالبها، تحتوي على ذرة من الحقيقة؛ فمن خصائص الحياة الضرورية، وإن كانت غير كافية، أنها تفرض النظام على الفوضى، والفوضى تعني الموت. فإذا لم تستطع الخلايا أن ترسل رسائل واضحة وأن تستقبلها، أو إذا كانت تفعل الأشياء في الوقت غير المناسب، أو إذا فقدت أغشيتها نظامها، أو إذا أخفقت البروتينات في الطي؛ فلا يمكن حينئذٍ أن تستمر الحياة؛ فنحن جُزر حيَّة من النظام العضوي في خضم عالم بري.
فمن أين أتى هذا النظام؟ يمكن أن ينشأ النظام العضوي تلقائيًّا في المادة غير العضوية أيضًا؛ فَكِّرْ في تلك الصفوف المتعرجة من السُّحب الشبيهة بذيل الفرس، أو التموجات المنتظمة من الرمال التي حرَّكَتها الرياح، يبدو على الأرجح أن هذا النوع من «التنظيم الذاتي» — الذي يمكن أن ينشأ طواعيةً في أنظمة غُذِّيت بالطاقة التي تمنعها من تحقيق توازن استاتيكي — له دور يلعبه في نظام الحياة واستقرارها. ولكن هذا ليس كافيًا؛ فنوع التناسق الذي تحتاجه الخلية لكي تنسخ كروموسوماتها، وتنقسم إلى خليتين، أو لتصنع جزيئًا بروتينيًّا يمارس وظائفه ويتكاثر، أو حتى لتنمو من بويضة مخصَّبة واحدة، وصولًا إلى تكوين إنسان متعدد الخلايا قد يكون عبقريًّا أو نابغة مثل موتسارت؛ لا يمكن أن يعتمد على عمليات رسم الأنماط «العمياء» الصارمة التي تحدِّد أشكال السماء والرمال وألوانها؛ فلا بد أن يكون الأمر أكثر إحكامًا مثل إحكام اليد على عجلة القيادة.
ذاعت أقاويل عجولة خرقاء عن مشروع رسم خريطة للجينوم البشري. فسمعت، على سبيل المثال، أن المهندس الذي يحظى بقدر كافٍ من البراعة يمكنه أن يصنع بشرًا من المعلومات المتاحة حاليًّا. وهذا هراء بالطبع؛ فجسم الإنسان مليء بالجزيئات غير المشفَّرة في الجينوم، فالجينوم يحوي بروتينات فقط، وحتى تلك تكون في صورة مشوَّهة وغير كاملة. لا يخبرنا الجينوم شيئًا عن الدهون التي تشكل الأغشية الخلوية، ناهيك عن معرفة كيفية تحفيزها بقوًى فيزيائية لتتجمع في شكل صفائح ودوائر وكرات. كذلك، لن تخبرنا الجينات شيئًا عن كيفية بث الإشارات العصبية وتشفير الدماغ للأفكار والأحاسيس في تتابعات من النبضات الكهربائية التي يكون زمنها محددًا بدقة. لا يوجد جين للعَظْم ومينا الأسنان، إن الجينوم هو كتاب الخلية بقدرِ ما أن القاموس هو كتاب مسرحية «في انتظار جودو». إنه موجود، ولكن ليس في وسعك أن تستنتج جينومًا من معرفة جينوم غيره.
ومع ذلك، فالجينوم هو كتيب تعليمات في صورة جزيئية، وهو يخبرنا بكيفية صنع البروتينات، وهي الجزيئات التي تقود أوركسترا مسرحية الحياة الجزيئية المثيرة للإعجاب. وأريد في هذا الفصل أن أذكر قدرًا أكبر قليلًا عن طبيعة ذاك السيناريو؛ كيف يُقرأ وكيف تُمثَّل أدواره. إلا أن مقصدي النهائي أوسع من هذا. بالنسبة إلى عالِم الجزيئات، فإن علم الجينات يقول شيئًا مثيرًا وعميقًا حقًّا عن الجزيئات، وهو أن الجزيئات بإمكانها أن تحمل المعلومات وتنقلها. يشير عالِم البيولوجيا النظرية جون هوبفيلد من جامعة برنستون إلى أن هذا الأمر واحد من السُّبل الكثيرة التي يقدم من خلالها علم البيولوجيا «نظرية وجودية» تلهم الكيميائيين، ويقول: «يستخدم علماء الرياضيات هذا المصطلح عند الإشارة إلى إثبات على أن ثمة وظيفة يريدون إنشاءها موجودة بالفعل وليست شيئًا محالًا. وبهذا المعنى، فإن ملاحظة الطيور وهي تطير تقدِّم لنا نظرية وجودية مفادها أن المهندس يجب أن يكون قادرًا على تصميم آلة طائرة.»
بنفس الطريقة، يُظهِر لنا علم الجينات أن من الممكن إجراء عملية الحوسبة باستخدام الجزيئات؛ فالحوسبة ليست سوى عمليات تخزين للمعلومات ونقلها وتحليلها، وكل تلك العمليات يمكن أن تنفذها الآلة الجينية. ويردف جان ماري لين قائلًا: «هناك حقًّا منطق جزيئي لدى الكائنات الحية.»
وهذه في الواقع نتيجة طبيعية للفصل السابق؛ حيث رأينا أن الجزيئات يمكن أن تتواصل فيما بينها. ويعتبر المنطق الجزيئي الأصيل أكثر دقة؛ إذ لا يتطلب فقط أن يؤثِّر أحد الجزيئات على سلوك جزيء آخر، ولكن أن يكون بإمكان تلك الجزيئات أن تنقل وتعالج المعلومات المشفرة بطرق محددة جيدًا، وهكذا يعمل الكمبيوتر؛ بأن يمرر البيانات بين مفاتيح التحويل والذاكرة المصنوعة من مواد شبه موصلة ومغناطيسية.
إن الحوسبة باستخدام الجزيئات هي مجرد واحدة من الطرق التي من خلالها يدخل بُعد المعلومات علم الجزيئات. وأقول بشكل أكثر عمومية إن الكيميائيين صاروا معتادين على فكرة أن الجزيئات يمكن برمجتها لكي تتصرف بطرق معينة، وأن خصائصها يمكن كتابتها في نسيج الجزيء تمامًا كما يمكن برمجة مجموعة من التعليمات في روبوت. ويستطرد لين قائلًا: «وما أراه … أننا نتجه إلى علمٍ عامٍّ من المادة القائمة على المعلومات.» هذه الكيمياء الجديدة هي علم جديد بالفعل، وهي من طرق كثيرة تختلف تمامًا عن الكيمياء التقليدية التي تصنع مواد مفيدة. إنه علم يهتم بما يمكننا «فعله» وليس فقط ما نحن عليه؛ وهو يحدث بالفعل لنا، ولا نعرف إلى أين سيأخذنا.
كيف «تكون» الخلية على ما هي عليه؟
لا يزال من غير المفهوم جيدًا كيف يتولى تتابُعٌ بروتينيٌّ معينٌ تحديدَ طريقةِ انثناءِ سلسلتِه؛ وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نستنتج وظيفة جين ما من تتابعه وحده (رغم أن بإمكاننا في بعض الحالات أن نخمن بشكل جيد). وأول مخطط للجينوم البشري مليء بجينات لم تُعرف وظائفها.
ومع ذلك، فإن مبدأ تدفق المعلومات في الخلية واضح، والدِّي إن إيه هو كتاب معلومات عن البروتينات. يمكننا أن نفكر في كل كروموسوم كفصل منفصل، وفي كل جين ككلمة في هذا الفصل (وهي كلمات طويلة جدًّا!) وفي كل مجموعة تتابعية من ثلاث قواعد في الجين كحرف في الكلمة. تُعَد البروتينات ترجمات للكلمات إلى لغة أخرى، وحروفها هي الأحماض الأمينية، وبصفة عامة لا يتسنى لنا فهمُ ما تعنيه اللغة الجينية إلا حين تُتَرجَم.
الدِّي إن إيه هو بوليمر خيطي مزدوج؛ تلتفُّ فيه سلسلتان إحداهما حول الأخرى على شكل لولب مزدوج. ويتكون كل خيط منهما من تسلسُل من النيوكليوتيدات التي تحوي معلومات مشفرة. ولكن الخيطين ليسا متطابقين، وهما يلتصقان معًا بواسطة رابطة هيدروجينية أشبه بالسحَّاب (انظر الفصل الثاني) تجمع بين القواعد التي على أحد الخيطين والتي على الخيط الآخر. ورغم أن كل القواعد يمكنها أن تشكِّل روابط هيدروجينية، فإن لها تفضيلات محددة في علاقاتها التزاوجية؛ إذ يلتصق الأدينين مع الثايمين والجوانين مع السيتوسين. ومن ثم يكون للَّولب الثنائي من الدِّي إن إيه تتابعات متكاملة؛ فأينما ظهر الأدينين في أحد الخيطين، ظهر الثايمين في الآخر، وهكذا؛ وهذا يعني أن كل جين مكتوب في نسختين، كل منهما بمنزلة صورة مرآة للأخرى.
وهذه العلاقات الخاصة من الشراكة بين القواعد إنما تمليها عليها أشكالها؛ إذ إن قاعدتَي الأدينين والجوانين جزيئان متماثلان، وكذلك الثايمين والسيتوسين. ومن ثم يكون للزوج «أدينين-ثايمين» نفس الشكل والحجم العامَّيْن مثل الزوج «جوانين-سيتوسين» إلى حد كبير، ويشير هذان الزوجان للداخل فيما بين الخيطين الملتفَّين مثل درجات سلم لولبي. ولأن درجات السلم كلها بنفس الحجم، فإن الخيطين يلتفَّان بالتساوي. ومن شأن اقتران الأدينين بالجوانين أن يُحدث بروزًا، ويؤدي التشوه الناتج إلى الإخلال بثبات هذا الزوج. وبالمثل، إذا حدث اقتران بين السيتوسين والثايمين فسيكون ثمة اختناق في اللولب المزدوج. في نفس الوقت فإن اقتران الأدينين مع السيتوسين والجوانين مع الثايمين ليس مرجحًا بسبب اختلاف أوضاع مجموعات روابط الهيدروجين في هذين الزوجين من القواعد؛ ومن ثم تعتبر تفضيلات الاقتران نوعًا من الملاءمة الجيدة — أو الحالة «التكميلية» — بين الشريكين.
وهذه واحدة من النقاط المهمة عن تدفق المعلومات البيولوجية؛ فنَقْل البيانات يَحدث عبر عمليات التعرف الجزيئية، التي تضمن أن كل جزء من الرسالة تتم قراءته بشكل صحيح.
حين تنقسم الخلية يَحدث تضاعف للدِّي إن إيه، فتتكون نسخة من الجينوم. ولأن الخيطين متكاملان، فكلٌّ منهما يمكن أن يعمل كقالب لِيُتم تركيب الآخر عليه. فإذا كان الأدينين يقترن تفضيليًّا على الدوام مع الثايمين، وهكذا، فإن تتابع خيط واحد «مجرد» سيرشد النيوكليوتيدات غير المرتبطة لكي تصطفَّ في النسق السليم لتكوين الخيط التكميلي.
ولكي يعمل الخيط المفرد كقالب، يتم فصمه عن شريكه بالاستعانة بإنزيمات خاصة، ثم يتم ضم الخيطين التكميليين على طول كلٍّ من الخيطين المكشوفين. ويعمل إنزيم يسمى بوليمراز الدِّي إن إيه على تحفيز إضافة كل نيوكليوتيد جديد؛ ومن ثم يحتوي كلٌّ من اللولبين المزدوجين الجديدين على خيط واحد من اللولب الأصلي.
ورغم أن الإنزيمات تساعد في إنجاز العملية قُدُمًا، فإن المعلومات الأساسية المطلوبة لعملية النسخ تكون قد كتبت بالفعل في قوالب الدِّي إن إيه. في مستهل ثمانينيات القرن الماضي، أظهر ليزلي أورجل في معهد سولك في كاليفورنيا ومساعدوه أن النيوكليوتيدات المفردة يمكن تركيبها في شكل بوليمرات على قالب من النيوكليوتيدات التكميلية دون مساعدة من الإنزيمات؛ فعلى سبيل المثال، يمكن أن يعمل خيط من ثمانية نيوكليوتيدات آر إن إيه حاملةٍ للسيتوسين كقالب لربط ثمانية نيوكليوتيدات حاملةٍ للجوانين. ولكن أورجل لجأ للغش قليلًا باستخدام نيوكليوتيدات جوانين كان قد تم تنشيطها بإضافة مجموعة كيميائية تفاعلية؛ مما ساعد على ربط النيوكليوتيدات معًا.
أخطاء ومهملات
في مرحلةٍ ما أثناء نشر هذا الكتاب، سأتلقى من الناشرين بروفات طباعية للصفحات، وهي نسخ تقريبية من الصفحات النهائية، تم إعدادها من المخطوطة التي قدمتها. وهذه ستكون (كما آمل) نسخة أمينة لما كتبته تقريبًا. ولكن بلا شك — تقريبًا أيضًا — ستكون ثمة أخطاء صغيرة منثورة هنا وهناك بسبب الأخطاء المطبعية أو مشكلات قراءة الملفات بالكمبيوتر، وهي أشياء لا تثير دهشة أي كاتب؛ فلا مفر — عند نَسْخ رسالة طويلة ومعقدة — من حدوث أخطاء قليلة.
نفس الشيء يصدق على عمليات النسخ الجيني (حيث يجري نسخ الدِّي إن إيه إلى آر إن إيه)، والترجمة الجينية (حيث يجري نسخ الآر إن إيه إلى تتابع بروتيني). في بعض الأحيان يحدث إدخال نيوكليوتيد أو حمض أميني خطأً في السلسلة؛ ذلك لأن الجزيئات ليست قادرة على التعرف التام طوال الوقت. ومن المرجح أن حوالي واحد من كل عشرين بروتينًا تقريبًا يتم صنعه بشكل غير صحيح.
هل هذا يعنينا في شيء؟ بصفة عامة: لا؛ فسيكون موقفًا غير عادي، بيني وبين الناشر، لو رصدنا كل الأخطاء المطبعية الأولية في هذا الكتاب قبل أن يذهب إلى المطبعة في المرحلة النهائية. ولكن — كما آمل — لن يكون أيٌّ منها خطيرًا لدرجة تمنعك من فهم ما أعنيه. وبالمثل، في حالة البروتينات يكون أغلب السلسلة كالسقالات التي تُمسك البقايا القليلة من الأحماض الأمينية في أماكنها، تلك البقايا التي تنجز مهمة البروتين التحفيزية. والأخطاء التي تحدث هنا وهناك في السقالات قد لا تكون خطيرة، وأحيانًا ما تكون عاقبةُ خطأٍ ما جزيئًا لا يؤدي وظائفه كلية. ولكن لأن الخلية لا تصنع جزيئًا إنزيميًّا واحدًا فقط، بل العشرات أو المئات من الجزيئات الإنزيمية بشكل مميز لأي مهمة معينة، فلا بأس إذن من حدوث هفوة أو اثنتين.
أنا هنا أتكلم عن الأخطاء «العشوائية»، ولكن الأكثر خطورة منها بكثير هي الأخطاء «النظامية»، التي تنشأ عند منبع المعلومات البيولوجية، على مقربة من المستودع الأساسي للمعلومات؛ فقد يؤدي وجود جزيء آر إن إيه تم نسخه بشكل خاطئ إلى تكوين مئات من البروتينات المعيبة؛ ولذلك، فهناك إنزيمات تراقِب عملية النسخ بعناية فائقة تحسُّبًا لوقوع أخطاء؛ مما يقلل معدل حدوثها إلى حوالي واحد في كل عشرة آلاف.
وحتى أخطاء النسخ قلما يكون لها تبعات خطيرة، فعلى أي حال، جزيئات الآر إن إيه سريعة الزوال وتستطيع الخلية صنع المزيد منها دائمًا. ولكن وجود خطأ في الدِّي إن إيه يمكن أن يسبب ضررًا بحق؛ إذ لا توجد وسيلة لتصحيحه إذا وقع بالفعل. فوجود نيوكليوتيد واحد في غير موضعه الصحيح في أحد الجينات يعني أن كل جزيئات الآر إن إيه التي صُنعت من هذا الجين، وكل البروتينات التي صُنعت من جزيئات الآر إن إيه تلك؛ ستحتوي على العيب المناظر. وأسوأ من هذا أن كل خلية نشأت أصلًا من انقسام الخلية المعيبة جينيًّا ترث نفس النقيصة. وإذا وقع الخلل الجيني في أحد الأمشاج — أي خلية حيوان منوي أو بويضة — فإنه ينتقل إلى النسل المشتق من هذا المشيج؛ ولهذا السبب تخضع عملية تضاعُف الدِّي إن إيه لتدقيق بالغ الحرص من جانب إنزيمات «التصحيح الطباعي»، التي لا تسمح لأكثر من خطأ واحد في مليار قاعدة أن يتسلل إليها. ومن دون المصححين المطبعيين الجزيئيين هؤلاء، ربما اكتسبنا حوالي ١٠٠٠ جين معيب في كل خلية جديدة.
تلك الأخطاء الموروثة، وهي نتاج لأخطاء لحقت بعملية تضاعُف الدِّي إن إيه أثناء إنتاج الأمشاج، تُعرف باسم «الطفرات»، وبمجرد أن تحدث فإنها تُمرَّر من أحد الأبوين أو كليهما إلى ذريتهما على طول الشجرة الجينية. وهذه التحولات مسئولة عن الاضطرابات ذات الصلة بالجينات مثل التليُّف الحويصلي، فضلًا عن القابلية الجينية للإصابة بحالات مثل السرطان وأمراض القلب. ولكن على الرغم من تلك التبعات الفظيعة، فإن الطفرات هي توابل الحياة، وفي الحقيقة إننا نعزو إليها وجودنا ذاته. فلو كانت الكائنات البدائية الوحيدة الخلية، التي كانت تتضاعف في الحساء البدائي في مرحلة مبكرة من كوكب الأرض، لم تُصَب ببعض الطفرات بين الفينة والفينة، ولو كانت تستنسخ ما لديها من دي إن إيه في جميع الأحوال دون خطأ واحد؛ فما كان ليحدث تطور، ولا نشوء للحياة المعقدة.
من المؤكد أن شيئًا ما حدث لنص كتابي بعد عودة البروفات من الناشرين؛ فكثيرًا ما يحدث أن تكون هناك كلمات لم أكتبها، وهي ليست أخطاءً ولكنها تكمل المعنى. ستكون ثمة تغييرات قام بها المحرر، وأنا موقن أنها تجعل النص أسهل كثيرًا في قراءته وفهمه من النص الأصلي الذي كتبته.
وقد كان من قبيل المفاجأة ما حدث في منتصف سبعينيات القرن الماضي؛ إذ وجدوا أن الجينات أيضًا تحتاج إلى عمل تحريري كالكتب، وأن نسخة الآر إن إيه التي تنسلخ عن قالب الدِّي إن إيه لا تكون صالحة لأن تُترجم إلى بروتينات؛ إذ إنها تحتوي على كثير من المعلومات التي لا قيمة لها. وهذه «النسخ الأولية» من الآر إن إيه تشبه إلى حد ما جملًا بها قطع من جمل أخرى أُقحمت على ما يبدو بشكل عشوائي، وتحتاج جزيئات الآر إن إيه إلى إجراء تحريري مكثف قبل أن تقدم رسالة واضحة تصلح للترجمة.
تلك المُقحَمَات العديمة الجدوى تسمى «إنترونات»، وأحيانًا ما تشكل جزءًا كبيرًا من الجين، كما أنها تعرف أيضًا بالتتابعات غير المشفِّرة؛ حيث إنها لا تشفِّر أجزاءَ البروتينات. وتقوم الإنزيمات بفَصْل الإنترونات من نسخة الآر إن إيه الأولية، ووَصْل نهايتَي مناطق التشفير (التي تسمى «إكسونات»).
إن الآلة البروتينية العاملة على تقطيع الأحماض النووية ووَصْلها ومضاعفتها وتخليقها تقدِّم الأدوات الأساسية اللازمة للتكنولوجيا الحيوية الجينية، المتمثلة في المعالجة المباشرة للجينومات؛ فإنزيمات التقصير، على سبيل المثال، هي بروتينات يمكنها التعرف على تتابع قصير معين من الدِّي إن إيه وقَطْع السلسلة عند نقطة معينة. وإنزيمات الليجاز تربط النهايات السائبة للدِّي إن إيه معًا. ويمكن مضاعفة أجزاء من الدِّي إن إيه بصفة مستمرة، في أنبوبة اختبار باستخدام إنزيمات بوليميراز الدِّي إن إيه، فيجري فصل الخيطين المزدوجين بالتسخين، مع تعريضهما للتضاعف المقولب، وتؤدي الدورات المتكررة من التضاعف والتسخين إلى إكثار الدِّي إن إيه بشكل متوالٍ. وهذه العملية، التي تسمى تفاعل البوليميراز المتسلسل، تَستخدم بوليميراز دي إن إيه مأخوذ من نوع من البكتيريا يعيش في الينابيع الحارة. ولقد تطورت إنزيمات هذه البكتيريا لتتحمل درجات الحرارة العالية؛ ومن ثم لا يتلف بوليميراز الدِّي إن إيه بتأثير دورات التسخين.
تتيح هذه الأدوات للعلماء أن يعيدوا «تأليف الكتاب»، بإدخال جينات جديدة في جينوم كائن ما. إن علماء المحاصيل الزراعية مهتمون باستحداث نباتات لها جينات تضفي عليها مقاومة للآفات، أو للقحط أو لبعض مبيدات الأعشاب، فضلًا عن إدخال جينات تحسن نكهة المحصول، أو معدل نموه أو غير ذلك. وهناك خطر محتمل أن تنتقل الجينات التي تحث على مقاومة مبيدات الأعشاب — على سبيل المثال — من المحاصيل الزراعية إلى الأعشاب الضارة؛ مما يولد أجيالًا جديدة من الأعشاب القوية الشرهة، ولا يَعرف العلماء بعدُ درجةَ احتمالية حدوث هذا الانتقال الجيني «الأفقي» بين أنواع الكائنات.
يعترض بعض الناس على الهندسة الوراثية على اعتبار أن من الخطأ أخلاقيًّا أن نتلاعب بالمادة الأساسية للحياة — الدِّي إن إيه — سواء أكانت في البكتيريا أم البشر أم الغنم أم الثمار. يمكن أن يتفهم المرء هذه الاعتراضات، وسيكون من العجرفة أن ننبذها باعتبارها غير علمية، ومع ذلك فإنها لا تتفق مع ما تَكشَّف لنا الآن عن الأساس الجزيئي للحياة؛ فتلك الفكرة القائلة بأن بنيتنا الجينية شيء مقدس يبدو من الصعب تأييدها بمجرد أن نرى كيف أن هذه البنية عارضة، إن لم تكن عشوائية. إن أغلب جينوماتنا البشرية نفايات تحفل بالطفيليات، ومليئة ببقايا ما يربو عن ثلاثة مليارات عام من التطور. فلا يبقى على ما يبدو إلا القليل مما يثير الإعجاب أو يُعتبر رائعًا في هذه المكتبة الجينية الجامحة، بل إن الإعجاب يجب أن نبقيه لتلك الكتائب من البروتينات المثابرة التي لا تألو جهدًا في استخراج أدق المعاني من بين أكوام النفايات واللغو تلك. من المذهل بحق أن نرى تلك العمليات الجينية وهي تسير على نحو فعال، ولكنها مثل معظم ما يحدث في الحياة تعتبر حلولًا وسطًا وأشياء مؤقتة يقل فيها الاهتمام بالجودة.
مخططات الإنشاءات
يعد الدِّي إن إيه مثالًا راقيًا «للمادة المزوَّدة بالمعلومات»؛ فهو مبرمج على أن يعمل بطريقة عالية التخصص على تجميع كل نيوكليوتيد يتزاوج مع مكمله على مدى آلاف من أزواج القواعد، ويمثل هذا النوع من التجميع الذاتي المبرمج أحد أهداف الكيمياء فوق الجزيئية. الذرات في حد ذاتها لا تُظهر الكثير من قدرات التمييز، ولكن عن طريق صنع الجزيئات وليست الذرات — التي هي الوحدات البنائية الأساسية — يصبح علماء الكيمياء فوق الجزيئية قادرين على برمجة معلومات أكثر نفعًا وإرشادًا في صميم لَبِنَاتهم ومِلَاطِهم.
إلا أن الدِّي إن إيه يقدم ما هو أكثر من مخطط وجود للتجميع الذاتي المبرمج؛ إذ يمكنه أن يوفر البنية نفسها. فلماذا لا نستخدم مبادئ تزاوج القواعد التكميلي لضم سقالات الدِّي إن إيه لبناء تراكيب تكون أكثر تعقيدًا من اللوالب المزدوجة بالخلية؟
تكمن الحيلة في تجميع الوصلات الثلاثية لتشكيل جسم جزيئي هندسي ثلاثي الأبعاد. يعطي سيمان الفروع «أطرافًا لزجة»؛ حيث يمتد أحد الخيطين متخطيًا الآخر، وهنا تكون القواعد المكشوفة غير المزدوجة جاهزة للتزاوج مع تلك الموجودة على خيط آخر، ولكن هذا يحدث فقط إذا كان لديه تتابع تكميلي. وبهذه الطريقة تكون الأطراف لزجة بشكل انتقائي، ويمكن الجمع بين كل واحد منها وآخر، بحيث تكون التركيبة كلها مبرمجة لتبني نفسها من أجزائها المكوِّنة. وبمجرد أن تتزاوج الأطراف اللزجة مع شركائها بروابط هيدروجينية، قاعدة لقاعدة، تشكِّل إنزيمات الربط روابط قوية لدعم التركيبة الهيكلية.
في الوقت الحالي، تعد هذه الإنشاءات الجزيئية ضربًا من حماقات البراعة الفنية الفائقة واستعراضًا للعضلات واستظهارًا لقدرات السيطرة العجيبة التي يمكن أن تقدمها المعرفة الجزيئية في مجال العمارة على المقياس النانومتري. ولكن يفترض سيمان أن تراكيبه الهيكلية من الدِّي إن إيه قد تعمل كسقالات لتجميع جزيئات ومواد أخرى بطرق مفيدة؛ فعلى سبيل المثال، من الممكن كسوة خيوط الدِّي إن إيه بالفضة، مع تحويلها إلى أسلاك جزيئية موصلة كهربيًّا. ولعلنا يومًا ما نبني دوائر إلكترونية دقيقة بالبرمجة الجينية للأسلاك حتى تترابط في نمط معين.
فضلًا عن هذا فإن الأطراف اللزجة للدِّي إن إيه يمكن أن تمسك بإحكام أشياء على المقياس الجزيئي بطريقة انتقائية. وقد استخدم تشاد ميركين وزملاؤه في جامعة نورث وسترن في ولاية إيلينوي هذه الفكرة لتجميع دقائق صغيرة من الذهب في مجموعات. وحجم هذه الدقائق لا يتجاوز بضعة نانومترات، وتسمى بلورات النانو، ولكلٍّ منها «شارة» تتكون من دي إن إيه وحيد الخيط، ولكن لأن تتابعات هذه الشارة ليست تكميلية، فإن الرقائق تبقى منفصلة، وبإضافة خيوط دي إن إيه وحيدة يكمل طرفاها تتابعات الشارات، يصبح الباحثون قادرين على ربط دقائق النانو معًا. والمجموعات الناتجة تشتت الضوء الأزرق بقوة، لدرجة أن لون المحلول يتحول إلى لون النبيذ. ويقوم ميركين وزملاؤه الآن بتطوير هذه التقنية تجاريًّا كوسيلة للكشف البصري البسيط عن خيوط الدِّي إن إيه ذات التتابع المعين؛ وهو شيء يحتاجه العلماء كثيرًا في التحليل الجيني.
وعن طريق تجميع بلورات نانو من المعادن أو أشباه الموصلات لتكوين تشكيلات عضوية، يأمل بعض الباحثين أن يصيروا قادرين على بناء أجهزة إلكترونية أصغر بكثير من التي تُصنع حاليًّا بتقنيات التصنيع الدقيق التقليدية المستخدمة في صنع رقائق السليكون. يمكن أن تعمل بلورات النانو من أشباه الموصلات كعناصر تحفظ الذاكرة لتخزين المعلومات الإلكترونية، وهي تتفاعل مع الضوء بطرق يمكن أن تكون مفيدة في صنع أجهزة لمعالجة المعلومات على أساس ضوئي. وقد تقدِّم عمليةُ برمجة تجميع بلورات النانو باستخدام عوامل ربط من الدِّي إن إيه طريقةً لترتيبها في أنماط من الدوائر الإلكترونية، وثمة احتمال آخر افترضته بحوث أنجيلا بلتشر في جامعة تكساس الأمريكية ومساعديها، الذين استخدموا خصائص التعرف الجزيئية للبروتينات بدلًا من الدِّي إن إيه. وقد استحدثوا جزيئات ببتيدية صغيرة يمكنها أن تتعرف على أسطح أنواع مختلفة من أشباه الموصلات والالتصاق بها، وبإمكان الببتيدات أن «تشعر» بطبيعة تكوين الذرات عند سطح بلورات أشباه الموصلات. قد تُستَخدم يومًا ما بروتينات حركية مهندسة وراثيًّا (انظر الفصل الخامس) لها أذرع ببتيدية يمكنها التعرف على أنواع معينة من أشباه الموصلات لكي تُجَمِّع بلورات النانو على موقع بناء جزيئي وترتبها في نمط دوراني.
المنطق الجزيئي
منذ اختراع الكمبيوتر في أربعينيات القرن العشرين تضاعفت القدرات الحاسوبية للأجهزة الجديدة تقريبًا بمعدل مرة كل ثمانية عشر شهرًا، وهذا الاتجاه — الذي يعرف بقانون مور على اسم جوردون مور، المؤسس المشارك لشركة إنتل، الذي كان أول من أشار إلى هذا الأمر في عام ١٩٦٥ — يتجه في مسار التصغير. تزداد قدرات الكمبيوتر كلما صار من الممكن تكديس المزيد من مكونات الدوائر الإلكترونية في حيز معين، ولكن إذا كان على قانون مور أن يصمد لخمسة وعشرين عامًا أخرى أو غير ذلك، فإن على الأجهزة الإلكترونية أن تنكمش إلى أحجام نانومترية؛ أي إلى المقياس الجزيئي.
لا يعرف أحد من العلماء كيف يمكن تحقيق ذلك، فبهذه المقاييس يصير الترانزستور السليكوني — الذي هو الأساس العامل للدوائر المتكاملة — غير صالح لأداء المهمة. ولكي نستمر في صنع كمبيوترات أسرع وأقوى، فهناك مدرسة فكرية متنامية تقول إن مكونات تلك الأجهزة سيتعين أن تكون من جزيئات مفردة، وهذه وجهة نظر تختلف تمامًا عن تكنولوجيا المعلومات التقليدية لن يستثمر فيها إلا المغامرون المتهورون.
إلا أنها ليست فكرة جديدة؛ ففي عام ١٩٧٤ تَقدَّم الكيميائيان الأمريكيان مارك راتنر وآرى أفيرام بتصميم لمقوِّم للتيار أحادي الجزيء (وهو جهاز يمرر التيار الكهربي في اتجاه واحد فقط). وبعد هذا ببضع سنوات اكتُشفت بوليمرات لها أساس كربوني يمكنها أن توصل الكهرباء، وبدأ الباحثون يأملون في أن توفر الجزيئات المفردة من هذه المواد الأرضية لإنتاج كمبيوتر جزيئي. وهكذا ولد حقل «الإلكترونيات الجزيئية».
ولكن على مدار العقد التالي لم يتحقق الكثير؛ فقد كانت فكرة بروت سابقة على أوانها، وتفتقر لأي وسائل تجريبية لتخليق أنواع الأجهزة الجزيئية التي حلم بها العلماء أو تجهيزها أو سبر غورها. وفي السنوات الأخيرة تلاقت سبل عديدة لخلق نهضة جديدة في هذا الحقل، وأخيرًا بدأ مجال الإلكترونيات الجزيئية — وتابعه الحوسبة الجزيئية — في أن يحظى باهتمام بالغ من الأشخاص المهتمين بهذا الشأن، والشركات المنتجة لأجهزة الكمبيوتر.
من المكونات الأساسية لتكنولوجيا معالجة المعلومات الجزيئية المُحوِّل؛ وهو جهاز الهدف منه أن يَخْلُف الترانزستور. ونقول بأكثر الألفاظ بدائية إن المحول يمكن أن يوجد في حالتين ثابتتين مختلفتين: هما وضْعا «التشغيل» و«الإيقاف». يمرر الترانزستور التيار عند وضع التشغيل ويوقفه عند وضع الإيقاف، ولكن المحول يكون مفيدًا لمعالجة المعلومات فقط إذا أمكن توصيله بأجهزة أخرى، حتى تستطيع الأجهزة أن تتحدث فيما بينها وأن تمرر المعلومات بينها جيئة وذهابًا. وهذا يصعب تحقيقه في حالة الجزيئات.
ومع ذلك فقد أُعلن عن شيء من هذا القبيل في عام ١٩٩٩ من جانب جيمس هيث ومساعديه في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس بالتعاون مع علماء من شركة عملاقة من شركات الكمبيوتر هي هيوليت باكارد؛ إذ قاموا بوصل محولات أساسها جزيء عضوي لإنتاج بوابة منطقية يتم التحكم بها كهربيًّا.
في دوائر الكمبيوتر يجري تشفير المعلومات في صورة ثنائية كسلسلة من رقمَي ١ وصفر، بحيث تكون الإشارة «١» مقابلة لنبضة كهربائية بفولطية معينة، بينما تكون الإشارة «صفر» مقابلة لعدم وجود فولطية. هاتان هما الإشارتان الوحيدتان اللتان تُرسَلان خلال الدائرة، فلا توجد إشارات مقدارها نصف أو اثنان. ويتم تشفير البيانات في تتابع من الآحاد والأصفار، تمامًا كما أن الدِّي إن إيه يشفِّر المعلومات في تتابع من القواعد النيوكليوتيدية. إلا أن الشفرة الثنائية أبسط من الشفرة الجينية؛ إذ إن لها حرفين اثنين فقط، وكل وحدة من المعلومات في الإشارة المشفرة — أي كل ١ أو صفر — يطلق عليها اسم «رقم ثنائي» أو «بِت».
تتعامل أجهزة الكمبيوتر مع المعلومات الثنائية، وتُجري عمليات حسابية باستخدام البوابات المنطقية؛ وهي أجهزة أو دوائر تتخذ قرارات. وتتلقى البوابة المنطقية إشارة واحدة أو أكثر من إشارات المُدْخَل وتطلق واحدة أو أكثر من إشارات المُخْرَج. تعتمد المُخرجات على ما تقوله المُدخَلات، فبوابة «إيه إن دي» على سبيل المثال، تتلقى اثنتين من «بِتات» المدخل وتُصْدِر مُخرجًا واحدًا. ولو كان كلا المُدخلين ١ يكون المخرج ١ كذلك، ولكن أي مجموعة أخرى من المدخلات تنتج المخرج صفر. يمكن أن تُجري توليفات بسيطة كهذه من البوابات المنطقية عمليات حسابية؛ مثل قراءة رقمين مشفرين في صورة ثنائية وإنتاج مخرج يشفر حاصل جمعهما (بالإضافة) أو حاصل طرحهما (أي الفارق بينهما).
وقد أنشأ هيث ورفاقه بوابات «إيه إن دي» من محول جزيئي يسمى روتاكسان، وهو تجميع من جزيئين اثنين، على شكل حلقة ملتفة حول قضيب. تُمنع الحلقة من الانفلات بواسطة وحدات غطاء كبيرة مثبتة بطرفي القضيب. وقد صمِّم القضيب على أن يجذب الحلقة، بحيث يتشابك الجزيئان تلقائيًّا عند مزجهما معًا، وتضاف الأغطية الطرفية فيما بعد. استحدث فريزر ستودارت — زميل هيث — من جامعة كاليفورنيا، بلوس أنجلوس تقنيات لصنع تجميعات جزيئية كهذه حين كان يعمل في جامعة شيفيلد بإنجلترا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
رتب الباحثون جزيئات الروتاكسان في شكل طبقة على قطب كهربي وقاموا بترسيب أسلاك معدنية دقيقة فوقه، وعن طريق تعريض الأسلاك لفولطية كهربية أمكن تحويل الجزيئات من قابلية التوصيل الكهربي المنخفضة إلى قابلية التوصيل المرتفعة. وقد شكلت آلاف كثيرة من الجزيئات، الملتصقة بسلك واحد، محولًا واحدًا، وأوصل الباحثون العديد من تلك المحولات معًا لصنع بوابة «إيه إن دي».
وقد صرَّح الباحثون قائلين إنه من حيث المبدأ، من المفترض أن يكون بالإمكان بناء كل جهاز من مجرد جزيء واحد قابل للتحويل. ولكن من الصعب أن نصنع وصلات كهربائية نوصلها بجزيئات مفردة، وأن نقيس تيارات كهربائية دقيقة تمر خلال تلك الجزيئات. ولكن حتى هذا الأمر ليس مستحيلًا؛ فقد تمكن مارك ريد وجيمس تور ومساعدوهما في الولايات المتحدة من قياس درجة التوصيل الكهربائي «لسلك جزيئي» مفرد عن طريق توصيل قطبين من الذهب.
وقد عرض فريزر ستودارت، بالتعاون مع فينشنزو بلزاني، ومساعدوهما بمدينة بولونيا الإيطالية، عملية منطقية مختلفة تسمى «إكس أُو آر» في بوابة من جزيء مفرد. وبوابة «إكس أُو آر» تشبه بوابة «إيه إن دي» لها مُدخلان اثنان ومُخرج واحد، وتكون إشارة المخرج «١» إذا كان المدخلان مختلفين (١ وصفر أو صفر و١) وتكون صفرًا إذا كانا متماثلين (صفر وصفر أو ١ و١). وقد لاحظ الباحثون هذا السلوك في الروتاكسان الكاذب؛ وهو تجميع جزيئي من حلقة وقضيب مع عدم وجود سدادات طرفية، وبهذا يمكن أن تنسل الحلقة من القضيب.
وباستخدام مبادئ مشابهة تمكن إيه برازانا دي سيلفا وناثان ماكليناجان في جامعة بلفاست بأيرلندا الشمالية من ضم بوابتين منطقيتين جزيئيتين بطريقة تسمح لهما بإجراء عمليات حسابية أولية؛ بمعنًى آخر أنهما صارا قادرَين على استخدام الجزيئات في العد وإجراء عمليات جمع بسيطة مثل ١ + ١ = ٢.
بطبيعة الحال، الطريق من جمع واحد زائد واحد حتى الوصول إلى صنع جهاز كمبيوتر يمكن مقارنته بالأجهزة السليكونية هو طريق طويل، ولكن دراسات كهذه تُظهر مبدءًا مهمًّا؛ وهو أن الجزيئات يمكن أن تُستخدم في الحوسبة، وعلى مستوى جهاز لكل جزيء. وأخيرًا بدأ الكمبيوتر الجزيئي يبدو كأكثر من مجرد إعلان جذاب.
كلما نظرنا عن كثب أكثر لهذه الفكرة، أمكننا أن نرى المزيد من أوجه تشابه مع التحديات التي يواجهها جسم الإنسان؛ مثل كيفية ترتيب الجزيئات حيث نريد، وكيفية نقل الإشارات وتكبيرها، وكيفية إنماء أسلاك بين محولين (مثل العصبونات)، وكيفية التغلب على الأخطاء، وكيفية التحكم في عملية التوقيت النسبي للأحداث. وقد يحتاج مهندسو الكمبيوتر في المستقبل لمعرفة الكثير عن علم الأحياء.
حوسبة الدِّي إن إيه
وتأكيدًا على هذه النقطة الأخيرة، في السنوات الأخيرة أَوْضَحَ بعض العلماء أن الحوسبة يمكن تحقيقها باستخدام الدِّي إن إيه. وهذا يعود بنا إلى النقطة التي بدأنا بها؛ إذ إنني بدأت باقتراح أن الدِّي إن إيه مثال واقعي للحوسبة الجزيئية، ولكنه في الخلية يقدم البرنامج اللازم لصنع البروتينات. وقبل أن يتقدم ليونارد أدلمان بافتراضه في عام ١٩٩٤، لم يحلم بَشَرٌ بأن الدِّي إن إيه يمكن استعماله في حل نفس نوع المسائل التي تحلها أجهزة الكمبيوتر. لقد أدرك أدلمان أن الشفرة الجينية يمكن استعمالها — تمامًا مثل الشفرة الثنائية لعلوم الكمبيوتر — في تشفير المشكلات والمسائل الحسابية والتعامل معها. وأظهر أن تقنيات التكنولوجيا الحيوية المتعلقة بمعالجة الدِّي إن إيه وإعادة ترتيبه، يمكن استخدامها في إنتاج كل الحلول الممكنة لهذه المشكلة، وكلٌّ منها كامن ومُشفَّر في جزيء من الدِّي إن إيه. وبعد ذلك يمكن توظيف تقنيات تحليل تتابعات الدِّي إن إيه من أجل فحص جميع هذه الحلول الممكنة وتحديد السليم منها.
فيما يتعلق بأنواع معينة من المشكلات الحسابية لا تمتلك أجهزة الكمبيوتر طرقًا مختصرة للإجابات الصحيحة، بل يتعين عليها فحسب أن تختبر كل الخيارات، وتنتقي أفضلها. وإذا كان عدد الإجابات الممكنة كبيرًا، يمكن أن يستغرق هذا البحث وقتًا طويلًا جدًّا. تعتبر تلك المشكلات من أصعب ما يمكن حله باستخدام أجهزة الكمبيوتر التقليدية، ومن الأمثلة الكلاسيكية، مشكلة «الملاح المسافر»، التي تستلزم تحديد أقصر طريق يربط بين عدد كبير من النقاط في الفراغ (وهي «المدن») بحيث تتم زيارة كل مدينة مرة واحدة فحسب.
وقد أظهر أدلمان أنه عن طريق خلط ووصل قطع صغيرة من الدِّي إن إيه عشوائيًّا يمكن تشفير وإنتاج كل الحلول لهذه المشكلات في أنبوبة اختبار من جزيئات الدِّي إن إيه الوحيدة الخيط. قد يكون عدد هذه الحلول هائلًا، إلا أن عدد الجزيئات في أنبوبة الاختبار لا يزال أكبر. ولأن كل الإجابات الممكنة يتم إنتاجها واختبارها فورًا، بدلًا من التعامل معها كلٍّ على حدة، تستطيع عملية حوسبة الدِّي إن إيه من حيث المبدأ أن تتوصل سريعًا إلى الحل «الأفضل».
وسواء أثَبَت أن حوسبة الدِّي إن إيه مفيدة من الناحية العملية أم لا، فإن لها جاذبية مجازية قوية؛ إذ إنها تعيد إلى الأذهان الرسالة القائلة إن الأساس الجزيئي للحياة كامن في معالجة المعلومات. كثيرًا ما يقال إن كل عصر يميل إلى تفسير العالم من خلال نماذج مشتقة من تكنولوجيته الأكثر تقدمًا؛ ومن ثم فربما في عصر المعلومات يجب علينا أن نكون حذرين من التمسك الأعمى بمثل تلك الإجابة (الجزئية) عن ذلك السؤال المتكرر الذي شغل بال هالدين وشرودنجر وكثيرين غيرهم. ولعل ما هو أكثر أهمية أن نعتبر هذا إظهارًا للعالم التفاعلي الدِّيناميكي المذهل الذي تسكنه الجزيئات التي لا نراها أو ندرك وجودها في الغالب.